مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/نوابغ العالم
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/نوابغ العالم
عبد الرحمن الداخل
مؤسس الدولة الأموية بالأندلس
فريدريك الأكبر
مؤسس الوحدة الألمانية
هو معلوم مالتراجم نوابغ العالم عُرْباً كانوا أم من العجم، وكانوا من أرباب السيف أو من أرباب القلم، من الفائدة والأثر المحمود في نفس الناظر، وما هنالك من اللذاذة والفكاهة وترويح النفس واستجمام الخاطر.
ومن هنا رأينا أن ننشر في كل عدد من أعداد البيان ترجمتي نابغتين من نوابغ العالم المتقدمين منهم والمتأخرين، بقلم كاتبين من كبار الكتاب وثقات المؤرخين، وهاتان ترجمتا نابغتين عظيمين أولهما نابغة من نوابغ العرب وثانيهما نابغة من نوابغ الإفرنج، الأول صقر قريش - كما سماه الخليفة أبو جعفر المنصور - الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك رأس الدولة الأموية في الأندلس ومحييها بعد موتها - والثاني رجل بروسيا فردريك الثاني الملقب بالأكبر بن فردريك غليوم بن فردريك الأول بن فردريك المعروف بالأمير العظيم - مؤسس الوحدة الألمانية.
والأول بقلم مؤرخنا العظيم الفيلسوف عبد الرحمن بن خلدون والثاني بقلم أكبر مؤرخي الانجليز اللورد ما كولي - ونحن الآن بادئون بترجمة الأمير عبد الرحمن.
عبد الرحمن الداخل
تمهيد
وفي هذا التمهيد نقتطف من الرسالة السادسة من كتابنا حضارة العرب في الأندلس نتفاً تتعلق بجغرافية الأندلس وتأريخها قبل فتح الإسلام وبعد إلى دخول المترجم به ثم نسرد سيرة الأمير عبد الرحمن بقلم العلامة ابن خلدون مع الحذف والزيادة والتقديم والتأخير إن شاء الله.
وصف الأندلس جزيرة الأندلس ويسميها العجم اشبيلية هي قطر كبير متصل بالأرض الكبيرة التي هي بلاد إفرنجة العظمي إلى جنوبيها الغربي - وهي على مثال الشكل المثلث حيث تعتمد على ثلاثة أركان فركنها الواحد فيما بين الجنوب والغرب عند ضم قادس حيث يتلاقى البحر المحيط المعروف ببحر أقيانس والبحر المتوسط الشامي - وركنها الثاني بشرقيها بين مدينة أربونة لعلها تربون إحدى مدائن فرانسا الآن ومدينة برديل (بردو الآن) حيث يقترب البحر المحيط من البحر الشامي فيكادان يجتمعان فتصير الأندلس جزيرة بينهما لولا جبل البرت (البرنات) الذي قام ثمت وفصل الأندلس من بلاد افرنسة - والركن الثالث هو في بلاد جليقية حيث الجبل الموفى على البحر المقابل جزيرة برطانية كما تتحقق ذلك إذا أنت نظرت المصور الجغرافي الذي صورنا لك فيه هذه الجزيرة.
ومن هنا تعلم أن الأندلس ليست بجزيرة على الحقيقة لاتصال أرضها بالأرض الكبيرة وأن حدها الجنوبي هو الخليج الرومي الخارج من البحر المتوسط مما يقابل طنجة في موضع يعرف بالزقاق - وسعة هذا الخليج اثنا عشر ميلاً - وحدها الشمالي والغربي البحر المحيط. وحدها الشرقي جبل البرت الواصل ما بين البحرين - ومسافة ما بينهما في هذا الجبل ثلاثة مراحل - ووسط الأندلس مدينة طليطلة التي كانت في القديم قاعدة القوط وعرضها 39 درجة و50 دقيقة وطولها 28 درجة فصارت بذلك في القريب من وسط الإقليم الخامس ومعظم الأندلس في هذا الإقليم الخامس وطائفة منها كأشبيلية وقرطبة وغرناطة والمرية في الإقليم الرابع. أما أن العرب سموها الأندلس فذلك لما سيمر بك أن قوماً يعرفون بالأندلوس سكنوا قديماً شطرها الجنوبي فسماه من بعدهم من أعجام رومة والقوط أندلوشيا فلما فتح العرب هذه الجزيرة سموها كلها الأندلس تسمية للكل باسم البعض كما تسمى الأرض الكبيرة بلاد افرنجة وفيها افرنجة وغير افرنجة - أما تسمية العجم إياها اشبانية فلم نعلم لذلك سبباً على التحقيق ويلتحق بجزيرة الأندلس جزائر أخرى منثورة في البحر المحيط والبحر الشامي المتوسط وهي جزيرة قادس من كورة شريش من أعمال اشبيلية - وهذه الجزيرة في البحر المحيط، وهذا البحر المحيط فيه جزائر أخرى كثيرة، صغيرة وكبيرة. ففيه الجزائر الخالدات السبع وهي غربي مدينة ستلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي: وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات، وفي هذه الجزائر من المدن والقرى مالا يُحصى، ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس على دين النصارى، أو لها جزيرة برطانية - وفي البحر الرومي جزائر ميورقة ومنورقة ويابسة، وقد مضى وصفها في الرسالة الأولى من كتابنا حضارة العرب في الأندلس.
