سر النجاح (1922)/الفصل الخامس
الفصل الخامس
في الفُرص ومعدَّات النجاح
قال الفيلسوف باكون. لا يقدر العقل ولا اليد أنْ يفعلاً كثيراً إذا تُركا وحدهما ولا يتم عمل إلَّا بأدوات ومعونات يحتاج إليها العقل كما تحتاج إليها اليد.
وقيل في اللاتينية. إنَّ الفرصة عجوز شمطاء قد تناثر شعر قَذَالها وتكاثر شعر ناصيتها فإن ابتدرتها من قبل مَسَكتَها وإذا تركتها حتى جاوزتك لم تقدر على مسكها أنت ولا زفس نفسه.
فِعْل الصدفة في الأعمال العظيمة طفيف جدًّا والسبيل الأكيد للنجاح إنما هو الاجتهاد والثبات. وأكثر ما يُنْسَب إلى الصدف أو ما يقال عنه أنهُ رمية من غير رامٍ إنما هو نتيجة مزاولة طويلة. يُحْكَى أنَّ المصوِّر ولسن كان إذا صوَّر صورة يبعد عنها قليلًا ويضع قلماً في رأس عصاً طويلة ويحدق بنظره إلى الصورة ثم يلمسها برأس القلم لمسات قليلة فتزيد جمالًا ورونقاً. ولكن ما كلُّ مَنْ وضع قلماً في رأس عصاً يقدر أنْ يفعل كما فعل ولسن لأن ولسن لم يبلغ هذا المبلغ إلا بعد المزاولة الطويلة فمن حاول ذلك ولم يكن متمرناً كان خطأهُ أكثر من صوابهِ.
والانتباه الشديد والاجتهاد الدائم صفتان لازمتان للعامل الحقيقي. والرجال العظام لا يغفلون عن أمرٍ مهما كان صغيراً ولا يملون من التعب والمزاولة. حُكِي أنَّ الشهير ميخائيل أنجلو كان مرة يبيِّن لأحد أصدقائهِ ما فعلهُ في تمثال كان أمامهُ بعد زيارة ذلك الصديق لهُ فقال إنني قد رفعتُ هذا الجزء وخفضتُ ذاك ودققت هذا وغلَّظْتُ ذاك. فقال صديقهُ ولكن ذلك أمر طفيف جدًّا. فقال لعلك مصيب في ما قلت ولكن اعلمْ أنَّ الكمال مجموع أمور طفيفة. ويُرْوَى أنَّ المصور نقولا بوسن جعل دستوراً لأعمالهِ أن كل ما يستحق أن يُعْمَل يجب أنْ يُعْمَل جيداً. وقيل إنهُ بعد أنْ تقدَّم في السن سألهُ ده مرڤيل بم حصَّلتَ هذا الاسم العظيم بين مصوري إيطاليا فأجابهُ على الفور بعدم إهمالي شيئاً
ومن الاكتشافات ما ينسب إلى الصدفة ولكننا إذا أمعنا النظر وجدنا أنهُ قلَّما يوجد فيها ما يستحق أنْ يُنسَب إلى الصدفة. ويمكننا أنْ نقول إنَّ ما يُدعَى صدفة ليس إلا فرصة مناسبة انتهزها أولو الدراية. ومن هذه الاكتشافات التي يتسبها البعض إلى الصدفة سقوط التفاحة أمام نيوتن. ولكن ألا يعلم هؤلاء أنَّ عقل نيوتن كان مشتغلًا منذ سنين عديدة في البحث عن سبب الثقل وكان سقوط التفاحة وسيلةً لتوجيهِ أفكارهِ إلى حقيقة هذا الموضوع. ومن ظن أنَّ فقاقيع الصابون تقود الفيلسوف يَنع لاكتشافه المتعلق بانحلال النور. والمتعارف أنَّ الرجال العظام لا يلتفتون إلَّا إلى الأمور العظيمة ولكن ذلك ليس بسديد لأن نيوتن وينغ كانا يلتفتان إلى الأمور الصغيرة كما يلتفتان إلى الكبيرة وهما من أعظم رجال الدنيا
