مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/سر تطور الأمم
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/سر تطور الأمم
مبحث ضاف جليل في نقد نظريات كتاب سر تطور الأمم
للكاتب الحكيم عباس محمود العقاد
كتاب من الكتب القيمة وضعه عالم فرنسي جليل، وعربه وزير مصري عامل. والكتاب على صغر حجمه وإيجاز أبوابه من الأسفار التي قل أن يلج مثلها إلى عقول المصريين من جانب اللغة العربية. وأيسر ما يقال فيه أنه سيعوّد القراء أسلوب البحث الجديد فلا يركنون إلى تلك المباحث التي مدارها على التلفيق، وهي براء من المعنى براءتها من صدق النظر والتحقيق. فما أكثر الكتاب الذين كانوا ينظرون عندنا إلى أعضل مسائل الاجتماع وأغلق أبواب المستقبل بعين تتخيل الأفكار كما يتخيل الناظر الواهم صور الجمال والثعابين والحيتان في قطع السحاب المذعذعة في السماء. وحسب الواحد منهم أم تتم في ذهنه صورة ملفقة على هذا النمط فيبرزها للناس قضية مسلمة، ويبني عليها النتائج البعيدة والنظريات الخطيرة.
أفرد المؤلف أكثر فصول الكتاب لتجلية الفكرة التي يحوم حولها في أكثر كتاباته. وهي أن لكل أمة روحاً تسير أعمالها، وهذه الروح هي التي تكيف أطوار الأمة وتشكل ملامحها الطاهرة. وإليها يرتد سبب كل حركة من حركاتها. وقد غالى في وصف ما لهذه الروح من الأثر في كافة أحوالها، إلى حد يوهم أنه ينكر ما للعوارض الطارئة من الأثر الثابت في حياة الأمة، والحقيقة أن لهذه العوارض شأناً في تاريخ الأمم لا يحسن إغفاله ولا سيما من وجهة النظر السياسي، كما أن الربان الحاذق لا يجلس مجلسه من السفينة إلا ليرقب ما يهب عليها من الأعاصير، ويثب إليها من الأمواج، ولا يغنيه علمه بأدوات سفينته وفجاج البحر الذي يسلكه عن الدربة على قيادة في تلك الأهوال، وإلا فإن ثورة واحدة من تلك الثورات قد تهوي بالسفينة إلى القرار. وما العوارض الطارئة إلا الخيوط التي ينسج منها روح الأمة، ويتكون من مجموعها سلسلة اختباراتها وذكرياتها الماضية، وهي لا تجعل في الأمة شخصاً غير شخصها، ولكنها تغير بنية ذلك الشخص، فليس لروح الأمة دخل في تاريخها إلا بقدر ما للإرادة في تاريخ الفرد، وكثيراً ما تكون الإرادة منفعلة بما يطرأ عليها ولا تكون هي الفعالة إلا إذا جاءت الحوادث بما يوافقها. وقد بالغ المؤلف في تقدي الزمن الذي يرسخ فيه المبدأ فيصير عقيدة موروثة وجزءاً من أجزاء تلك الروح، وهي مبالغة غير محمودة لأنها توقف المصلحين موقف الحذر الشديد عند كل حركة جديدة، وتصغر من قيمة الفرص الوقتية في حسابهم ولا سيما إذا كان لا سبيل إلى تشخيص روح الأمة ومزاجها تشخيصاً يقطع الشك باليقين. ذلك ما هو واضح من غموض الفكرة نفسها في الكتاب فإن المؤلف لم يستطع إلا أن يلم بها إلماماً غير محيط بها ولا ضابط لدقائقها.
حتى أن القارئ ليخرج من الكتاب وهو لا يدري حد الفارق بين روح الأمة الإنكليزية والأمة الفرنسوية. هذا على أنه يكاد يكون موضوع الكتاب الذي جاهد المؤلف غاية الجهد لتبنيه وتفصيله، ولا ريب أن مثل هذه الفوارق التي لم يلمسها المؤلف إلا بيد الحس لا يصح أن تكون أساساً للأحكام العريضة التي سجلها على أكبر مبادئ العصر بل على الدين الجديد في عرفه. فإذا كان الغرض من تقدير تلك الفكرة المبهمة الإشارة إلى اختلاف الأمم في الأمزجة فذلك مالا نزاع فيه أما إن كان يرمي به إلا أبعد من ذلك فالحق يقال أن قدمي هذه الفكرة لا تحملانها إلى أبعد من تلك الغاية. إذ ليس في الكتاب ما يبين بياناً جازماً أن الحادث الذي يقع في هذه الأمة لن يقع مثله في أمة أخرى، وليس فيه حجة دامغة تنفي القضايا التي قررها علم مقابلة التواريخ وأيد بها قولهم أن للأمم أطواراً تمر بها كل أمة حية، وأنه إن اختلفت الأزمان بعداً وقرباً فذلك لاختلاف المناسبات والطوارئ ولشيء قليل من تباين الأمزجة، ولكن هذا التباين لا يمنع أمة من أن تعتنق كل رأي في حينها المقدور لها، وإن كانت ربما دعته بغير ما يدعي به في الأمم الأخرى، تبعاً لاختلاف اللغات، وتفاوت الأحوال والعادات.
