انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 171/الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 171/الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 171
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 10 - 1936



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب

- 5 -

إلى هنا انتهينا من بيان أثر نظرية السعادة الفارابية في رجال المدرسة الفلسفية الإسلامية وفي طائفة من المتصوفة الذين تشوبهم روح فلسفية. والآن يجدر بنا أن نبين ما إذا كانت هذه النظرية قد أثرت في الصوفية الآخرين المعتدلين أو المحافظين إن صح هذا التعبير. وإن مهمتنا في هذه المرحلة أشق منها في سابقتها، لأنه ليس بغريب أن تُفترض صلة بين فلاسفة وصوفية متفلسفين. أما محاولة إثبات علاقة بين الفلسفة والتصوف البحت الذي يرى من واجباته الأولى محاربة الفلاسفة والمتفلسفين فهذا أمر عسير، ومهما يكن فسندرس هذه النقطة بنفس الطريقة والمنهج اللذين درسنا بهما النقط السابقة مبينين أولاً السر فيما ذهبنا إليه من تقسيم الصوفية إلى معتدلين ومتطرفين.

لم يكن الإسلام فسيح الصدر للرهبنة المسيحية والتقشف الهندي، وكثيراً ما دعا إلى العمل للدنيا والتمتع المباح بلذائذ الحياة: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) فهو بعيد إلى حد كبير عن طريقة القسس والرهبان في بيعهم وصوامعهم وسنة فقراء الهند وعبادهم في ألمهم وعذابهم المستطاب. ومع هذا فكل دين كائناً ما كان يشتمل بعباداته ونصائحه على قدر من التصوف لا يحتمل الشك. وسبق أن أشرنا إلى أن هناك عوامل كثيرة وتعاليم مختلفة: هندية وفارسية وإغريقية ومسيحية أثرت في تكوين التصوف الإسلامي، ولكن يجب أن نضم إلى هذه المؤثرات الخارجية عاملاً آخر داخلياً وجوهرياً، ألا وهو الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض الأعمال الدينية. ولو لم يكن في طبيعة الإسلام ما يسمح بشيء من التصوف ما وجد التقشف الهندي والرهبنة المسيحية إلى المسلمين سبيلاً. وقد دار نقاش طويل بين المستشرقين متعلق بأثر القرآن في تكوين نظريات الإسلام التصوفية، وهم في هذا فريقان: فريق ينكر هذا الأثر وآخر يثبته. وفي مقدمة الفريق الأول يجب أ يذكر البارون كارادي فو الذي يزعم (أن القرآن لم يكن مطلقاً الكتاب الذي استطاع مبدئياً أن يجتذب الصوفية نحوه كثيراً، لأنه متعلق جداً بالأمور الخارجية وليس فيه الحنو الداخلي والروحي حقيقة). وعلى عكس هذا يقرر أستاذنا ماسنيون، وبجانبه الأستاذ مرجليوث، (إن في القرآن البذور الحقيقية للتصوف. وهذه البذور كفيلة بتنميته في استقلال عن أي غذاء أجنبي). ونحن نعتقد أن القرآن أعان الصوفية كما أعان المتكلمين والفقهاء على نصرة آرائهم. فإن كتاب الله في العالم الإسلامي قاموس للنحاة واللغويين، ومذهب فلسفي للباحثين والمفكرين، وذكر يتقرب به المبتهلون والمتضرعون، ولائحة يرجع إليها المشرعون، وعقيدة يحتج بها المتكلمون. وكثيراً ما حاول أصحاب الآراء الجديدة والنظريات الحديثة الاحتجاج به والاعتماد عليه، بل إن هؤلاء أحوج إلى نصرته من غيرهم فأن آية منه قد تقرِّب آراءهم إلى من حولهم وتكسب نظرياتهم سلطاناً دينياً وصفات شرعية. فالصوفية إذن لا فرق بين متطرفيهم ومعتدليهم أفادوا من القرآن بقدر ما أفاد غيرهم من الباحثين. وأما ما في هذا الكتاب الكريم من حنو ورقة وعطف وشفقة فأمر لا يقبل الشك. ويدهشنا أن البارون كارادي فو لم ينتبه إليه؛ ذلك لأن القرآن لا يخاطب العقل وحده بل يناجي كذلك القلب؛ ولا يعني بالظاهر أكثر من عنايته بالباطن. وكم فيه من تحاليل شائقة وأساليب جذابة تصف أحوال النفس وأحاديثها الداخلية. وكيف يتصور أن يخلو كتاب سماوي من مناجاة القلوب والأرواح وهو إنما أعد أولاً وبالذات للجماهير التي تحس قبل أن تفكر وتسير غالباً وراء العاطفة والوجدان. وإنه لجهل بطبيعة الأديان أن يقال إن تعاليمها مصوغة في قوالب منطقية ولغة عقلية بحتة. ويطول بنا البحث لو حاولنا أن نسرد هنا كل الآيات القرآنية المتصلة بالقلب والروح والتي استطاع الصوفية استغلالها في نواح كثيرة، ونكتفي بأن نشير إلى دراسة تحليلية عميقة أبان فيها الأستاذ ماسنيون الألفاظ الصوفية المقتبسة من القرآن الكريم. فمصطلحات المتصوفة فضلاً عن نظرياتهم ترجع إلى أصل في كتاب الله. وغني عن البيان أن حديث المعراج وقصة يوسف كانا أساساً لنظريتين هامتين من النظريات الصوفية وهما الجذب والحب. والعلم اللدني الذي يتباهى به أهل الكشف والواصلون صورة مأخوذة عن الخضر عليه السلام الذي قال الله في شأنه: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً). وعلى هذا يجب أن نبحث عن أصول التصوف الإسلامي في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كما نبحث عنها في الصوامع الهندية والبيع اليهودية والكنائس المسيحية وتعاليم مدرسة الإسكندرية. غير أنه لا يفوتنا، وهذا أمر ينبغي التنبه إليه، أن الألفاظ والآيات القرآنية مرت بأدوار مختلفة من حيث مدلولها وتفهم الناس لها. فقد يفهم صحابي من لفظة قرآنية ما لا يفهمه تابعي أو رجل من رجال القرن الثالث الهجري. ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى مرونة الألفاظ القرآنية ومسايرتها للزمن والتقدم العلمي. ولو جارينا متصوفي العصور الأخيرة لرددنا كل بحث صوفي إلى آية قرآنية أو حديث نبوي، وهذا إسراف من غير شك. فلا يصح إذن أن نبحث عن أساس التصوف الإسلامي في القرآن وحده أو فيه كما فهمه الصوفية المتأخرون، بل يلزمنا أن ننشد هذا الأساس في الألفاظ والآيات القرآنية كما بدت للمتصوفين الأول. يقول الأستاذ نكلسون: (صواب أن نعد المتصوفة بين خواص دارسي القرآن، ولكن لا يصح، فيما أظن، أن نعتبر التصوف مجرد نتيجة للدراسات القرآنية).

