انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 118/الدكتور محمد إقبال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 118/الدكتور محمد إقبال

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 10 - 1935


4 - الدكتور محمد إقبال

اكبر شعراء الهند المسلمين في العصر الحاضر

لأبي نصر أحمد الحسيني الهندي

فلسفته

إن كل شيء في هذا العالم متصف بالفردية، حتى الحياة أيضا لا تخلو من ذلك؛ ولا وجود في الخارج للحياة الكلية التي ينشدها بعض المذاهب الفلسفية والصوفية، فالله أيضا فرد واحد ليس كمثله شيء؛ وأما الكائنات فهي عبارة عن مجموعة الأفراد، ولكن النظام، والنسق، والتوافق والتطابق الموجودة فيها ليست بنفسها كاملة. ومهما كانت فهي نتيجة سعي الأفراد الغريزي، وعلى هذا فنحن نتقدم بالتدريج من الفوضى إلى النظام، ومن النقص إلى الكمال. وعدد أفراد هذه المجموعة غير محدود ولا معين، فانه يزداد كل يوم ويتضاعف. فالأفراد الحديثو الولادة يشاركوننا بدورهم ويساعدوننا للبلوغ إلى هذه الغاية العظمى - الكمال، ولذلك كان عمل الكائنات غير متناه، لأنها لا تزال تتدرج في مدارج الكمال وتترقى إلى ذرى المجد. وعلى أن الكائنات لم تنال الكمال المنشود بتمامه بعد، وما تفتأ تستنفد وسعها وتفرغ مجهودها في بلوغه فلا يمكن أن يقال في شأنها الكلمة الأخيرة، وما يمكن أن يقال فيها هو أنها ليست بحقيقة كاملة. وعملية الخلق فيها جارية يقوم فيها الإنسان بنصيبه، ويشترك فيها إلى أن يقدر أن يوجد النظام على الأقل في جزء من فوضاها؛ والقرآن قد أشار إلى هذا الخلق في الآية: (فتبارك الله أحسن الخالقين)

فنظرية إقبال هذه في الإنسان والكائنات خلاف ما يراه الإنجليز من أتباع مذهب الهيجلية الحديثة أو الصوفية في مسئلة وحدة الوجود من أن الغاية القصوى لحياة الإنسان ونجاتها في أن تندمج في الحياة الكلية كما تندمج القطرة في البحر وتفقد فرديتها

ليست الغاية الأخلاقية للإنسان ولا مرمى دينه أن يبيد وجوده بإتلاف فرديته وإفناء أنانيته، بل أن يحافظ على فرديته وأنانيته، وذلك بالحصول على أمثل الصفات وأعلاها التي تجعله فريدا وحيدا. والنبي عليه الصلاة والسلام قد أبانه بقوله: (تخلقوا بأخلاق الله)، أي اتصفوا بصفات الله، لذلك كلما كانت صفات الإنسان أشبه بصفات الله كان فريد زمانه عصره

أما الحياة فيرى إقبال أنها اسم آخر للفرد. وأسمى صورة لها تحققت إلى الآن هي الأنانية التي بها يصبح الفرد مركزا مستقلا؛ فالإنسان مركز مستقل من كلا الجهتين، أي الجسمانية والروحانية، لكنه ليس بفرد كامل. والفرد كلما كان بعيدا عن الله كانت فرديته ناقصة وأحط درجة، وكلما كان قريبا من الله كانت فرديته كاملة وأرفع منزلة. وليس معنى القرب هذا أن تكون نهايته الفناء في الله أو الاندماج فيه كما قرره بعض الصوفية والفلاسفة؛ بل خلافا لذلك هو يجذب الله إليه، أي يتصف بصفاته وأخلاقه؛ وإلى هذا أشار إقبال في بيت من ديوانه (بيام مشرق) التبس مفهومه على البعض، قال:

(دردشت جنون من جبريل زبون صيدى

يزدان بكمند آور آي همت مردانه!

إن في صحراء جنوني جبريل صيد تافه

يا همتي الشماء ائتي في أنشوطتك بالله.)

يريد به أن الاتصاف بأوصاف الملائكة عنده شيء تافه بل هو يتوخى بهمته الشماء صفات الله

إن الحياة شيء متقدم. هي حركة تجذب الكائنات إلى نفسها بالغلبة على مشاكلها ومعضلاتها العائقة لها عن سيرها وتقدمها، وجوهر وظيفتها خلق الأماني والأغراض الجديدة بالاستمرار والتقدم ولصون نفسها قد أوجدت الحياة الوسائل، أو هي ظهرت طوعا لشريعة الارتقاء، وهذه الوسائل هي الحواس الخمس والقوة المدركة التي بها تغلب المشاكل والمعضلات، وإن كان أكبر العوائق في طريقها الطبيعة أو المادة، لكنها في ذاتها ليست بشر، إذ هي تمكنها من إبراز قواها الخفية واستعداداتها المكنونة

