انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/شذرات من كتاب حديث المائدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/شذرات من كتاب حديث المائدة

ملاحظات: بتاريخ: 5 - 5 - 1913



حديث المائدة كتاب جليل. وسفر نبيل. لواضعه أوليفار وندلهولمز الأمريكاني من فحول شعراء الطبقة الأولى وكتابهم وجملة علمائهم وفلاسفتهم. قد جمع بين العلوم والآداب على قلة الجامعين بينهما فأشبه في ذلك جيتا الألمانى وفولتير الفرنسي وراسكين الإنكليزي. وكتابه حديث المائدة من أملح المؤلفات نادرة وأبدعهم طرفة وأغربهم أسلوباً قد طبعه على غرار لم يسبق إليه ونسجه على منوال لم ير في عالم التأليف من قبل. وذلك أنه تخيل ربة نزل قد اجتمع عندها في حين من الدهر زمرة من الناس أشكالاً وأصنافاً فيهم الشاعر والأديب الفلكي والحشري (عالم الحشرات) والطبيب والماليّ والعاطل الذي لا عمل له والقسيس وفيهم كذلك نساء مختلفات الأحوال والأشكال الفتاة والعجوز والقبيحة والمليحة واللينة والشكسة. وإن جميع هؤلاء يجتمعون كل صباح على مائدة الإفطار فتجرى بينهم أحاديث فهذه الأحاديث قد جمعها الكاتب وسردها في ذلك الكتاب الذي سماه حديث المائدة. هذا ما تخيله الكاتب وهو خيال بديع وأسلوب مخترع ولقد أجاد في هذه الأحاديث ما شاء فجاءت كأنها السحر أو أدق. في ألفاظ تخالها الماء أو أرق. ولما كانت تدور حسب تخيله بين أناس من كل شكل وصنف وحرفة وصناعة فلا جرم أن حوت كل نوع من الكلام وكل ضرب من الفن كأنها حديقة ضمنت فنون الثمر ألواناً. وأنواع الزهر نرجساً وحوذاناً. وضروب الطير مثني ووحداناً. ولا جرم أن سميناه دائرة معارف لا سفراً. وقد رأينا أن لا يحرم قراء البيان من مؤلف كهذا فشرعنا نعرب لهم أطيب ما فيه وها هي نخبة من ذلك نطرحها الآن بين أيديهم.

(1)

الحديث

مازال ذوو القرائح السمحة والخواطر الحافلة والأذهان الخصيبة ينفرون كل النفور من ذوى الجمود ممن قد تمسكوا بطائفة من الآراء جعلوها القواعد التي لا يشذون قط عنها مهما كانت الأسباب والدواعي حتى لكأنما الآراء والإنكار شيء مقيس محدود كنظريات الهندسة والجبر والحساب - كأن كل رأي في الدنيا هو كقولك 2 2=4 والخطان المتوازيان لا يلتقيان أبداً - مع أن الآراء والأفكار لا تخلو قط من عناصر الوهم والتمويه والشك ثم هي شيء ذو وجوه مختلفة ينظر إليها من جهات مختلفة. ولكن ذوي الجمود لا يفهمون ذلك ولا يريدون ولا يستطيعون وقد أبوا إلا أن يجعلوا من نظرياتهم وقواعدهم آفات لذوى الأفكار الحرة والخيالات الواسعة. وإلا أن يرسلو من نظرياتهم هذه في مجالس الأنس ومحافل السمر وحوشاً ضارية تزعج الندىّ وتسوء الحفلة فلا غرو أن سميت نظرياتهم هذه وحوش ميادين الذهن والخيال. وأيكم لم ير فى حياته أمثال هؤلاء الثقال ممن قد تشبث بنظرية أو اثنتين يسحبها وراءه كلما دخل مجلساً كأنهما كلبان عقوران قد تأهب واستعد أن يرسلهما على كل من يسوقه سوء الحظ إلى أن يبدى رأياً جديداً أو فكرة مبتكرة أو خيالاً مستملحاً.

الحديث من أجل الشؤون وأخطر الأمور. وإن في الناس من يلحقك من ساعة تقضيها بالحديث معهم من الضعف أضعاف ما يلحقك من صيام يوم والخير لك أن تفقد قدحاً من الدم من عروقك من أن يقطع بعض أعصابك فتراق منه قوتك العصبية. فإنه ليس هناك من أحد يزن قوتك العصبية وهي تسيل فتذهب كما يفعل الطبيب بدمك إذا سال وليس من أحد هناك يضمد دماغك ويربط مخك كما يفعل بجراحك.