وفي هذه الجملة القول الفصل والحكم السديد في تلك الخصومة الآنفة الذكر التي شجرت بين المستشرقين. فأنا لا نسلم بأبعاد القرآن رأساً عن النظريات الصوفية، كما لا نوافق على عده وحده كفيلاً بخلق تصوف كامل. ولا يفوتنا أن نشير أخيراً إلى أن هذه المعركة فقدت اليوم كثيراً من أهميتها.

بدأ التصوف فعلاً على صورته الفطرية البسيطة منذ الصدر الأول للإسلام، فلوحظ على كثير من الصحابة ميلهم إلى الزهد والتقشف وإعراضهم عن الدنيا، بل لقد خطا بعضهم في هذه السبيل خطوات فسيحة وبالغ فيها مبالغة واضحة. بيد أن هؤلاء الزهاد والمتقشفين لم يتسموا باسم خاص ولم ينتسبوا إلى طائفة معينة، ولم تطلق كلمة (صوفية) على جماعة محددة إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة. وما زال هذا النوع من السلوك ينمو ويزيد أنصاره إلى أن ولد بعض الأبحاث والنظريات، والعلم نتيجة العمل، والنظرية في الغالب وليدة التطبيق. لهذا رأينا رجالاً من مفكري القرن الثالث الهجري، وعلى رأسهم المحاسبي وذو النون المصري، يبدءون بوصف بعض الأحوال النفسية والظواهر الصوفية، ومخلفاتهم من أقدم ما كتب في هذا الباب. ونظرية الاتحاد بوجه خاص ترجع إلى عهد متأخر، فإن البسطامي هو أول من قال بها. ثم جاء الجنيد والحلاج فرفعاها إلى عنان السماء. وهذه النظرية أدق شيء في التصوف الإسلامي، وقد قسمت إلى طائفتين: طائفة تقبلها وأخرى ترفضها. والقرآن لا يشير إليها مطلقاً بعبارة صريحة، بيد أن أنصارها لم يعدموا الحيلة في دعمها ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي نستطيع أن نذكر منها قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (وهو معكم أينما كنتم) (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سدسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) وقوله في الحديث القدسي: (ما تقرب إلى المتقربين بمثل أداء ما افترضت عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى يحبني وأحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ويصره الذي يبصر به).

