مجلة الرسالة/العدد 171/صور سياحة
مجلة الرسالة/العدد 171/صور سياحة
3 - معاهد باريس
الحي الجامعي والمدينة الجامعية ومسجد باريس
بقلم سائح متجول
لا ريب أن ما تتمتع به فرنسا وباريس في مصر من حب وتقدير يرجع قبل كل شيء إلى غرسها العلمي والثقافي؛ وإذا كان هذا الغرس يذبل اليوم ويتضاءل لأن عوامل كثيرة جديدة دخلت في الثقافة المصرية المحدثة، فأن الثقافة والآداب الفرنسية ما زالت تحتفظ في مصر بكثير من جاذبيتها وسحرها.
لقد تلقى كثير من المصريين علومهم بفرنسا، وما زالوا لثقافتها رسلاً مخلصين.
بيد أنه من حسن الطالع أن هذا الجيل المتعصب لثقافته الأجنبية يضمحل اليوم؛ ذلك أن مصر يجب ألا تكون ميداناً بعد لنضال الثقافات الغربية التي تبغي دائماً من بسط نفوذها العلمي والثقافي أغراضاً خاصة، ويجب أن تسير مصر في تكوين ثقافتها القومية على مبدأ الاختيار الحر بعيداً عن دعاية أولئك الرسل المتعصبين.
إن فرنسا تتمتع منذ الأحقاب بسمعة جامعية وعلمية راسخة، وما زالت باريس بجامعتها الشهيرة كعبة الطلاب من سائر الأنحاء والأمم، وما زال حيها الجامعي أو الحي اللاتيني على تقشف مظهره من أشهر أحيائها وأجدرها بالحب والعطف، وأغناها بالذكريات.
ففي الحي اللاتيني يتفتح الذكاء الفرنسي، وفيه تشع العبقرية الفرنسية، وفيه ينهل ألوف من الشباب الأجنبي مورد الثقافة الرفيعة، ويلمسون كثيراً من نعم النظم الديموقراطية التي تسود أفق الحياة العامة في فرنسا.
وفدنا على باريس في صميم الصيف والحياة الجامعية معطلة، فلم يتح لنا أن نرى شيئاً من مظاهر نشاطها، ولكنا مع ذلك طفنا بأرجاء الحي الجامعي مراراً ولمحنا آثار الصبغة الجامعية تطبع الحي في معالمه، وفي فنادقه ومقاهيه، ومظاهر حياته المتواضعة.
يشغل الحي الجامعي ركناً من أقدم أركان باريس وأكثرها تواضعاً، كما يشغل حينا الأزهري أقدم أركان القاهرة وأكثرها تواضعاً؛ وقوام الحي الجامعي شارع سان ميشيل: ففي ضفته اليسرى يقع ميدان السوربون. وشارع سوفلو، وفيما بينهما وبين شارع سان جاك تقع السوربون والكليات المختلفة الملحقة بها فيما بين دروب وشعاب ضيقة قاتمة؛ وفيما بينهما أيضاً تقع عدة من المعاهد العلمية القديمة مثل كلية (لوي الأكبر)؛ ومن الحق أن يقال إن هذه المجموعة القديمة من المباني القاتمة لا تتفق في مظاهرها المادية المتواضعة مع ما لها من سمعة جامعية مؤثلة؛ بيد أن هذا الحرص على القديم ربما كان في ذاته مثاراً للإجلال والإعجاب بهذه المعاهد التالدة التي يرجع بعضها إلى نحو سبعمائة عام، فنحن نعرف أن معهد السوربون أسس في منتصف القرن الثالث عشر، في عهد لويس التاسع، وكان في الأصل معهداً لتدريس العلوم الدينية، وأن تنظيم الكليات الجديدة في السوربون يرجع إلى عصر نابليون، أي إلى نحو قرن وربع.
وحي سان ميشيل الذي يضم هذا الحشد الجامعي، كما قلنا حي متواضع بيد أنه حي عامر ضخم، ويمتد بولفارسان ميشيل من أحد طرفيه إلى مونبارناس، وشارع (البور رويال) وما زال يخترقه إلى اليوم خط الترام بعد أن ألغيت خطوطه من معظم الشوارع الكبرى؛ ويتصل من الناحية الأخرى بشارع فوجيرار على مقربة من الأوديون وحديقة اللوكسومبور التي تبث نسيمها الصبوح إلى الأحياء المجاورة، والتي يهرع إليها جمهور الطلبة والشعب يتفيأون ظلالها ورياضها؛ وفي سان ميشيل والشوارع المتفرعة منه عدة من الفنادق الرخيصة التي تنم عن تواضع روادها؛ وهنالك أيضاً طائفة من المكتبات التي تتاجر في الكتب المستعملة؛ وإنك لتلمس على الجملة في كل ناحية من أنحاء سان ميشيل وما إليه ما يدل على صفة الحي المتواضعة النبيلة معاً.