من الناس من يأخذ علىّ أنى ربما أعدت بعض بنات أفكاري في مجالس مختلفة كأنهم يرون الأفكار كطوابع البريد لا يعاد استعمالها. بيد أنى لا أرى الرجل الذي يتحاشى إعادة أفكاره إلا عاجزاً مأفوناً. فلتفرضن أيها القارئ أن صاحب حكمة بالغة وعظة ثمينة مثل اعرف نفسك أمسك طول عمره الطويل عن ذكرها والإشارة إليها! كيف ترى ذلك! إلا إنما آراء المرء وأفكاره آلاته وأدواته. أفتحسب النجار محرم عليه أن يستعمل منشاراً بعينه بعد نشره عوداً من الخشب أم تراه حتم عليه أن ينبذ قادومه بعد دقه أول مسمار؟ أنا معك في أنه ليس لي أن أعيد حديثاً. فأما تحريمك على إعادة الفكرة فذلك ما ليس لك أن تفعله. والفكرة ربما تقولها المرة التسعين وهى الجديدة بعد. لأنها قد عادت إليك من طريق جديد على قطار جديد من القرائن.

وربما عثر بالمرء يعيد حديثاً له بعينه ثم لا يعد مليماً ذكروا أنه كان خطيب مصقع وعالم نحرير ممن يتنقلون في البلاد يلقون المحاضرات فلما كان في بعض المدن أدبته إلى مائدة الشاي سيدة من ذوات العلوم والآداب وأشارت وهم على المائدة إلى كثرة تطوافه وتجواله.

وحله وترحاله. فقال أجل إنى لكذلك الطائر الدائم الجولان لا يقع أبداً فأنا أبداً على العجلات كما ذلك الطائر أبداً على الجناحين. ثم تصرمت بعد ذلك العصور. وتجرمت الدهور. وعاد الخطيب إلى عين ذلك البلد لعين ذلك الغرض. وعادت السيدة إليه بالدعوة. وعادت مائدة الشاي وحفلة الشاي لا تزال فى تطواف وتجوال. وحل وترحال. كذلك قالت السيدة فأجاب الخطيب أجل إني لكذلك الطائر ـ وأكمل الجملة بعينها.

ولكن ماذا كان ألمه وضيقه حينما خطر بباله أنه قد قال هذه العبارة بحروفها مرة قبل ذلك! ولا يحسبن القارئ - ولعله قد ألقى في روع السيدة - إن الخطيب قد جعل طول هذه المدة - أي فترة ما بين الزيارتين لا يمر به يوم من الأيام إلا ويذكر تلك الجملة يحلى بها كلامه ويزخرف بها حديثه. كلا. فإنه ما سنح بخاطره ذلك الطائر الجوالة إلى أن أثارت تلك الظروف الخاصة تلك الفكرة الخاصة. ولعله قد كان أخلق به أن يسر ويفخر بدقة حساب ذهنه فإن الذهن المحكم المتين إذا أعطيته عوامل بعينها مرة بعد أخرى لم يعطك إلا نتيجة بعينها شأنه في ذلك شأن المكينة الحسابة ويكون أدني اختلاف في نتيجتها - إذا أعطيتها العوامل بعينها - آية على فسادها.

ما هي آفات الحديث الكبرى؟ قلة المعاني وقلة الألفاظ وقلة الآداب هكذا تقول ويقول الناس وما كنت لأعترض على قولكم هذا ولكنى سأعلمكم أي شيء وجدته أفسد للحديث الصالح من كل ما عداه. وأتلف للسمر الطيب من كل شيء سواه. هذا هو المجادلات الطويلة في نقط خاصة بين أناس يختلفون في المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها هذه النقط.

لا تحمد العلائق ولا تصلح المعاملات بين فئة من الجلساء حتى يتفقوا على أساس من العقيدة لا يكون عرضة لأن تزعزع أركانه رياح المناقشة والمحاورة. وحتى يكون عندهم من العقل ما يمكنهم من تتبع المسائل الثانوية المرتكزة على تلك المبادئ الأساسية إلى مصادرها وأصولها. والكلام كالضرب بالعود ليست الحاجة إلى إسكات الأوتار أحياناً بأقل منها إلى إنطاقها.

