كتاب الرسالة/وجه آخر مما يعد مختلفا وليس عندنا بمختلف
أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن العجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج أن رسول الله قال: (أسفروا بالفجر، فإن ذلك أعظم للأجر، أو: أعظم لأجوركم ) 1
أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (كن النساء من المؤمنات يصلين مع النبي الصبح، ثم ينصرفن وهن متلفعات بمروطهن 2، ما يعرفهن أحد من الغلس 3 4
قال: وذكر تغليس النبي بالفجر سهل بن سعد وزيد بن ثابت وغيرهما من أصحاب رسول الله، شبيه بمعنى عائشة.
قال الشافعي: قال لي قائل: نحن نرى أن نسفر بالفجر اعتمادا على حديث رافع بن خديج ونزعم أن الفضل في ذلك، وأنت ترى أن جائزا لنا إذا اختلف الحديثان أن نأخذ بأحدهما، ونحن نعد هذا مخالفا لحديث عائشة.
قال: فقلت له: إن كان مخالفا لحديث عائشة، فكان الذي يلزمنا وإياك أن نصير إلى حديث عائشة دونه، لأن أصل ما نبني نحن وأنتم عليه: أن الأحاديث إذا اختلفت لم نذهب إلى واحد منها دون غيره إلا بسبب يدل على أن الذي ذهبنا إليه أقوى من الذي تركنا.
قال: وما ذلك السبب؟
قلت: أن يكون أحد الحديثين أشبه بكتاب الله، فإذا أشبه كتاب الله كانت فيه الحجة.
قال: هكذا نقول.
قلنا: فإن لم يكن فيه نص كتاب كان أولاهما بنا الأثبت منهما، وذلك أن يكون من رواه أعرف إسنادا وأشهر بالعلم وأحفظ له، أو يكون روي الحديث الذي ذهبنا إليه من وجهين أو أكثر، والذي تركنا من وجه، فيكون الأكثر أولى بالحفظ من الأقل، أو يكون الذي ذهبنا إليه أشبه بمعنى كتاب الله، أو أشبه بما سواهما من سنن رسول الله، أو أولى بما يعرف أهل العلم، أو أصح في القياس، والذي عليه الأكثر من أصحاب رسول الله.
قال: وهكذا نقول ويقول أهل العلم.
قلت: فحديث عائشة أشبه بكتاب الله، لأن الله يقول: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } 5
فإذا حل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم الصلاة.
وهو أيضا أشهر رجالا بالثقة وأحفظ، ومع حديث عائشة: ثلاثة كلهم يروون عن النبي مثل معنى حديث عائشة: زيد بن ثابت وسهل بن سعد.
وهذا أشبه بسنن النبي من حديث رافع بن خديج.
قال: وأي سنن؟
قلت: قال رسول الله: (أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله) 6
وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئا، والعفو لا يحتمل إلا معنيين: عفو عن تقصير، أو توسعة، والتوسعة تشبه أن يكون الفضل في غيرها، إذ لم يؤمر بترك ذلك الغير الذي وسع في خلافها.
قال: وما تريد بهذا؟
قلت: إذ لم نؤمر بترك الوقت الأول، وكان جائزا أن نصلي فيه وفي غيره قبله، فالفضل في التقديم، والتأخير تقصير موسع.
وقد أبان رسول الله مثل ما قلنا، وسئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة في أول وقتها 7
وهو لا يدع موضع الفضل، ولا يأمر الناس إلا به.
وهو الذي لا يجهله عالم: أن تقديم الصلاة في أول وقتها أولى بالفضل، لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل.
وهذا أشبه بمعنى كتاب الله.
قال: وأين هو من الكتاب؟
قلت: قال الله: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } 8
ومن قدم الصلاة في أول وقتها كان أولى بالمحافظة عليها ممن أخرها عن أول الوقت.
وقد رأينا الناس فيما وجب عليهم وفيما تطوعوا به يؤمرون بتعجيله إذا أمكن، لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل، الذي لا تجهله العقول.
وإن تقديم صلاة الفجر في أول وقتها عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم: مثبت.
فقال: فإن أبا بكر وعمر وعثمان دخلوا في الصلاة مغلسين وخرجوا منها مسفرين، بإطالة القراءة؟
فقلت له: قد أطالوا القراءة وأوجزوها، والوقت في الدخول لا في الخروج من الصلاة وكلهم دخل مغلسا، وخرج رسول الله منها مغلسا.
فخالفت الذي هو أولى بك أن تصير إليه، مما ثبت عن رسول الله، وخالفتهم، فقلت: يدخل الداخل فيها مسفرا ويخرج مسفرا ويوجز القراءة، فخالفتهم في الدخول وما احتججت به من طول القراءة، وفي الأحاديث عن بعضهم أنه خرج منها مغلسا.
قال: فقال: أفتعد خبر رافع يخالف خبر عائشة؟
فقلت له: لا.
فقال: فبأي وجه يوافقه؟
فقلت: إن رسول الله لما حض الناس على تقديم الصلاة، وأخبر بالفضل فيها: احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر، فقال: أسفروا بالفجر، يعني: حتى يتبين الفجر الآخر معترضا.
قال: أفيحتمل معنى غير ذلك؟
قلت: نعم، يحتمل ما قلت، وما بين ما قلنا وقلت، وكل معنى يقع عليه اسم الإسفار.
قال: فما جعل معناكم أولى من معنانا؟
فقلت: بما وصفت من التأويل، وبأن النبي قال: هما فجران، فأما الذي كأنه ذنب السرحان 9 فلا يحل شيئا ولا يحرمه، وأما الفجر المعترض فيحل الصلاة ويحرم الطعام 10، يعني: على من أراد الصيام.
هامش
- ↑ [ الترمذي: كتاب الصلاة/142؛ النسائي: كتاب المواقيت/545؛ أحمد: مسند الشاميين/16641]
- ↑ [ تلفعت المرأة بمرطها: مثل: تلحفت به - وزنا ومعنى؛ والمرط: كساء من صوف أو خز، يؤتزر به، وتتلفع المرأة به. المصباح المنير - الفيومي. ]
- ↑ [ الغلس: ظلام آخر الليل. المصباح]
- ↑ [ البخاري: كتاب الصلاة/359؛ النسائي: كتاب المواقيت/543؛ أحمد: مسند الأنصار/22967]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [ الترمذي: كتاب الصلاة/158]
- ↑ [ أبو داود: كتاب الصلاة/362]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [السرحان: الذئب وقيل: الأسد، ويقال للفجر الكاذب: سرحان - على التشبيه. المصباح المنير - الفيومي]
- ↑ [سنن البيهقي: كتاب الصلاة/باب: الفجر فجران، ج 2/ص 377]