إنَّ من أكبر علل التفضيل بين الناس عدم تساويهم في الانتباه. قال المثل المسكوبي «إنَّ عديم الانتباه يطوف الغابات ولا يرى فيها خشباً يصلح للوقود» وقال الجامعة: «الحكيم عيناهُ في رأسهِ أما الجاهل فيسلك في الظلام» وقال السر جونسن لظريف عند رجوعهِ من إيطاليا «قد يستفيد البعض من مرسح همستد أكثر مما يستفيد غيرهم من السياحة في كلِّ أوربا» وحيث لا يرى الجهال شيئاً يرى العقلاءُ أموراً كثيرة ويخترق نظرهم ما أمامهم من الحوادث فيرون ما بينها من المشابهة والمخالفة ويقيسونٍ بعضها على بعض ويعرفون أسبابها. مثال ذلك إنَّ كثيرين رأوا جسماً معلقاً بحبل يتحرك إلى الأمام والوراءِ ولكن ما منهم من استنتج من ذلك شيئاً سوى غليليو فإنه رأى يوماً قنديلًا يتحرك في قبة كنيسة بيزا فانتبه لهُ مع أنهُ كان فتًى في الثامنة عشرة ومازال يُعمِل فيهِ فكرتهُ مدة خمسين سنة حتى اسْتَتبَّ له أنْ يستخدم حركتهُ لقياس الوقت. وما من أحد من رجال العلم ينكر أهمية هذا الاكتشاف أو يقيس بهِ اكتشافاً آخر. وسمع غليليو مرة أنَّ إنساناً هولنديًّا اسمه ليبرشي صانع عوينات أهدى للكونت موريس آلة إذا نظر بها إلى الأشباح البعيدة بانت قريبة فاشتغل بهذا الموضوع وما زال يعمل فكرتهُ فيهِ صنع التلسكوب الذي هو أساس علم الهيئة الحديث. فلا يمكن لأحد أنْ يكتشف اكتشافات مثل هذه ما لم يكن شديد الانتباه.
قيل إنَّ السر صموئيل برَون كان يتأمل كثيراً في إقامة قنطرة لنهر تويد تكون متينة وقليلة النفقة فحدث أنهُ شاهد عنكبوتاً مادَّةً خيطها من شجرة إلى أخرى وكانت تسير عليهِ كما تسير على جسر فخطر على بالهِ أنهُ يمكن أنْ تُصطنع حبال أو سلاسل من حديد وتعلق من جانب إلى آخر فيكون منها جسر متين رخيص فاصطنع الجسر (الكبري) المسمى بالجسر المعلق على هذا المبدأ. وقد تعلم السر إيسمبرد برونل طريقة عمل النفق المشهور تحت نهر التمس من الأرَضة التي تنقر الخشب بمشفريها وتدهن الأزج الذي تنقره بمادة لزجة القوام فمثَّل هذا العمل تماماً واحتفر ذلك النفق العجيب
والرجل اليقظ يستفيد من الحوادث التي يراها مهما كانت طفيفة ألا ترى أنْ كولمبس مكتشف أميركا سكَّت شغب بحارتهِ وأقنعهم أنهم مصيبون برًّا إذ رأى شيئاً من العشب طافياً على وجهِ الماء. وما من أمر إلا ولهُ شيءٌ من المنفعة مهما كان طفيفاً. فعلى بال من خطر أنَّ أكثر الجبال والصخور الكلسية بَنَتها حيواناتٌ صغيرة لا تُرَى إلَّا بواسطة الميكرسكوب. فليس بعجيب إذا تولدت الكبائر من الصغائر ونتجت النتائج العظيمة من المبادئ الطفيفة بل إنَّ سرَّ تقدم العلوم والفنون والصنائع والحرف هو ملاحظة الأمور الدقيقة الطفيفة. وما العلوم إلا مجموع ملاحظات الأجيال السالفة والحاضرة واختباراتها وقد جمعت حتى صار منها بناءٌ فحم كالأهرام مع أنَّ كثيراً منها بانَ في أول الأمر طفيفاً لا طائل تحتهُ وربما بقي زماناً طويلًا من غير أنْ تنتج منهُ فائدة. ألا ترى أنَّ علم القطوع المخروطية الذي وضعهُ أبولونيوس برجيوس بقي أكثر من عشرين قرناً قبل أنْ استُخدم لشيءِ أما استخدامهُ فكان في علم الفلك الذي لا ينكر أحدٌ فائدتهُ في أمور كثيرة ولاسيما في سلك البحار. ولو لم يشتغل الرياضيون قروناً عديدة ليعرفوا نسبة الخطوط والسطوح بعضها إلى بعض ما تمت كلُّ الاختراعات الميكانيكية التي نراها في هذا العصر.