ولا بد لنا بهذه المناسبة أن نذكر كلمة عن المدينة الجامعية التي تربطها بالحي اللاتيني أوثق الروابط؛ والتي لا يعرفها كثيرون من المصريين الذين درسوا في فرنسا لأنها أنشئت منذ أعوام قلائل فقط.
تقع المدينة الجامعية في ظاهر باريس من جهة الشمال الشرقي في شارع جوردان في بسيط أخضر من الحدائق والحقول النضرة؛ وقد كان من حظي أن زرت المدينة الجامعية وطفت بأنحائها برفقة مدموازيل ليجران، وهي آنسة رفيعة الثقافة تتولى منصباً في إدارة المدينة الجامعية نفسها، وهي التي تفضلت بالشرح والتعريف لكل ما سألت وشاهدت.
كان أول من فكر في هذا المشروع الجليل عضو من أعضاء مجلس الشيوخ غاب عني اسمه، فدعا إليه في المجلس وفي الصحافة، ولم يلبث أن صادف نجاح التحقيق؛ وكان المثري الأمريكي روكفلر أول من اهتم بأمره ونفحه بهبة مالية حسنة ساعدت على تحقيقه.
وتنقسم المدينة الجامعية إلى قسمين: القسم العام ويشمل الأبهاء والمرافق العامة وإدارة المدينة الجامعية نفسها، وهذا القسم هو روح المدينة وهيكلها الحقيقي؛ والقسم الخاص، وهو الذي يضم دور الطلبة لمختلف البلدان، وهو خاص بسكنى الطلبة؛ وفي القسم الأول حديقة بديعة وعدة أبهاء كبيرة للمطالعة والكتابة والجلوس قد أثثت جميعها ببساطة وإتقان معاً؛ وهنالك مطعمان كبيران قد صفت فيهما موائد بسيطة نظيفة، وكذلك مقهيان كبيران؛ وفي وسع الطلبة أن يجلسوا للمذاكرة أو الكتابة أو السمر في هذه الأبهاء الشاسعة المنيرة، وأن يتناولوا الطعام أو القهوة أو الشاي أو غيرهما في تلك المطاعم أو المقاهي النظيفة بأثمان زهيدة جداً تناسب أحوالهم وماليتهم؛ ووجبة الطعام الحسنة تكلف الطالب من 3 إلى 5 فرنكات، وثمن المشروب فرنك أو نصفه، وهذه أثمان لا تحلم بها في مطاعم المدينة ومقاهيها؛ وهناك حمامات وملاعب ومسرح يقوم الطلبة بالتمثيل فيه أو تمثل فيه الفرق التي تدعوها إدارة المدينة لتسلية الطلبة، وهنالك في الطابق الأرضي مكتبة بدئ بتأثيثها وإعدادها لتغذي الطلبة وتعاونهم على المذاكرة والبحث: هذه هي محتويات القسم العام للمدينة الجامعية شرحناها بإيجاز؛ وإنك لتشعر أثناء الطواف بهذه الأبهاء والغرف الشاسعة التي تشرف على الحدائق والحقول النضرة، إنها لأبدع ملاذ يمكن أن يأوي إليه الطالب في أوقات المذاكرة والفراغ معاً، بعيداً عن صخب المدينة وضجيجها، وإنك لتأنس شعوراً من الغبطة والإعجاب بما هيئ للشباب من وسائل الراحة والمتاع البريء.
وأما القسم الخاص من المدينة الجامعية فيحتوي على عدة دور كبيرة أنشئت إلى جانبي القسم العام عن يمينه وعن يساره على طول شارع جوردان؛ لكل دولة دارها؛ فهنالك دور لإنكلترا وأمريكا واليابان وفرنسا وهولندا وبلجيكا وكندا وغيرها؛ وتخصص هذه الدور القومية التي تتولى الدول المختلفة تشييدها على أرض تمنح لها، لسكنى طلبة هذه الدول، فدار إنكلترا خاصة بالطلبة الإنكليز، ودار أمريكا بالطلبة الأمريكيين، وهولندا بالهولنديين، وهكذا؛ وأبدع الدور وأعظمها هي دار الولايات المتحدة؛ وهنالك دار صغيرة ولكن أنيقة لليابان؛ وقد أعدت هذه الدور لتكون فنادق للطلبة وجهزت بوسائل الراحة والنظافة، وأثثت ببساطة واتقان؛ ويستطيع الطالب أن يجد سكناً في دار البلد الذي ينتمي إليه بأجر شهري قدره مائة فرنك؛ ويستطيع أن يجد غرفة خاصة حسنة الأثاث بأجر شهري قدره مائتا فرنك، وتغص هذه الدور بالطلبة لما لها من مواقع جذابة تغمرها الشمس والضوء والهواء، ولما للسكن فيها من المزايا المريحة.
