مجلة الرسالة/العدد 171/في الأدب المقارن
مجلة الرسالة/العدد 171/في الأدب المقارن
أسباب النباهة والخمول
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الممارسون للآداب نثراً ونظماً في كل أمة وفي كل جيل أكثر من أن بعدوا، لأن الإفصاح عن خوالج النفس وتأثراتها بما تحس وما ترى طبعي في الإنسان، وإنما يَنْبُهُ من أولئك الممارسين للآداب القليلون ويخلد الأقل؛ يميزهم من غيرهم سداد الفكر ولطف الشعور وروعة الأسلوب، ومن أولئك يكون أعلام كل أدب، ترفعهم عبقريتهم فوق رؤوس معاصريهم وتمشي بهم على عواتق الأجيال.
غير أن للمصادفات والحظوظ والظروف دخلاً كبيراً وصغيراً في صعود الأدباء وهبوطهم، فتَعدِل أحياناً وأحياناً تجور. والأرجح أنها كانت كثيرة الجور والإجحاف في الأدب العربي، وكانت أشبه بالعدل والإنصاف في الأدب الإنجليزي، فقد صاحبت الأدب الإنجليزي ظروف طبيعية مساعدة تسمح للعبقرية الفردية أن تسلك سبيلها غير معتاقة، وأحاطت بالأدب العربي عوامل عارضة أدت إلى رفع بعض من لا يستحقون الرفعة بجوار من يستحقونها، وإلى خفض من هم أولى بالرفعة والنباهة.
فقد ترعرع الأدب العربي ونضج وقومه أميون لا يقيدون في القرطاس آثار أدبائهم وأخبارهم، وإنما يروونها رواية ويتوارثونها تواتراً جيلاً بعد جيل؛ والرواية أقل من الكتابة نصيباً من الدقة وحفظ الآثار والتمييز بين الغث والسمين والبصر بما يستحق البقاء، فكان من جراء ذلك أن ضاع شعر كثير ونثر أكثر، واندثرت أخبار أدباء لعل منهم من كان أجدر بالخلود وأجدر بإعجاب الأجيال التالية ممن خلد؛ ولم يصلنا من أخبار قرون طويلة قبل الإسلام وبعده إلا كل مبتور غير مستوثَق.
فلما صارت الرواية صناعة يطلب بها علو الذكر ودرُّ الرزق وتقريب الأمراء، كان ذلك ضغثاً على إبالة، إذ اشتد عبث الرواة بما بين أيديهم من الأدب العربي، وشوهوه بالبتر والوصل والاختراع والنحل، وحملهم تنافسهم وتكاثرهم بسعة العلم على تخليد أسماء أنصاف الأدباء وأشباه الشعراء، وخلقوا شعراء وفصحاء لم يخلقوا من قبل، وعزَوْا إلى غيرهم من الآثار ما هم براء منه؛ وهكذا خمل من رجال الأدب من عاشوا في عالم الأحياء، وعاش في عالم الأدب من لم يشهدوا نور الحياة.
ولما استُعملت الكتابة الخطية وقل الاعتماد على الرواية، ظلت الكتب نادرة والاستنساخ أمراً غير يسير، ولم تكن الكتب في شيء من الكثرة التي صارت إليها بعد انتشار الطباعة. ثم تعاورت الدولة العربية الغزوات البربرية المدمرة، فأباد الوثنيون في الشرق، والنصارى في الأندلس، كرائم المؤلفات ونفائس الكتب العربية، فذهبت بذهاب ذلك آثار أعلام من الأدباء واندثر ذكر آخرين.
وكان للمشادات والمقارعات الدينية والمذهبية والعصبية والسياسية والجنسية التي صحبت قيام الدولة الإسلامية ولازمتها في حياتها يد طولي في العبث بالتراث الأدبي، فأخمل ذكر أدباء انهزم حزبهم أو انخذل مبدؤهم، ونُشر عمدا ذكر من ناصروا الغالبين في كل تلك الحلبات، وتبارى الغالبون والمغلوبون في العبث بتراث أسلافهم الأدبي ونسبة الروايات الملفقة إليهم، ولهم من انتشار الرواية وندرة الكتابة خير معوان.
