لسان غصن لبنان في انتقاد العربية العصرية/الانتقاد
الانتقاد
هذا غَرَض قد نصب لرماة ابناء العرب وكتّاب العربية · يدعى اليه كل من له ذوق في اساليبها وسعة اطلاع ومن له في فنونها طول باع ليبارزوا اترابهم من اربابها .و يقرعوا صفاة من تعرض لدخولها من غير ابوابها·باب رحب وطريق لاحب وميدان فسيح لمن يريد الخوض في معمعة هذا النضال الادبي اللغوي العربي غيرة على العربية وذوق اساليبها وصحة تراكيبها·فضلًا عما ينوَّهُ به عن عادات بعض المتناظرين مما تأباه السجايا الانسانية
واخص ما قصدنا في هذا الباب تقويم القلم العربي بحيث يفهم عباراته العام ولا يمجها ذوق الخاص فان كثيرين من اهل بلادنا لا يفهمون الاساليب الافرنجية لان نشأتهم مشرقية واذواقهم لا تنطبق على الاصطلاحات المغربية حتى لا يدركون ما يتلقون من التراكيب العربية المسبوكة في قوالب افرنجية
ولقد طالما نظر المتاخرون (في عصرنا) في مباحث المتقدمين لكن على سبيل التسلية لا الاستفادة·فكانهم آلة تتحرك بايدي·امليها وهم يتلون الاسفار تلاوة متفكه لا تلاوة مستفيد متبحر
واذ كان الداعي الاكبر من احراز العلوم في بلادنا كسب المال راينا جمًّا غفيرًا يستسهلون الوسائل فيجنون وما هم غارسون
كم راينا من المولفات والاشعار تحت اسم قوم ليس لهم فيها يد الًّا من سبيل المال .ولوحك الذهب الممزوج بالنحاس لما ظهر فيه ثلث القيمة وتارة لا يكون فيه جزء من اربعة وعشرين·هذا دأب كثيرين من مدَّعي العلم والتأليف والترسّل في بلادنا
فهوذا كثيرون من ادعيــاء القلم لا يفقهون ما يكتب اليهم او يخبطون في ما يكتبون لانهم ابرياء من قواعد العربية وطرق اسايبها. داء عضال ليس له علاج الا حرية الانتقاد. ويا حبذا لو امكن التصريح
فالآن قد فتحنا هذا الباب ومهدنا هذا المضمار ليتسابق فيه فرسان الفصاحة والبلاغة من علماء وادباء وشعراء ومترسلين قاصدين بذلك تحقيق المعارف ونشر الفوائد المكتومة في صدور كثيرين من المتبحرين في لغتنا الشريفة. فنثبت كل رسالة فيها فوائد انتقادية خالية من الطعن خلوًا تامًا لان جد المقصد من هذه المباحث الاستفادة والاقادة وترويض الافكار وتثقيف الاقلام. وليبدأ انل النقد بمنشوراتنا فنتلقى انتقادهم بخلوص نية ونثبته عن طيب خاطر ونشكر فضلهم على ما ينبهونا اليه من الهفوات من اي باب كانت علمية او ادبية او اصطلاحية. فاذا وجدنا في انتقادهم صوابًا بحسب ادراكنا صوَّبناه والا دافعنا الدفاع اللائق باهل الذوق والادب غير معرّضين ولا موارين ولا مماحكين
واما كيفية انتقادها فلا نصرّح بها باسم المولف او الكاتب او الشاعر بل نقول راينا في بعض الكتب او الجرائد ما هو مذا وكذا ونورد ما لنا فيه من الملاحظة اذ لا يليق بنا اهل هذا العصر ان نخدع غيرنا بخدع انفسنا اي بان نثبت مدح كتاب او قصيدة او نبذة علمية مع ان السكوت عن ذلك اولا ولا ان نغضّ طرفًا عما يستحق الثناء لان كاتبه ليس في رتبة علية من الثروة والجاه والنفوذ
وكثيرًا ما راينا اطراءً في تقريظ منشورات ليست من الفضل في شيء ومثل ما يقال فيها يقال في المنشورات التي هي اليق بالثناء. وبذلك قد اختلط الغثُّ بالسمين وخدعنا انفسنا بتمثيل الحسن بالقبيح. افلا تسوء اهل الثوق هذه المداهنة افلا يكدر هذا المأنذ انفس الذين يجيدون في ما يكتبون ثم لا يرون المقرظين اظهروا فرقًا بين ما تخط اقلامهم واقلام المتطاولين على النظم والنثر او يظن المقرظون في نهجهم بتقريظهم نهجًا واحدًا مع العلماء والمدعين ان اهل الذوق لا يفندون صنيعهم او لا ينسبونهم الى قلة المعرفة. وماذا يخافون اذا اظهروا بعض الفرق في كلامهم عن كتاب زيد وقصيدة عمرو ومقالة بكر .واي عار يلحق بالكاتب اذا نبه الى هفواته او الشاعر الى قلة بضاعته حتى نتحاشى ان نمسه بما يظن البعض انه اهانة له. اين الاهانة في تنبيه القوم الى صحة الكتابة وامعان النظر في النظم .واين الخجل ممن يتطلب الفوائد اذا صح له من يرشده اليها .لعمري لست اری في ذلك وجهًا للّوم .بل اللوم ان نخدع الانسان في نفسه بان نصوب عمله على سبيل التدليس فيبقى في ضلاله واصحاب النظر يشيرون اليه بالبنان والمسألة على الالسن معاكسة لما في المنشورات. فاننا نرى كثيرين من اصحاب النقد يفندون بالكلام ما قرَّظه غيرهم بالقلم .وقد تجاوز الأمر حدهُ حتى صرت قلما ترى عارفا الا طاعنًا في ما يستحق المدح ومادحًا ما يستوجب النبذ. فكيف لا تنفر القلوب وتشمئز النفوس من هذه المخالفات العصرية الناتجة عن غايات شخصية