أرأيت شيئاً أقدح في كرامتك وأجرح لشعورك وآذى لعزتك من أن يعترض أحد المجلس جدك بمزحته ويستقبل حكمتك بنكتة. السب الصريح والشتم المهين أهون والله من ذلك. وهل ذلك إلا منتهي الاحتقار. والازدراء والاستصغار. للكلام على خطارته. وصاحب الكلام على كرامته. مثال ذلك أن تذكر في سياق حديث لك كلمة (معناها بالعربية سقوط القدر أو الخسة) فتحمل النكتة أحد الجلوس على أن يعترض تيار جدك يقول لك كل ما قلته في هذا الغرض هو (معناه هذيان محض) ماذا أصنع مع ذلك الوحش؟ إني لأود أن ألقيه في أعماق السجون لأنه بلية وآفة ولكني لا أقدر. لقد أعدمت كرامتي بتحدثي إليه فمن لي بأن أعدمه!

مثل قالة النكت كمثل أشرار الصبية الذين يلقون الحجارة على قضبان السكك الحديدية يأتونها ملهاة لهم ولأندادهم وربما كانت متلفة للجم العديد من مصالح العباد وأرواحهم بقلبها القطار أعلى لأسفل وكذلك قائل النكتة لا يخجل أن يقلب قطار الحديث من أجل نكتة يلهو بها.

إني لأعلم في الناس من يضن على الاستماع أثناء الحديث بنخبة أفكاره اعتقاداً أنها أغلى قيمة وأعلى من أن تبذل في المحاورات والمحادثات. ولقد كان أحد الفصحاء ينثر الدر منذ أيام في بعض المجالس

يطلق الحكمة البليغة في عرض حديث كالجوهر المنثور

فدنا منه بعض الجلوس وقال له - أتدرى ماذا قال له؟ قال: عجباً لك أنك لتضيع مقداراً جماً من بضاعة رائجة وتطرح على أديم الأرض ما يقدر ثمنه بعشرة جنيهات في كل ساعة فإذا استمررت على هذه الحال خمس ساعات بلغت خسارتك خمسين جنيهاً أفتدري ماذا كان جواب الرجل الفصيح على ذلك.

كان جوابه أنه أخذ الرجل إلى نافذة المكان وسأله أن يشرف ثم قال له ماذا تبصر؟ قال الرجل لا أبصر إلا طريقاً ترباً يسوق فيه أحد الناس آلة رشاشة. قال الفصيح لم لا تنه الرجل عن صب الماء فتقول له أنه يضيعه سدي؟ إلى أية حال من اليبس وقلة الرطوبة وكثرة التراب يصير سبيل الحياة إذا نحن لم نسحب فوقها رشاشات أفكارنا مفتوحة الثقوب أحياناً؟ هذا ولذلك النوع من الحديث فائدة أخرى قد سهوت عنها وعي أن ذلك الحديث يصب أفكارنا في أحكم قوالبها وأبدع أشكالها. فترى أمواج الحديث لا تزال بالأفكار تدحرجها وتقلبها حتى تتركها مدورة مصقولة كما تفعل أمواج البحر بالذي على سواحله من الحصي. وكذلك أصوغ أفكاري بالحديث والمحاورة كما يجرب النحاس تمثاله في الطين قبل صوغه من الحجر لأن الطين لين يشكله الصوغ أشكالاً يعجبه ويدحوه ويدوره ويمطه ويكسبه ويملؤه ويجوفه ويلزقه. ونحو هذه الأفعال كلها ما يفعله المحدث بالحديث حين يصوغ فيه أفكاره قبل أن تبرزها الكتابة في القالب النهائي والشكل الختامي. - قبل أن تراها فى الكتاب الخالد دمية من العاج أو نحيتة من المرمر. ولي في هذا الموضوع تشبيه آخر. وهو أن الكتابة والطبع كالرمي بالنشاب قد تصيب من ذهن قارئك موضع الفهم وقد لا تصيبه. ولكن الحديث كالتمرين على الرمي متى كان الغرض أمامك وفى الوقت متسع ضمنت لنفسك الإصابة. ليس من السهل على اثنين يتحادثان أن يتفاهما لأنهما كثيرون (هنا نظر أصحاب المائدة بعضهم إلى بعض متعجبين من كلمتي يريدون شرحاً لها وتفسيراً).

قلت إذا كان جون وتوماس مثلاً يتحاوران فسيكون لا شك بين الستة شيء من الخلط وسوء التفاهم.

