مجلة الرسالة/العدد 57/في الأدب الإنجليزي
مجلة الرسالة/العدد 57/في الأدب الإنجليزي
ديكنز وولز
بقلم رشدي ميخائيل السيسي
فترات تقصر أحياناً، وأحياناً تطول وتطول، ليس يعنيني أن اعرف أهي من صفاء الذهن وراحة البال، أم ضجر طارئ وملال، اعكف فيها على القراءة والاطلاع، فأذهب إذا ذاك إلى دنيا غير هذه الدنيا، ويغمرني إحساس غير ما يغمرها من إحساس، وسأخفق أن حاولت أن اظفر بتعليل لهذا العكوف: أتدفعني إليه رغبة الأعراض عن حقائق الحياة خشية الاصطدام بها، أم يغريني به نزوع إلى تفهم هذه الحقائق ونشدان هذا الفهم فيما ضمته صفحات الكتب من عصارة الأذهان؟
لن اظفر بجواب قاطع، ولا يعنيني أن اظفر به، إنما أؤكد انه ليس احب إلى نفسي في مثل هذه الفترات من أن أتناول بيدي أثراً من آثار (ديكنز) معبود الإنجليز ومهبط وحيهم بعد شكسبير، وان اذهب معه في سلسلة من الرحلات نغشى في خلالها رياضا من الأمل الواسع العريض فنستنشق العبير ونتفيأ الظلال، ثم نروح تائهين في صحارى من الشقاء، فنكتوي بلافح الحر وقاسي الهجير، ثم لا نحرم في هذا المدى الترامي من الشقاء القاحل ان نلمح واحة الرجاء من بعيد فنتسابق إليها نتقي وهج الحر ولفح الهجير، ولكنا لا نأمن بين الحين والحين على أقدامنا وجسومنا ان تدميها أشواك من إلياس والخيبة، ثم لا نلبث ان نرتفع على أجنحة الخيال إلى سماء من السعادة والثراء.
وديكنز في هذه الأثناء لا يفتأ يحدثني في لهجة تلين وترق حتى لكأنها حفيف الأشجار وموسيقى الالهة، ثم تعلو وتشتد حتى لكأنها دوى العواصف وقصف الرعود، يروح يحدثني عن القناعة وعن البؤس والبائسين، ويحدثني أيضاً عن التمرد وعن الظلم والظالمين، وكأنه يسكب على جراحات التمرد من نفسي بلسما من القناعة والرضا، ولكنه لا ينى بعد ذلك ان يمزق بيده ما عالج من جراحات في قسوة الحقيقة وعنف الواقع، بينما هو يتحدث إلى في لهجة يفعمها الألم والغضب عن استبداد الغني بالفقير، وعن افتراس القوي للضعيف، ويهيب بي وبقارئيه جميعا في فكر عنيف وفي لفظ ملتهب شديد: ان ارحموا البائسين ودافعوا عن المظلومين!! ذلك هو ديكنز الكاتب الإنجليزي الكبير الذي يملأ ع القارئ بالدموع وفمه بالضحكات في الفترة الواحدة! والذي يمزج الجد بالهزل، ويخلط الحكمة بالدعابة، ويسوقها جميعا في كتاباته طعمة سائغة فيها تنوع وجدة، وفيها قوة وحق وجمال.
وقد يعلم القارئ إن ديكنز مات عن ثورة كبيرة تبلغ عشرات الألوف، فهو إذن قد ذاق حياة الترف والثراء وتنعم بها، وهو لهذا لم يعجز عن تصوير هذا الضرب من المعيشة تصوير فنان خبير، ولكنك إذ تقرأه وهو يقص تاريخ طفولته الحزينة القاتمة وما لاقاه أبانها من صدمات متتالية ومن متاعب جمة مع شظف العيش والحرمان، لابد ستأخذك رعدة عنيفة من فرط التألم لهذه الطفولة المعذبة الشهيدة، وستعلم السر آنئذ في قدرة ديكنز على التعبير عن الأم البائسين وشقاء الفقراء والمعوزين تعبيرا رائعا مفعما بالحياة.
وليس يخلو مؤلف لديكنز من آهات متوجعة، ومن صرخات حزينة، ومن دموع ملتهبة، يسكبها في غير حرص أو تقتير على مذبح الإنسانية المضطهدة المعذبة، إلا انه لم يكن في كتاباته ناقما عنيفا إلى الحد الذي يثير الفقراء على الأغنياء ويدفعهم إلى إلحاق الأذى بهم، بل كل ما كان يرمي إليه أن يهز النخوة ويلين القلوب ويستدر منها العطف والرحمة والإيثار. . .
ولد ديكنز عام 1812 وعاش ثمانية وخمسين عاما قاسى في العقدين الأول والثاني منها ما قاسى لفقر والديه المدقع ولزجهما في السجن وفاء لديونهما، ولكنه بدأ يرقى سلم المجد منذ استهل العقد الثالث. . . واشتغل في أوائل شبابه بالصحافة فكان مخبرا لبعض الصحف، ثم مندوبا برلمانيا فمحررا، فكان بحكم عمله هذا مضطرا إلى ان يزج بنفسه في كل بيئة، وان يختلط بكل طبقة ويعاشر كل طائفة من الناس، فاكتسب خبرة وافية بمختلفة الشخصيات ومختلف النفسيات بعد دراستها دراسة وافية، فأفاد كل الفائدة بهذه الخبرة، إذ تيسير له ان يوفق إلى أبعد حد في تصويره للشخصيات المختلفة التي تناولها في قصصه ورواياته.
