مجلة الرسالة/العدد 57/العلوم
مجلة الرسالة/العدد 57/العلوم
فكرة النظام الشمسي عند الكنيسة في العصور الوسطى
بقلم فرح رفيدي
ما هب صرح مدنية روما ينهر بقدوم البرابرة الأوربيين من الشمال حتى انتشرت الديانة المسيحية انتشارا سريعا، وصادفت في قلب الشعب التعس تربة خصبة تنمو فيها، لإفتتانه بوعودها الجميلة، ولأنها واسطة انتقال من حياة ملأى بالمصائب والعذاب إلى حياة السعادة والهناء. فتأسس من معتنقي هذه الديانة الجديدة جماعات أخوية تحت رعاية أحدهم يرشدهم إلى الحياة القويمة، أو يلقنهم دروسا في الحصول على الحياة الأخرى. ومن هذه الجماعات أو رؤسائها تكونت طبقة الاكليروس، وفي يدها أمور الشعب الدينية والمدنية. وكان نظام هذا الاكليروس أشبه بنظام دائرة التامين على الحياة: تتاجر بالنفوس؛ فكان الإنسان يعطى ماله وأرضه ودينه، وحتى عقله للكنيسة، لكي يؤمّن حياته بعد الموت. فان راعى قوانينها أعطى تلك الحياة في الجنة، وان خالفها حرمته من الكنيسة وكان نصيبه جهنم بعد الموت.
لكن الكنيسة لم تنشأ فقط بعقائدها الدينية، ولم يكن الكتاب المقدس دعامتها الوحيدة في بناء صرح نفوذها وتحكمها في الشعب؛ بل كان هناك مع الديانة المسيحية المدنية اليونانية، وهير ثروة كبيرة وتركة ثمينة خلقها الأقدمون، فلم تقدر على إهمالها وطرحها جانبا والاكتفاء بتعاليم المسيح وحدها. ويرجع السبب في هذا إلى إن اثر المدنية اليونانية في قلوب الناس لم يذهب باعتناقهم الديانة الجديدة، وليس من السهل أن يذهب تأثير قرون طوال بقيام نزعة جديدة، وفي أمد قصير؛ دعك مما كان لأرسطو وكتاباته من التأثير الجسيم في العقلية اليونانية أولا وفي الكنيسة ثانيا.
قد نرى هنا الكنيسة بازاء الدين المسيحي والمدنية اليونانية تكاد تقع في مأزق حرج من احتمال تناقض العلم القديم بالدين المقتبس الجديد، وقد ينتج عن رأينا هذا السؤال: كيف تمكنت الكنيسة إذنمن التوفيق بين الاثنين؟ أو كيف قدرت أن تستمسك في تلك النقطة الحرجة؟ الجواب على ذلك هو أن الدين المسيحي والمدنية اليونانية لم يتناقضا قط، وكيف يتناقضان والأول خرج من تأثير الثاني؟ فمثلا لم تكن هناك فكرة واحدة أساسية في أصل الكون عند اليونان، حتى تناقض قصة الخليقة في كتاب التكوين، وأساطير اليونان القديمة تحتوي على قصص كثيرة مختلفة في أصل الكون؛ فليس من الغريب إذن أن تقتبس شعوب أوربا المتنصرة في ذلك الحين فكرة التوراة عن بدء العالم، وان تطرح خرافاتها القديمة جانبا. فالديانة المسيحية أتت موافقة للتعاليم اليونانية.
فاستمرت الآراء والمعتقدات اليونانية في النظام الشمسي وحركته آراء ومعتقدات للناس في العصور الوسطى. ولم يحدث هناك أي تغيير جديد أو انقلاب أساسي في النظام اليوناني القديم، إلا ما زيد عليه بسبب الدين المسيحي، من إدخال فكرتي الجنة والنار فيه. وذلك ظهر بالنظام الذي تصوره الشاعر الإيطالي دانتي في منتصف القرن الثالث عشر:
تصور دانتي الأرض ثابتة في وسط الأفلاك السبعة، ووراء الفلك السابع أي فلك زحل تصور منطقة البروج مكان النجوم الثوابت، وفوق منطقة البروج ما يسميه بسماء السماوات أو عليين ووضع جهنم في وسط الأرض، وفوق الأرض تحت الأفلاك قسمه إلى طبقات مختلفة العلو، الأولى طبقة الماء من حيث تنزل الأمطار، والثانية طبقة المطهر حيث يطهر غير الواقعين في الخطيئة المميتة، وأخيراً طبقة الجنة الأرضية، وتقع ما بين فلك القمر والمطهر.
هذا النظام دليل بين على مقدار توافق العلم والدين، وامتزاج الاثنين معا بصورة يصعب فيها تميز الواحد من الآخر. ولان دانتي شاعر خيالي يتصور نظاما شمسيا يدلن على عدم سير العلم حينئذ في الطريق الذي يضمن له التقدم الصديد أو الانقلاب إلى ما هو صحيح وغير ذلك، فقد كان الاعتقاد الشديد بان منقطة البروج لها تأثير في جسم الإنسان. فالإثنتا عشر برجا كل وأحد منها له تأثير خاص على عضو خاص في جسم الإنسان، فمنها ما يؤثر على الرأس، ومنها ما يؤثر على القلب، ومنها ما يؤثر على الأطراف وباقي الأعضاء. وقد تخيلوا أيضاً إن بعض الكرات التي تدور عليها السيارات تختلف بحسب نظام خاص في العدد والموسيقى، وان هذه الكرات تحدث في دورانها نغمات متلائمة، لا يحظى بسماعها إلا أناس مخصصون. وهذه النغمات هي ما يسمونه بموسيقى الأفلاك تصعد لتمجيد الله الجالس فوق الأفلاك في سماء السماوات.
وأما لماذا لم يتقدم العلم في العصور الوسطى، فذلك ليس لتناقض العلم والدين، وعدم مقدرة الشعب والكنيسة على التوفيق بينهما، كما قال الدكتور سارطن بل لأن الديانة المسيحية زادت تأثير المدنية اليونانية على الشعب تأثيرا جسيما، حتى لم يكن عنده شك في صحتها وضرورة الاستسلام إليها. من الأمور الظاهرة أن بعض العلوم اليونانية، بصورتها كما تلقاها أهل العصور الوسطى، لم تكن قابلة للتطور الاساسي، وخصوصاً في علمي الهيئة والنجوم، وذلك لأن الأساس المبني عليه علم الهيئة مثلا كان خطأ محضا. فنظام اليونان الشمسي مهما آتى أهل العصور الوسطى بالبراهين والحجج الدامغة، ومهما زادوا عليه من تفاصيل وشروح، لم يكونوا ليزدادوا إلا تعمقا في الخطأ وبعدا عن الصواب. وبعظم تأثير الكنيسة وارسطو معا على عقول الشعب كثر الاختلاف والتناقض في الآراء والتعابير العلمية والدينية، فعم الغموض وتولد الشك في قلوب الناس في كثير من المعتقدات السائدة. إلا إن الأرض ظلت ثابتة بين يدي الإله أطلس مدى أربعة عشر قرنا إلى أن آتى كوبرنيسك في أواخر القرن الخامس عشر، وحركها من بين يديه. وذلك لأنه رأى الاعتقاد بدوران الأرض حول الشمس اسهل من الاعتقاد بان الكون بجلاله وعظمته وعدد شموسه يدور حول ذرة صغيرة في الفضاء تدعى أرضا.
فرح رفيدي