وهذه جزيرة الأندلس هي بلد كريم البقعة طيب التربة خصب الجناب، منبجس الأنهار الغزار، والعيون الثرار. بل هو لتفوقه على سائر البلدان، كأنه قطعة انفصلت من الفردوس واستقرت في هذا المكان. ومن هنا كانت مستبحرة العمران، كثيرة المدن والقرى والحصون والقلاع، حتى لقد بلغني أن بها ثمانين مدينة من القواعد الكبار وثلاثمائة ونيفاً من المتوسطة وفيها من الحصون والقرى والبروج مالا يُحصى كثرة حتى قيل أن عدد القرى التي على نهر اشبيلية اثنا عشر ألف قرية - ولقد ذكرنا في الرسالة الثانية من كتابنا حضارة العرب في الأندلس - وعنوانها من المرية إلى قرطبة - أنا كنّا نجد في اليوم الواحد ثلاث مدن وأربعاً، وكنا لا نكاد نقطع فرسخين دون أن نرى الماء، وحيثما سرنا نرى الحوانيت في الفلوات والصحاري والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة وهذا لعمري مالا يوجد في صقع من معمور الأرض.
ومن مشهور مدائن الأندلس مدينة قرطبة وهي لعهدنا هذا قبة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية، وإليها الرحلة في رواية الشعر والشعراء، إذ هي مركز الكرماء ومعدن العلماء، فهي لعمري تملأ الصدور منها والحقائب، ويباري فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب، وترى ساحاتها مجر عوالي ومجرى سوابق، ومحط معالي وحمى حقائق، وهي من بلاد الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، والزور من الأسد، ولها الداخل الفسيح، والخارج الذي يمتع البصر بامتداده فلا يزال مستريحاً وهو من تردد النظر طليح - وقد وصفنا فيما سلف لنا في الرسالة الثالثة من حضارة العرب مسجدها الكبير والزهراء وقنطرة الوادي الكبير وما إلى ذلك من سائر أرياضها ومنتزهاتها ومدارسها وعلمائها وأدبائها وشعرائها وفلاسفتها وجملة القول أنا وصفنا هنالك كل شيء في قرطبة.
ومن مشهور مدائنها كذلك غرناطة واشبيلية وطليطلة والمرية وسرقسطة وجيان ومالقة ومرسية وبلنسية ودانية وماردة وأشبونة عاصمة البرتغال الآن وشلب وهذه من القواعد الكبار. وشنت باتو (سانتياجو إحدى مدائن البرتغال) وشريش وطركونة (تراجونة في شرق الأندلس) وبرشلونة وبنبلونة (بمبلونة) وشلمنقة (سلمنكا) ومجريط (مدريد عاصمة إسبانيا الآن) وتلمرنة كوامبرة إحدى بلاد البرتقال وقرطاجنة. (وهنا وصفنا هذه البلدان وصفاً شافياً وذكرنا من أنجبته من علماء المسلمين وأدبائهم وفلاسفتهم وما إلى ذلك وكذلك ذكرنا معادن الأندلس وحيواناتها وشارات ملوكها وشعار أهلها في كل شيء وربما ننشر هذه الرسالة كلها في أحد الأعداد القادمة إن شاء الله).
