انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 443/الأرض. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 443/الأرض. . .

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 12 - 1941



للأستاذ محمد محمد توفيق

(أنطق صديقي الدكتور حسن عثمان البحر بمناجاته الرائعة

على صفحات الرسالة الغراء، وأبى أن يعود بشاعره إلى

الأرض، مؤثراُ عليها عرائس البحر وعجائبه. فنطقت الأرض

أم الكائنات بهذه الأبيات لعل الشاعر أن يعود إلى أحضان

أمه. . .)

أنا الأرضُ فوقي كلُّ حَيٍ وميِّتِ ... وما البحر إلا ملتقى عبراتي

أنا الأرض مهد الكائنات ولحدها ... فهل غفل الإنسان عن حسناتي؟

وعيتُ نداء الله في كل خلقِهِ ... وما طاف بي مسٌّ من الشُّبُهاتِ

ومن قبل خلق الكائنات عبدتُهُ ... مع الشمس والأفلاكِ منطلقات

أدورُ كما دارت وأسعى كما سعت ... مُؤَجَّجَةَ النيران، محترقات

تُطَهِّرُناَ النارُ الإلِهَّيةُ اللَّظى ... وَتَصْهَرُناَ للخير والبركات

أنا الأرض كما حَجَّتْ وفودٌ وأَعْصُرٌ ... إليَّ وكم بدَّلتُ ثوْبَ حياتي!

وكم طيِّباتٍ فوق سطحي مُشاعةٍ ... وكم من كنوزٍ فيَّ مُختَزَناَتِ

وكم من حياةٍ تملأ الروحُ كأسَها ... وتسكبها في أعظمٍ نَخِرَاتِ

وهذى العظامُ الناخراتُ أُحيلُها ... تراباً عليه تغتذي ثمراتي

أنا الأرضُ لا حيٌّ عليَّ مُخَلَّدٌ ... ولا ميِّتٌ يبقى بغير حياةِ

وما فتئَ الناموسُ عندي كتابُهُ ... فهلا وعيتم حكمتي وعِظاتي

فيا بحرُ. . . ماذا أنت يا بحرُ قائلٌ ... وما صوتك المخنوق بالعبرات؟

وما هتفاتٌ رجَّع الصخرُ شجوها ... وما قَطَراتٌ ذُبنَ في قَطَرات

وما صرخاتٌ للأواذيِّ صُعَّدٌ ... تُرَدِّدُها القيعان في الدركات

لقد هاجني يا بحرُ أنّك شاعرٌ ... وأنّك فَذُّ الشعرِ والسَّبَحاتفأنطقتُ أطوادي وأجريت أنْهُري=وأوحيتُ نجواها إلى هضباتي

وأسكرتُها بالراحِ من كأسِ كرمةٍ ... شهدتُ بها مَسّاً من السَّكَرَات

فيا بحرُ. . . قل يا بحرُ ما أنت قائلٌ ... فقد فاض بي بحرٌ من الكلمات

وقد طال إغفالي جمالي وزينتي ... وقد طالَ بي صمتي وطال سُبَاتي

أنا الأرض للإنسانِ أُرْسِلْتُ جَنَّةً ... عليَّ سلامُ اللهِ طولَ حياتي

وكنتُ لخلقِ الله مرعى ومسرحاً ... وما ضِقتُ بالأنعام والحشرات

فلا نملةُ تشقى إذا طاب سعيها ... ولا طائرٌ إلا يُصِيبُ فَتاتي

ولا دودةٌ مكنونةٌ وسط صخرةٍ ... ولا هائمٌ في البيد والفَلَوات

لكلٍّ نصيبٌ منْ ترابي وأنْعُمي ... وكلٌّ له حظٌّ من النَّسمات

وكلٌّ يناديني بيا أمَّ إن شكا ... فأغمره بالحبِّ والدَّعَوَات

وأشرحُ صدري للذي ضاق صدره ... وأعتنق المكدودَ بالقُبُلات

وأسكُبُ دمعي أن أبى المُزُنْ أدْمُعاً ... وأُرْسِلُ في لحن الصَّبا زفراتي

فَهُنَّ وَدِيعاتٌ عليَّ عزيزةٌ ... وَصَوْنُ وديعاتِ الإله صلاتي

فإن غربت شمسُ الحياةِ فإنني ... أشَيِّعُ أبنائي إلى الظُّلُمات

وأنشُرُ من فوقِ التّرابِ عليهمُ ... رداءً من الأعشابِ والزَّهَرات

ترابي ومائي فيهما كلُّ زينتي ... وكلُّ أفانيني وكلُّ هِبَاتي

وإنك تُلْقي جوهر الترب وِاحداً ... ويونع بالأثمار مُختلفات

فآلافُ آلافٍ من الزهر والغضا ... وآلافُ آلافٍ من الثمرات

تفيض بها أرحامُ تربٍ رحيمةٌ ... ويُرضِعها التَّهْتَانُ بالقطرات

ولي ريشةٌ في فنَّها عبقرَّيةٌ ... تُكَوِّنُ أزهاري بماء حياتي

وما طَرَّبي نبتٌ ولا هاجَ يابِسٌ ... ولا جَفَّ قِطْمِيرٌ بِشِقِّ نواةِ

ولا حملت حُبْلَى ولا خفَّ حملها ... ولا دَبَّ مسجونٌ من اليَرَقات

ولا سَقْسَق العصفورُ والطلُّ بارقٌ ... ولا هاجرت طيرٌ إلى القَمَرَات

ولا حَلق النَّسْر الكُميْتُ مُصَفِّراً ... ولا أنقض مسعُوراً على الوُكُنات

ولا أطبقَتْ أنيابُ لَيْثٍ غَضَنْفَرٍ ... على رَشَأٍ من ساكني الأَجَماتِ ولا إنبَجَسَ الماءُ الزلالُ من الصَّفا ... ولا فاض يَنْبُوعٌ من الرَّبَوَات