(هنا اصفرّ وجه ربة البيت. لا ريب لقد حسبتني خولطت في عقلي وذلك أمر يستلزم نقلي من دارها إلى المستشفي ففيه عليها خسارة مادية. فلا غرو أن اصفر وجهها إشفاقاً وقلقاً. أما سائر القوم فرفعوا رؤوسهم دهشة. وخاف الشيخ الذي كان جالساً أمامي أن أتناول سكين الفاكهة فأطعنه فزحزحها جانباً كالذي لا عمد عنده.) قلت أنا كفيل أن أفهم هذا الصبي الصغير كيف أن في كل محاورة تجرى بين اثنين - جون وتوماس - يوجد ستة أشخاص يتنازعون أهداب الحديث.

(3) جون جون الحقيقي الذي لا يعلمه إلا الله

(2) جون الموجود في مخيلة جون. هو دائماً مخالف لحقيقة جون مغاير له

(3) جون الموجود في مخيلة توماس مخالف دائماً لحقيقة جون مخالف كذلك لجون الموجود في مخيلة جون مغاير الاثنين

(3) توماس توماس الحقيقي

توماس الموجود في مخيلة توماس

توماس الموجود في مخيلة جون

لا يدفع ضريبة إلا واحد من الثلاثة ولا يمكنك أن تزن بالميزان إلا واحداً من الثلاثة. حتى إذا جري الحديث أصبح للاثنين الآخرين مثل أهمية الأول فالثلاثة كلهم سواء. فلنفرض أن جون الحقيقي كبير السن قبيح الخلقة بليد الذهن. ولكن بما أن الحكمة الإلهية لم تمنح ابن آدم مزية النظر إلى نفسه بعين الحقيقة فأكبر الظن أن جوناً يرى نفسه حديث السنّ جميل الخلقة حديد الذهن ثم يتكلم كمن هذا شأنه وهذه مزاياه. وتري توماساً من وجهة أخرى يعتقد أن جوناً ماكر محتال فجون في نظر توماس محتال ماكر ولا شك مع أنه ساذج غبيّ. ومثل هذا جمعيه يقال في توماس. فمن ثم ينتج أنه سيكون بين كل متحادثين ستة يتنازعون المحاورة إلى أن نجد الرجل الذي يعرف نفسه كما خلقها الله أو يبصرها بالعين التي يبصرها بها الغير. هذا ولا تنس أن أقل الثلاثة أهمية هو ذاك الذي سميناه الشخص الحقيقي. فلا عجب أن تري المتناظرين يتغاضبان ويتشاجران بعد أن علمت أن المشتركين في الحديث ستة.

وكان بجانبي فتى يدعى جون فطبق هذه النظرية على نفسه تطبيقاً غير فلسفي وذلك أنه أدير عقب الأكل على الجماعة وعاء فيه خوخ - فاكهة نادرة قلما يعرفها أمثالنا نحن سكان الفنادق - فلما بلغ الوعاء جوناً هذا ولم يبق فيه إلا ثلاث خوخات واحدة له واثنتان للاثنين الباقين من إخواننا وكان جون أمياً لا يفهم الفلسفة أخذ الثلاثة لنفسه قائلاً أنه سيعطي كل جزء من أجزائه الثلاثة واحدة. فطفقت أبين له أن هذا الاستنتاج العملي خطأ وسفسطة ولكن الخوخات الثلاثة ذهبت أثناء الشرح والتفسير في بطنه واحدة أثر أخري.

(2)

نظرية بسيكولوجية

حاسة الشم أقرب طريق يوصل الإدراك إلى دائرة الذكرى والخيال والإحساسات الغابرة والقرائن القديمة.