تاريخ الأندلس
كانت جزيرة الأندلس في القديم يسكنها أمم شتى من أفرنجة المغرب كأمة الأندلوش التي سميت البلاد باسمها كما أسلفنا، وأمة الجلالقة وهي أشد بأساً وأعز نفراً وأمة القوط الفيزيغوط وهذه هي التي استوسق لها أمر الأندلس ودال إليها من يد الروم (الرومان) الذين امتلكوها حيناً من الدهر كما امتلكها اليونان والأفارتة (القرطاجنيون).
وقد تملك هؤلاء القوط جزيرة الأندلس وغلبوا أهلها على أمرهم لمتين من السنين قبل الإسلام بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة ثم عقدوا معهم السلم على أن ينصرف القوط إلى الأندلس فساروا إليها وملكوها - ولما أخذ الروم واللطينيون بملة النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أمم أفرنجة والقوط عليها فدانوا بها - وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة وكانت دار ملكهم وربما تنقلوا ما بينها وبين قرطبة واشبيلية وماردة وأقاموا كذلك نحواً من أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح - وكان ملكهم لذلك العهد يسمى رذريق أو لذريق وهو سمة لملوكهم.
الأندلس من حين الفتح إلى دخول بني أمية
وكان لهؤلاء القوط خطوة وراء البحر في عُدوته الجنوبية خطوها من فرضة المجاز بطنجة ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر واستعبدوهم. وكان ملك البربر بتلك البلاد يسمى يليان فكان يدين بطاعتهم وبملتهم وكان مقامه بسبتة - وكان أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله قد استعمل إذ ذاك موسى بن نصر مولى عمر عبد العزيز بن مروان - واضطربت كلمة المؤرخين فيه فقيل أنه لخمي وقيل بكري وذلك أن أبا نصير أصله من علوج أصابهم خالد بن الوليد في عين التمر فادعوا أنهم رهن وأنهم من بكر بن وائل فصار نصير وصيفاً لعبد العزيز فأعتقه. وعقد الوليد لابنه موسى على أفريقية وما وراءها فخرج موسى لطيّته في نفر قليل من المطوعة حتى إذا ورد مصر أخرج معه من جندها بعثاً وأتي أفريقية عمله ونزل بالقيروان قصبة أفريقية فأخرج موسى معه من أهل ذوي القوة والجلد وصير على مقدمته طارق بن زياد الليثي البربري وأخذ يقاتل البربر ويفتح بلادهم ومدائنهم وأماكن فيها حتى بلغ طنجة فحصرها حتى افتتحها وأسلم أهلوها وخطها قيرواناً للمسلمين وخلف مولاه طارقاً والياً عليها بعد أن استنزل يليان عامل سبتة لطاعة الإسلام - قالوا وكان من ديدن أكابر القوط بالأندلس وقوادهم أن يبعثوا أولادهم يقصدون إلي منفعتهم والتنويه بهم إلى مليكهم بطليطلة ليصيروا في خدمته ويتأدبوا بأدبه ويصيبوا حظاً من جاهه حتى إذا بلغوا زاوجهم بعضاً ببعض استئلافاً لآبائهم، فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل سبتة، ركب الطريقة بابنة له بارعة الجمال عزيزة عليه فلما صارت عند رذريق وقعت عينه عليها فأعجبته ولم يملك نفسه حتى استكرهها فاحتالت حتى أعلمت أباها بذلك فأحفظه شأنها جداً وقال ودين المسيح لأزيلنّ ملكه وسلطانه ولأحفرنّ تحت قدميه فأجاز إلى لذويق وأخذ ابنته منه ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلهم على عورة فيهم أمكنت طارقاً فيها الفرصة فانتهزها لوقته وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو من ثلاثمائة من العرب، واحتشد معهم من البربر زُهاء عشرة آلاف فصيرهما عسكرين أحدهما على نفسه ونزل به جبل الفتح فسمي جبل طارق به، والآخر على طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان مدينة طريف فسمي به، وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصن وانتهي الخبر إلى لذريق فنهد إليهم يجر أمم الأعاجم وأهل ملة النصرانية في زهار أربعين ألفاً ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع وهو على سريره بين دابتين وعليه مظلة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد فلما بلغ طارقاً دنوه قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم، ثم قال: أيها الناس أين المفر. البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر - وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً ذهب ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة - واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً - وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات يونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم لمجالدة الأبطال والفرسان. ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم - واعلموا أنني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله فاحملوا معي فإن هلكت بعه فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عيه واكتفوا من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون.