ولقد وددنا أن نرى في المدينة الجامعية بين هذه الدور الأنيقة الضاحكة، دارا مصرية! ففي باريس يدرس دائماً عدد كبير من الطلبة المصريين، وإنها لدعاية حسنة لمصر المستقلة الفتية أن يكون لها دار جامعية في العاصمة الفرنسية إلى جانب دور الأمم الأخرى، وإنها لنعمة سابغة لطلبتنا أن يكون لهم في باريس دار مصرية يأوون إليها بعيداً عن صخب المدينة ومغرياتها؛ قهل تفكر وزارة المعارف في هذه المسألة الهامة، وهل توليها شيئاً من عنايتها وعطفها؟ إنا لنرجو مخلصين داعين بالتوفيق والتحقيق.
هذا ولا تنس وأنت في باريس أن تزور (المكتبة الوطنية) في شارع ريشليو، ففي هذا المعهد الثقافي الضخم كنور زاخرة من الكتب في مختلف العلوم والفنون؛ وفي المكتبة الوطنية قسم شرقي ضخم، وقسم خاص بالمخطوطات العربية، ولكل قسم فهارسه المنظمة، ومرشدون يفهمون أعمالهم حق الفهم، وقد لفت نظرنا عند مراجعة فهارس المخطوطات العربية عدة أسماء مخطوطات نادرة مثل: أحاديث الإمامة والسياسة (رقم 1566)، وحسن المسالك لأخبار البرامك (2107) وعيون المعارف للقضاعي (1490)، وتراجم الصواعق في وقعة الصناجق (1853)، وتاريخ المهديين والحفصيين (1874)، وتاريخ مصر لابن زولاق (4727). بيد أننا لم نجد متسعاً من الوقت لبحث هذه المخطوطات لمعرفة حقيقتها ومبلغ أهميتها.
وهنالك في باريس صرح لابد لكل مسلم أن يزوره، هو مسجد باريس؛ ويقع المسجد في قاصية باريس، وفي حي من الأحياء القديمة المتواضعة على شوارع جوفري سانت هيلير، وجورج دوبلا وديبانتون، وقد بني على الطراز المغربي، ويشرف بابه العمومي ومئذنته على شارع ديبانتون، وفي فنائه حديقة صغيرة حولها أروقة أربعة تفضي إلى أبهاء وأجنحة ومرافق مختلفة، وفي الجهة اليمنى من الفناء يقع المصلى، وهو بهو شاسع أنيق، قد فرش بالبسط النفسية، وبه عند القبلة منبر مكسو بالديباج الأخضر من إهداء مليكنا المغفور له فؤاد الأول؛ ولقد يممننا في عصر ذات يوم إلى هذا الحرم الإسلامي المقدس الذي يحفه الصمت العميق من سائر نواحيه، ولم نتمالك أن نجثو خاشعين لله عز وجل، وان نؤدي ما تيسر من الصلاة مغتبطين لذكر الله ورسوله في هذا الحرم النائي عن أرض الإسلام.
وبالمسجد مكتبة صغيرة ومعهد قيل لنا إنه تلقى به محاضرات إسلامية مختلفة، ومستشفى صغير لبعض الأمراض الخطيرة؛ وبه أيضاً حمام عربي، ومقهى ومطعم عربي، قد صفت موائده في حديقة داخلية صغيرة تقع في الجهة الشرقية، وتعزف فيها الموسيقى العربية أحياناً، ويقوم بهذا العزف بعض الموسيقيين المغاربة. وقد تنولنا القهوة العربية لأول مرة في باريس في هذا المنتدى الأنيق وسمعنا الموسيقى العربية في مجتمع قوامه مسلمون من مختلف الأمم.
بيد أن شعور الغبطة الذي قد يأنسه المسلم مدى لحظة لقيام هذا الصرح الإسلامي في باريس لا يلبث أن يمازجه شعور بالمرارة والأسف حين يستعرض المعاني والظروف لتي أقيم فيها. إن فرنسا لم تعمل لإقامة هذا المسجد حباً بالمسلمين أو احتراماً لشعائرهم ومشاعرهم، وإنما أقامته أداة من أدوات التأثير الاستعماري، وهو في الواقع رمز لسيادتها على الأمم الإسلامية التي تسودها أكثر منه رمزاً للعطف والتقدير.
وإلى هنا نقف اليوم؛ وسنحدثك في الفصل القادم عن الحياة الليلية في باريس، وعن بعض مظاهر المجتمع الباريزي.
(? ? ?)