انتقل إلى المحتوى

كتاب الرسالة/وجه آخر في الناسخ والمنسوخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​كتاب الرسالة​ المؤلف الشافعي
وجه آخر في الناسخ والمنسوخ



وجه آخر في الناسخ والمنسوخ


قال الله - تبارك وتعالى: { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا(15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا(16) } 1

فكان حدُّ الزانيين بهذه الآية الحبْسَ والأذى، حتى أنزلَ اللهُ على رسوله حَدَّ الزنا، فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } 2

وقال في الإماء: { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } 3، فَنُسِخ الحبس عَن الزُّناة، وثَبَتَ عليهم الحُدُودُ.

ودلَّ قولُ الله في الإماء: { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } 4

على فَرْقِ اللهِ بَيْنَ حدِّ المَماليك والأحْرار في الزِّنا، وعلى أنَّ النصفَ لا يكونُ إلاَّ مِنْ جلْد، لأن الجلْدَ بِعَدَدٍ، ولا يكون مِن رَجْمٍ، لأن الرَّجمَ إتْيانٌ على النِّفْس بلا عدد، لأنه قد يُؤْتىَ عليها بِرَجْمَةٍ واحِدة، وبألفٍ وأكثرَ، فلا نِصْف لمِا لا يُعْلَمُ بعدد، ولا نصف للنفس فيؤتى بالرجم على نِصْف النفس.

واحتمل قولُ الله في سورة النور: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }، أن يكونَ على جميع الزُّناةِ الأحْرار، وعلى بَعْضِهِم دُون بعض، فاسْتَدللنا بسنة رسولِ الله - بِأَبي هو وأُمِّي - على مَنْ أُريدَ باِلمائة جَلدةٍ.

أخبرنا عبد الوهاب عن يونس بن عُبَيْدٍ عن الحسن عن عُبادَة بن الصَّامِت أنَّ رسولَ الله قال: (خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا: البِكْرُ بِاْلبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) 5

قال: فدلَّ قولُ رسولِ الله: (قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا)، على أنَّ هذا أولُ ما حُدَّ به الزُّناةُ، لأنَّ اللهَ يقول: { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلً } 6

ثم رَجَمَ رسولُ الله ماعِزا ولم يَجْلِده، وامْرَأة الأسْلَمي ولم يجْلدها، فدلتْ سنة سول الله على أن الجلد منسوخ عن الزانيين الثيبين.

قال: ولم يكن بين الأحرار في الزنا فَرْق إلا بالإحصان بالنكاح وخلافِ الإحصان به.

وإذ كان قولُ النبي: (قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ)، ففي هذا دِلالة على أنَّه أوَّل ما نُسِخَ الحبْسُ عَن الزانيين، وحُدَّا بعد الحبس، وأنَّ كلَّ حَدٍّ حَدَّهُ الزانيين فلا يكون إلا بعد هذا، إذْ كان هذا أوَّلَ حَدِّ الزانيين.

أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عُبَيْد الله بن عبد الله عن أبي هُرَيْرَةَ وزيد بن خالد أنهما أخْبَرَاهُ: (أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللهِ! اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ؟وَقَالَ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا -: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَائْذِنْ لِي فِي أنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: تَكَلَّمْ، قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا 7 عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأُخْبِرْتُ أنَّ عَلَى اِبْنِي الرَّجْمُ، 8 فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وإنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، أمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ إِلَيْكَ. وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أَنِيسً 9 الأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا) 10.

أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر: (أَنَّ النَّبِيَّ رَجَمَ يَهُودِيَيْنِ زَنَيَا) 11.

قال: فثبت جلدُ مائة والنفيُ على البِكْرين الزانيين، والرجمُ على الثيبين الزانيين.

وإنْ كانَا ممن أُرِيدا بالجلد فقد نُسِخ عنهما الجلد مع الرجم، وإنْ لم يكونا أريدا بالجلد وأريد به البِكْران: فهُما مخالفان لِلثَّيِّبَيْنِ.

ورَجْمُ الثيبين بَعْد آية الجلد، بما رَوَى رسولُ الله عن الله، وهذا أشْبَهُ مَعانِيه وأوْلاَها به عندنا، واللهُ أعْلَمُ.


هامش

  1. [النساء: 15، 16]
  2. [النور: 2]
  3. [النساء: 25]
  4. [النساء: 25]
  5. [ مسلم: كتاب الحدود/1690؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2540؛ أحمد: مسند المكثرين/15345؛ مسند الشافعي: 252]
  6. [النساء: 15]
  7. [ العسيف: الأجير]
  8. [هكذا ضُبطت بالرفع ولها وجهٌ فيكون الاسم ضمير الشأن]
  9. [ رسمها هكذا جائز وقدمنا شرحه]
  10. [ البخاري: كتاب الحدود/6337؛ النسائي: كتاب آداب القضاة/5315؛ مالك: كتاب الحدود/1293، قال مالك: العسيف: الأجير]
  11. [البخاري: كتاب الحدود/6330؛ مسلم: كتاب الحدود/3211؛ الترمذي: كتاب الحدود/1356؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2546]
كتاب الرسالة
المقدمة | باب كيف البيان | باب البيان الأول | باب البيان الثاني | باب البيان الثالث | باب البيان الرابع | باب البيان الخامس | باب: بيان ما نزل من الكتاب عاما يُراد به العام | باب: بيان ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام والخصوص | باب: بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص | باب: الصنف الذي يبين سياقه معناه | الصنف الذي يدل لفظه على باطنه، دون ظاهره | باب: ما نزل عاماًّ دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص | بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه | باب: ما أمر الله من طاعة رسوله | باب: ما أبان الله لخلقه من فرائض | ابتداء الناسخ والمنسوخ | الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه | باب: فرض الصلاة الذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه بعذر | الناسخ والمنسوخ الذي تدلُّ عليه السنة والإجماع | باب: الفرائض التي أنزل الله نصاً | الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله معها | الفرض المنصوص الذي دلت السنة على أنه إنما أراد الخاص | جمل الفرائض | في الزكاة | (في الحج) | (في العدد) | في محرمات النساء | في محرمات الطعام | عدة الوفاة | باب العلل في الحديث | وجه آخر من الناسخ والمنسوخ | وجه آخر في الناسخ والمنسوخ | وَجه آخر | وجه آخر من الاختلاف | اختلاف الرواية على وجه غير الذي قبله | وجه آخر مما يعد مختلفا وليس عندنا بمختلف | وجه آخر مما يعد مختلفا | وجه آخر في الاختلاف | في غسل الجمعة | النهي عن معنى دل عليه معنى في حديث غيره | النهي عن معنى أوضح من معنى قبله | النهي عن معنى يشبه الذي قبله في شيء ويفارقه في شيء غيره | باب آخر- وجه آخر يشبه الباب قبله | وجه يشبه المعنى الذي قبله | صفة نهي الله ونهي رسوله | باب العلم | باب خبر الواحد | الحجة في تثبيت خبر الواحد | باب الإجماع | القياس | باب الاجتهاد | باب الاستحسان | باب الاختلاف | أقاويل الصحابة | منزلة الإجماع والقياس