فانبسطت نفوس القوم وتحققت آمالهم وهبت رياح النصر عليهم وقالوا لقد قطعنا الآمال مما يخالف ما قد عزمت عليه فاحضر إليه فإننا معك وبين يديك فركب وأصحابه وباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح، وكان ذلك يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين للهجرة الموافق اثنين وعشرين يوليه سنة تسعمائة وعشرة رومية (ميلادية) فلما أصبح الفريقان تكتبوا وعبوا جيوشهم وحمل لذريق وهو على سريره وقد حمل على رأسه رواق ديباج يظلله وهو مقبل في البنود والأعلام وبين يديه المقاتلة والسلاح وأقبل طارق في أصحابه عليهم الزرد من فوق رؤوسهم العمائم البيض وبأيديهم القسي العربية وقد تقلدوا السيوف واعتقلوا الرماح والتحم الجيشان وكان ذلك في فحص شريش.
ولما رأى طارق رذريقاً قال هذا طاغية القوم فحمل وحمل معه أصحابه فتفرقت المقاتلة من بين يدي رذريق فخلص إليه طارق فضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره وكان كما قيل:
فمساهم وبسطهموا حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب ومن في كفه منهم قناة ... كمنفي كفه منهم خضاب
قُتل العلج الذي فت في عضده الترف وأفسد إنسانيته النعيم. قُتل الظالم الغشوم فقُتل بقتله الجهل والظلم، واستأصل شأفة الضلال والإثم، وأراح على عباد الله حقهم الضائع، واستنقذهم من بين أنياب الحية وفي أنيابها السم ناقع، وهل يكون رذريق ومن يشبه رذريقاً إلا مصدر شقاء لأمته، وجالب عناء إلى رعيته، ومتى كان الظلم إلا طالع نحس وشؤم، والترف إلا رائد كرب وهم.
أي رذريق أحسبت حين كنت تعبث ببنات الناس وتفض إغلاق ما ختم الله، أن الله لا يبعث بك ويفض إغلاق ملكك ويؤتيه من هو خير منك. وقد ما لعمري كان الفسوق بالدمار نذيراً، وقد قال ربك وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا - وليت شعري ماذا ظننت إذ تريد أن تذود عن بلادك، وتنضح عن ملكك، وتقاتل أبناء الصحراء، أولئك الذين تسير المنايا حيث سارت منهم الركاب، وتغتبط بحروبهم جياع الطير وخمص الذئاب، إذ هي ضامنة أن ترتع إذ ذاك في لحوم الأعداء، وكذلك ضريت بلحوم الناس حتى تراها تهم أن تختطف منهم الأحياء، فذهبت إلى لقائهم محمولاً على السرير، رافلاً في الدمقس والحرير، كأنك عروس تُجلى إلى الرجال، لا فارس تراد على الطعان والنزال. فلما رأى القوط مصرع صاحبهم التحم الجيشان فهزم الله القوط ونقل للمسلمين أموالهم ورقابهم وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح والغنائم فحركته الغيرة وكتب إلى طارق يتوعده أن توغل بغير أذنه ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به وحتى يتمم هذا العمل العظيم عظيم مثله. وإن كان طارق كذلك عظيماً، بيد أن فوق كل ذي علم عليماً، وليت شعري كيف يلومون ابن نصير على ذلك ويقرفونه بالحقد والحسد، وهل يكون رئيس حازم، ليس بالحاقد ولا الناقم، وهل رأيت صفقة أخسر من غفلة رئيس أحقده غيره فنسى ذلك أو تناساه وعدوه لا يغفل عنه، وحاسده لا يكفيه إلا الراحة منه، ولستُ عمرك الله ممن يقول وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا ولكني أقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن الحزم كما قيل أن يكون الرأي ميزاناً لا يزن الوافي لناقص ولا يزن الناقص لواف فاستخلف موسى على القيروان ولده عبد الله وخرج ومعه حبيب بن مندة الفهري ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين للهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب الموالي وعرفاء البربر ووافي خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس وتلقاه طارق فانقاد واتبع وأتم موسى الفتح وتغلغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق وأربونة في الجوف وصنم قادس في الغرب ودوخ أقطارها وجمع غنائمها وكتب إلى الوليد فيما هاله من ذلك إنها ليست الفتوح ولكنها الحشر وأجمع أن يأتي المشرق من جهة القسطنطينية ويتجاوز إلى الشام دروب الأندلس ويخوض إليه ما بينهما من أمم الأعاجم النصرانية مجاهداً فيهم مستلحماً لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة فأجفلت ملوك النصارى بين يديه واجتمع الإفرنج إلى قارله (شارل مارتل) ملك افرنسة وقد كان إذ ذاك من أعظم ملوكهم فقالوا له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب، كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها واستولوا على الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم، فقال لهم ما معناه الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه فإنهم كالسيل يحمل من يصادره وهم في إقبال أمرهم ولهم نيات تغني عن كثرة العدد وقلوب تغني عن حصانة الدروع ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ من الغنائم أيديهم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة ويستعين بعضهم على بعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر ونمي الخبر إلى الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب ورأي أن ما هم به موسى غرر بالمسلمين فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف وأسر إلى سفيره (واسمه مغيث) أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع وكتب له بذلك عهداً ففت ذلك في عزم موسى وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية بثغورها وأنزل ابنه عبد العزيز لغزوها وجهاد عدوها وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة واحتل موسى القيروان سنة خمس وتسعين وارتحل إلى المشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر يقال أن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السبي وولى على إفريقية ابنه عبد الله وعلى المغرب الأقصى ابنه عبد الملك وقدم على سليمان بن عبد الملك الذي ولى الخلافة بعد أخيه الوليد.
(نكبة موسى بن نصير)
ولما قدم موسى بن نصير على سليمان بن عبد الملك وجده كالمرجل غضباً فأنزل به من العذاب والتنكيل ما جعل بطن الأرض أحب إليه من ظهرها، وذلك أنه حبسه وعزله عن جميع أعماله وأمر بتقصي حسابه فأغرمه غرماً عظيماً كشفه فيه حتى اضطر إلى أن سأل العرب معونته فيقال أن لخماً حملت عنه في أعطيتها تسعين ألفاً ذهباً وهم سليمان بقتله فاستجار بيزيد بن المهلب لمكانه من سليمان وطلب منه أن يكلمه في أن يخفف عنه فاستوهبه من سليمان فوهبه إياه.
وما أحكم الحديث الذي دار بينه وبين يزيد حين لجأ إليه، قال له يزيد: أريد أن أسألك فأصغ إلي، ثم قال لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكايد الحروب ومداراة الدنيا فقل لي كيف حصلت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار وتيقنت بعد المرام واستصعابه، واستخلصت بلاداً أنت اخترعتها، واستملكت رجالاً لا يعرفون غير خيرك وشرك، وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك ثم أنك علمت أن سليمان ولي عهد وأنه المولى بعد أخيه وقد أشرف على الهلاك لا محالة وبعد ذلك خالفته وألقيت بيدك إلى التهلكة وأحقدت مالكك ومملوكك (يعني سليمان وطارقاً) وما رضي هذا الرجل عنك إلا بعيد ولكن لا آلو جهداً - فقال موسى ليس هذا وقت تعديد، أما سمعت إذا جاء الحين غطي على العين، فقال يزيد ما قصدت بما قلت لك تعديداً ولا تبكيتاً وإنما قصدت تلقيح العقل وتنبيه الرأي وأن أري ما عندك فقال موسى أما رأيت الهدهد يرى الماء تحت الأرض عن بعد ويقع في الفخ وهو بمرأى عينه.
