انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 529/المشكلات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 529/المشكلات

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1943


2 - اللغة العربية

للأستاذ محمد عرفة

لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟

بينا في مقالنا السابق جهود رجال العلم والتربية في سبيل إصلاح تعليم اللغة العربية، تلك الجهود التي إن أخطئها التوفيق فلن يخطئها أن تكون حقيقة بالشكر وعرفان الجميل

إن هذه الجهود المختلفة دليل على عنايتهم باللغة العربية، وحرصهم عليها، ومعرفتهم بقدرها، ودليل على أنهم يحبون شباب هذه الأمة، ويودون أن يسهلوا عليهم ما صعب، ويقربوا إليهم ما بعد، وأن يسهروا ليناموا، وأن ينصبوا لهم ليجدوا السعادة والراحة

وهذا وحده جهد مشكور، وصنيع غير مكفور، جدير بالإجلال والتعظيم، سواء أوفقوا فيما حاولوا أم لم يوفقوا.

ورب قائل يقول: لقد وضعت أن المعاهد في مصر أخفقت في تعليم اللغة العربية، وأخذتها مقدمة مسلمة، وكانت بحاجة إلى أن تقيم عليها الدليل، فلعلها لم تخفق في تعليم اللغة، ولعلها نجحت أعظم النجاح، ولعل ما هو مشهور بين رجال التعليم من أنها أخفقت في هذه المهمة - من القضايا التي اشتهرت لغرض من الأغراض، فإذا نقدت تبين خطؤها. فلسنا نسايرك حتى تقيم الدليل على هذا الإخفاق

وأقول إني أوافق هذا القائل أنه لابد من أن يقام الدليل على هذه المقدمة، ولا يصح أن تترك دون بيان

إن المرء يكون قد أتقن لغة ما إذا كان يتكلم ويقرأ ويكتب بهذه اللغة، جارياً على قواعدها، مراعياً قوانينها، لا يلحن فيها ولا يخطئ، وأن المدرسة تكون قد نجحت في تعليم اللغة إذا كان الذين تخرجوا فيها جميعهم أو أكثرهم على هذه الصفة، فهل من تخرجوا في مدارسنا كذلك!

أما الكلام باللغة العربية فلا تكاد تجد أحداً يتكلم بها، فالشعب كله يصطنع في التفاهم والتخاطب اللغة العامية، وليس من الناس من يصطنع اللغة العربية إلا في الندرة وعلى سبيل الشذوذ، حتى أن دروس اللغة العربية تلقى بالعامية، فقد دخلت العامية على العربية حجرات دروسها، وغزتها في معاقلها، وأخص الأماكن بها

ومن المضحك حقاً أن تجد مدرس النحو أو الصرف أو البلاغة أو مفسر النصوص العربية من شعر ونثر يلقي دروسه وقواعده بلغة عامية، لا يراعي ما يقول من قوانين، ولا يقوم لسانه بما يسرد من قواعد

فأما الكتابة والقراءة بها، فلا يقرأ باللغة الفصحى ولا يكتب إلا فئة قليلة، تمكنت من حفظ لسانها من الخطأ عند القراءة والكتابة، وجمهرة المتعلمين لم يصلوا إلى هذه المنزلة، فالشاب يتخرج في المدرسة، أو في المعهد، ولسانه لا يكاد يقيم جملة، أو يعرب كلاما، ولا يستطيع أن يعبر عن خلجات نفسه بأسلوب صحيح مستقيم

وإذا لم يكن هذا إخفاقا، فماذا يكون الإخفاق؟

وكما لم توفق مدارسنا في الغاية لم توفق في الوسيلة، أو قل أنها لم توفق في الغاية لأنها لم توفق في الوسيلة؛ فالوسيلة إلى تعلم اللغة هي دروسها، ولما تستطع مدارسنا أن تحببها إلى التلاميذ، فهم يأتون إليها متثاقلين، ويستمعون إليها كارهين، وهم يبغضونها بغضاً يملأ ما بين جوانحهم. فالنحو عندهم ثقيل بغيض، وكذلك الصرف، وعلم البيان الذي قال فيه بعض العلماء - أنه لا ثواب في تعلمه - يشير إلى أنه لا مشقة فيه على المتعلم، وهو يطلب لما فيه من لذة، فجزاؤه فيه، قد بغضته إليهم هذه المدارس أيضاً؛ وليس العيب في ذلك على الشباب، لأنهم يدرسون الهندسة والحساب والطبيعة في غير ضيق ولا حرج، بل يدرسونها في شغف ومحبه، إنما العيب على دروس اللغة العربية وحدها.