ولا طلعت أكمامُ وردٍ وسَوْسَنٍ ... ولا أخضَرَّ رَيَّانٌ من الورقات

ولا عتَّقَتْ كرْمٌ دِنانً من الطّلي ... ولا نفخ النَّيْرُوزُ في القَصَبَات

ولا هامَ نحلٌ بالأزاهيِرِ شادِياً ... يُقَبِّلُ مَعْسُولاً من الوَجَنات

ولا عصفَت ريح الخريف بشاحبٍ ... من الورقِ الوسنانِ في الشجرات

ولا سَنْبَلَتْ حبَّاتُ قَمحٍ مُبَارَكٍ ... ولا أبْلَحَتْ عيدانَةٌ بفلاة

ولا أرْطَبَتْ إلا بميقاتِ خالقٍ ... يفيض على الأكوانِ بالرَّحِمات!

أنا الأرض أطياف الرَّبابِ مظَلّتي ... نهاراً وأسرابُ الغمام سُقاتي

وَرَيدَانَتي شعري وقيثارتي الصَّبا ... وتغريد أطيار الرّبا نغماتي

وأخطرُ في الأزهارِ وظَّاحةَ السَّنا ... وأعقد إكليلا من الخرزات

وأبْسَمُ عن لمحٍ من البرق خُلَبٍ ... وأعبَسُ بالإعصار والهبَوات

وأصرخ حتى يفزَعَ الرعدُ في السما ... وتنخلعَ الأنكالُ مرتعدات

وأغضبُ حتى يُنكِر الكونُ غضبتي ... وأبْسُطُ في صفحي يَدَ الحسنات

أنا الأمل الشَّعاعُ في كلِّ غايةٍ ... أنا الجوهرُ المكنون في الجمرات

أنا الذهبُ اللَّمَّاعُ في الترب والصَّفا ... تذيبونه بالنار والحسَرَات

تذيبونه من فرط ما تعبُدونه ... وما فيه من سحر سوى اللَّمعات

وتُسْقَونَهُ كالمُهْلِ يشوي بطونكم ... فما ذَوبُهُ إلا حميمُ طغاة

حميمٌ لمن لا يعرف الله قلبُهُ ... ويسبح في بحر من الْحُرُمات

فيا عابدي هذا الفِلِزَّ وما شَرَى ... وما ابتاعَ من جور ومن سطَوات

ويا صائغيه شهوةً في قلوبكم ... وزينة شيطانٍ وتاجَ عُتَاةِ

ويا مُرْسِليهِ في الأساريرِ صُفْرَةً ... وشُحًّا وكِبْراً جامد النظرات

وَتَبْلاً وأطماعاً وحرباً أثيمةً ... تُبيد وتُفني كلّ ذاتِ حياة

أيا عابدي هذا الفِلِزَّ وما شَرَى ... وما ابتاع من زهو ومن شهوات

رُوَيدَكُمُ هلاّ أذَبتُمْ قُلوبَكم ... وقد جَمُدَتْ كالمرو في الصَخَّرات

ويا ليت شعري كم نِداءٍ أتاكم ... وأنتم من الآثام في غَفلات! نداءٍ لوَ أنَّ الراسيات وَعَيْنَهُ ... لأَطْبَقْنَ من أهواله صَعِقَات

وكم من نبِيٍّ كلم الله جائياً ... وأطلق طوفاناً من العبَرات

فهلاّ خشيتم نِقمتي بعد نِعمَتي ... أُسَلِّطُهَا سيلاً من اللَّعنات

وأطلق صوتي قاصفاً الرعد داوياً ... وأنفُخُ في بوق الرّدَى صَرَخاتي

وأُرسلُ زلزالاً عليكم وَعَيْلَماً ... فَتُطبقُ أطوادي على رَبَواتي

وتندلعُ النيرانُ من كلِّ ثغرةٍ ... وتندلقُ الأهوالُ من فَجَواتي

براكين من أفواهها تقذف الرَّدى ... مُسَعَّرَةَ الأحجار، مُحْتَدِمات

تسيلُ على القيعان ناراً وحُرْقَةً ... تَصَعَّدُ منها أفجعُ الزَّفرات

وفي مثل لمح البرقِ ينهارُ عالمٌ ... من الكفر والآثامِ والشهواتِ!

أيا ساكني بيتي ذَرُونى أكُنْ لكم ... كما كنتُ أُماًّ جَمَّةَ الرّحَماتِ

ولا تفجعوني في سنين مريرةٍ ... تَدِبُّ بها الساعاتُ مُكْتَهَلاتِ

فإِني أخالُ العمرَ قد طالَ وانقضى ... وأحسبُ إن الحشر في لحظاتِ!