انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 529/مقدمة ابن خلدون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 529/مقدمة ابن خلدون

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1943



للأستاذ محمود أبو ريه

كنا نسمر في إحدى الليالي مع الأستاذ الكبير صاحب الرسالة، فكان من حديثه الممتع الهادئ أن العلامة المحقق ساطع الحصري قد ألف كتاباً فريداً جعل موضوعه (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) تلك التي لم تخرج القرائح العربية مثلها، وفي عبارات عذبة أنشأ الأستاذ الزيات يشيد بفضل هذا العمل الطريف. وقد أثار هذا الحديث المستوعب شوقنا إلى هذا الكتاب، وزاد هذا الشوق لما قرأناه اليوم مقدمته النفيسة في الرسالة

ولما كان العلامة الحصري قد حدثنا في كتابه (إن جميع طبعات المقدمة التي صدرت عن مطابع القاهرة وبيروت مشوبة بنواقص كثيرة وأغلاط فادحة - وإنها ناقصة - من حيث المتون والفصول معاً) فإني أنشر كلمة لها علاقة بما حقق هذا العالم الجليل وفيها نفع لمن أراد أن يقف على تاريخ هذه المقدمة

في صيف سنة 1923 قرأت بإحدى المجلات كلمة لأحمد تيمور باشا رحمه الله ذكر فيها أن كل طبعات مقدمة ابن خلدون لا تطابق الأصل الصحيح منها، وإنه يوجد بمكتبة زكي باشا نسخة خطية من هذه المقدمة صححها المؤلف بقلمه فسررت بهذا النبأ وتوجهت باستفهام إلى زكي باشا على جريدة المحروسة عما نشره تيمور باشا، وكان ذلك في 17 أغسطس سنة 1923 فأجاب رحمه الله ببضع مقالات على هذه الجريدة تكلم فيها عن طرف من تاريخ ابن خلدون ومقدمته. وأنا لا أعرض إلا لما قاله عن هذه المقدمة النفيسة، وفيه العلاج لما نحن بسبيل الكلام فيه اليوم.

ذكر رحمه الله أن هذه المقدمة الفريدة قد ظل أمرها مهملاً خمسة قرون كاملة، فقد تم تأليفها في سنة 775هـ، ولم تظهر إلا في سنة 1274هـ: سنة 1857م. وكان أول من عثر على هذا الكنز رجل نمساوي اسمه آسرلي، فقد وقف في دار كتب (ويانة) عاصمة النمسا على نسخة مخطوطة من هذه المقدمة، ونقل كثيراً من فصولها، وترجمها إلى اللغة الطليانية، ثم نشرها مع بعض ملاحظات وتعليقات في المجلة المعروفة باسم الخزانة الطليانية فكانت أبحاثه مدعاة لتنبيه علماء أوربة إلى العناية بهذا الأثر العربي الكريم (ولما جاء المسيو آسرلي إلى مصر قنصلاً لدولته لدى محمد علي باشا كان مما عمله أن حض محمد علي باشا على الانتفاع بهذا الكتاب وطبعه فترجم إلى اللغة التركية ومطبع بمطبعة بولاق وكذلك طبع الأصل العربي منها

وفي الوقت الذي طبعت فيه المقدمة في مصر كان العلامة كتر مير الفرنساوي يطبعها في باريس وقد طبعت هذه المقدمة بالمطبعة الأميرية طبعة ثانية في سنة 1284هـ

وقد ذكر زكي باشا (إنه بعد ما تحقق وجود المسخ والبتر والتشويه والتحريف في جمع ما صدر من الطبعات العربية لمقدمة ابن خلدون آلى على نفسه أن يبحث عن نسخة خطية تكون وافية بالمرام حتى قيض الله له الظفر بها في خزانة المرحوم عاطف أفندي بالقسطنطينية). وهذه النسخة قد صححها ابن خلدون بقلمه، وذلك أنه لما عاد إلى القاهرة من عند تيمورلنك طاغية التتار رأى الناسخين قد شوهوا محاسن مقدمة تاريخه، فضاقت نفسه وتناول نسخة من التي أصابها المسخ وأقبل عليها بنفسه وتولى تصحيحها بقلمه، وكان من هذا التصحيح أن حذف بعض الكلمات وطائفة من العبارات ووضع هوامش كثيرة بخطه. فإذا أعوزه المكان أضاف (طيارة) أي جزازة ويلصقها بين الصفحتين ويدل على موضعها دلالة ظاهرة واضحة، وقد انتقلت هذه النسخة من مصر إلى الآستانة على أثر سقوط مصر بين يدي السلطان سليم سنة 922هـ، وقد عثر عليها زكي باشا في سنة 1910 ولم يلبث أن أخذ صورتها الفوتوغرافية وبلغ ما أنفقه عليها ستين جنيهاً كاملة، وقد كتب على هذه المقدمة العبارة الآتية: (هذه صورة المقدمة من كتاب العبر في أخبار العجم والبربر، وهي علمية كلها كالديباجة بكتاب التاريخ قابلتها جهدي وصححتها، وليس يوجد في نسخها أصح منها وكتب مؤلفها عبد الرحمن ابن خلدون وفقه الله تعالى وعفا عنه)

ولما وقفت من زكي باشا على نبأ هذه المقدمة وكان الشرق جميعا َفي حاجة إلى الصورة الصحيحة منها، رجعت إلى الأستاذ الكبير رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، راغباً إليه أن تقوم اللجنة التي من أغراضها نشر الأسفار القديمة النافعة بطبع هذه المقدمة، وهي خير ما ينشر من ذخائرنا العربية، فجاءنا منها جواب مؤرخ 16 أغسطس سنة 1927 تقول فيه: إن اللجنة ستضع هذا الاقتراح موضع البحث. ولما خاب رجاءنا لدى اللجنة رجعنا إلى وزارة المعارف فطلبنا منها مراراً أن تعنى بنشر هذا الثر النفيس فتطبعه طبعة صحيحة، ولكنها أصمت آذانها، وغبرت السنون على هذه المقدمة وهي على تحريفاتها وأغلاطها

هذا ما رأينا نشره، ولعلنا اليوم - بعد أن رأينا من العلامة الحصري تلك العناية الفائقة بهذه المقدمة - نطمع في أن يزيد من فضله على العلم فيجمع بين النسخة المطبوعة بباريس وبين التي بالخزانة الزكية، وبعد المقابلة بينهما يخرج منهما نسخة صحيحة يتولاها بما تحتاج إليه من الشرح والتعليق

هل رجاءنا اليوم يتحقق لكي نظفر بما كنا نطالبه منذ عشرين سنة، وينتفع هذا الجيل المثقف بذلك الكنز الثمين، ثم ينهض فيؤدي واجبه نحو مؤلفه العظيم؟

(المنصورة)

محمود أبو رية