قيل إنه لما اكتشف فرنكلين وحدة البرق والكهربائية قال لهُ البعض ازدراءً ما منفعة هذا الاكتشاف فأجاب إنهُ سيشب كما يشب الطفل فتُرَى منفعتهُ. وعلى بال مَنْ خطر أنَّ اكتشاف كلفني لحركة عضلات الضفدع إذا اتصل بها معدنان مختلفا النوع تنتج منهُ نتائج عظيمة مثل التلغراف الذي ربط العالم بعضهُ ببعض كما تربط الأعصاب أعضاء الجسد. أو أن نقْبَ قطع صغار من الحجارة والأحافير يولِّد علمين جليلين وهما علم الجيولوجيا وعلم المعادن وفوائد هذين العلمين أشهر من أنْ تذكر ولا سيما علم المعادن. والآلات العظيمة التي تدير المعامل وتسيِّر المراكب وتخترق الجبال وتعمل كلَّ عمل صغيراً كان أو كبيراً يتوقف فعلها على نقط صغيرة من الماء تمددت بالحرارة حتى صارت بخاراً. وهي على صغرها إذا حُصِرَت في آلة فعلت بقوة تزيد على قوة ربوات من الخيل وهذه القوة نفسها تفعل في جوف الأرض فتسبب براكينها وزلازلها.
قيل إنَّ مركيز وستر انتبه إلى موضوع البخار لمَّا كان مسجوناً في برج لندن من ملاحظتهِ ارتفاع غطاءِ إناءٍ فيهِ ماءً غال وبحث في هذا الموضوع طويلًا ودوَّن كلَّ ما لاحظهُ في كتابهِ المسمى استخدام الاختراعات ثم قام سڤري ونيوكمن وغيرهما وحاولوا في استخدام ملاحظات وستر فاصطنعوا الآلة البخارية وأوصلوها إلى الدرجة التي رآها فيها وط لما استُدعي لإصلاح آلة نيوكمن الخاصة بمدرسة غلاسكو الجامعة كما تقدم. أما وط فلم يدع هذه الفرصة تذهب سُدًى بل انتهزها فجعلتهُ يقضي عمرهُ في إصلاح الآلة البخارية
وانتهاز الفرص ومراقبة الحوادث العرضية وتحويلها إلى مقصد من المقاصد سرٌّ عظيم من أسرار النجاح. ومن قصد النجاح في أمر لا بدَّ من أنْ يجد فرصاً تُيسِّر لهُ ذلك الأمر وإن لم يجدها اوجدها لنفسهِ. وليس النجاح متوقفاً على الدرس في المدارس الكبيرة والانتظام في المجامع العلمية لأن أكثر العلماء والمخترعين لم يكن لهم شيءٌ من الوسائل العلمية بل إنهم أفلحوا بواسطة المصاعب. وأفضل الصنَّاع لم يكن لهُ أدوات تصلح للعمل بها ولكن ليس الصانع بأدواتهِ بل بحذقهِ ومواظبتهِ
قيل سأل بعضهم أوبي المصوِّر بِمَ تمزج الألوان حتى تصير بديعة بهذا المقدار فأجابهُ على الفور إني أمزجها بدماغي. وهذا شأن كلِّ صانع ماهر. ألا ترى أنَّ فرغوسن صنع ساعة خشب ولم يكن معهُ من الأدوات غير سكين صغيرة مما يوجد مع كلِّ ولد ولكن ليس كلُّ ولد فرغوسناً. والدكتور بلاك اكتشف الحرارة المختفية بواسطة كوبة من الماءِ وثرمترين