ويتصل بهذا تقريب الخلفاء والأمراء لرجال الأدب، لا برّاً بالأدب ولكن طلباً للأبهة وبعد الصيت، فقد أصبح اتصال الشاعر أو الأديب بالخليفة أو الأمير ضمان النباهة وسيرورة آثاره في البلاد، كما كان الإخفاق في التقريب إلى أولئك الحاكمين داعياً في كثير من الأحيان إلى خمول الأديب، فنَدَرَ من أعلام العربية النابهين من لم يتصل بالخلفاء والوزراء. ولا يسع المرء إلا أن يتصور أن عصور أبي نواس ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري كانت حافلة بأندادهم، وإنما خلصت بهؤلاء لطافة حيلتهم إلى حضرة الأمراء فاشتهروا، وعثر بغيرهم مسعاهم فخملوا. ولقد خمل ذكر ابن الرومي طويلاً وإنه لأشْعَرُ ممن ذكروا جميعاً؛ ولعل من أسباب خمول ذكره فشله في الاتصال بالخلفاء والوزراء.
ولما استرقَّت جوائز الملوك أعناق الشعراء، وأعمل هؤلاء الحيل، وأذالوا الشعر في استرضاء الممدوحين واستجداء الأثرياء، ترفع كثير من ذوي الشرف والأدباء عن الهبوط إلى ذلك المجال، وأحجموا عن نظم الشعر أو التوفر عليه أو الاشتهار به، ولسان حالهم قول الشافعي: ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
وإن يكن أبو تمام يقول:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
فإنما كان يعني شعر المتقدمين من جاهليين ومخضرمين ممن تغنوا في شعورهم بالنجدة والمروءة والعزة، وما نخاله كان يعني الشعر الذي كان ينظمه هو وأضرابه واستجداء للرؤساء.
وبذلك حُرمت العربية طائفة من الشعراء لعلهم أسمى طباعاً وأشرف أغراضاً وأصدق شاعرية وأشد حباً للفن من مرتزقة المداحين الذين استأثروا بالجوائز ونباهة الذكر.
ولما فسدت الفصحى تدريجاً باختلاط العرب بالأعاجم العرب بالأعاجم، اشتد الحرص على آثار المتقدمين وتعاظم الإعجاب بهم والرفع من شأنهم، لا لشيء سوى صحة لغتهم واستقامة أساليبهم، وإن كانت أفكار كثيرين منهم على جانب من السذاجة، وأغراض شعرهم على حظ من البساطة، كالحطيئة وابن أبي ربيعة وكثير من الجاهليين.
فهذه عوامل شتى فعلت فعلها البعيد المدى في التراث الأدبي العربي، وساعدت على إعلاء ذكر رجال وخفض آخرين، وهي: ندرة الكتب والاعتماد على الرواية، والأغراض المذهبية، وتسخير الأمراء للشعر، وتكسب الشعراء به، وفساد لغة الكلام، وكوارث الغارات. تحكمت كل هاتيك في أقدار الأدباء وحظوظهم من النباهة، ولم يكن مردّ أمرهم دائماً إلى النبوغ الشخصي والذوق الناقد، فلا نبعد عن الصدق إذا قلنا إن الأدب العربي لم يحتو على خير عناصر المجتمع العربي أو يمثله أصح تمثيل، وإن سجل تاريخ الأدب العربي لا يحتوي على جميع أفذاذ الموهوبين من أصحاب البيان الذين أنجبهم المجتمع العربي.
ومن ثم احتل مكان الصدارة من تاريخ الأدب العربي بعض من لا يستحقون ذلك المكان، ومن لا يعبرون خير تعبير عن أفكار عصورهم وشعورها؛ ومنهم من نال من رفيع الذكر ما هو أهله، ولكنه لم ينله لمزاياه الصحيحة وأسرار نبوغه الحق بل لمساعدة بعض تلك العوامل السالفة الذكر له؛ فقد كان وما يزال من النقاد من يعظم المتنبي لا لأشعاره الصادقة التي أودعها عصارة روحه الكبير، بل لاختراعاته الكاذبة في مدح سيف الدولة وتهنئته وتعزيته، مِن مثل قوله:
إذا نحن سميناك خلنا سيوفنا ... من التيه في أغمادها تتبسم
وبجانب تلك النباهة غير المستأهلة أو المبنية على غير أساسها الصحيح، خمولٌ ما كان أحق أصحابه بالذكر والتمجيد، ولقد قال البحتري:
إذا أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه
ولعله هو خير من يعلم كم أخملت الدنيا بنباهته من شعراء، حين وفقه الحظ دونهم إلى الاتصال بالولاة والخلفاء.