فليس في مجلس انكلترا مثلاً حزب اشتراكي كحزب فرنسة الاشتراكي ولكن فيها حزباً للعمال. وكلا الحزبين غايته واحدة ومطالبه متشابهة. وهي أنصاف طبقات العمال من أصحاب الأموال. والدكتور لوبون يقول مع ذلك أن الاشتراكية شاعت في فرنسه لأن مزاج أهلها يميل بهم إلى الاعتماد على الحكومة ولم تشع في انكلتره لأن الإنكليز أهل استقلال لا يعولون إلا على أنفسهم - دع ذلك وانظر صوب ألمانية فإنك ملاق فيها شعباً اشتراكياً صريحاً وحزباً يمثل الاشتراكية في مجلسها هو أقوى الأحزاب وأوسعها نفوذاً والألمانيون كما تعلم شعب سكسوني قريبٌ مزاجه من مزاج الأمة الإنكليزية فما باله في هذه الحالة أشبه بفرنسه اللاتينية منه بإنكلتره السكسونية؟؟ وكأن الدكتور يحس بركة تعليله في هذه النقطة فجعل الاشتراكية آفة أوربية عامة، وعبر المحيط الأطلسي ليجد له في الدنيا الجديدة برهاناً يدعم به رأيه. فانظر كيف يقول في ذلك: وإذا أردنا أن نعرف بكلمة واحدة ما بين أوربا والولايات المتحدة من التفاوت قلنا أن الأولى مثال ما يمكن أن تنتجه الأمة التي قامت فيها الحكومة مقام الفرد. والثانية مثال ما يمكن أن تنتجه همة الأفراد الذين خلصوا من كل ضغط رسمي. وليس لهذه الفروق الكلية منشأ إلا الأخلاق ومن المحقق أن الاشتراكية الأوربية لا تجد لها مكاناً تنزل به في البلاد الأميركية. لأن الاشتراكية آخر دور من أدوار استبداد الحكومة فلا عيش إلا في الأمم التي شاخت بعد أن خضعت قرونا طويلة إلى نظام أفقدها الأهلية لحكم نفسها. . . . . اهـ.
ولكنا نقول للدكتور أن الاشتراكية قد سبقته إلى الولايات المتحدة أيضاً. وأنها ليست في بلد من البلدان أجهر صوتاً مما هي هناك. فليس في الدنيا حكومة تضطهد الشركات كما تضطهدها جمهورية الولايات المتحدة. وقد طاردت هذه الحكومة منذ سنوات أكبر شركات الاحتكار فحلتها وألزمتها غرامة فادحة. فكان الجمهور الأميركي يهلل لها ويثني عليها. وإذا قرأت أيام الانتخابات برنامج كل حزب من أحزاب السياسة هناك رأيت كيف تتبارى في إرضاء طوائف العمال ومهاجمة كبار الماليين. وكيف تحبر الصحف الفصول الطوال في تقبيح مطامع الأغنياء والعطف على الفقراء. فإن كان الدكتور يعني بالاشتراكية غير هذا. فليهدأ بالاً فليس في أميركا ولا في أوربة. لا بل ولا في الدنيا بأجمعها اشتراكية.
وفيما خلا وصف روح الأمة وشرح ما لهذه الروح من التأثير في تكوينها. فالكتاب بجملته حملة منكرة على المساواة والاشتراكية. يخيل إليك أن الدكتور لوبون يكتب عن المساواة بقلم شارل الأول أو لويس السادس عشر. وأنه يكتب عن الاشتراكية بإيعاز من روتشيلد أو روكفلر فتراه ينعى على مبدأ المساواة ولكنك لا تعلم منه كيف يكون عدم المساواة. وتراه يتشاءم من الاشتراكية كما يتشاءم الناس من نعيب البوم. لا يعلمون لذلك التشاؤم سبباً. ولعل في الاشتراكية شيئاً من ثقل الدم لا يقبله مزاج بعض الناس ومنهم الدكتور لوبون؟؟
فمن أقواله عن المساواة: غاب عن بعض الفلاسفة تاريخ الإنسان وتقلب ماهية قوته العاقلة وتغير قوانين تناسله الطبيعية فقاموا ينشرون في الناس فكرة المساواة بين الأفراد وبين الشعوب.
خلبت هذه الفكرة أذهان الجماعات فارتكزت في عقولهم ارتكازاً قوياً وآتت أكلها بعد زمن يسير فزعزعت أسس الجمعيات الأولى وولدت أعظم الثورات ورمت أمم الغرب في اضطرابات شديدة لا يعلم مصيرها إلا الله ثم يقول إلا أن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة وأن الهوة التي أوجدها الزمان في عقول الأفراد والشعوب لا تزول إلا بتراكم المؤثرات جيلاً بعد جيل ثم يقول بعدما تقدم: ما من عالم نفسي ولا من سائح ذي نظر ولا من سياسي مجرب إلا وهو يعتقد الآن خطأ ذلك المذهب الخيالي أعني مذهب المساواة الذي قلب الدنيا رأساً على عقب وأقام في القارة الأوربية ثورة أرتج الكون منها وأذكى في القارة الأميركية نار حرب الأجناس وصير جميع المستعمرات الفرنساوية في حالة محزنة من الانحطاط ومع ذلك فقلما يوجد بين أولئك المفكرين من يقوم في وجهه بمعارضة ما. . . . .
كل ذلك جرى من سريان مذهب المساواة!! على أن دعاة المساواة لم يشطوا في مذهبهم. وقد علموا أن الناس ليسوا على غرار واحد في العقل والفضل. فالعجب للدكتور ما باله يبادر فيمسك بألسنتهم ويأخذهم بشهادتهم كأن هناك تناقضاً بين قولهم ودعوتهم!! فإن دعوتهم إلى تساوي الناس في الحقوق أمام القانون لا تعطل تنازع البقاء بينهم ولا تذهب بمزايا التفاوت بين قادرهم وعاجزهم. بل هي تفسح المجال لهذا التنازع وترفع العوائق التي يضعها في طريق المنافسة استئثار بعض الناس ببعض المنافع بلا موجب للاستئثار. وبغير هذا المبدأ لا يكون تمت معنى للنظام والقانون إلا إذا كان الغرض من إبطال المساواة الدعوة إلى إطلاق الناس أقويائهم على ضعفائهم. وتحقيق مذهب الفوضى.
يحق لأعداء المساواة أن ينكروا على دعاتها كل الإنكار. ويحق لهم أن يحتجوا عليهم بأن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة هذا إذا كان دعاة المساواة في شك من ذلك. أو إذا كان قد قام منهم قائم يمني العامل الجاهل بأن يتبوأ منصة الفيلسوف في الجامعة أو يسول له أن يطالب بوظيفة الطبيب أو المهندس. ولكننا نعلم أن داعياً كهذا لم يقم ولن يقوم لأن مديري البيمارستانات لا يفرطون في مثله إذا ظهر. وكل ما يمنى به الداعي إلى المساواة ذلك العامل أنه يكون متساوياً مع سائر الناس في الأمن على حياته.
وهل في ذلك من ضير؟؟ وإذا كان مبدأ المساواة لا يمنع إنساناً حق التمتع بثمرة تفوقه في المعارف أو المواهب العقلية على سواه فأي ضير فيه؟؟
إن كان الدكتور يصم هذا العصر بأنه عصر الجماعات وأنه يبيح للفرد الجاهل من الحقوق السياسية ما يبيحه للفرد المتعلم. وأن صوت الدكتور الفيلسوف كصوت الزارع الغبي في إنابة النواب وانتخاب الحكام فهذا أمر لا محيص عنه ولا سبيل إلى إبداله بما هو أصوب منه. على أن التساوي في أصوات الانتخاب ليس إلا تساوياً صورياً. والحقيقة أن لكل إنسان من الأصوات بقدر ماله من العقل والقدرة على إقناع سواه باختيار من هو أفشل من غيره للنيابة، وذلك ما يجعل أكبر الناس عقلاً أكبرهم قسطاً في سياسة بلاده، فإن بعض الموسرين يستعين بالمال على شراء الأصوات ويستخدم تلك الأصوات المتعددة في غرض واحد. فذلك ما يشكو منه الاشتراكيون الذين ينقم عليهم الدكتور لوبون.
وهب أننا اليوم أبطلنا مذهب المساواة. فمن يا ترى يحكم بين الناس ويقدر لكل منهم ما هو أهل له من الحقوق السياسية والأدبية؟؟ أترانا نلجأ في ذلك إلى الحكومة؟؟ ذلك ما يأباه الدكتور لأنه يريد أن يقصر عمل الحكومة على الضروري الذي لا يسع الأفراد القيام به. فأولى به وهذه إرادته أن لا يدعها تتداخل بين الناس حتى في ترتيب أقدارهم وتمييز درجاتهم كأنما هم كلهم موظفون في دواوينها - فلم يبق إذن إلا أن تترك الناس يدع كل منهم ما يقدر على تحصيله بذراعه_وبمثل هذا النظام نأمن شر مبدأ المساواة ولا نكون قد تركنا أضغاث أحلامنا بالمساواة العامة تغشي بصائرنا لأننا إذا تركنا أضغاث أحلامنا بالمساواة العامة تغشي بصائرنا كنا أول ضحاياها فما المساواة إلا بين المنحطين وهي مطمح آمال صعاليك العقول يحلمون بها وهم بأحلامهم من التعساء الخ.
ذلك حديث صاحب الكتاب عن المساواة. أما الاشتراكية فهو كما يظهر من الشذرات التي نقلناها عنه شديد الطيرة منها. وهو يمثلها تمثيلاً مشوهاً. ويعمد إلى شر مذاهبها فيعرضه على القارئ في حالة مشنوعة ثم يعمم حكمه على مذاهب الاشتراكية بحذافيرها. فتارة يحكم بأنها ستؤدي بالأمم إلى أرذل الانحطاط حيث يقول: نعم لا حاجة لأن يكون الإنسان ضليعاً من علم النفس ولا من علم الاقتصاد لينبئ بأن العمل بمقتضى مبادئ الاشتراكية يفضي بالأمم إلى أرذل درك الانحطاط وأخزى صور الاستبداد.
وتارة يصورها لك كما هي في أذهان الجهلاء الواهمين. فيسبق إلى ظنك أن هذه الاشتراكية صنف من الأفيون استورده أئمة الاشتراكية من بكين. فهي كما يقول الدكتور تمثل في ذهن النظري الفرنساوي صورة جنة تساوي الناس فيها فتمتعوا بالسعادة الكاملة في ظل الحكومة. وتمثل للعامل الألماني حانة طبق دخانها وطفق رجال الحكومة يقدمون لكل قادم أطباقاً من لحم الخنزير والكرنب المملح ودناناً من الجعة الخ.
وأما والله لو كانت هذه هي كل الاشتراكية لما عز على الدكتور علاجها فما هو إلا حمل من النشادر يحتسبه على نفقة أحد المرابين أهل الخير - والمرابون كلهم يشفقون على الناس من سكر الاشتراكية_ثم يسعطه أولئك المساكين فيفيقون من ذلك الخدر العميق_ولكن هذه الأحلام ليست الأشق الاشتراكية الذي قد يلوح لبعض السذج من العامة ويبقى منها بعد ذلك مبادئها العملية وقواعدها وهي للأسف لا تدحض بالسفسطة ولا تنقض بالتعوذ والحوقلة لأنها مذهب مست إليه الحاجة وشعر به الناس قبل أن يعلنه الفلاسفة وأهل النظر. ولا سيما إذا كان بطلان مذهب الاشتراكية سر الدنيا لا يعرفه إلا علماء النفس الواقفون على أحوال الحياة وكانت الأدلة التي تقنع به لا تأتي من طريق العقل.
الاشتراكية التي يراها الدكتور آفة الأمم ومباءة الفناء والاضمحلال هي رجاء الإنسانية ومعقد آمالها في التعمير والبقاء.
ليست اشتراكية اليوم أسطورة من الأساطير. ولا هي وعد خيالي يبشر الناس بالتعادل في الأقدار والتشاكل في المنازل والأرزاق. كلا فليست المساواة بين الناس من همها ولكنها إنما تدعو إلى المساواة بين الأجر والعمل وتطلب أن يعطى كل عامل ما يستحقه بعمله، وأن ينتفع المجموع بأكبر ما يمكن الانتفاع به من قوى الأفراد.
إن كانت الدنيا قد حم أجلها وكارب يومها لأن جائعاً يريد أن يشبع، ومنهوكاً يتمنى أن يستريح، ومظلوماً يود لو ينتصف، فلشد ما هزلت هذه الدنيا ونحف مزاجها بعد أن احتملت في ماضي العصور طغيان الجبابرة وبطر النبلاء، ووطأة الدعاة والدجالين.
ومن العجيب أن الدكتور لا يستقبح من أنظمتنا الحاضرة شيئاً إلا كان دواؤه في الاشتراكية. فإذا أراد استنباط الدواء من غير هذا المذهب وقع في التضارب والحيرة.
فاقرأ رأيه وهو يصف الدواء لنهوض الأمم المائلة إلى السقوط ويحيلها إلى النظام الجندي يقول فأهم الشروط التي تلزم لنهوض الأمم المائلة إلى السقوط تعميم نظام الجندية وجعله قاسياً جداً وأن تكون الأمة على الدوام مهددة بحروب طاحنة.
يريد الدكتور ليتخذ من نظام الجندية جبارة يشد بها عظام تلك الأمم التي رض الزمن عزائمها وكسر أعضاد همتها. وهو يعتقد أن الجندية سوق ترجع للرجل المتحضر رجولته واستقلاله وتشفيه من مرض الاشتراكية التي هي فناء الفرد في الدولة والتي تفضي بالأمة إلى أخس درجات الاسترقاق وتقتل في نفوس من خضعوا لحكمها كل همة وكل استقلال. يقول المؤلف قوله هذا على أن الناس يعلمون والمؤلف لا يجهل أن الرجل أضيع ما يكون استقلاله في الجندية، وأن الجندي في الجيش ليس إلا آلة تتحرك بإشارة من القائد وليس لها أن تعرف إلى أين هي مسخرة ولا في أي غرض يسخرونها. فإن كان في الجندية شيء من الخشونة فليس كل خشونة رجولة واستقلالا.
قال الدكتور في الفصل الرابع من الباب الأول: أشار توكفيل إلى تدرج الفروق الذي نبحث فيه بين طبقات الأمم في زمن لم تبلغ الصناعة فيه من الارتقاء مبلغها في الوقت الحاضر فقال كلما وسع الناس في تطبيق قانون توزيع العمل ضعفت قوة العامل وحد عقله وزادت تابعيته لغيره. فالصناعة تتقدم والصانع يتأخر والفرق ينمو كل يوم بين العامل ورئيسه.
وهي ملاحظة صادقة من توكفيل. فأن النظام الاقتصادي الحاضر قد أصار العامل قوة آلية وسلبه كل وسيلة إلى استخدام ذكائه وحذقه. فبعد أن كان العامل يصنع الأداة وحده فيفرغ ذكاءه في تجويدها ويتفنن في تكميلها وتحسينها، إذا هو الآن يتناول الجزء الصغير من تلك الأداة فيصنعه بلا روية، ويجيء المهندس أو رئس الصناع فيؤلف من تلك الأجزاء تلك الأداة على الوجه الذي رسمه فإذا خرج الصانع من المعمل لم ينتفع بصنعته وعجز عن العمل على انفراد ففقد مزية الاستقلال.
هذا النظام الاقتصادي المودي بالمواهب، المعطل للعقول، هو النظام الذي تثور عليه الاشتراكية. فما قامت الاشتراكية إلا لترقي مدارك العامل وترفع عنه حيف صاحب المعمل، وتجعله إنساناً ذا رغبة في عمله وغيرة عليه، وليس كما هو الآن آلة تدير آلة. فإن كان الدكتور يفتش عن الاستقلال فلا يبحث عنه في ثكنات الجنود ولكن ينشده في مبادئ الاشتراكية.
وليست الاشتراكية سبباً في هذا الاضمحلال الذي يعتور الجيل الحالي من جوانبه الرئيسية. ولا هي من أعراض ذلك الداء التي لا تتخلف عنه. ولكنها حال تلازمه في بعض الأحيان وتظهر معه كما تظهر رغبة النجاة في الغريق عند الغرق.
فما هي من مصطنعات هذا الجيل ولكنها قديمة وجدت في كل مكان يحرم فيه العامل ويغنم العاطل. إلا أن هذا العصر قد ترقى في فهمها وتوسع في تطبيقها تبعاً للرقي الشامل لكل مرافق الحياة.
كانت الأمم الغازية تفتتح البلاد فيستأثر قواد الجيش الفاتح وجنوده بأطيب الأرزاق ويميزون أنفسهم عن سائر الأمة بمزايا يحرسونها بالقوة ويذودون عنا بالسلاح. ثم تؤل هذه المزايا بالوراثة إلى أعقابهم فتصير حقوقاً ثابتة. ويجنح هؤلاء الأعقاب إلى الدعة والكسل جيلاً بعد جيل فيجنون ثمرة ما لا يزرعون، ويجشمون غيرهم مشقة السعي وهم نائمون. وتفسدهم البطالة فيتمادون في اللهو والخلاعة ويتهالكون على المجون واللذة. ولا يزالون ذلك دأبهم حتى يضجر الناس منهم ويحنقوا عليهم، فتنقض عليهم في هذه الآونة جارة ترقب غفلتهم. فلا تصادف فيهم الأسراة لاهين ورعة ساخطين.
كذلك ثار أرقاء الرومان على سادتهم، وكذلك ثار الفرنسويون على نبلائهم فقال المؤرخون عن الأولى عبيد تمردوا، وقالوا عن الثانية سوقة عربدوا - وما هي إلا الاشتراكية تبدو وتخفى في تاريخ الناس من حين إلى حين _.
لسنا نحن في عصر يتحكم فيه سادة على عبيد، أو يستبد فيه شرفاء على سوقة. ولكن المسألة ظهرت في طور جديد. ظهرت بين أصحاب الأموال وطوائف العمال.
أخرج العلم تلك الآلات الضخمة، فأصبح كل صاحب معمل يتمتع بتعب الألوف من الصناع الذين يستخدمهم في معمله. فكان التعب والحرمان من نصيب فريق والراحة والربح من نصيب الفريق الأقل. فتجددت الشكوى القديمة. وعادت الاشتراكية في هذا الثوب العصري. وقد عادت مرافقة لعهد الاضمحلال أيضاً. ولكنها ستكون في هذه المرة أطول منه عمراً.
لأننا اليوم في مأمن من غارات القرون الأولى. ولأن العلم والنظام قد أصبحا ملكاً للإنسانية عامة وليسا من خواص أمة يذهبان بذهابها.