ولا شك أن الروائح التي تعمل في مشاعرنا تختلف باختلاف الأشخاص فما يؤثر في هذا لا يؤثر في ذاك. إنما ذلك بحسب ما كان من ظروف أحوال الشخص وتاريخه الخاص. وسأخبرك ببعض الروائح التي تؤثر فيّ والسبب في ذلك منها رائحة الفوسفور. وأصل ذلك أني أولعت بعلم الكيمياء عامين من زمن صباي جعلت أثناءهما لا أسمع بمعمل كيمياء إلا ذهبت إليه فكنت معظم أوقاتي بين الأدوية والعقاقير والقناني والأنابيب واتفق أني كنت في هذا الوقت عاشقاً أيضاً فكانت عاقبة ذلك أن حدث اشتباه واختلاط بين عوامل الكيمياء وعوامل الحب بين أبخرة حمض الآزوت البرتقالية اللون وبين أحلام الغرام وهي أزهي لوناً وأبهى صبغة: بين ورق عباد الشمس الأحمر وبين حمر الخدود وآسفاه لقد رثت ديباجة تلك الخدود ونصلت صبغتها وغاض ماؤها وذهبت نضرتها. ومهما يكن من قدرة الكيمياء على تجديد الخلق وتنضير الذليل فلا طاقة بها على تجديد رونق هذه الخدود وقسمتها! أقول حدث التباس واشتباه بين عوامل الكيمياء وعوامل الحب فامتزجا في وعاء الذهن واختلطا واصطحبا في إناء الذاكرة واقترنا فكلما ضربت أنفي رائحة الفوسفور (وكانت أحدّ روائح ذلك العصر الكيماوي الغرامي) أشعلت في الدماغ سلسة هذه القرائن للتو واللحظة وأوقدت في صميم الأحشاء ذكرى الغرام والجوي حتى أروح منها في غشية وفي حلم وكأنما طلع على ذاك البخار بضبابتين ضبابته المشرقة البرتقالية وضبابة الحب القديم والعهود الذهبية. فللفوسفور بذلك على اليد البيضاء كلما أشعلت عوداً من الكبريت فالتهب فوسفوره وأضاء التهب قلبي شغفاً وأضاء في سويدائه ظلام الغابر وحسبت عود الكبريت زهرة من بساتين الحب أو كوكباً يضيء لي منهج الهوى. كل الكبريت عندي كذلك إلا النوع المسمى كبريت فينا ذلك الخالي من الفوسفور لا رعاه الله ولا قدسه فإنه لا يذكرني عهداً ولا يهيج لي صدى. وإني أراني منذ استعملته غليظ الكبد كثيف الظل مظلم الهواء جامد النسيم.

ومن الروائح المؤثرة في نفسي أيضاً البهار وأصل ذلك أنى لما كنت طفلاً صغير الجرم كان أبى إذا ركب في بعض أسفاره حملني بين ركبتيه فكنا ربما عبرنا قنطرة إلى القرية المجاورة فعجنا على كوخ متطامن السقف حقير الهيئة لريفيّ مسكين شاحب اللون ملوّح فتخرج من الكوخ الحقير أخت له مثله مسكنة وشحوب لون وتلويح. لها فوق ذلك صوت حزين ونغمة شجية فتحنو على شجيرات لها فتلقى صفرة البهار بصفرة وجهها فتجنى بهارة للغلام الصغير هكذا كانت تسميني. وهي الآن ثاوية بمدفن الكنيسة تحت نصب من حجر الإردواز تعلوه أعشاب قد أمالته العصور بعد تطاول الأمد فجنح. وقد ذهبت هذه الأيام وذهب الكوخ وربه وذهبت الأخت المسكينة وشجيرات لها.

فيها شموس للبهار وارسة كل ذلك قد ذهب ولكن نفحة من البهار ترجعه إلى جميعه بأسرع من لمح البصر.

وعسي أن هناك سبباً مادياً لما يوجد من تلك الصلة الغريبة بين حاسة الشم وبين العقل. قال لي أستاذ مائدة الإفطار أن عصب الشم هو العصب الوحيد الذي يتصل مباشرة بالدماغ - والدماغ - كما أثبت العلم - هو مقر العقل ومجال حركاته. وهذا مخالف لتركيب عصب الذوق الذي لا يتصل بالدماغ مباشرة وإنما بنهاية العمود الفقري ومن ثم تري حاسة الذوق أضعف بكثير من حاسة الشم إيقاظا للذكري واستحضاراً للقرائن.