ثم كلم فيه سليمان فوهب له دمه ولكن لم يرفع العذاب حتى يرد ما غل - زعم سليمان - من مال الله. وآلت حاله إلى أن كان يطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتك به نفسه وفي تلك الحال مات - حدث أحد غلمانه ممن له في أيام محنته فقال: لقد رأيتنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على أحياء العرب فواحد يجيبنا وآخر يحتجب عنا ولربما دفع إلينا رحمة بنا الدرهم والدرهمين فيفرح بذلك الأمير ليدفعه إلى الموكلين به فيخففون عنه من العذاب، ولقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السلوب من قصور الإفرنج فنفصل منها ما يكون فيها من الذهب وغير ذلك ونرمي به ولا نأخذ إلا الدر الفاخر. فسبحان الذي بيده العز والذل والغنى والفقر أي وربك أيها الغلام، إذ الأمر كما قيل: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سُوقة ننتصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تاران بنا وتصرف
أف لهذه الدنيا، بل أف لجبابرة الملوك، ما أغدر وما أخون. فبيناهم يلينون للناس لين فراء السمّور، إذا هم يلبسون لهم جلود النمور، وأنت أيها الغلام ما أكرمك إذ وفيت لسيدك وقت نكبته، وفرجت عنه بعض كربته، وما ألأم ذلك المولى الذي عزم على أن يسلم سيده الأمير موسى وهو بوادي القرى في أسوأ حال ففطن موسى لذلك فذل له وقال يا فلان أتسلمني في هذه الحال فقال له اللئيم قد أسلمك خالقك ومالكك الذي هو أرحم الراحمين، فدمعت عيناه وجعل يرفعهما إلى السماء خاضعاً مهيناً بشفتيه فما سفرت تلك الليلة إلا عن قبض روحه رحمة الله - وقد اختلف المؤرخون في سبب هذه النكبة فقال بعض أن موسى إنما قدم على الوليد وأن سليمان ولي العهد لما سمع بقرب موسى من دمشق وكان الوليد مريضاً كتب أي سليمان إلى موسى يأمره بالتربص رجاء أن يموت الوليد قبل قدوم موسى فيقدم موسى
على سليمان في أول خلافته بتلك الغنائم الكثيرة التي ماريء ولا سمع مثلها فيعظم بذلك مقام سليمان عند الناس فأبي ذلك موسي ومنعه دينه منه وجد في السير حتي قدم والوليد حى فسلم له الأخماس والمغانم والتحف والذخائر فلم يمكث الوليد إلا يسير أبعد قدوم موسي وقضى واستخلف سليمان فحقد عليه وكان منه ما كان، وذهب آخرون إلى أن طارقاً لما هزم القوط وفتح طليطلة أصاب في كنيستها مائدة من أعجب ما صنع الأنس قالوا وأصل هذه المائدة أن القوط في أيام ملكهم كان أهل الحسبة منهم إذا مات أحدهم أوصي بمال للكنائس فإذا اجتمع عندهم ذلك المال صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضة تحمل الشماسة والقساوسة فوقها مصاحف الأناجيل إذا برزت في أيام المناسك ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها فكانت تلك المائدة بطليطلة مما صيغ في هذه السبيل وتأنقت الأملاك في تفخيمها يزيد الآخر منهم على الأول حتي برزت على جميع ما اتخذ من تلك الآلات وطار الذكر مطاره عنها وكانت مصوغة من خالص الذهب مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزمرد لم تر الأعين مثلها وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة فأصابها المسلمون هناك وطار النبأ الفخم عنها فلما قدم موسى إلى طليطلة طالب طارقاً بأداء ما عنده من مال الفىء وذخائر الملوك واستعجله المائدة فأتاه بها وقد خلع من أرجلها رجلاً وخبأه عنده فسأله موسي عنه فقال لا علم لى به وهكذا أصبتها فجعل لها موسى رجلاً من ذهب جاء بعيد الشبه من أرجلها فأخل بها ولما قفل موسي إلى المشرق وأصحابه سأل مغيثاً سفير الوليد إليه أن يسلم إليه العلج صاحب قرطبة الذي كان في أساره فامتنع عليه وقال لا يؤذيه للخليفة سواي وكان يدل بولائه من الوليد فهجم عليه موسى فانتزعه منه فقيل له أن سرت به حياً معك أدعاه مغيث والعلج لا ينكر قوله ولكن أضرب عنقه ففعل فاضطغنها عليه مغيث وصار ألباً عليه مع طارق فلما قدم موسى على سليمان وجد طارقاً ومغيثاً قد سبقاه إليه بالشكية منه ورمياه عنده بالخيانة وأخبراه بما صنع بهما من خبر المائدة والعلج وقالا له أنه قد غلّ جوهراً عظيم القدر أصابه ولم تحو الملوك من بعد فارس مثله فلما رافى سليمان وجده المغيظ المحنق وسأله عن المائدة فأحضرها وقال له زعم طارق أنه الذي أصابها دونك قال لا وما رآها قط إلا عندى فقال طارق فليسأله أمير المؤمنين عن الرجل التي تنقصها فسأله فقال هكذا أصبتها وعوضتها رجلاً صنعتها لها فحول طارق يده إلى قبائه فأخرج الرجل فعلم سليمان صدقه وكذب موسي فحقق جميع ما رمى به عنده وأنزل به ما أنزل وعندى أن السبب الأول الذى حمل سليمان على نكبة موسى هو خوفه من امتداد سلطانه بالمغرب وإفريقية والأندلس، واستبداده بالأمر دونه.