بيد أن الاتحاد الصوفي يؤدي إلى الاشتراك في ذات البارئ جل شأنه وحلول اللاهوت في الناسوت. وقبول شيء إلهي في داخل العبد معناه الوحدة الربانية. وكل الخلاف بين الأشاعرة والمتصوفة يتلخص في هذه النقطة. فالأشاعرة لا يقبلون أن ينزل الإلهي في الإنسان ولا ن يصعد الإنساني إلى الإلهي، ويرفضون ضرورة مذهب الحلول وإن كانوا يسلمون بالتصوف في جملته. إلا ن التصوف عندهم مقصور على وصف بعض الأحوال النفسية ودراسة الأخلاق العملية التي تسمو بالمرء إلى درجة الكمال دون أن تدعي الوصول إلى حلول الحلاج المزعوم. ومن هنا خرجت الصوفية المحافظة وانقسم المتصوفون إلى معتدلين ومتطرفين، وليس هذا التقسيم بالجديد في العالم الإسلامي ولا في كل المدارس التي تسودها نزعة دينية. وإنا نلاحظ في مختلف الدراسات الإسلامية - لا فرق بين التوحيد والفقه والتصوف - أن هناك شعبتين متميزتين: شعبة السنيين وشعبه المبتدعين، أو شعبة المحافظين وشعبة الأحرار. وإذا كان الغزالي هو أكبر خليفة لأبي موسى الأشعري في نصرة مذهب أهل السنة الكلامي هو بحق مؤسس التصوف السني. وكأنما أخذ على عاتقه نصرة أهل السنة على طول الخط ومحاربة أهل البدعة كيفما كانت فرقهم ونحلهم، فلاسفة كانوا أو باطنية، متصوفة كانوا أو متكلمين، حلاجيين كانوا أو معتزلة، وقد آذت حملته الفلاسفة والمتفلسفين بقدر ما أخذت بيد أهل السنة من الكلاميين. أما التصوف السني فهو تقريباً واضع أصوله وقواعده ومبين طرقه ووسائله في إحياء علوم الدين الذي أضحى عمدة المتصوفين المتأخرين بلا استثناء. نعم إن الغزالي يجهر هنا بنظريات متناقضة تنقض آراءه الكلامية والفلسفية، فتراه مثلاً يحارب محاربة عنيفة ويرفض رفضاً باتاً نظرية الاتحاد الحلاجية في كتاب الإحياء على حين أنه يميل إليها ويقول شيئاً يشابهها تمام المشابهة في كتاب مشكاة الأنوار، وهذه نقطة ضعف لاحظناها عليه من قبل، وعل تطوراً حدث في آراء الرجل هو السر في هذه النظريات المتناقضة، ومهما يكن فكتاب الأحياء هو مصدر التصوف السني من غير جدال، وعليه نعتمد أولاً هنا أولاً وبالذات، وهو الذي أثر وحده تقريباً من بين كتب الغزالي الصوفية في المتصوفين المتأخرين. وما كان الغزالي لينكر التصوف وقد ركن إليه بعد أن خبر الدراسات الأخرى ولم يطمئن إليها ووجد فيه حصنه الحصين. فهو يرى أن علم القلوب لازم لزوم علم المرئيات والملموسات، لأن هناك عالمين عالم الباطن وعالم الظاهر. فإذا كان بعض العلوم يتولى عالم الظاهر بالدراسة والشرح فلا بد من علم خاص لتوضيح عالم الباطن. والمعلومات نفسها ضربان: حسية وصوفية أو ظاهرية وباطنية؛ وفي هذا التقسيم ما يقابل أنواع العلوم التي أشرنا إليها من قبل. ولكن قد يقال إن وسلتنا في تعرف المعلومات الظاهرية هي الحواس فبأي طريق نستطيع الوصول إلى المعلومات الباطنية؟ والأمر في هذا يسير إذا ما رجعنا إلى الصوفية فإنهم يقولون إن التقشف والزهد والفضائل العملية جميعها سبيل إدراك الحقائق الخفية والإلهامات التي تجاوز عالم السمع والبصر. فالمعرفة إذن هي غاية التصوف السامية. أما اتحاد العبد مع الرب فهذه قضية منقوضة عقلاً وغير مقبولة نقلاً. وإذا شئنا أن نقارن بين تصوف الغزالي وتصوف الفارابي وجدناهما متفقين على رفض مذهب الحلول الذي ذهب إليه الحلاج والإلهام الذي يعمل له الغزالي يشبه من وجوه كثيرة الاتصال الذي جد في طلبة الفارابي. وكلا الرجلين يؤمن بوجود معارف باطنية وراء الحقائق الحسية، وهذه غاية الحياة العملية والنظرية ومقصد الصوفية والأنبياء. ولقائل أن يقول إن الغزالي يستمد إلهاماته من الله مبشرة على حين أن الفارابي يقنع بالاتصال بالعقل الفعال. ولكن هذا الفرق في الواقع سطحي فأن العقل الفعال في رأي فلاسفة الإسلام جميعاً ليس إلا فاصلاً معنوياً ومرحلة تدرج بين العبد وربه، وكل فيض مصدره الأخير والحقيقي هو الله جل شأنه. وعلى هذا يمكننا أن نستنتج من كل ما سبق أن نظرية السعادة الفارابية أثرت في جميع المتصوفة المسلمين المتطرفين منهم والمعتدلين أو الأحرار والمحافظين.

(يتبع)

إبراهيم بيومي مدكور