يا الله! ماذا يخفق في حشاي وينبض في أوتار قلبي من نغمات الشعر الصامت إذا أنا فتحت غرفة مخصوصة في المنزل الذي ولدت فيه! - الغرفة التي أبليت فيها جلباب الصغر ونضوت فيها حلة الحداثة التي عققت بها تمائم الطفولة وبها ألقيت ثنايا الرضاع. - إذا أنا اقتحمت هذه الغرفة فقلت لنفسي على هذا الرف كانت توضع أواني القرنفل والعنبر ولطائم العطر وفأرات المسك وقوارير ماء الورد. وفي هذه الخزانة كان يدخر التفاح كأنما يراد به أن يبقى إلى أن تسوّد بذوره ولكن يمنعه من أن يصل إلى هذه الغاية أن في البيت عيوناً صغاراً قلقة يقظى ماتني تفتش وتعقب. وأنياباً صغاراً مرهفة حداداً مضاءة في شأنها من القرض والقضم كرحا الطحان ما تنفك تدأب وفي ظلمة تلك الخزانة لبث الخوخ أياماً وليالي يتذكر الشمس التي فقد حتى أصبح كقلوب النسكة الأبرار الموجهين جلّ أفكارهم - بين حسرة وتندم - إلى السموات والعرش والجنة. أصبح كهده القلوب قد فاح له أرج كأنفاس الملائكة إلا أن بأركان هذه الغرفة يتردد صدي عبق - هو صدى عشرين خريفاً قد بادت فانقرضت.

2

نظرية أخلاقية

المزاح والجد

إن فيكم من يبلغ به حب المزاح أنه يود أن يراني أسعى على أم رأسي ولا يود أن يراني واعظاً على منبر استخدم هذا الرأس - بدل السعي عليه الذي لا يجدي أكثر من إثارة الضحك - للإرشاد والنصيحة.

ألم تعلم أنه ليس من أسبوع يمر على صديقي أستاذ مائدة الإفطار إلا ويرد عليه كتابان أو ثلاثة من أناس من نخبة أهالي الولايات المتحدة وبريطانيا وسائر قراء الإنكليز يعلمونه أنه قد صدئت قلوبهم من قلة الضحك وأنه ليس أحد أولى بأن يضحكهم منه حتى لأوشكت أن أحسب الأستاذ الجليل مجاناً عمومياً لا حكيماً وواعظاً وحتى هجس ببالي أنى سأراه يوماً في رداء مجان - ذلك الرداء الذي ألف من كل لون وصبغة - وأن أري برأسه الأجراس والجلاجل كلما تحرك رن وطن كأنه معمل الحديد أنا لا أمقت منكم ميلكم إلى الضحك ولا أظن عليكم بالكلمة تضحككم متى قدّر لي الله على ذلك فإما أن تطلبوا إلىّ أن لا أقول إلا ما يضحك وإلى أنفسكم ألا تفعل شيئاً غير الضحك فذاك مخالف لسنة الطبيعة وجدير بمن كان هذا شأنه أن ينقلب قرد التوه وساعته فيكون أستاذاً في فن المضحك. ولكن الإنسان حيوان ضاحك باك. وقد خلق الله الضحك والبكاء قوتين تديران مكينة الشعور في الآدمي فالضحك هو القوة الهوائية والبكاء هو القوة المائية. وقد سمعت أستاذ حديث المائدة يقول أن الهستيرية (نوبة عصبية يتردد أثناءها الإنسان بين البكاء والضحك) هي أوضح تمثيل تبين به الطبيعة سرعة تحوّل الحالتين النفسيتين - اللتين عنوان واحدتهما الضحك وعنوان ثانيتهما البكاء - كل إلى الأخرى. وهذا مالا تزال تراه في الأطفال كل ساعة. فإذا أردت أن تري كيف يكون هذا في الكبار فانظر الممثل الحاذق المستر بلاك في دور جمس رورال فإنك لن تملك البكاء لهول ذاك المنظر.

إن من البلية على الكاتب أو الشاعر أن يسترسل في باب المضحك فإنه يعوّد الناس بذلك على ألا ينتظروا منه إلا المضحك وأن لا يعرفوه إلا مزاحاً فهم يضحكون معه مادام يضحكهم فإذا أراد الجد فشرع ينطق العلم والحكمة ضحكوا منه وهزأوا به على أن هناك سبباً أغمض من ذلك. ألا تشعر أنك ترى نفسك فوق كل إنسان يتصدى لإضحاكك سواء بحركات جسده أو بحركات قلمه. ألا تشعر أنك تفيض عليه من برك وإحسانك إذ تمن عليه بتقبلك منه الوثابات الحقيقية أو الشعرية؟ فإذا لزم أدبه ووقف عند حده فخيراً يفعل وإذا أساء الأدب وتعدي طوره بأن حاول أن يعلو إلى مقامك الرفيع فينزلك عنه إلى منزلته الوضيعة عاكساً الحال قالباً الوضع ثم أخذ يدلى إليك من منبر عظته نوابغ الحكم فبئس ما صنع وساء ما أتى وإنما جاء ما لم يكن في الحساب ولا جرى بخاطر.