ولاة الأندلس
من حين الفتح إلى دخول عبد الرحمن الداخل
أسلفنا أن موسي بن نصير لما قفل عن الأندلس إلى المشرق ولى عبد العزيز ابنه مكانه وأن عبد العزيز هذا كأنه خيراً فاضلاً. وأقام والياً على الأندلس مدي عامين فتح فيهما مدائن كثراً بيد أن سليمان بن عبد الملك لم يكفه أن نكب موسى بل أغرى عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز هذا فقتلوه لسنتين من ولايته.
قال ابن خلدون:
وولى من بعده أيوب بن حبيب اللخمى وهو ابن أخت موسى بن نصير فولي عليها ستة أشهر. ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس تارة من قبل الخليفة وتارة من قبل عامله بالقيروان وأثخنوا في أمم النصرانية وافتتحوا برشلونة من جهة المشرق وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف وانقرضت أمم القوط وأوي الجلالقة ومن بقى من أمم العجم إلي جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب فتحصنوا بها وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا البسائط وراءها وتوغلوا في بلاد الفرنجة وعصفت ريح الإسلام بأمم النصارى من كل جهة وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدو بعض الكرة فرجع الإفرنج ما كانوا غلبوهم عليه من بلاد برشلونة لعهد ثمانين سنة من لدن فتحها واستمر الأمر على ذلك: وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسي بن نصير بعث إلى الأندلس الحر بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فقدم الأندلس وعزل أيوب بن حبيب وولي سنتين وثمانية أشهر. ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السمح بن مالك الخولانى على رأس المائة من الهجرة وأمره أن يخمس أرض الأندلس فخمسها وبنى قنطرة قرطبة واستشهد غازياً بأرض الفرنجة سنة ثنتين ومائة. فقدم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقى إلى أن قدم عنبسة بن سحيم الكلبي من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية فقدمها في صفر سنة ثلاث ومائة فاستقام أمر الأندلس وغزا الفرنجة وتوغل في بلادهم واستشهد سنة سبع ومائة لأربع سنين وأربعة أشهر ثم تتابعت ولاة الأندلس من قبل أمراء إفريقية فكان أولهم يحيى بن سلمة الكلبي أنفذه بشر بن صفوان الكلبي والى إفريقية لما استدعى منه أهل الأندلس والياً بعد مقتل عنبسة فقدمها آخر سنة سبع وأقام في ولايتها سنتين ونصفاً ولم يغز وقدم إليها عثمان بن أبي نسعة اللخمى واليامن قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص القيسى فوافاها سنة عشر وعزل قريباً يقال لسنة من ولايته. واختلف هل تقدمه عثمان أو هو تقدم عثمان. ثم ولى بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضاً قدم في المحرم سنة إحدي عشرة وغزا أرض مقوشة فافتتحها وتوفي سنة ثلاث عشرة ومائة لسنتين من ولايته وقدم بعده محمد بن عبد الله الأشجعي فولى شهرين ثم قدم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقى من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية فدخلها سنة ثلاث عشرة وغزا الإفرنجة وكانت له فيهم وقائع وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة في موضع يعرف ببلاط الشهداء وبه عرفت الغزوة وكانت ولايته سنة وثمانية أشهر. ثم ولى عبد الملك بن قطن الفهرى وقدم في رمضان سنة أربع عشرة فولى سنتين وقال الواقدي أربع سنين وكان ظلوماً جائراً في حكومته وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة فأوقع بهم وغنم ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة وولى عقبة بن الحجاج السلولى من قبل عبيد الله بن الحبحاب فأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهداً مظفراً حتى بلغ سكني المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر ردونة ثم وثب عليه الملك بن قطن الفهري سنة إحدى وعشرين فخلعه وقتله ويقال أخرجه من الأندلس وولى مكانه إلى أن دخل بلج بن بشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين فغلب عليه وولى سنة أو نحوها وقال الرازي ثار أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك وولوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر وتوفى بقرمونة