فقط. والفيلسوف نيوتن حل النور وعرف أصل الألوان بواسطة موشور وعدسيات وقرطاس. قِيل زار أحد العلماءِ الدكتور وُلَستون العالم الطبيعي وطلب إليهِ أنْ يريهُ محل امتحاناتهِ الذي اكتشف فيه تلك الاكتشافات العظيمة فأدخلهُ إلى غرفة صغيرة وأراه طبقاً عتيقاً عليهِ قليل من زجاجات الساعات وأوراق الكشف وميزان صغير وبوري وقال لهُ هذه كلُّ الآلات التي أستعملها. وستوثرد تعلم صناعة تركيب الألوان من أجنحة الفراش وقد قال ما من أحد يعرف كم أنا مديون لهذا الحيوان الصغير. وولكي شرع يتعلم التصوير وقلمهُ فحمة وقرطاسهُ باب مذود. وبيوِك تعلم الرسم وقلمهُ الطباشير وقرطاسهُ الأبواب أيضًا. وفرغوسن عمل خريطة للأجرام السماوية على هذه الكيفية وهي أنهُ كان يذهب إلى البرية ويلتحف بإزار وينام على ظهرهِ ويقيس البعد النسبي بين جرم وآخر بواسطة سبحة. وفرنكلين عرف ماهية الصاعقة بواسطة الطيارة. ووط استعمل حقنة صغيرة في مثال الآلة البخارية التي صنعها. وجفُرد كان يحل المسائل الرياضية وهو صانع عند إسكاف على قطعة من الجلد بعد أنْ يصقلها بالتطريق. ورتنهوس الفلكي كان يحسب الكسوفات والخسوفات على مقبض المحراث.
وحوادث الحياة التي اعتدنا على مشاهدتها يوميًّا فيها ما يكفي الإنسان من الفُرَص والوسائط إذا لم يتأخر عن انتهازها. فالأستاذ لي الشهير تَنَبَّه إلى درس اللغة العبرانية إذ كان نجاراً برؤيته توراةً في العبرانية في كنيس دُعِيَ إليه ليصلح مقاعدهُ فاشترى كتاب نحوٍ عتيقاً في العبرانية بثمن زهيد وأخذ يدرس تلك اللغة بجد حتى أتقنها وصار مدرِّساً فيها. قيل سأل دوق أرجيل أدمندَ ستون كيف أمكنك وأنت ولد فقير أنْ تقرأ كتاب المبادئ لنيوتن باللاتينية فأجابهُ «إذا تعلَّم الإنسان الحروف الهجائية أمكنهُ أنْ يتعلم كلَّ ما يريد»
إنَّ السر ولتر سكت وجد سبيلًا لتوسيع معارفهِ في كلِّ عمل أخذ فيهِ وكان يستفيد من كلِّ حادثة ولو حدثت صدفة فلما كان كاتباً اضطرهُ عملهُ أنْ يزور البلاد العالية (في أسكتسيا) فتعرف بمن بقي من الأبطال الذين خاضوا معامع الحروب سنة ١٧٤٥ واقتبس منهم أخباراً كثيرة جعلها أساساً لأكثر تآليفهِ. ثم لما تقدم في السن جُعل رقيباً على جراية الفرسان في أدنبرج فاتفق أنَّ فرساً لَبَطَهُ فتعذر عليه المشي ولازم بيتهُ مدة ولكنهُ كان مطبوعاً على بغض الكسل فأخذ في التأليف ونظم الجزء الأول من شعره المسمى أغنية المغني الأخير في ثلاثة أيام وهذا الشعر من أول مبتكراتهِ التي اشتُهر بها.