ويشبه ديكنز من هذه الناحية بعض الشبه (ولز) الكاتب الإنجليزي المعاصر الذي اشتغل بالصحافة فأصبح لا يكف عن التعرض لمشاكل العالم الاجتماعية الراهنة والاجتهاد في معالجتها وفرض الحلول المختلفة لها في أسلوب رائع مفيد، بيد أنه على الرغم من هذا لن يكون الخلود من نصيب كتبه، لأن قيمتها موقوفها على الجيل الذي عاش فيه، وان طال اجلها فلن تتعدى الجيل الذي يليه، إذ سيجد العالم المتطور إذ ذاك إن كل ما جاء بها من نظريات ومبادئ قد تحقق جميعه أو جله، واقتصرت أهميتها على الناحية التاريخية دون غيرها، ذلك (لان النزعة الصحفية في الكاتب إنما تعمل لفنائه لا لخلوده، وهذا الفناء هو في الواقع تضحية الكاتب بنفسه في سبيل جيله) على حد قول بعض كتابنا الاجتماعيين.
وإذا صدق هذا الرأي عند تطبيقه على (ولز) الذي لم يكترث لغير علاج المشاكل الاجتماعية فهو لا يصدق إذا أرسلناه على إطلاقه، وخاصة إذا أردنا تطبيقه على ديكنز.
صحيح أن ديكنز قد كتب معظم قصصه الرائعة للصحف إذ ذاك، ولكنها ستظل خالدة على مدى العصور، خلود ما فيها من قوة ومن حق ومن جمال، ولأنها انتزعت من صور الإنسانية انتزاعا، فملأتها عواطف هذه الإنسانية التي لن تتغير، اجل، وستظل خالدة لأنها صورة من الفن الخالد رسمتها ريشة أديب فنان سيعيش تراثه على مدى العصور، وليست موضوعا اجتماعيا يتغير ويختلف وفقا للحوادث والظروف، ويزداد مقدار ما فيه من الصحة أو يقل تبعا لقدرة كاتبه على وضع الفروض والاحتمالات الصحيحة والاستطراد منها إلى تقرير نتائج يثبت المستقبل القريب أو البعيد صحتها، فولز إذن ليس كاتبا اجتماعيا فحسب، ولكنه كاتب ثاقب البصر بعيد النظر، صادق الفراسة، سليم المنطق والاستدلال. أما ديكنز فأديب فنان ينقل إلينا أحاديث الطبيعة والإنسانية وعواطفها، ويعبر عنها جميعاً اصدق تعبير وأجمله، وهو في مهمته السامية لا يختلف بأي حال عن المصور المبدع أو الشاعر المطبوع. في الحق انه يكفيك أن تقرأ أي كتاب لديكنز حتى تصل إلى هذه النتيجة الصحيحة عنه دون لأي دون إجهاد.
والأديب إذا تناول أي موضوع من المواضيع التاريخية أو الاجتماعية - أو حتى الاقتصادية الجافة - وجعله مادة لكتابته تراه لا يفتأ يرويه بدماء قلبه الحية ويغذيه، ولا يفتأ يسبغ عليه من روحه ونفسه وشتى عواطفه واحساساته، حتى يبعث في الحياة بكل معانيها وصفاتها، ويكفينا إذا أردنا تطبيق هذا القول على ديكنز ومخلفاته الأدبية ان نستعرض كتابه أو بتعبير أدق طرفته الفنية الرائعة (قصة عن مدينتين) فتؤمن بصحته كل الإيمان، نعم! فبالرغم من ان موضوع هذه القصة تاريخي جاف وهو تاريخ الثورة الفرنسية، وبالرغم من انه تاريخ دموي مروع تقشعر منه الأبدان، وأنه غير حديث العهد بنا، فإننا مع هذا لا نكاد نقرؤه حتى نحس في أعماقنا أن هذه القصة في جوهرها إنما قد كتبت لنا وبيننا، والتعليل المعقول لهذا أن الكاتب قد استمدها من وحي الإنسانية الخالدة غير المتغيرة - الإنسانية التي تؤلف بين جميع المشاعر وشتى الاحساسات - وانه قد استلهمها من معنى الحياة غير الزائلة، التي هي حق للجميع دون استثناء، والتي قد ترك أمر فهمها وإدراكها لهذا (الجميع) كل حسب اجتهاده ومدى تفكيره.
بيد أن هذا لن يكون حال كل اجتماعي مهما علا كعبه ونبه أمره، لأنه إنما يعالج المشاكل الراهنة في عصره التي لابد أن تقتصر أهميتها على العصر الذي كتبت فيه، وهو قد يفرض لها حلولا مختلفة يصدق بعضها أو معظمها كما هو الحال مع ولز في كتابه الذي نشره قبل الحرب الكبرى وقدر فيه احتمالات صدقت فرأسته فيها، حتى لقد اعتبرها البعض من قبيل النبوءات، ولكن بالرغم من صدقها فلن يقدر لها الخلود بأي حال كأي (تراث أدبي فني) من مخلفات ديكنز العظيم.
رشدي ميخائيل السيسي