إن الأنانية حينما تستولي على المشاكل والمعضلات ويبين شأوها عليها تنتقل من الجبر إلى الاختيار فأنها إلى حد ما مجبرة وإلى حد ما مختارة كما ورد في الأثر أن (الإيمان بين الجبر والاختيار)، ومتى نالت النهاية القصوى من زلفى الأنانية العظمى (أي الله) التي ليس كمثلها شيء في الحرية والاختيار تمتعت بأقصى مدى من الاختيار والحرية، وعلى هذا فالحياة عبارة عن الجهد المستمر للوصول إلى ذلك المدى من الاختيار والحرية قلنا إن مركز الحياة في الإنسان الأنانية التي تملى شخصيته على صفحة الوجود، والشخصية هذه عبارة عن حالة الجهد المستمر، فإذا احتفظ بتلك الحالة، بقيت الشخصية ثابتة البناء مشيدة الأركان، وإذا فقدت، ضعفت قواعدها وانتكثت مرائرها، وبما أن الشخصية أو حالة الجد المستمر أبعد الغايات للإنسان وأثمنها، فينبغي له ألا يدعها ترث قواها فتضعف، وتنحل عراها فتفنى. لأن بقاءها هو الذي يسبغ عليه الدوام والخلود، ثم فكرة الإبقاء هذه تعطى له أيضا معيارا للخير والشر أو الحسن والقبح. فإن كل ما يقويها خير وحسن، وكل ما يضعفها شر وقبيح، سواء أكان من نوع الفن أم الدين أم الأخلاق

على ضوء هذه الآراء انتقد إقبال فلسفة أفلاطون فدحض حجج جميع المذاهب الفلسفية التي تعتبر غاية الإنسان الموت بدل الحياة، فتلقنه الجبن والوهن وذلك بحمله على الأعراض عن المادة التي هي أكبر العوائق في طريق حياته، والابتعاد عن مقاومتها، مع أن جوهر الإنسانية في الاستيلاء عليها واستخدامها لنفسها بالبطولة والفحولة

وكما أن الاستيلاء على المادة ضروري لنيل الحرية والاختيار كذلك الغلبة على الزمن لازمة للحصول على الخلود والدوام؛ و (برجسون) قد علمنا أن الزمان ليس الخط اللامتناهي (في مفهوم الخط المكاني) الذي لابد أن نجتازه سواء رضينا به أم لم نرض. ولكن هذا المفهوم للزمن ليس بصحيح فإن مفهوم الزمن البحت لا يشمل مفهوم الطول

إن الخلود غاية الإنسانية وأمنيتها، يحوزه كل من يسعى لذلك، وحيازته تتوقف على تلك الأعمال والأفكار من حياتنا التي تقدر أن توطد أساس الأنانية على حالة الجد المستمر وتشيد أركانها، فديانة بوذا وتصوف إيران وأمثالهما من نظريات فلسفة الأخلاق لا تصلح لمأربنا وإن احتوت على بعض الفوائد وهو أننا بعد إجهاد أنفسنا واستغراق وسعنا بالاستمرار نحتاج إلى راحة قليلة لتجديد قوانا، فكأن تلك الطرق للأعمال والأفكار كالليالي لأيام حياتنا

وعلى كل حال فمتى تمكنت أعمالنا وأفكارنا من توطيد حالة الجد المستمر في الأنانية، فالأرجح أن الموت لا يؤثر عليها، بل محتمل أن تكون الفترة بين حياتنا الحاضرة وحياتنا الأخرى هي فترة الراحة، وتلك الفترة هي التي عبر عنها القرآن بعالم البرزخ الذي يبقى إلى يوم البعث، فتلك الأنانية وحدها يمكن ألا تتأثر من الموت وتخرج من الفترة فائزة، التي قد اعتنت بالحياة الحاضرة اعتناء جيدا، وإن كانت الحياة تأبى الإعادة والتكرار في مدارج الارتقاء، ولكن على حسب مبادئ فلسفة برجسون، كما يقول لنا الأستاذ ولدن كار، حشر الأجساد أيضا في حيز الإمكان التام. إننا نوزع الزمن في اللمحات لذلك نربطها بالمكان فيصعب علينا عبره، ولكننا ندرك حقيقته حين نغوص في أنفسنا لأن الزمن الحقيقي هو حياتنا، تلك التي توطدت فيها الأنانية بحالة الجد المستمر، أننا محكومون بالزمن إلى أن نراه مربوطا بالمكان، إن الزمن المقيد بالمكان سلسلة لفتها الحياة حول نفسها لتجذب ما حولها إلى نفسها، وإلا فنحن مجردون على الزمن، وهذا التجرد يمكن أن نشعر به حتى في حياتنا الحاضرة وإن كان لدقيقة

