كتاب الرسالة/وجه آخر من الاختلاف
قال الشافعي: قال لي قائل: قد اختُلِفَ في التَّشَهُّدِ، فرَوَى ابن مسعود عن النبي: (أنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنَ القُرَآن)، فقال في مُبْتَدَاهُ ثلاث كلماتٍ: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ)، فَبِأيِّ التشهد أخَذْتَ؟
فقلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارِيِّ أنَّه سمع عمر بن الخطاب يقول على المنبر، وهو يُعَلِّمُ الناس التشهُّدَ، يقول: قولوا: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) 1
قال الشافعي: فكان هذا الذي عَلَّمَنا مَنْ سبَقَنا بالعلم مِنْ فُقهائنا صِغارا، ثم سمعناه بإسنادٍ وسمعنا ما خالَفَه، فلم نسمع إسنادا في التشهد، يخالِفه ولا يُوافقه: أثْبَتَ عِندنا منه، وإنْ كان غيرُه ثابِتًا.
فكان الذي نذهب إليه: أنَّ عمر لا يُعلِّم الناس على المنبر بيْن ظَهْرَانَيْ أصحاب رسول الله، إلا على ما علَّمَهم النبي.
فلَمَّا انتهَى إلينا مِن حديث أصحابنا حديثٌ يُثْبِته عن النبي صِرْنا إليه، وكان أوْلَى بِنا.
قال: وما هو؟
قلت: أخبرنا الثقة، وهو يحي بن حسَّان عن الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس أنَّه قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا القُرَآن، فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلاَمٌ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) 2
قال الشافعي: فقال: فأنَّى تَرَى الروايةَ اختلفَتْ فيه عَن النبي؟ فرَوَى ابن مسعود خِلافَ هذا، ورَوَى أبو موسى خِلاف هذا، وجابِرٌ خلاف هذا، وكلُّها قد يُخالِف بعضُها بعْضا في شيء مِنْ لفْظِه، ثم علَّمَ عمر خلاف هذا كلِّه في بعض لفظه، وكذلك تشهُّدُ عائشة، وكذلك تشهد ابن عمر، ليس فيها شيء إلا في لفظه شيء غيرُ ما في لفْظ صاحبِه، وقد يزيدُ بعضُها الشيءَ على بَعْضٍ.
فقلت له: الأمرُ في هذا بَيِّنٌ.
قال: فأبِنْهُ لي.
قلت: كلٌّ كلامٌ أريدَ به تعْظيمُ الله، فعَلَّمَهُمْ رسولُ الله، فلعلَّه جَعَلَ يعلِّمُه الرجلَ فيحفَظُهُ، والآخرَ فيحفظه، وما أُخذ حفظا فأكثرُ ما يُحْترس فيه منه إحالةُ المعنى، فلم تكن فيه زيادة ولا نقصٌ ولا اختلافُ شيء مِن كلامه يُحِيل المعنى فلا تَسَعُ إحالتُه.
فلعل النبي أجاز لِكل امرئٍ منهم كما حَفِظَ، إذ كان لا معنى فيه يحيل شيئا عن حكمه، ولعل من اختلفت روايته واختلف تشهده إنما توسَّعوا فيه فقالوا على ما حفِظوا، وعلى ما حَضَرَهُم وأُجِيزَ لهم.
قال: أفَتَجِدُ شيئا يدلُّ على إجازة ما وصفْتَ؟
فقلت: نعم.
قال: وما هو؟
قلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارِيِّ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: (سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أعْجَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ 3 فَجِئْتُ بِهِ إلَى النَّبِيِّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: اقْرَأْ، فَقَرَأَ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إنَّ هَذَا القُرَآن أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ. 4
قال: فإذ كان الله لِرَأْفته بخلْقِه أنزل كتابَه على سبْعة أحْرف، معرفةً منه بأنَّ الحفْظَ قدْ يَزِلُّ، لِيُحِلَّ لهم قراءته وإنْ اختلف اللفظُ فيه، ما لم يكن في اختلافهم إحالةُ معنى: كان ما سِوَى كتابِ الله أوْلَى أنْ يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يُحِلْ معْناه.
وكل ما لم يكن فيه حُكْمٌ، فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه.
وقد قال بعضُ التابعين: لَقِيتُ أُناسا مِن أصحاب رسول الله، فاجتمعوا في المعنى واختلفوا عليَّ في اللفظ، فقلْتُ لبعضهم ذلك، فقالَ: لا بأس ما لمْ يُحِيلُِ 5 المعنى.
قال الشافعي: فقال: ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإنِّي لأرْجو أن يكون كلُّ هذا فيه واسِعا، وأن لا يكون الاختلافُ فيه إلاَّ مِن حيْثُ ذكرْتَ، ومثلُ هذا _ كما قلْتَ _ يُمْكِن في صلاة الخوف، فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه رُوِيَ عن النبي أجْزَأَهُ، إذ خالَفَ اللهُ بيْنها وبيْن ما سِواها مِن الصلوات، ولكن كيْف صِرْتَ إلى اختيار حديث ابن عباس عن النبي في التشهد دون غيره؟
قلتُ: لَمَّا رأيته واسعا، وسمعتُه عن ابن عباس صحيحا، كان عندي أجمعَ وأكثرَ لفْظًا مِن غيْرِه، فأخذْتُ به، غيرَ مُعَنِّفٍ لِمَن أخذ بغيره مما ثبت عن رسول الله.
هامش
- ↑ [ مالك: كتاب النداء للصلاة/189]
- ↑ [مسلم: كتاب الصلاة/610؛ الترمذي: كتاب الصلاة/267؛ النسائي: كتاب التطبيق/1161؛ أبو داود: كتاب الصلاة/828]
- ↑ [ لَبَّبْتُهُ: أخذتُ مِن ثيابه، ما يقع على اللُّبة، وهي المَنْحَر. المصباح المنير - الفيومي. ]
- ↑ [ البخاري: كتاب الخصومات/2241؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1354؛ الترمذي: كتاب القراءات/2827؛ النسائي: كتاب الافتتاح/928]
- ↑ [ هكذا هو بالياء على صورة المرفوع ويجوز رفعُه على إهمال (لم) كما هي لغة قومٍ، وكسرُه تخلصا من التقاء الساكنين والياء إشباع لحركة الحاء. ]