وأول شيءِ نبَّه الدكتور بريستلي إلى موضوع الكيمياءِ رؤيتهُ ألواناً مختلفة في الأقياس التي تنطفئُ في الغازات المتصعدة عن السائلات المخترة وعندما لاحظ ذلك كان ابن أربعين سنة ولم يكن يعرف شيئاً من علم الكيمياءِ فأخذ يفتش في الكتب عساهُ أنْ يجد سبباً لذلك لأنهُ لم يكن يُعرَف شيءٌ من هذا الموضوع حينئذٍ. فصنع بعض الأدوات وشرع يمتحن بها وتدرَّج من امتحان إلى آخر فأوجد علماً قائماً بنفسهِ هو الكيمياء الغازية وفي ذلك الحين كان شيل الأسوجي يشتغل بهذا الموضوع في قرية من أسوج فاكتشف غازات كثيرة ولم يكن عندهُ من الأدوات سوى قليل من الزجاجات والمثانات
والسر همفري داڤي امتحن امتحانات كثيرة وهو صانع عند صيدلاني بواسطة أدوات صغيرة جدًّا مثل المقالي والقدور والحناجر وغيرها. وحدث مرة أنَّ سفينة فرنسوية غرقت بقرب لندس أند ونجا جراحها فتعرف بداڤي وأهدى إليهِ حقنة عتيقة كان قد خلَّصها من الغرق ففرح بها فرحاً لا مزيد عليهِ وصنع بها آلة لتفريغ الهواءِ استخدمها في البحث عن ماهية الحرارة ومصدرها
والأستاذ فَردَاي خليفة السر همفري داڤي امتحن أول امتحان في الكهربائية بقنينة عتيقة وهو صانع عند مجلد كتب. ومن الغريب أنهُ مال إلى درس الكيمياء بسماعهِ خطبة فيها من السر همفري داڤي في المدرسة الملكية. وفي ذات يوم أتى إلى حانوت الجلد رجل من عمدة تلك المدرسة فوجد داڤي عاكفاً على درس الكهربائية في إنسكلوبيديا كان يجلدها ثم وجد أنَّ لهُ رغبة شديدة في درس هذا العلم فأذن لهُ بدخول المدرسة فدخل وسمع فيها أربع خطب من السر همفري داڤي فدَوَّن شيئاً من هذه الخطب وأراهُ للخطيب فشهد صحيحاً وانذهل لما علم أنَّ ذلك الشاب لم يكن سوى صانع عند مجلد كتب. ثم إنَّ فَرَداي أطلع السر همفري على قصدهِ وهو إيقاف نفسهِ على العلوم الكيماوية فنهاهُ عن ذلك فلم ينتهِ بل لازم الدرس إلى أنْ صار معاوناً للسر همفري. وأخيراً جلس صانع مجلد الكتب في منصب صانع الصيدلاني (أي السر همفري داڤي).
وكتب داڤي في مفكرتهِ وهو ابن عشرين سنة يقول « ليس لي غنًى ولا قوة ولا نسب ولكن إذا فسَّح الله لي في الأجل خدمت جيلي أكثر مما لو كنت غنيًّا قويًّا ذا حسب ونسب». وكان لهُ استطاعة على توجيه كلِّ قوى عقلهِ إلى الموضوع الذي يبحث فيهِ وإلى كلِّ متعلقاتهِ. ومَن كانت هذه الصفة صفتهُ فلا بدَّ من أنْ يأتي بنتائج كثيرة. قال كلردج في وصف داڤي ما معناهُ أنَّ عقلهُ كسيفٍ فيهِ صفتا المرونة والصلابة فلم ينبُ عن مسألة إلا رجع إليها حالًا وفصلها كيف لا ولم يُعرَض عليهِ مشكل إلا حلَّه وأنار ظلمتهُ بنور حكمتهِ وبرهانهِ السديد. أما داڤي فقال في كلردج ما مفادهُ أنه شديد الذكاءِ واسع الفكر رحب الصدر ولكنهُ عديم النظام قليل التدقيق.