فمن أفذاذ الخوارج أمثال قطري بن الفجاءة وشبيب بن يزيد من كانوا أسمى غرضاً وأشرف شعراً ونثراً من معاصريهم المداحين ولكنهم أخمل منهم ذكراً. ومن الأبيات السائرة المجهولة القائلين ما تشمل حكمة يقصر دون مداها أشباه بشار وأبي نواس، أو تحوي نسيباً تزري روعته بكل ما لُفق في صدور المدائح من نسيب مصطنع، أو تعبر عن شاعرية صحيحة ما كان أحرى صاحبها أن يتوفر على إثراء اللغة بفيض قريحته، ولكن طوفان تلك العوامل القاسية غمره ورفع غيره، فمن تلك الآثار الشاردة قول القائل:
أهابك إجلالاً وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها
وما هجرتك النفس أنك عندها ... قليل ولكن قل منك نصيبها
وقول الآخر:
إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها ... فقدت صديقي والبلاد كما هيا
فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً ... كفى بالممات فرقة وثنائيا
ولم يخلُ الأدب الإنجليزي من آثار الإجحاف وتقلُّب الظروف: فأمام شعرائه شكسبير لم ينل في حياته مثل ما له اليوم من مكانة، وخمل ذكره بعد مماته أجيالاً، وعلا شأنه خارج إنجلترا قبل أن يعلو فيها. وقريعه في سماء الشعر الإنجليزي ملتون قضى أواخر حياته في غمرة من النسيان لإنخذال مذهب المطهرين الذي كان هو لسانه الناطق، وباع ملحمته الذائعة الصيت لورّاق بدراهم معدودة، وظل حقبة مهملاً. وكبير النهضة الرومانسية وردزورث قضى زهرة عمره منبوذاً مُعرَضاً عنه. وبعكس ذلك سما تنيسون في حياته إلى أوج الشهرة والإعجاب، ولم يكد يقضي نحبه حتى هبط ذكره وانصرف الجيل التالي عن شعره.
على أن تلك كلها أمثلة لتقلب الأذواق بتعاقب الأجيال، وهو أمر طبيعي لا محيد عنه. وقد خلا الأدب الإنجليزي أو كاد من تلك الظروف العاتية التي لابست الأدب العربي وتحكمت في مصاير رجاله: فقد شب الأدب الإنجليزي من عهد اليزابيث وقد اخترعت الطباعة، واطرد رقي الطباعة وانتشار الكتب والصحافة والتعليم مع اطراد رقي الأدب، ولم يخضع الأدب طويلاً لسيطرة الحكم، وظل مرد الأمر في تقدير الأدباء إلى الرأي العام المتعلم الذي يقوّم الأديب لفنه الخالص؛ فإن رانت على بصيرته غشاوة من تقليد موروث أو مذهب سائد أو مشادة محتدمة في السياسة لم يلبث بعد أن ينجلي ذلك أن يعود إلى إنصاف من أجحف بهم وإسقاط من لم يستحقوا سالف تقديره.
فإلى أمرين اثنين يدين أعلام الأدب الإنجليزي في مراحله المتتالية بنباهتهم وخلودهم: نبوغهم الشخصي، والذوق العام. وليس بين أقطابه الذين يعتد بهم من لا تؤهله عبقريته لما أوليه في تاريخ الأدب من مكانة، أو من هو مدين بخلود ذكره إلى أهواء السياسة أو أغراض الحاكمين أو دسائس الأحزاب أو تحريف الرواة أو عبث النقاد.
فالنابهون في الأدب الإنجليزي أكثر استحقاقاً لمكانتهم من النابهين في الأدب العربي، والخاملون المغبونون في هذا الأخير أكثر منهم في الأول؛ والأدب الإنجليزي بما أحاط به من ظروف مواتية أسهل تأريخاً ودرساً من الأدب العربي. وهذا الأخير محتاج إلى مراجعة ودرس طويل وتأريخ جديد غير التأريخ الذي جرى عليه العرف حتى الآن ليمنح كل أديب حقه من التقدم أو التأخير، ويُزَحْزَحَ عن الصدر من تؤهلهم له آدابهم ونظراتهم في الحياة، ويستنقذ من يستطاع استنقاذهم من غمرة الخمول.
فخري أبو السعود