لذلك أنصح لكل ذي يراع أن يدخر مجونه إلى أن ينال في العلم والحكمة رتبة وإلى كل ممثل أن يكون هامليت أولاً ثم تاتشتسون بعد ذلك. ولكن لا تحسبن إذا بدأت حياتك التمثيلية بمظلة بول براي ثم أمسكت بعد ذلك خنجر ماكبيث أن الناس يرونك مجيداً بعد المظلة أعمال الخنجر.

قلت لك أنى لا أستحي أن أضحكك أحياناً. بل إني سأسمعك شيئاً من مضحكاتى يوماً ما إن أنت أحسنت الإصغاء إلى عظاتي ومبكياتي. والمضحكات كائنة في الطبيعة ليست من مبتدعات البشر ولكنها أمر إلهي تمثله النكات العملية من القطط والقردة قبل ظهور المزاحين الكبيرين موليير وشاكسبير. وإني لأعجب للناس أنى تطرق إلى عقولهم هذه العقيدة الغريبة وهى أن الحياة الأخرى - حياة الأبرار في الجنة - أرفع وأشرف من أن يدخلها الضحك والمضحك. حقاً لقد جردوا الأبرار سكنة الجنان من نصف إنسانيتهم. ولقد رأيت كثيراً من هؤلاء الأبرار يهيئون نفوسهم في هذه الحياة إلى تلك العيشة العابسة (حياتهم في الجنة الخالية على زعمهم من الضحك) بطردهم من ساحات صدورهم كل ميل إلى السرور ومن صحائف وجوههم كل لمحة من سنا البشر والطلاقة.

وكثيراً ما أصادف في غدواتي أحد هؤلاء الأبرار العابسين فينظر إلىّ - كمن عرفني - نظرة موحشة ثلجية كأنما هو قاض سماوي قد هبط إلى هذا العالم ليحكم بأقصى العقوبة على كل من يعرف - أقول ينظر إلىّ النظرة كأنما أخذتني سحابة من برد فأسعل في الحال وأحمل إلى دارى من تلك اللحظة برداً يفكك مفاصلي ويوهي عظامي. مثل هذا الرجل يقطع ولا شك ذنب هرته إذا هو عثر عليها تعبث به. بالله سله من علم الهرة أن تعبث بذنبها؟

3

وصف الشاعر

والنبوغ والعبقرية

إذا نظرت إلى الشاعر من بعض الوجوه رأيته أبداً شيخاً. ورأيت أن أذنه الحديدة تسمع من همسات الأبدية ما ليس تدركه الآذان البليدة إلا بعد أن تقطع نحوه المسافات البعيدة من الوقت. وربما كانت اللمحة الدالة خيراً من النظر الطويل وخطفة البرق من البصيرة النافذة أنفس من تجربة دهر. وكثيراً ما رأيت في صغار الصبية من تطاول عليه البؤس وتمادى به الهمّ حتى لاح وجهه علائم الهرم ولا تعدم الملاجئ والإصلاحيات أمثال هؤلاء الغلمة. كان الله للفئة المساكين! إن بوجوههم من سيما الحزن والجوى. ومن غضون الرثاثة والبلى ما يخيل إليك أن أعوامهم القلائل ستون عاماً.

وكائن رأينا من شاعر كان إذا نفثت كلماتهن قلب شاخ قبل أوانه. وكأنما صباح شبابه لحزنه وبرودته ووحشته مساء الشيخوخة في غيره. ومن تأمل الشاعر الشاب شلى حيث يقول

لهممت من فرط الأسى ... ومضاضة الحزن الأليم

القي بنفسي في الثرى ... وأصيح كالطفل اليتيم

وأميت نفسي بالبكا ... ء فأستريح من الهموم

وأرى حشاشة مهجتي ... تنثال في الدمع النظيم

أعذب بانداء الردى ... في حبة القلب الكليم

من تأمل هذه الأبيات وتدبر ما تنطوي عليه من شدة الجوي علم أنها خرجت من فؤاد هو كما قال ذلك الشاعر قد شاخ قبل أوانه_من فؤاد عمره_وشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الشاعر كما يقدرون أعمار سائر البشر كأنهم لم يعلموا أن دقيقة الشاعر يوم غيره - من فؤاد عمره ست وعشرون.

