انتقل إلى المحتوى

صفحة:الأنيس المطرب بروض القرطاس (1917).pdf/36

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
٣٥

خرج منه ولم يُدْخِلْ في بنائه من تراب الكهوف والمقاطع التي يبني الناس منها شياء، وكذلك الكدّان الذي بنى به انما قطع منه لانه حفر في وسط البلاط الثاني من القبلة حفيرا؛ يظهر فيه كهف بعيد المراخى لا يظهر قعره، فكان الفعلة يقطعون الكدّان منه، ويحفرون التراب، ويخرجه الرجال على رؤوسهم للبنائن؛ فيبنون به ولم يصرفوا في بنائه ماء حاشى ماء البير الذي في الصحن كلّ ذلك تحريا من الشبهات الاّ يدخله، وتانّق في بنائه غاية، وتحفظ وراء من نظره السديد ان يجعل الابواب كلها مغشيا بالنحاس الاصفر، ويبدلها مما هي عليه ويعمل أمام كل باب قبّة ويزيد في سعته وكماله، ويبدل الصومعة. فشرع في بناء المحراب والقبّة التي عليه منقوشين بالذهب والازورد واصناف الاصبغة، فتم ذلك على غاية الجمال والكمال وكان يبهت الناظر اليه من حسنه ويشغل المصلّى، فلما دخل الموحدون المدينة؛ وذلك يوم الخميس الخامس عشر ربيع الآخر سنة أربعين وخمس مائة، خاف فقهاء المدينة واشياخها أن يستنفذ الموحدون عليهم ذلك النقش والزخرف الذي فوق المحراب لانهم قاموا بالتقشف والناموس، فقيل لهم أن أمير المومنين عبد المومن بن علىّ يدخل غدا المدينة مع أشياخ الموحدين برسم صلاة الجمعة بالقرويين، فخافوا لذلك فاتي الحمامون الجامع تلك الليلة، فنصبوا على ذلك النقش والتذهيب الذى فوق المحراب وحولة بالكاغيد ثم لبسوا عليه بالجس، وغسل عليه بالبياض ودلّك، فنقصت تلك النقوش كلها وصارت بياضا. وصنع المنبر الذي به الآن من الابنوس والصندل والعاج والنارنج والعناب واصناف الخشب العظيم، وكان الذي عمله عليه وانحته؛ الشيخ الاديب أبو يحيى العتاد عمر عمرا طويلا حتى نيف على المائة، وكان إماماً في اللغة والشعر فغشي منها ثلاثة وجاتة؛ العزلة فعزل والمنبر والبناء باب الجنائز وصحنه كل ذلك على أن يتمّ، فولى بعده قضاء المدينة المذكورة؛ الفقيه الحافظ العالم المشاور أبو مروان عبد الملك بن بيضا القيسىّ، فتم ذلك كله على ما بداه أبو محمد عبد الحق بن معيشة حاشى نقشه باقى الابواب بالصفر وابدال الصومعة، فانه لم يزد في ذلك شياء، ووقف فيه حيث انتهى بن معيشة، وكان الفراغ من هذه الزيادة المذكورة وحجرة الجامع وباب الجنائر والمنبر في شهر شعبان المكرم سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة، وأوّل خاطب خطب عليه الشيخ الصالح ابو محمد مهدی بن عيسى، وكان من أقصح الناس وأكثرهم قريحة، كان يخطب كل جمعة خطبة لا تشبه الاخرى، فلما دخل الموحدون المدينة بدلت احوال باحوال ورجال برجال، وبدل الخطباء وأيمة بجميع البلاد، فكان لا يؤم ولا يخطب الا من يحفظ التوحيد.