إن الشيء الذي يقوي الأنانية هو العشق في مفهومه المطلق ومعناه جذبك الشيء أو طلبك إياه لتجعله جزءا من نفسك، وأسمى صورة له هو ما يمكن صاحبه من خلق القيم والغايات، ويدفعه إلى السعي في تحقيقها وبلوغها، ثم العشق يجعل العاشق فريدا كما يجعل المعشوق، وذلك أن طلب الفرد المعين الأوحد يوجد شأن الانفراد في الطالب عن غيره كما يوجد في المطلوب، فأنه لا شيء غيره يرضي طلب الطالب، وكما أن العشق يقوي الأنانية، كذلك الاستجداء يضعفها، فكل شيء نيل بغير المجهود الشخصي هو من قبيل الاستجداء، فالابن الذي يرث ثروة أبيه من دون مجهوده الشخصي مستجد، ومثله ذلك الذي يفكر بفكر الآخرين ويرى برأي غيره. وبناء عليه ينبغي لنا أن نوجد ونربي في أنفسنا العشق أي قوة الجذب ونجتنب جميع أنواع الاستجداء، وإليه أشار إقبال في بيت ترجمته:

(إن المملكة التي لم تشتر بالدم

هي عار على المسلم)

بقي أن نسأل كيف نوجد العشق، فيقول إقبال: إن للمسلمين على الأقل في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ردا على ذلك، فأنه عليه الصلاة والسلام قد وضح بأعماله وحياته ما هو العشق، وكيف يمكن القيام به، لذلك ينبغي للمسلمين أن يختاروا حياته عليه الصلاة والسلام أسوة لأنفسهم وأن يحبوه، وإليه أشار إقبال في بيت قال:

(هركة عشق مصطفى سامان اوست

بحر وبردر كوشه دامان اوست كل من يكون متاعه عشق المصطفى

يكون البحر والبر في طرف ذيله)

إن الأنانية في صعودها إلى فروع العلى، وبلوغها إلى رفعة الكمال حيث تتمتع بفردية كاملة بنيل زلفى الأنانية العظمى لابد أن تجتاز ثلاث مراحل: مرحلة الخضوع للشريعة، ومرحلة ضبط النفس وهي الصورة العليا للشعور الذاتي، ومرحلة الخلافة الإلهية

ففي مرحلة الخضوع يفسر لنا إقبال أنه للتقدم لابد من مسلك يسلك، ومن مشروع يورد، ومن قانون يخضع له. لذلك كل من يصبو لمعارج الكمال، ويطمح إلى سنام المجد ينبغي له أن يطيع الشريعة. وفي بيان مرحلة ضبط النفس يقول إقبال إن النفس الإنسانية لأمارة بالسوء، فهي معجبة بذاتها، أبية، عنيدة، لا تهتم إلا بأمر نفسها. لذلك هي محتاجة إلى الضبط والتهذيب. فخير طريق لذلك هو إقامة أحكام الشريعة. فالصلاة تنقذها من الفحشاء والمنكر، والصوم يقتل غلمتها وترفها، والحج يذيقها لذة الهجر ويخفف عنها سلطان الحب للوطن ويضمها إلى الاجتماع الإسلامي العام فيجعلها تشعر بجنسية الإسلام، والزكاة تبيد حبها للمال وتعلمها المساواة

أما الخلافة الإلهية فهي النهاية القصوى للتقدم الإنساني على سطح الأرض، هي الأنانية الكاملة والغاية العليا للإنسانية، وقمة الحياة من حيث العقل والجسم. ففيها يتحول تشتت الأفكار في الحياة الذهنية واختلافاتها وتنافرها إلى التناسق والتوافق، فتقدر حينئذ على حل جميع العقد المنيعة المطلب والصعبة المرام. هي ملتقى الكمال للعلم والقوة، ونقطة الاتصال بين الفكر والعمل، والعاطفة والعقل. ومن استحقها كان آخر ثمرة لدوحة الإنسانية، وظهوره يبرر جميع آلام الارتقاء ومحنه لأنها كانت قائمة لأجله. هو يكون حاكما حقيقيا على البشر وحكومته تكون حكومة إلهية على الأرض. هو يسبغ من خصب طبعه على الآخرين بحبوحة الحياة ويقربهم إلى نفسه فكلما يتقربون إليه تتدرج حياتهم في مدارج التقدم والكمال

إن بلوغ الإنسانية إلى أقصى مدى من التقدم عقلا وجسما شرط ضروري لولادة ذلك المستحق للخلافة. لذلك كان وجوده في الحال في عالم المثال، ولكن تقدم الإنسانية سائر إلى إنتاج طبقة الأفراد المنفردين في أوصافهم الحميدة قلة أو كثرة؛ فهؤلاء سيكونون أجداده أما الحكومة الإلهية فمعناها الديموقراطية المكونة من الأفراد المنفردين في أوصافهم الحميدة قلة أو كثرة يرأسهم الفرد الوحيد الذي لا نظير له على وجه الأرض. كانت أشباح هؤلاء الأفراد تجول في فكر الفيلسوف الألماني نيتشه؛ ولكن إلحاده وتعصبه الأرستقراطي شوهها تماما

هذا ما عن لنا من فلسفة إقبال الآن؛ وسنقدم إليك معالم الاتفاق والاختلاف بينه وبين فلاسفة الغرب في المقال الآتي إن شاء الله.

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي