انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/أثر القوانين الطبيعية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/أثر القوانين الطبيعية

ملاحظات: بتاريخ: 5 - 5 - 1913



في نظام الجماعة وأخلاق الفرد

إذا بحثنا في أمر العوامل الطبيعية أيها أشد تأثير في نظام الجماعة وأخلاق الفرد وجدنا أن هذه هي الجو والغذاء والتربة والمناظر الطبيعية. ولنبدأ بالثلاثة الأول ثم نتكلم بعد ذلك عن الرابع فنقول.

أما الجو والطعام والتربة فبعضها مرتب على بعض أي أن هنالك سبباً قريباً وصلة متينة بين جو إقليم وبين غذاءه النابت به كما أن ذلك الغذاء يتأثر بالتربة التي تنبته وبارتفاع الأرض أو بانخفاضها وبحالة الهواء. وقصاري القول بجميع تلك الأحوال التي يطلق على مجموعها لفظة الجغرافية الطبيعية.

وإذ كانت الصلة بين هذه العوامل الثلاثة الطبيعية على ما ذكرنا من القرب والمتانة - فهي تعمل معاً وتؤثر مشتركات_كان الأجمل بنا أن لا ننظر فيها على انفراد بل ننظر إلى النتائج الناشئة من عملها المشترك وبذلك يكون نظرنا في هذا الموضوع أسمى وأشمل باجتنابنا الإشكال واللبس الناشئ من تفريقنا بين أشياء هي بطبيعتها مجتمعة لا تنفصل. وبذلك يزداد لنا وضوحاً وبياناً مبلغ ما كان للقوى الكونية والعوامل الطبيعية في أقدم العصور من الأثر العظيم في حياة الإنسان.

فمن أهم وأقدم النتائج التي يحدثها الجو اجتماع الثروة والطعام والتربة في أمة من الأمم فإن اجتماع الثروة وإن كان بطبيعة الحال يتبع رقي العلوم ولكنه من الثابت الذي لا شك فيه أنه (اجتماع الثروة) في مبدأ تكوين الأمم يكون سابقاً لنشأة العلوم. وما دام كل فرد من أفراد الشعب مشغولاً بتحصيل المواد اللازمة لقوامه واستمراره فلن يوجد فراغ ولا ميل للمطالب السامية من الفنون والمعارف. فمثل هذه الظروف غير خليقة أن تحدث علماً أو تنتج فناً. بل كل ما يسطاع إذ ذاك هو محاولة اقتصاد العمل بفضل تلك الآلات الخشنة الناقصة التي لن يعدم القدرة على اختراعها أشد الأمم همجية وأكثرهم توحشاً.

في مثل هذه الحالة الاجتماعية يكون جمع الثروة أول خطوة لأنه لا يكون الفراغ بلا ثروة ولا يكون العلم بلا فراغ. ثم ما دام مقدار المستهلك من الزاد في أمة من الأمم مساوياً لمقدار ما يملكونه فلا يكون هنالك ذخيرة وعلى هذا لا يكون للأمة رأس مال وإذ كان ذلك كذلك فلن يكون هنالك مادة تعيش منها الفئة التي لا تشتغل. فأما إذا زاد الحاصل على المستهلك تكون من ذلك فضل لا يزال - حسب المعروف من مبادئ الاقتصاد يزداد وينمو حتى يصبح ذخيرة يستمد منها_من طريق قريب أو بعيد كل أمريء لم يخلق الثروة التي يعيش منها. بهذه الوسيلة وفي هذه الحالة يتسنى وجود فئة علمية يمكنهم التفرغ لتلك المسائل التي كان يحجزهم عنها في أول أمرهم شدة الاشتغال بإحراز لوازم المعيشة.

من المعلوم أن في الأمة الجاهلة تكون سرعة جمع الثروة على حسب مالبلادهم من الخصائص الطبيعية، نحن لا ننكر أنه إذا فات هذا الدور الأول وجاء الدور الذي فيه تتمول الأمة يكون هناك أسباب أخرى لسرعة جمع الثروة. ولكن ما دام هذا الدور لم يبلغ فإن تقدم الأمة في سبيل الثروة يكون وقفاً على أمرين: أولهما ما يجري عليه العمل من النشاط والاطراد، ثانيهما جزاء الطبيعة من خيراتها على هذا العمل. على أن هذين الأمرين هما بعد نتيجتان من نتائج القوى الكونية والعوامل الطبيعية. فأما جزاء الطبيعة من خيراتها على عمل الأمة فذاك رهن بخصوبة التربة وتلك رهن كذلك بما تحوي من المواد الكيماوية وبما تنال من ريّ الجداول أو سقياً الغيوث وبمقدار حرارة الهواء ورطوبته. وأما ما يجري عليه العمل من النشاط والاطراد فذاك رهن بالحالة الجوّية. وهذا باد في صورتين. الأولى - وهي أوضحهما_أنه إذا كان الحر شديداً فإنه يسلب رغبة الناس في العمل ويقلل كفاءتهم له على حين لو يرزقون جوّاً سجسجاً وهواءً معتدلاً لأبدوا رغبة وكفاءة. الثانية - وهي أقلهما وضوحاً وإن لم تكن أقلهما أهمية_هي أن تأثير الجو ليس قاصراً على تنشيط العامل أو تثبيطه بل يؤثر كذلك من حيث إكسابه العامل أو حرمانه إياه فضيلة الثبات والمواظبة. وهذا هو السبب في أنك لا تجد من أمم الشمال من أوتي من المضاء والمثابرة والجدّ ما قد امتاز به سكان البقاع المعتدلة. وسبب ذلك بين إذا تذكرنا أن قسوة البرد ونقصان الضوء في أقاصي البلدان الشمالية مما لا يزال يعوق أهل تلك الجهات عن المضاء في أعمالهم والاستمرار في أشغالهم. نتيجة ذلك أنه لما كان هذان العائقان يضطران العامل إلى الانقطاع عن عمله فلا جرم أن يصبح هذا الانقطاع لكثرة التكرار عادة ثم يصبح بحكم العادة طبيعة. ولا جرم فلقد انقطع نظام أعمالهم وانبت سلك أشغالهم ففقدوا ذلك المضاء الذي هو من مضمون ثمرات الشغل الدائم والعمل المستمر.

ومن ثم ينشأ في الأمة طبيعة قلق وملل يبرئ الله منها أهل العمل المستمر الدائم. وهذا مرض قوي حسبك برهاناً على قوته أنه يظهر في البلدين المتفاوتي الأحوال المتناقضي الطبائع. فإنه ليس أعظم من الفرق بين السويد والنرويج من وجهة وبين اسبانيا والبرتغال من وجهة أخرى حكومة وشريعة وديناً وآداباً. ولكن هذه الأربع متحدة تمام الاتحاد في نقطة واحدة. وذلك أن الزراعة فيها جميعاً متقطعة غير متصلة. فالحرّ والجفاف في اسبانيا والبرتغال والبرد وقصر الأيام في السويد والنرويج تعوق العمل وتوقف سير الشغل. فمن ثم تري أن أهل هذه البلاد الأربعة على اختلافها في كثير من الأحوال والشؤون قد اتحدت في هذا الخلق أعني نوعاً من الملل والقلق وقلة الثبات والخور مما هو جِدُّ منافٍ لما لأهل البلاد الخالية من عوائق العمل من صفات الحزم والعزم والمضاء والمواظبة.

ونحن إذا أجلنا الطرف في تاريخ الأمم القديمة لم نجد أمة أحرزت بنفسها حضارة وتمديناً إلا وكان ذلك بفضل هذين السببين (الهواء والتربة) أو أحدهما. فالمدنية في أسيا ما زالت قاصرة على تلك البقعة العظيمة التي ضمن خصبها لأبن أدم هذه الثروة التي لولاها لا تسرع الأمة قط في سبيل العلم وهذه البقعة العظيمة تمتد ما بين ساحل الصين الجنوبية شرقاً وساحل الأناضول وفلسطين غرباً. وفي شمال هذه المنطقة الفسيحة أرض مستطيلة جرداء مملحة لم تبرح موطن قوم همج رحالة ما زالوا من جدب أرضيهم في فقر وفاقة وقد رأيناهم لا تفارقهم الهمجية ما برحوا بهذه البقعة. فأوضح الأدلة على أنه لا علة لهذه الهمجية إلا الأسباب الطبيعية أن هؤلاء القوم بعينهم وهم أمم المغول والتتر - أسسوا في أوقات مختلفة دولاً عظيمة في الصين والهند وفارس بلغوا بها منزلة في الحضارة لا تقصر عن أسمى ما أدركته أفخم الدول القديمة. لأن بلاد الهند أرض حباها الله بكل ما يقر الأعين وتشتهيه الأنفس فجر أرضها عيوناً وسربلها حدائق وجنات وملأ تربها زاداً وقوتاً، وزبرجداً وياقوتاً، وشحن أنهارها سمكاً وحيتاناً، وبحارها دراً ومرجاناً، وأسكن آجامها ضروب الحيوان ذات الفراء الملس المرقوشة. وصنوف الطير ذات الأجنحة الموشية المنقوشة. في هذه الأرض الطيبة الكريمة كان أول ما نال أولئك الهمج شيئاً من الرقي والحضارة وأول ما أحدثوا علوماً وآداباً وطنية. وهي أمور لم يطيقوا إدراكها في أوطانهم ومساقط رؤوسهم وكذلك إذا نظرت إلى العرب ترى أنهم لم يكونوا في أوطانهم إلا قوماً أجلافاً جفاة همجاً لشدة أمحال أرضهم، وقد قلنا أن الجهل ثمرة الأمحال والفقر. ولكنهم فتحوا فارس في القرن السابع. وفي الثامن فتحوا أكرم بقاع اسبانيا. وفتحوا في التاسع أرض السند ثم أوغلوا في بلاد الهند حتى استولوا على معظمها ثم لم تكد العرب تطمئن في ولاياتها الجديدة حتى حدث تغير عظيم في أخلاقهم فبعد أن لم يكونوا إلا همجاً جوالة في أوطانهم أمكنهم لأول مرة أن يجمعوا ثروة وبالثروة استطاعوا لأول مرة أن يخطوا خطوة في سبيل المدنية ويضربوا بسهم في جميع فنون الرقي والحضارة وهم في بحيث جزيرة العرب لم يكونوا إلا رعاة رحالة فأصبحوا في مساكنهم الجديدة بناة دول عظام، شادوا المدائن والمدارس وجمعوا المكاتب ولا تزال آثار سلطانهم باقية وآيات عزهم بادية بالبلاد التي كانت حواضر أملاكهم وقواعد ممالكهم قرطبة وغرناطة وبغداد ودلهي ومثل تلك الأراضي الجديدة المستطيلة الممتدة - في شمال الأراضي الخصبة_من شرقي آسيا إلى غربها. أرض أخرى تماثلها جدباً وامحالاً ومنطقة تمتد من شرق شمال إفريقيا إلى أقصى غربها عند ساحل الأطلانطيقي_ويفصلها عن بلاد العرب مضيق مياه البحر الأحمر. فلأن هذه الأرض مثل بلاد العرب جدباً ومحلاً فأهلها كأهل بلاد العرب ما زالوا بربراً همجاً لا علم عندهم لغير سبب سوى أنه لا ثراء عندهم. بيد أن في شرق هذه الصحراء يتدفق نهر من أكرم أنهار الدنيا. قد كسا تلك البقعة طبقة كثيفة من الثرى الجعد تجزي على العمل فيها أكرم الجزاء. وتعطي على الكد بها أجزل العطاء. فكانت نتيجة ذلك أن جمعت الثروة لأهل هذا البلد وجاء على أثر ذلك العلم وأصبحت هذه البقعة الصغيرة مقر المدنية المصرية القديمة. وهذه مدنية كانت على كثرة ما قيل فيها باطلاً من المبالغات تدهش المتأمل بشدة مناقضتها لما كان يشمل الأمم الإفريقية الأخرى من البربرية والتوحش مما قد غمرها غمراً وسد دونها كل منفذ من ظلمات الجهل إلى نور العرفان وأخذ عليها كل مخرج من بيئة الانحطاط إلى ميدان الرقي.

فمن هذه الأمثلة نرى أن من السببين الأوليين في الرقي أعني خصوبة التربة واعتدال الجو كانت خصوبة التربة هي العامل الأكبر في مدنية الشعوب القديمة. بينما ترى أن العامل الأكبر في المدنية الحديثة أعني المدنية الأوربية هو السبب الآخر أي اعتدال الجو. وتأثير هذا هو كما ذكرنا تأثير في كيان العامل وتركيب جسده وعقله بمنحه الكفاءة التامة للعمل مشفوعة بفضائل المثابرة والنشاط والجد. فجاء الفرق بين الحضارتين القديمة والحديثة مطابق للفرق بين سببيهما أعني بين خصوبة التربة واعتدال الجو. فإنه وإن كان أول أسباب كل مدنية هو اجتماع الثروة فإن كل ما يقع بعد ذلك للأمة مترتب من عدة وجوه على الطريق التي جاءت الثروة منها. ففي آسيا وإفريقيا جاءت الثروة من طريق تربة خصيبة تدر على العامل بالكثير الطيب من الخيرات. وجاءت الثروة في أوربا من طريق جو معدل يزيد كفاءة العامل فيمكنه من أن يبلغ من إجادة العمل وإتقانه غاية ينكل عنها ويحسر دونها من أوتي نعمة الخصب ولكن حرم نعمة الجو المعتدل. في الحالة الأولى ترى الأمر متوقفاً على علاقة التربة بالريع أو بعبارة على تأثير بعض أجزاء الطبيعة في بعض آخر. والأمر في الحالة الثانية متوقف على علاقة الجو بالعامل أعني على تأثير الطبيعة لا في نفسها بل في الإنسان. ولما كانت أولى هاتين العلاقتين أعني علاقة التربة بالريع أعني تأثير بعض أجزاء الطبيعة في بعض هي أبسط العلاقتين كانت لذلك أقلهما تعرضاً للعائقات والموانع وعلى هذا كانت أول الأمرين ظهوراً في الدنيا. ومن ثم كان لأخصب البقاع الآسيوية والإفريقية السبق والتقدم في ميدان التمدين والحضارة. ولكن مدنيتهم وإن كانت الأسبق الأقدم. فإنها للبعيدة من أن تكون الأفضل الأدوم. فإن الرقي الثابت ذا الأثر الدائم الفعال لا يكون بخصوبة الأرض بل بهمة الإنسان وجده ونشاطه. لذلك ترى أن المدنية الأوربية التي كان أكبر عواملها في طورها الأول جودة الهواء قد بلغت مبلغاً لم تسم إليه همم تلك المدنيات التي كان الخصب أكبر عواملها. وما ذلك إلا لأن القوى الطبيعية هي على ما يرى لها من العظمة محدودة ثابتة وعلى كل حال فليس عندنا أدنى دليل على أن تلك القوى قد زادت قط عن أصولها أو أنها ستزيد يوماً ما. بينا نجد القوى الإنسانية بناءً على المشاهدات والتجارب والمقارنات لا حد لها ولا غاية. ثم لا دليل يثبت لنا أنه سيكون لرقي العقل الآدمي غاية ينتهي إليها ويقف عندها. وبما أن ملكة النمو الذاتي هي مما خص به الآدمي وامتاز به عما نسميه الطبيعة فقد وضح لنا أن العامل الجوي ذلك الذي يؤتيه الثروة من طريق تنشيطه للكد وإنهاضه للجد هو أنفع له في مسيره نحو الكمال واعون له على بلوغ عليا الدرج والمراتب من العامل الأرضي ذلك الذي يمنحه الثروة لا من طريق استنهاضه وإرهاف حده ولكن بمجرد علاقة جمادية بين طبيعة الأرض التي يسكنها ومقدار أو قيمة ما تنتجه عفواً بلا عمل منه ولا نصب.

والآن ننتقل إلى مسألة أخرى ليست أقل أهمية مما سلف وهو توزيع الثروة بعد جمعها أو بعبارة أخرى ماذا يكون نصيب الطبقة العليا من الثروة وماذا يكون حظ الطبقة الدنيا. أما في الشعوب التي بلغت في الحضارة مبلغاً فذلك يترتب على عدة أمور دقيقة عويصة لا محل لها في هذه الصحائف وأما في الطور الأول من حضارة الأمة قبل أن تنشأ فيها المعضلات والمشكلات فتوزيع الثروة كجمعها يكون طبقاً لقوانين طبيعية. ثم هذه القوانين الطبيعية من القوة والسلطان بحيث قد قضت بالفقر المدقع وقيدت بسلاسل الفاقة السواد الأعظم من سكان أطيب بقاع الأرض فإذا أمكنا إثبات ذلك ظهر لنا مبلغ ما لهذه القوانين الطبيعية من الحضارة. لأنه ما دام قد ثبت لنا أن الثروة منبع من منابع السلطة فإن البحث في كيفية توزيع الثروة هو بمعنى البحث في كيفية توزيع السلطة فلا جرم أن يكون في ذلك البحث شرح وإيضاح لمنشأ تلك الفروق الاجتماعية والسياسية التي ما زال لها دخل عظيم في تاريخ كل أمة ذات مدنية. ولنذكر الآن ما هي تلك القوانين الطبيعية التي بناء عليها يكون توزيع الثروة بين الطبقتين العليا والدنيا أو طبقة العمال وطبقة المدبرين والساسة - الفئة العديدة والفئة القادرة.

بما أن الأجور هي أثمان العمل فمقدارها كثمن أي بضاعة يختلف باختلاف أحوال السوق. فإذا زاد عدد العمال عن الحاجة هبطت الأجور وإذا قلّ عدد العمال عن الحاجة ارتفعت الأجور. فإذا كان في بلد من مبلغ من الثروة ليقسم بين العمال وأرباب الأعمال فإن كل زيادة تنشأ في عدد العمال تقلل متوسط الأجر الذي يناله كل واحد منهم. فمسألة الأجور إذن هي مسألة تتعلق بعدد السكان. ونحن الآن نريد أن نعرف ما هي تلك الأسباب الطبيعية التي تحدث زيادة في سكان البلد فتسبب بذلك نقصان الأجور.

فأهم هذه الأسباب وأفعلها وأقواها وأكثرها انتشاراً هو أمر الغذاء. فإذا كان هناك بلدان متحدان في كل شيء إلا الغذاء - فالذي يكون الغذاء فيه رخيصاً وافراً يكون أملأ بازدياد السكان من الذي ترى الغذاء فيه أقل وأغلى. وبناء على ذلك ترى الأجور في البلد الأول أنقص منها في الثاني. فليس أمامنا الآن أهم من البحث في أمر القوانين الطبيعية لتي عليها تترتب الأغذية في البلاد المختلفة. وهذا لحسن الحظ مبحث قد أصبح بفضل ما وصلت إليه الكيمياء والفسيولوجيا في هذا العصر جديراً أن يوصلنا إلى أصدق النتائج وأحكمها.

الغذاء الذي يستهلكه الإنسان هو ذو أثرين - أثرين فقط_لازمين لحياته. وهما الغذاء يعطيه أولاً تلك الحرارة الحيوانية التي لولاها تعطلت وظائف الحياة ويعطيه خلاف ذلك بدل الذي لا يزال يفقده من مادة جسده. ولكل غرض من هذين غذاء مخصوص. فأما حرارة الأبدان فتصان بالمواد الخالية من الأزوت تلك التي تسمى اللاأزوتية وأما تعويض خسارة الأبدان فبالمواد الأزوتية التي نتغذاها يتحد مع ما نستنشقه من الأكسوجين فيتولد من اتحادهما ذلك الاحتراق الداخلي الذي تتجدد بواسطته االحرارة الحيوانية. أما في الحالة الثانية فإن قلة الألفة بين الأزوت والأكسوجين تحفظ الأغذية الأزوتية من الاحتراق فتتمكن بذلك من أن تعوّض البدن من مستهلكاته خيراً.

هذان هما صنفا الغذاء الأعظمان. فإذا بحثنا عن تلك العوامل التي تدبر العلاقة الكائنة بين هذين الغذائين وبين الإنسان وجدنا أن أعظم تلك العوامل هو الجو. فإن الإنسان إذا كان عائشاً ببلد حار فحفظ الحرارة في بدنه يكون أسهل عليه مما لو كان يسكن بقعة باردة فتقل إذن حاجته إلى الأغذية اللأزوتية التي ليس من شأنها إلا أنها تبقي حرارة البدن عند درجة مخصوصة وكذلك تراه أعني ساكن الأرض الحارة أقل حاجة إلى الأغذية الأزوتية لأنه مذ كان على العموم أقل تحريكاً لجسده من ساكن البقاع الباردة فهو أبطأ استهلاكاً لمادة جسده.

وبما أن سكان البلاد الحارة يستهلكون في حالهم العادية الطبيعية من الغذاء أقل مما يستهلكه سكان البلاد الباردة فينتج من ذلك أنه إذا تساوت في البلادين - الحارة والباردة_سائر الأحوال غير ذلك فإن زيادة السكان تكون في البلاد الحارة أسرع منها في الباردة. وأنه لا فرق بين أن تكون وفرة الغذاء في بلد ما ناشئة من كثرة الحاصلات وبين أن تكون ناشئة من قلة الاستهلاك. فإنه إذا كانت أمة من الأمم أقل استهلاكاً للغذاء فذلك ككونها أوفر نصيباً من ذلك الغذاء. لأن القليل في هذه الظروف يفعل فعل الكثير. وكذلك المقدار الغذائي بعينه يحدث من سرعة ازدياد السكان في الأرض الحارة ما ليس يحدثه في البقعة الباردة.

ومما يؤيد هذا القول الأخير أن الغذاء في البلاد الباردة أصعب منالاً منه في البلاد الحارة يبذل في سبيل الحصول عليه من الكد والعمل أكثر مما يبذل في البقاع الحارة وسأوجز القول في بيان ذلك الأمر متجنباً الجزيئات والتفاصيل إلا ما كان ضرورياً لفهم هذا المبحث اللاذ.

وقد قلنا أن للغذاء غرضين توليد الحرارة الحيوانية في الجسد والإعاضة بدل المستهلك من مادته. فالأول يحدث بدخول أكسوجين الهواء في الرئتين واتحاده أثناء مروره في الجهاز الحيوي بالكربون الذي نتعاطاه في أطعمتنا. وهذا الاتحاد بين الكربون وبين الأكسوجين لا بد أن يحدث مقداراً عظيماً من الحرارة وبهذه الواسطة نضمن للجسد الحرارة التي لا يبقى بدونها. واتحاد الكربون والأكسوجين لا يكون إلا على نسبة محدودة وهو قانون كيماوي يسري على سائر الاتحادات بين العناصر. فبناءً على ذلك لا يستقيم أمر البدن إلا إذا كان مقدار ما يؤكل من الغذاء الكربوني مناسباً لما يستنشق من الأكسوجين. ثم واجب أيضاً أن يزداد مقدار ما يتعاطى من المادتين إذا خفضت حرارة الجسم زيادة في برودة الهواء. ولما كان الهواء في الأرض الشديدة البرد جم الكثافة لذلك كان التنفس يدخل في الجوف من الأكسوجين أكثر مما يدخله في البلاد الحارة وكذلك لما كان البرد الشديد يستعجل التنفس فيزيد حركة الاستنشاق سرعة أصبح ذلك سبباً آخر لازدياد مقدار المستنشق من الأكسوجين في البلاد الباردة عنه في الحارة. ولذلك كان من الضروري في البلاد الباردة أن يكثر الغذاء الكربوني حتى تحفظ بين الأكسوجين والكربون النسبة التي ليس إلا عليها يتحدان ليحدثا تلك الحرارة الضرورية للحياة.

من هذه المبادئ الكيماوية والفسيولوجية نستنتج أن أكثر ما يكون البلد برودة أكثر ما يكون غذاؤه كربونية. وهذه النتيجة العلمية هي عين ما أثبتته التجارب العملية - أعني أنها عين الواقع وهي حكمة آلهية. عليها مدار إصلاح الكون. فترى أن أهل البقاع القطبية يستهلكون مقداراً عظيماً من زيت الحوت ودهنه. وهو غذاء إن يعطه أهل البقاع الحارة هلكوا لا محالة لذلك جعل الله لأهل البقاع الحارة الفاكهة والأرز والبقول والخضر. ولقد ثبت على الفحص الكيماوي أن في الأغذية القطبية وفرة من الكربون وفي أغذية البلاد الحارة وفرة من الأكسوجين وحسبي من التفاصيل التي أخشى أن لا تسر القارئ قولي جملة أن في الزيوت (الأغذية الكربونية) من الكربون ستة أمثال ما في الفواكه (الأغذية الأكسوجية) فأما الأكسوجين فيها فقليل جداً. بينا ترى النشا - وهو في عالم النبات أغذى وأعم غذاء_نصفه أكسوجين.

والغذاء الكثير الكربونية أغلى ثمناً وأصعب منالاً من الغذاء القليل الكربونية الكثير الأكسوجية. فإنك ترى فواكه الأرض - وهي التي أكبر عناصرها الأكسوجين_وفيرة جداً تنال بلا ملاقاة أخطار ويوشك أن تنال بلا تعب. ولكن الغذاء الكثير الكربونية الذي تتوقف عليه الحياة في البلاد الشديدة البرد لا ينال بتلك السهولة والراحة. فهو لا يخرج من الأرض عفواً كالفواكه. ولكنه يستخرج من جثث أبطش الحيوانات زيتاً ودهناً وشحماً وليس يحصل عليه إلا بملاقاة الأخطار ومكابدة الأهوال وكلال البدن كدا وتحلب الجبين عرقاً. ومن الواضح البين أن أبرد ما يكون البلد أكثر ما يكون الغذاء كربونية وأحر ما يكون البلد أكثر ما يكون الغذاء أكسوجية. وقد قلنا أيضاً أن الغذاء الكربوني لما كان مصدره من عالم الحيوان فهو لذلك أصعب منالاً من الغذاء الأكسويدي المأخوذ من عالم النبات لذلك ترى أن أهل البقاع الباردة الذين تضطرهم البرودة إلى انتزاع أطعنتهم من أيدي الحيوانات المفترسة الضارية. ومن بين أنياب الوحوش الفتاكة العاتية. وما زالوا أجرأ وأشجع من أكلة الأغذية الأكسيدية التي تحبوهم بها الطبيعة عفواً بلا تعب. ومن هذا الفرق الأصلي تنشأ نتائج أخرى لا موضع هنا لذكرها. ونما غرضي الآن أن أرى مالاختلاف الغذائين من الأثر في النسبة التي توزع الثروة على حسبها بين الطبقتين العليا والسفلى. المدبرين والعمال. .

ولعل فيما أسلفت من الكلام بيان لكيفية تغير هذه النسبة على أنه يحسن بنا لضمان الوضوح والفهم أن نذكر على وجه الإجمال ملخص هذا الكلام وهو. يتغير مقدار الأجور بتغير عدد السكان. فيزيد عند قلة العمال ويقل عند ازديادهم. ثم عدد السكان يختلف نقصاً وزيادة باختلاف مقدار الغذاء. يزيد بزيادته وينقص بنقصانه. ثم الغذاء اللازم للحياة أقل في البلاد الباردة منه في البلاد الحارة. وليس أمر الغذاء قاصراً هنالك على القلة بل يحتاج منه إلى مقادير عظيمة - أعظم بكثير مما يحتاج في البلاد الحارة. وهما سببان داعيان إلى قلة نماء السكان الذين منهم تتألف طبقة العمال. نتيجة ذلك بعبارة موجزة واضحة أن الأحوال في البلاد الحارة تدعو دائماً إلى انحطاط الأجور وفي البلاد الباردة إلى ارتفاعها.

ونحن إذا طبقنا هذه القاعدة العظمى على تاريخ الأمم لم نلق إلا شاهداً على صحتها. ولم نلق قط شاهداً واحداً على بطلانها. ففي آسيا وإفريقيا وأمريكا كان مركز المدنيات القديمة جميعها في المنطقة الحارة. وكانت الأجور فيها زهيدة جداً ولذلك كانت طبقات العمال في ضنك وفاقة. وفي أوربا كان أول ما ظهرت المدنية في جو أبرد. فلذلك ارتفعت الأجور وقل الفرق العظيم بين نصيب الطبقة العليا من الثروة ونصيب طبقة العمال - وهي مزية لا تدرك في البلاد الحارة حيث وفرة الغذاء مدعاة إلى زيادة السكان. وهذا الفرق_فرق ما بين توزيع الثروة في المدنيات القديمة وتوزيعها في المدنية الحديثة الأوربية قد أحدث كما سنرى عدة نتائج اجتماعية وسياسية عظيمة الأهمية. ولكن قبل التكلم عن هذه النتائج أقول أن في المدنية الأوربية مسألة يحسبها من لا يحقق شذوذاً عن القاعدة حتى إذا أنعم النظر وجدها معززاً للقاعدة ومؤيداً للحجة. إن في أوربا أمة واحدة تملك غذاء مفرط الرخص. وهذه أمة الأيرلنديين وذلك أنه في أوائل القرن السابع عشر أدخلت في أيرلندة زراعة البطاطس وقد مضى على الأيرلنديين أكثر من مائتي عام وأهم أغذيتهم هذا المأكول وخاصته أنه أرخص من كل ما يماثله من الأطعمة جودة وطيباً. فملء فدان منه يكفي من الأكلة ضعف ما يكفي ملء فدان من الحنطة. نتيجة ذلك أنه إذا تساوت سائر الأحوال في بلدين فزيادة السكان في البلد الذي غذاء أهله البطاطس تكون ضعفها في ذلك الذي غذاء أهله الحنطة وهذا هو الواقع فإن عدد السكان في ايرلندة كانت زيادته قبل حدوث الوباء بها والهجرة ثلاثة في المائة كل عام بينما كانت الزيادة في انكلترا واحداً ونصفاً في المائة فنتج من ذلك اختلاف كبير بين البلدين في توزيع الثروة فإنه رغماً من أن زيادة السكان في انكلترا كانت على كل حال أكثر من اللازم وأن الأجور لذلك كانت منحطة لا توازي أتعاب العامل فلقد كان حال العمال في انكلترا أنعم حالاً بالنسبة للحال في أيرلندة. ولسنا ننكر أن مما زاد حال العامل الايرلندي شراً جهل الولاة وتلك الحكومة الفاسدة التي كانت أسود صحيفة في تاريخ انكلترا وأقبح وصمة في رونق مجدها. ولكن أفعل الأسباب كان ولا شك انحطاط الأجور الذي حرمهم مناعم العيش بل كثيراً من ضرورياته. وتلك آفة لم يكن لها سبب سوى رخص الغذاء الذي أسرع في نمو السكان حتى زاد عدد العمال عن الحاجة. ولقد قال أحد الأذكياء وكان قد ساح في ايرلندة منذ عشرين عاماً لقد هبطت الأجور حتى صار متوسطها أربعة بنسات في اليوم (ثلاثة قروش تعريفة) وأشد نكبة من ذلك أن هذا القدر الخسيس لا يضمن استمراره.

وكذلك كانت عاقبة رخص الغذاء في بلد هو على العموم أكثر البلاد الأوربية مصادر ثروة طبيعية. ونحن إذا بحثنا أحوال الأمم الاجتماعية والاقتصادية وجدنا هذه القاعدة سارية في كل بقعة ومكان - وجدنا أنه إذا تساوت بين الأمم سائر الأحوال فازدياد السكان راجع إلى الغذاء ومقدار الأجور راجع إلى ازدياد السكان. ووجدنا أنه إذا انحطت الأجور اتسع البون بين نصيب الطبقة العليا ونصيب الطبقة العاملة من ثروة البلد فاتسع لذلك البون بين نصيبي الطبقتين من السلطة والنفوذ الاجتماعي أو بعبارة أخرى العلاقة بين الطبقتين تترتب في أصلها ومنشئها على تلك الخواص الطبيعية التي حاولت أن بين آثارها وأوضح أفعالها. وبإضافة هذه الأشياء بعضها إلى بعض أرجو أن نهتدي إلى ما هنالك من دقيق الصلة وغامض النسب بين العالم الطبيعي والعالم الأخلاقي وإلى ما تجري عليه هذه الصلة من القواعد. وإلى سبب انحطاط المدنيات القديمة بعد ارتفاعها، وانقراضها بعد مجدها وسلطانها.