كلا النبوغ والعبقرية زيادة في العقل على مقدار المتوسط على أن العبقرية أكثر وأرجح. هذا من جهة المقدار فأما من حيث النوع فإنها صنف آخر خلاف النبوغ.

النبوغ ملكة إنسانية. والعبقرية ملكة فوق الإنسانية. فإن تشأ فقل جنية (وهو مطابق لاشتقاق اللفظة) أو ملائكية أو إلهية. النبوغ ينقاد للإرادة فهو أشبه بالصفات الإنسانية كما قلنا ولكن العبقرية ضرب من الغريزة والإلهام كالذي نراه في الحيوانات السفلى يدبر بارع أفاعيلها ويضبط بديع حركاتها فعليها لذلك صبغة بهيمية. ولكن الغريزة في الحيوان هي كما شاهدناها أصدق من أسمى محاولات البشر. ألم تنظر إلى الطير كيف تجري في أسفارها على نظام لو سئل المجمع الجغرافي الملوكي أن ينقح فيه لما وجد للتنقيح فيه مجالاًً. وكذلك الشاعر (العبقري) يسافر بلا خريطة وبلا أعلام إلى بقاع من عالم الحقيقة غير مطروقة لم تهتد إليها الفلسفة بعد ولم تضعها على خريطتها. ذلك أن الفيلسوف يهتدي إلى منهاجه بالنظر والبحث ولكن الشاعر يفوّض أمره إلى غريزته فيبلغ المدى بطريق أقصد وأقرب.

نقول أن على العبقرية لصبغة بهيمية كأن ذلك عيب ومنقصة. كلا! أو ليست الغريزة حتى في أسفل الحيوان أكثر آلهية من أعلى وأفضل ما أملاه عقل الإنسان ورويته؟ ماذا ترى ببيت النحلة إلا أنه فكر إلهي محض صريح وماذا تري قانون أعظم المهندسين إلا أنه فكر إلهي كدر مشوب - نسخة ممسوخة من قانون محكم سنته الحكمة الإلهية فأخذته نفس بشرية ثم عكسته مشوهاً كما تعكس المرآة الكدرة الصورة.

النبوغ كثير والعبقرية نادرة. والنبوغ صفة قد تشمل الأسرة معظمها أو جميعها والعبقرية من مزايا الأفراد. مثلما ترى في العشيرة مارداً واحداً أو قزماً واحداً ولكنك لا ترى عشيرة كلها مردة أو كلها أقزام.

والنبوغ مسلط عليه العقل يقوده - كما أسلفنا_بالإرادة. والعبقرية مسلطة على الشخص بأجمعه تفعل به كما تشاء. والناس يرحبون بالنبوغ في أي إنسان ويمشون له ويفرحون به. ولكنهم كثيراً ما يضيقون ذرعاً بالعبقرية وصاحب العبقرية ويحارون فيه ماذا يصنعون به. وذلك أن النبوغ سهل ذلول. كأنه بين يدي الدنيا حيوان مذعان يحنو لها رأسه وهي (الدنيا أي الناس) تلبسه الرسن وتلقي عليه الحمل فيستقل به في نشاط وروح صبوراً على الشكيمة جلداً على السوط. ولكن العبقرية تجزع من اللجام وتقلق من السرج. ويمنعها غليان الدم في عروقها أن تسكن للسائس وتذعن للمرتاض والنبوغ في كافة الأحوال محسود. وقلما ترى صاحب العبقرية إلا بالرحمة جديراً. وكيف وما زلنا نرى صاحب العبقرية عرضة لأن يموت في مستشفى أو سجن أو مثقلاً بالدين أو موصوماً بسبة.

ولكن مالي أزن الكلام في مقارناتي كأني بين ذخائر البلاغة يقال. في يدي الموازين والأثقال. وأراك بعد لست إلى كل ذلك في حاجة. وفي تجاربك ما يكفيك. ألست تعرف عشرين من ذوي النبوغ يرقون في سلم الحياة؟ وربما تعرف عبقرياً واحداً. فإن صح ذلك فما أراك تحب أن تعرف عبقرياً آخر. لأن العبقرية وعلى صاحب صاحب العبقرية أن يعالجا تلك الغريزة الإلهية المشاق التي تجدو الطائر نحو الجنوب وتحدو الشاعر نحو السماء. لقد كان حقاً من أصعب أن رزق بعض الناس صاحباً مثل شاترتون أو بارنز.