سنة ثلاث وعشرين واستقام الأمر لعبد الملك ثم دخل بلج بن بشر القشيري بجند الشام ناجياً من وقعة كلثوم بن عياض مع البربر بملوية فثار على عبد الملك وقتله وهو ابن سبعين سنة واستوسق له الأمر بعد مقتل عبد الملك وانحاز الفهريون إلى جانب فامتنعوا عليه وكاشفوه واجتمع إليهم من أنكر فعلته بابن قطن وقام بأمرهم قطن وأمية ابنا عبد الملك بن قطن والتقوا فكانت الدائرة على الفهريين وهلك بلج من الجراح التي نالته في حربهم وذلك سنة أربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته، ثم ولى ثعلبة بن سلامة الجذامي غلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلج وانحاز عنه الفهريون فلم يطيعوه وولى سنتين أظهر فيهما العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر إلى أن مالت به العصبية في يمانيته ففسد أمره وهاجت الفتنة وقدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية ركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين فدان له أهل الأندلس وأقبل عليه ثعلبة وابن أبي لسعة وابنا عبد الملك بن قطن فلقيهم وأحسن إليهم واستقام أمره وكان شجاعاً كريماً ذا رأي وحزم وكثر أهل الشأم عنده ولم تحملهم قرطبة ففرقهم في البلاد وأنزل أهل دمشق البيرة لشبهه بها وسماها دمشق وأنزل أهل حمص إشبيلية وسماها حمص وأهل قنسرين جيان وسماها قنسرين وأهل الأردن رية ومالقة وسماها الأردن وأهل فلسطين شدونة وهى شريش وسماها فلسطين وأهل مصر تدمير وسماها مصر. وقفل ثعلبة إلى المشرق ولحق بمروان بن محمد وحضر حروبه. وكان أبو الخطار عربياً عصبياً أفرط عند ولايته في التعصب لقومه من اليمانية وتحامل على المضرية وأسخط قيساً وأمر في بعض الأيام بالصميل بن حاتم كبير القيسية وكان من طوالع بلج وهو الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ورأس على المضرية فأقيم من مجلسه وتقنع فقال لع بعض الحجاب وهو خارج من القصر أقم عمامتك يا أبا الجوشن فقال إن كا لى قوم فسيقيمونها فسار الصميل بن حاتم أميرهم يومئذ وزعيمهم وألب عليه قومه واستعان بالمنحرفين عنه من اليمانية فخلع أبو الخطار سنة ثمان وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته وقدم مكانه ثوابة بن سلامة الجذامي وهاجت الحرب المشهورة وخاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب إفريقية فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس منسلخ رجب سنة تسع وعشرين فضبط الأندلس وقام بأمره الصميل واجتمع عليه الفريقان وهلك لسنة من ولايته ووقع الخلاف بإفريقية والتاث أمر بنى أمية بالمشرق وشغلوا عن قاصية الثغور بكثرة الخوارج وعظم أمر المسوّدة فبقى أهل الأندلس فوضى ونصبوا للأحكام خاصة عبد الرحمن بن كثير ثم اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضرية واليمانية وأدالتها بين الجندين سنة لكل دولة وقدم المضريون على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهرى سنة تسع وعشرين واستتم سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة ثم وافته اليمانية لميعاد أدالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم فيتهم المروانى وكان وفد عليه من المشرق وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر فلما دخلت المسوّدة أرض مصر خرج عبد الملك يؤم الأندلس في عشرة رجال من قومة مشهورين بالبأس والنجدة حتى نزل على عبد الرحمن سنة أربعين فعقد له على أشبيلية ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور وسار يوسف إليهما وخرجا إليه ولقياه وتناجز الفريقان فكانت الدائرة على يوسف وأبعد المفر واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة واحتز رأسه وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن فاستقام أمره واستقر بقرطبة وثبت قدمه في الملك. (للكلام بقية)
استدراك
أسلفنا عند الكلام على جزائر السعادات التى منها جزائر بريطانية (ومنها كما يظهر السويد والنرويج) والتى كان يخرج منها ناس يفال لهم المجوس يغيرون على الأندلس - إن هؤلاء المجوس لعلهم قدماه الإنكليز ولكن بعد البحث العميق ظهر لنا أن هؤلاء الذين يسميهم العرب المجوس هم النورثمان.
(سكان السويد والنرويج).