مجلة الرسالة/العدد 118/في الأدب الإنجليزي
مجلة الرسالة/العدد 118/في الأدب الإنجليزي
2 - الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
يجب علينا لفهم هذه الروح في شعر شكسبير أن نطلع على الحالة العقلية التي كانت تسود عصره والعصور التي سبقته. قال كلارك: (لقد كان هناك عدد عظيم من الملحدين والمشككين وجدوا في عصر كان بمثابة الخطوة الأولى في ترقية العلوم المعروفة لدينا الآن. فقد كان تلاميذ كوبرنيكس الفلكي يتساءلون ويتجادلون في كل ما عرف من النظريات الفلكية من قبل، وكان هناك نفر آخر من الكيميائيين دحضوا حجج مدعي الكيمياء القدماء، ولكن النضال لم يكن مقتصرا على جماعة المجددين فحسب، بل وجد هناك نفر آخر من القدماء المقلدين الذين كانت أقصى غايتهم مقاومة هذا التيار الجارف. وإن من الغرابة أن نجد الملكة اليصابات تستشير المنجمين والدجالين في تعين الوقت المناسب للاحتفال بتتويجها ملكة على إنكلترا)
ومن حسن حظ العلم قيام عدد من المفكرين أثبتوا فساد كثير من النظريات القديمة المألوفة فبزغ نجم رينولد سكوت لما هاجم عددا من العقائد الدينية المألوفة، ولم يقتصر هذا التجدد على المفكرين من رجال العلم بل تعداه إلى رجال الكنيسة أنفسهم فظهر هناك من رجال الكهنوت عدد حاول إصلاح الديانة مما طرأ عليها من الخرافات والأباطيل
أما الخرافات فكانت تسيطر على جميع مناحي الحياة في ذلك العصر. فكان السحر بطرقه المختلفة مهنة تمتهنها النساء اللواتي كانت تغلب عليهن صفة الذبول والكبر وبشاعة المنظر. وكان معظم هؤلاء النسوة من الشريرات القذرات ممن كان أقصى غايتهن إيقاع الضرر وبذر المساوئ في المجتمع البشري. غير أنه وجد في نفس العصر بعض ساحرات كان همهن شفاء المرضى والقيام بخدمات حسنة للمحتاجين والمهددين بالأخطار
قام الناس على اختلاف طبقاتهم يناوئون السحر والسحرة فهاجموا الساحرات في عقر دورهن وكانوا يأخذونهن راسفات في الأغلال إلى السجون حيث ينتظرن محاكمتهن أمام مجلس من القضاة الذين كرهوا السحر وما يأتي به أمثال هؤلاء الشريرات من موبقات وآثام. فكانوا يعذبونهن بأشد أنواع العذاب. فمنهن من ربطن إلى جذ الأشجار حيث ذقن الموت جوعا، ومنهن من كان يطلب إليهن إعادة الصلوات قبل إلقائهن في النار المضطرمة
وكان من السائد على أهل ذلك العصر أن ينظروا إلى السحرة كأنهم على اتصال بالشيطان. قال كلارك في كتابه: (أن من أبغض الأمور التي كان يتعاطاها السحرة في عصر اليصابات وما قبله ذلك النوع من السحر الذي كان يعرف بالعين الشريرة فكان من جملة معتقداتهم أن في استطاعة الساحرة أن توقع الضرر أو تميت الناس بمجرد إلقائها عليهم نظرة من نظراتها النارية؛ فكان العمل الذي كان يعتبر من أشد أنواع السحر ضررا هو بمثابة الحجر الأساسي في بناء علم التنويم المغناطيسي المعروف لدينا الآن)
وكان هناك نوع آخر من السحرة أقل ضررا وخطرا، ذلكم هو نوع العرافين أو المنجمين الذين كان الناس يقصدونهم كما يقصدون قارئي الكف في يومنا هذا. فكانوا يوهمون قاصديهم باتصالهم بالسماء والعالم العلوي فيقرأون المستقبل في الماء والهواء، في النار والدخان. وكثيرا ما كانوا يضطرون إلى استشارة أرواح الأموات أو تأويل صياح الديكة في تفسير ما يرونه من حقائق وأحلام
أما العفاريت فكان الناس يؤمنون بوجودهم الإيمان كله، وما هم إلا بقايا الأشخاص الخرافيين الذين عاشوا في عصر من العصور السالفة وأصبح في استطاعتهم بعد ذلك أن يهيمنوا على الإنسان فيحولوا أعماله حسبما يريدون وأنى يشاءون. نعم كان هذا الاعتقاد سائدا لدرجة أن أصبحت الكنيسة تعلم أبناءها أن لكل رجل في هذا العالم رفيقا من عالم آخر يحميه ويقيه غائلة الشر