وإذا صح رأي نورد في كتابه التأخر والاضمحلال فهذا الضعف الذي استولى على الجيل الحاضر أثر من أثار النظام الاقتصادي فلقد أفرط الناس في إجهاد أبدانهم إفراطاً حط من قواهم وأتلف أعصابهم. وهم كلما أحسو بالضعف انكبوا على المنبهات من خمر وحشيش وتبغ وقهوة إلى أشباه ذلك فزادتهم ضعفاً على ضعف. فلو أن ساعات العمل أنقصت قليلاً وزيدت الأجور زيادة تمكن العامل من تعويض خسارته اليومية بالطعام وأسباب الراحة، لكانت الاشتراكية قد أنقذت الجيل القادم من غوائل هذا الاضمحلال. وبهذا الرأي - أي رأي نوردو_يسهل تعليل قول الدكتور في ختام الفصل الأول من الباب الثاني إذ يقول فالأمم تموت متى ضعفت صفات خلقها التي هي نسيج روحها. وضعف هذه الصفات يكون على قدر حظ الأمة من الحضارة والذكاء إذ لا تخفى علاقة بعض أنواع الضعف العصبي بالذكاء.
قال عبد الله بن معاوية ما رأيت تبديراً قط إلا وإلا جنبه حق مضيع وغريب أن يهتدي كاتب من كتاب القرن الثاني الهجري إلى هذه الحكمة الجامعة. ولو شاء زعيم من زعماء الاشتراكية اليوم أن يتخذ لمذهبه شعاراً لما زاد على تلك الحكمة حرفاً. فالاشتراكية تقوم اليوم لتسترد ذلك الحق المضيع ولا مطمع لها في العدوان على إنسان.
يتذمر الدكتور لوبون تارة من انحطاط الخلق العام وفقدان أفراد الأمة ملكة ضبط نفوسهم وانصرافهم عن المرافق العامة إلى حب الذات ويأسف حيناً لتلك الحقائق القاسية التي جلبت على أهل العقول الصغيرة فوضى الأفكار التي يمتاز بها المرء في هذا الزمان. وغيرت تلك الشكوك أطوار الشبيبة المشتغلة بالآداب والفنون. فغرست فيها جموداً مشوباً بالكآبة وذلك أفقدها الإرادة. ونزع منها القدرة على الاهتمام بأي أمر. وجعلها تعبد المنافع الذاتية الوقتية دون سواها.
وقد تكلم ماكس نوردو في كتابه المتقدم عن هذا الخلق الذي دعاه الدكتور لوبون عبادة المنافع الذاتية. ومن رأيه أنه ناشئ عن أمراض الاضمحلال التي ألمعنا إليها وأنه شعبة من جنون الأنانية ونقول أن حب الذات ينشأ عن ضعف حاسة الواجب وهو مرض من الأمراض العقلية. ولكن يزيده إعضالاً تأكد الناس من عدم التوازن بين حقوق العاملين وواجباتهم، فيرون كيف يثري الوسيط ويعدم التاجر، وكيف يكرم القواد الوضيع ويهان العامل الأمين، وكيف أن الكسب المباح يحسب بالدانق والسحتوت وأن ربح الاحتيال يعد بالدنانير والبدر، ولقد تدلينا في هذه الأيام إلى هذه الوهدة، وتلك مغبتها التي نعانيها.
لا أمل في الخلاص من هذه السوآت إلا إذا ساد اعتقاد الناس بتضامن الإنسانية. وأيقن كل فرد أن على حقوقه حارساً من أمته، وأنه موضع عناية الإنسانية جمعاء. وبذلك تثوب الخواطر ويرعى الناس حرمة الواجب. وإلا فلو ظن الإنسان أنه ليس ثمة ضمير عام يؤنب الناس أجمعين على ما يحل به من الغبن والأذى. وأنه لا حق له في الرحمة أينما يمم وجهه. فقد مات ضميره وغلبه الحرص فتعلق بالجشع ونبذ المبادئ والفضائل إلا ما وافق منها هواه وفشت فوضى الأخلاق فارتفعت الحدود واندثرت معالم الشرائع إلا في الدفاتر والأوراق.
يقول الدكتور لوبون: اليوم تميل الأمم القديمة إلى السقوط فهي تهتز من الوهن ونظاماتها تتداعى واحداً أثر واحد وعلة ذلك فقدانها كل يوم شيئاً من أيمانها الذي قامت عليه حتى الآن فإذا فقدته كله قامت حتماً مقامه حضارة جديدة مؤسسة على معتقد جديد.
نعم فلا بد للأمم من معتقد جديد. أفتدري ما هو هذا المعتقد؟؟ هو وحدة الإخاء أو هو التضامن الإنساني أو هو الاشتراكية.
ازرع في قلب الإنسان ثقته بعطف الإنسانية تكبره في عين نفسه وترفع من قلبه ذلة المخلوق الذي نبذته السماء ولم تعبأ به الطبيعة إلا كما تعبأ بأحقر المخلوقات.
وينبغي أن يعتقد الإنسان أنه يعمل للإنسانية لا ابتغاء المثوبة أو خوفاً من العقوبة ولكن مسوقاً بمحرض من غرائزه التي لا طاقة له بالخروج عنها. فإذا عمت هذه العقيدة رضي كل إنسان بحظه ولم يطلب الجزاء على عاطفته النوعية إلا في إرضاء تلك العاطفة ومطاوعتها فيما توحي به.
للضمير العام لعهدنا هذا حرم في كل أمة لا يحتمي فيه إلا أبناء تلك الأمة. وقد أشار الدكتور إلى ذلك في قوله أنك لا تجد بين ساسة الإنجليز واجداً لا يرى جواز استعمال أمور في جانب أمة أجنبية لو أتاها في بلاده لأنزلت به السخط من كل ناحية والحقيقة أن ذلك دأب ساسة الأمم كلها وليس الإنكليز وحدهم. ولكن ذلك الحرم تمتد حدوده يوماً بعد يوم حتى يشمل في زمن من الأزمان كل أمة جديرة بالدخول في لحمة تلك الأخوة العامة.
وكذلك كانت عهود الأخلاق في مبدأ أمرها غير مرعية إلا بين أبناء القبيلة. قال دارون في كتاب أصل الإنسان ولكنها - أي أصول الأخلاق_لم تكن معتبرة إلا فيما بين أبناء كل قبيلة على حدتها وما كانوا يعدون مخالفتها في حق أبناء القبائل الغريبة جريمة مستنكرة فما زالت هذه الأصول تنداح من نطاق إلى نطاق أوسع منه حتى شملت بناء الجنس الواحد ثم شملت أبناء كل دين على تباين أجناسهم ثم أصبح الناس يسلمون بها نظرياً في حق نوع الإنسان بأسره ولكنهم يخلقونها عملاً. وهم سائرون في طريق الوحدة. والطبيعة تقوم بعملها لهذه الغاية فتقرض الشعوب الذابلة ولا تذر منها إلا ما هو أهل للرعاية والبقاء. تمهيداً لوحدة الإنسانية وشمول أحكام الضمير العام.
هذه هي العقيدة الجديدة فإذا ما سكن الناس إليها واشتاعوا عليها كانت مناطاً لا مالهم وتأسية لآلامهم. وكان لهم فيها نعيم وعزاء وفي الحيدة عنها عذاب وشقاء.
لا يفوتنا بعد أن نقدنا ما خلنا فيه شيئاً من الغلو أن نقول أن في كتاب سر تطور الأمم من الآراء الصائبة والأفكار القويمة ما هو حقيق بإنعام النظر وطول التدبر. وأن المؤلف لو أخلاه من الأحكام والنتائج وقصره على الملاحظات والآراء لما كان فيه مأخذ ينتقد. فأن العلم والفن والأدب لم تجمع حتى الساعة الأدلة والمقدمات التي تكفي لأصدر تلك الأحكام المبرمة والنتائج المحتمة.
ومن تلك الملاحظات والآراء ما يهمنا نحن المصريين لأنه ينطبق على حالتنا تمام الانطباق.
فيظهر أننا لا نفهم بعد معنى الوطن حق الفهم. قال الدكتور كان وجود الروح أولاً في العائلة ثم انتشر منها في القرية ثم في المدينة ثم في الإقليم ولم يعم جميع السكان إلا في أزمان قريبة منا. هنالك وجدت فكرة الوطن بالمعنى المفهوم لنا في هذا العصر لأنها لا تصير واضحة إلا إذا تم تكوين الروح ولهذا لم تترق فكرة الوطن عند الإغريق إلى أبعد من فكرة المدينة ودامت مدائنهم في حرب مستمرة لأن كل واحدة منها كانت أجنبية في الواقع عن البقية. كذلك لم تعرف الهند منذ ألفي عام غير وحدة القرية فعاشت من ذلك الحين تحت حكم الأجنبي تقوم فيها ممالكه بسهولة كما تدول بسهولة.
وذلك شبيه بمعنى الوطنية في مصر فإنها لا تعرف غير وحدة القرية وما أظن أن أمة غير الأمة المصرية تقام فيها المناحات لسفر قريب أو صديق من مديرية إلى مديرية تجاورها. ويقسم فيها الرجل بغربته وهو في عاصمة وطنه. ولا أحسب أن لهذه الحالة دواء أنجع من نشر الكتابة والقراءة وذيوع الأدب المصري بين قراء المصريين في كل قرية ومدينة.
المصريون لا يكاد يوجد بينهم شيء من وحدة المشاعر ويكاد يكون أبناء النيل اثني عشر مليون فرد وليس هناك أمة. ولا ريب أن ذلك ناجم عن اختلاط العناصر وتوالي الأمم الفاتحة كما أنه يعزي إلى سوء فهم الوطنية الذي قدمنا ذكره. ومن الحكمة استحياء أشد العصبيات أخذاً بقلوب هذه الشراذم المبددة. ولا فرق بين أن تكون عصبية مصلحة أو عصبية تاريخية أو عصبية وطنية مادامت تفضي إلى لم شعثهم وتوجيه نفوسهم إلى وجهة واحدة.