فلا عجب بعد ذلك إن لم ينتفعوا بهذه الدروس، لأن الانتفاع بالشيء على قدر المحبة له، والرغبة فيه

هذا شيء مخيف حقاً، له نتائجه الخطيرة، فإما أن نعمل على تسهيل الانتفاع باللغة العربية وتيسيرها على الدارسين والمتعلمين وتزيين علومها في قلوبهم، وإما أن نتحمل أمام التاريخ والأجيال عواقب هذا التفريط والإهمال، لأن الشيء البغيض المملول لا يعمر طويلاً، ولا يمكن أن يكره الناس عليه دائماً

وهناك أمر آخر ينتج من الخيبة في تعليم اللغة العربية، يخشاه رجال الاجتماع أعظم الخشية، ويشفقون منه أشد الإشفاق، وهي بقاء الحال على ما هي عليه في مصر، من اصطناع لغة للخطاب، وأخرى للكتاب، بينها وبين جمهور الشعب بون شاسع، وعقاب صعاب

وإنما كانوا يخشون، ويشفقون منه، لأن ذلك يؤدي إلى إطالة أمد جهل الأمة وتأخرها، لأن العلم والأدب قد كتبا بلغة لا يفهمها جمهور الشعب، وهي العربية، فلا سبيل إلى وصوله إليها

أما إذا نجحت المدرسة في تعليم العربية، وتكلم بها المتعلمون وهم مخالطون للشعب، فعلى مرور الزمن يسهل عليه فهم اللغة العربية ويتسرب إليه كثير من مفرداتها وتراكيبها، وربما علمها فصار لغة الخطاب، لغة الكتاب، وهذا كسب ليس بالقليل، فكل ما كتب من علوم وأخلاق وآداب يكون حينئذ في متناول جمهور الشعب، فيرقى إلى الذروة التي ينشدها له المصلحون

وهناك طائفة من رجال الاجتماع ترى أنه إذا خابت المدرسة في تعليم العربية، وخابت الأمة في اصطناعها ورفع لغة الحديث إلى اللغة التي تكتب بها العلوم والآداب، فلا مناص من كتابة العلوم والآداب باللغة التي تفهمها الأمة، لتنتفع بها، ولتبلغ الأمل المنشود، لأنه خير للأمة أن تخسر اللغة العربية وتكسب العلم الذي به نماء عقولها، والآداب التي بها تقويم أخلاقها، من أن تربح العربية وتخسر العلم والأدب

فأنتم ترون أن الأمر جد خطير، وأنه يعني حياة اللغة العربية أو موتها، ونجاح المتعلمين في تعلمها أو إخفاقهم، ورقي الأمة أو انحطاطها

لذلك يجب أن نعمل جاهدين، وأن نجهد مخلصين، حتى نعرف الأسباب في هذا الإخفاق، وأن نفعل الممكن وغير الممكن لنجعل تعليمها ناجحاً، ولنحبب درسها إلى التلاميذ، وبذلك نتقي هذه النتائج السيئة، ونوفر على الشباب وقته وجهوده ونحمي اللغة العربية من الضياع والموت

هذا ما دعا رجال العلم إلى معالجة هذه المشكلة

وهذا ما دعاني أيضاً إلى أن ألقي بدلوي في الدلا، وسأعرض بحثي على القارئين، أو أولي الأمر في مصر، ولعل هذه الدعوة تلقى ما أقدره لها من توفيق - إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله محمد عرفة

عضو جماعة كبار العلماء