وكان هنالك نوع آخر من الخرافة هو عالم الأشباح والخيالات. فما الشبح إلا روح غادرت جسدها المائت وانتقلت من عالم الأموات إلى عالمنا هذا ترفرف في الفضاء لتحقيق غاية من الغايات شريرة كالانتقام والقتل، أو خيرة كحماية البشر وصد الآلام عنهم. أشباح مرئية وأشباح غير مرئية محلقة بأجنحتها في الفضاء فتملأ العالم خيالات لا يحصر عددها ولا يعرف مقدارها عصر كله خرافات تتسلط على عقول أبنائه الأوهام، ذلكم هو عصر اليصابات الذي يصفه كلارك بقوله: (على الرغم أن ذلك العصر كان عصر بداءة وتمهيد للعلوم المعروفة لدينا الآن، إلا أن معرفة الحقيقة والطبيعة لم تكن متقدمة للدرجة التي يستطاع بواسطتها القضاء على الخرافات السائدة؛ فكان الناس يؤمنون بالسحرة والدجالين، بالفلكين والمنجمين، بالحوريات والجنيات، بالرقي والعزائم، بالأحلام والاتصال بالأرواح. هذا الاعتقاد السائد كان أكبر عامل في وجود هذه العوالم في روايات المؤلفين الذين لم يستطيعوا بأي حال من الأحوال أن يخرجوا عن محيطهم وبيئتهم)
شكسبير والعقائد العامة:
شأن الشاعر أن يدون شعره كل ما كان معروفا في عصره من العقائد العامة، وهكذا كانت حال شاعرنا شكسبير، فقد عرف تمام المعرفة أن الخرافات القديمة كانت مواضع خلابة استعملها شعراء الإغريق والرومان في صوغ عبارتهم وتفسير معانيهم ودقائقهم. ولم تكد العصور القديمة تنطوي في عالم السجلات والتاريخ حتى ظهر هناك عالم خرافي جديد كان في حد ذاته خليفة للعصور التي سبقته، ذلك العصر هو عصر القرون الوسطى التي لم يستطع الشعراء الاستغناء عن خرافتهم في لغتهم بما نقله السلف عمن سبقهم
ومما لا شك فيه أن شاعرنا قد تأثر بعدد غير قليل من العوامل: كالجنس والمحيط والبيئة، فكان أفراد جنسه (يعتقدون أن كل ما هو غير مرئي حقيقة لا شك فيها ولا نقض)، ولم تكن الخرافات في عصره قد حوول مهاجمتها محاولة صادقة. نعم كان الإصلاح الديني أخذ في الانتشار في البلاد الإنكليزية إلا أنه كان مقصورا على المدن. أما القرى فلم تكن قد تأثرت بهذا الإصلاح أي تأثير
عاش شكسبير في عصر اضطربت فيه العقائد وتضاربت فيه الآراء، فاعتقد بعض الرجال المتعلمين اعتقادات كانت بعيدة كل البعد عن عقول غيرهم من الناس؛ وإن من حسن الحظ أن شكسبير يحاول في بعض رواياته أن يظهر لقارئيه عقائده وآراءه الشخصية. فهو يعتقد في الخرافات، ولكنه يتساءل عن أصلها وكيفية ظهورها، فهو يقول على لسان الأمير هملت:
(هل من الممكن أن نحسب ذلك الشخص الذي يقضي أوقاته كلها في الأكل والنوم رجلا؟ كلا إنه لا يتعدى أن يكون حيوانا فقط. إن من المؤكد أن ذلك الإله الذي وضع فينا قوة المجادلة والتمييز بين ما نعمله وما لا نعمله لم يضع فينا هذه المقدرة لنتركها دون أي استعمال أو ممارسة، أما الآن فسيان عندي إن كان هذا الفكر مجرد وهم أو غموض سماوي. فالفكر لا يحوي في حد ذاته إلا جزاءا من أربعة من الحكم والصواب، بينما أجزاؤه الثلاثة الأخرى لا تخرج عن كونها من عوامل الجبن والخوف، فلا يمكنني الجزم فيما إذا كنت قد خلقت لأقول مجرد القول في أن هذه الأمور يجب علي أن أعملها، في حين أني قد أوتيت القوة والإرادة والحق في عملها والقيام بها)
إن من الصعب على الشاعر أن يستطيع البحث في موضوع سماوي بطريقة جدية ترتكز على تفكر وبحث عميقين دون أن يكون له أدنى اعتقاد في هذه الأمور التي يبحث فيها؛ وبنظرة عميقة لروايات شكسبير يمكنك أن تحصل على نتيجة لبحثه في مثل هذه المسائل. وقد قال روف في كتابه (شكسبير وعقيدته في الأشباح): (لم يستطع شكسبير أن يجعل أشخاص رواياته ينطقون عن عقائده، ولكنه استطاع أن يظهرها في رواياته)
(يتبع)
خيري حماد