غير ان الكاتب الاديب لا يخشى تفنيد الحساد الذين ينقبون عن مثل خرب الابرة ليدخلوا ميدان التثريب بل القذف. فيكفي الكاتب او الشاعر ان يعرف الادباء منزلته من الفن ولو سكتوا عن تقريظه وفنَّده المدَّعون بغير برهان .وعلم اللّٰه اني لست معرضًا في هذا الكلام باحد خاص من الناس لكني رايت اتفاقًا بهذه المشارب .والاليق باهل عصرنا الانصاف كما هو دأب العلماء حقيقة
ولنرجع الى مبحث الكتابة في هذا العصر .اني كنت قد كتبت نبذة في الانشاء في المجلد الرابع من دائرة المعارف فنقلت منها هذه القطعة «فالانشاء اي طريقة تأدية المعاني بالفاظ لائقة بها صفة يكتسبها الانسان من كثرة المطالعة وتكرار المراجعة ومخالطة الناس والوقوف علىكثير من كتب الفنون ورسائل المترسلين وخطب الخطباء ودواوين مشاهير الشعراء. فان كان ذوقه سليما اقتبس من مطالعته الفاظًا ومعاني يتصرف بها تصرفًا حسن الموقع ويسبكها في قوالب جديدة بحيث تكون حسنة القبول مطابقة للذوق. والّا فَمثله مثل من يتعلم من الموسيقى اغاني لا يضرب غيرها واذا كتب فمَثَل كتابته مَثَل ثوب قد جمع اصناف رفع مزوقة لكن لا تناسب بينها في الوضع واللياقة
ومن واجبات المنشئ ان يعرف فنون الادب اي علم العربية لكي يصون كلامه عن الخطإِ في التركيب والبيان باقسامه لكي يحسن تادية المعنى بالفاظ لا تخل بالفصاحة والبلاغة. ويسبكها في قوالب حسنة قويمة (مأنوسة). والعروض واطرافه لكي ياتي بنظم لا يمجه الذوق والمنطق لكي يكتب عبارات حسنة الارتباط متينة الاساس موقعة توقيعًا قياسيًّا ينبو عنها سيف الانتقاد العقلي. وعلم اللغة لكي يضع كل كلمة في محلها الصحيح بحيث تؤدي مع القرينة المعنى المراد منها»
فلمَ يتصدى بعض من حركت اناملهم القلم لكتابة جمل في مواضيع مختلفة فيخبطون خبط عشواء صارفين جهدهم الى زخرف الكلام بالتسجيع والاغراب ظانين ان طنطنة الكلام هي الفصاحة والبلاغة. مطنبين حيث يخل الاطناب وموجزين حيث يكون الايجاز لغزًا .يطيلون شأو عبارتهم حتى تتشوَّش الافكار ويفصلون بعضها عن البعض بحيث تفقد الرابطة بينها كسلسلة قد انتثرت حلقاتها فيوهمون الجاهل انهم اتوا ببلاغة يظنها فوق طاقة ادراكه فيوقع الملامة على نفسه وقصر فهمه لكن لا يغتر بها الاديب لعلمه ان مَثَلها مَثَل طبل تكدّر رجرجته الهواء وهو من الداخل فارغ لا معنى فيه فاذا نظرنا الى ايام الجاهلية واقوالهم نرى فيها كلامًا يستهجنه ابناء هذا الزمان ولكن يستأنس به عصرهم وان ملأوا الدفاتر باوصاف اباعرهم وشياههم وحبائبهم فلا غرو لانه لم يكن عندهم غير هذه المواضيع يقلبون فيها كلامهم كيف شاؤوا وحروب متصلة تشغل افكارهم عن ذكر سواها ووحوش كاسرة تنقاد الى وصفها افكارهم غير اننا نحن في عصر سلس ليّن رائق ذكي قد احاط علما بامور بديعة واحوال مفيدة .فيطلب ما يناسبه من هذا الفن فيسيغه .وينفر مما يخالفطبعه فيمجه . فالسهولة والظرافة والانسجام مع السلاسة والايضاح والايجاز وما اشبه ذلك من محسنات الالفاظ والمعاني هى الان المحور الذي بدور عليه دولاب الانشاء والبضاعة الرائجة في سوق الادباء
وساباشر ان شاء اللّه نشر بعض ملاحظات بشأْن الاساليب التي يتتبعها بعض كتاب بلادنا وما يقع لهم وهم لا يشعرون من الخطإِ في العربية والترجمة من كل وجه راجيًا اسبال ذيل المعذرة عن تجاسري هذا . لاني لشدة تضايقي قلت من جملة قصيدة اذكر حالة الشعر في هذه الايام:
(والصفر هنا النحاس الاصفر) واما من جهة الاعتساف في المنثورات فاقول ما قلت من جملة قصيدة اخرى «ولكن هنا ضاق النطاق على الخصر»