ومن عيوب الأمة المصرية فقدان التخصص وشدة التقارب بين الصنائع والصناع وهو نقص بين فأن مستوى العقل - كما يقول الدكتور يكاد يكون واحداً عند جميع أفراد الأمم الدنيا ذكوراً وإناثاً. . . . . . وأما عند الأمم الراقية فالقاعدة هي اختلاف الأفراد وكذا النوع اختلافاً كبيراً.
ولا نرى إلا أن للخصوبة دخلاً في هذا النقص، فإن الزراعة لا تبعث الحاجة إلى المنافسة كما تبعثها الصناعة. والمنافسة هي باب التفاوت والتنوع في الحرف والمصنوعات. وستضطر الأمة إلى الصناعة لأن الزراعة لا تقوم في هذه الأيام بمطالب الناس. ولقد أحجم أغنياء الأمة عن فتح باب المنافسة بإنشاء المصانع وتبادل النفع مع الأمة لأنهم غرباء عن البلد. وظل أكثرهم إلى زمن غير بعيد ينظر إلى القطر المصري نظرة المهاجر إلى دار هجرته، ويعامل المصريين معاملة الأجانب عنه، وكان أهل الثروة من أبناء النيل في الجيل الماضي أقل شأناً من أن يستقلوا بعمل وأجهل من أن يقدموا على غير الزراعة. ولكنا أصبحنا نرى سراة مصر وقد استوطنوها وارسخوا أقدامهم فيها وارتبطت مصلحتهم بمصلحتها فلا يبعد أن يكون شأنهم في المستقبل غير شأنهم في الماضي ولا سيما إذا عمت الوطنية سكان مصر على السواء وعد من أبنائها كل من ينفعها وينتفع فيها من الوطنيين والنزلاء فأن مصر بحاجة إلى تآلف الأغراض ألفة تشبه ما يعوزها من وحدة المشاعر.
ولا ننس الأخلاق فقد لحقتنا كل أضرار المدنية الغربية ولما نصل إلى شيء من مزاياها.
ولا جرم فقد سهل على حواسنا أن تدرك ملذاتها فانغمست فيها. وقصرت عقولنا عن أدراك معانيها فحيل بيننا وبينها ولو أنك حملت زنجياً حقيراً إلى باريس لتمتع بكل رذائلها في اسبوه واحد ولكنه لن يتمتع بمعارفها وآدابها لأن الفرق في الحواس قريب بين أرفع الناس وأحطهم ولكنه بعيد جداً في العقول والأذهان.
فنحن اليوم نعب من إباحية المدنية الأوربية ومنكراتها، ولا نذوق قطرة من عظمتها وطيباتها وما كنا لننتظر أن نجني ثمرة المدنية بغير شوكها. فإن المدنية شباب الإنسانية. وفي سن الشباب تتولد الشهوات كما تتفتح القوى وتنمو المدارك. ليست طهارة الفطرة إلا كطهارة الطفولة التي لا تأثم لأنها فارغة من الشهوات كما أنها فارغة من القوى والمدارك. ولكن الرزيئة أن نضيع سلامة الفطرة ولا نبلغ رقى المدنية. وذلك ما صنعناه.
ولقد أصاب الدكتور لوبون كل الإصابة إذ يقول: الخلق لا العقل هو الذي تقوم عليه الجمعيات البشرية وتؤسس الديانات وتبني الممالك وهو الذي يجعل الأمم تحس وتعمل وما كان كسب الأمم كثيراً من شحذ الأذهان والتعمق في التفكير.
أي والله. فأن الإنسان بغرائزه. وأن الحياة بزوبرها لا شيء إذ لمحناها من ناحية العقل ولكنها من ناحية الغرائز كل شيء، بل لا شيء سواها وليست الفضيلة ما سلم به الإنسان بتعليل عقله. ولكن الفضيلة ما نشأ عليه وتضمنه طبعه وزجلته إليه فطرته.
فلتكن عنايتنا بالعلم بعض عنايتنا بالأخلاق. وهذا عمل تتكفل به المدارس والمحاكم والكتب. ومما يهون الأمر أن الإصابة محصورة في طائفة قليلة من ناشئة المدن. فإذا وقيت الأمة من عدواها كان الأمل في الجيل القادم وثيقاً.
ولا ننكر أن الأمر يلزمه شيء غير يسير من التضحية والمفاداة. ولا بد له من قادة من عظماء الأخلاق والنفوس يقفون في وجه أهل الفساد وأنهم على التفافهم لتسرح فيهم كلمة الحق كما تسرح شرارة النار في الفاف الأجمة اليابسة.
يقول الدكتور لوبون إن الفارق بين الأوربيين وبين الشرقيين هو اختصاص أولئك بفريق راق من العظماء دون هؤلاء.
كلا. بل لكل نصيبه من العظماء. فللغرب عظماء العقول وللشرق عظماء النفوس. ومن للشرق اليوم بعظيم من أولئك العظماء الذين كان يجود بهم أحياناً. فيقوّم من أوده. ويعزر من أيده. ويأخذ في طريق الحياة بيده؟؟