وكيڤيه العظيم كان من أشد الناس اعتناءً وأكثرهم اجتهاداً وتدقيقاً قيل إنهُ مال إلى درس التاريخ الطبيعي وهو صبي صغير برؤيته مجلداً من كتاب بفون فأخذ من ساعتهِ في نقل الصور التي فيهِ وتلوينها حسب الشرح. ولما كان في المدرسة أهدى إليهِ معلميهِ كتاب نظام الطبيعة للينيوس النباتي فكان هذا الكتاب كلَّ ما يملكهُ من الكتب في التاريخ الطبيعي مدة عشر سنين. ولما بلغ الثامنة عشرة جُعل مُعلماً لأولاد عائلة ساكنة بقرب البحر وإذ كان ماشياً ذات يوم على شاطئ البحر رأى أخطبوطة مطروحة على الشاطئ فاستغرب منظرها وأخذها إلى بيتهِ ليُشَرِّحها ومن ثَمَّ شرع في درس الحيوانات الرخوة وهو العلم الذي اشتُهر بهِ بعدئذٍ شهرة فائقة. وكان كلَّ يوم يرى أموراً جديدة فتؤثر فيهِ رؤيتها أكثر من صورها وأوصافها. فمر عليهِ ثلاث سنوات قابل فيها بين الحيوانات البحرية والأحافير (ما يحفر من الأصداف والأسماك المتحجرة) التي في تلك النواحي وشرَّح كلَّ حيوان بحري وصلت إليهِ يدهُ وبعد البحث المدقق مهَّد السبيل للإصلاح الكامل في ترتيب أنواع المملكة الحيوانية. ونحو ذلك الوقت تعرَّف بالعالم الشهير الأب تسيه فكتب هذا إلى أصدقاءَ لهُ في باريس من جملتهم جسيو يمدح كيڤيه ومعارفهُ الطبيعية وبالغ في مدحهِ حتى إنهم طلبوا من كيڤيه أنْ يرسل بعض ما كتبهُ في إلى جمعية التاريخ الطبيعي ثم عيَّنوهُ معاوناً لمدير جردن ده بلنت (بستان الحيوانات). قال تسيه في كتابهِ إلى جسيو «ألا يخطر ببالك أنني أنا الذي قدَّمْتُ دلمبر إلى الأكادمي وأنا الآن أقدم لها دلمبراً آخر». ومن ينكر أنَّ نبوءة تسيه تمت وزادت عما قدَّر.
يظهر مما تقدم أن ليس الفضل للصدف في نجاح الذين نجحوا ولا للفرص بل للاجتهاد والمواظبة. وأحسن الفُرَص وأفضل الوسائط لا تنفع الكسلان المهمل لأنهُ يتجاوزها ولا يرى فيها نفعاً ولكن النجاح الذي يحصل من اغتنام الفرص والانتفاع بها يفوق التصديق فإن وط مثلًا درس الكيمياء والميكانيكيات وهو يصنع الآلات الرياضية وكان في ذلك الحين يتعلم اللغة الألمانية من صباغ سويسراني. وستفنسن درس الحساب والمساحة في بدل الليل وهو يوقد في آلة بخارية وكان يستخرج المسائل الحسابية في فرص الأكل بقطعة طباشير على جوانب مركبات الفحم. ويُروَى عن دلَتن الشهير أنهُ كان يقيم في المدرسة شتاءً ويعود في الصيف إلى معاونة أبيهِ في الزراعة وكان يتبارى هو ورفاقهُ في الدرس على رهان يكسبهُ السابق فكسب مرة ما أمكنهُ من ابتياع شموع تكفيهِ فصل الشتاءِ. وقيل إنهُ دام على أخذ الرصود الميتيورولوجية إلى يوم أو يومين قبل وفاتهِ وبلغ عدد الارصاده ٢٠٠٠٠٠ رصد
إنَّ أهل المواظبة يستخدمون فضلات الوقت لمقاصد جليلة وينتفعون بها نفعاً عظيماً. والإنسان الذي قواهُ العقلية في درجة متوسطة يقدر أن يتقن بعض العلوم في أقل من عشر سنوات إذا درسها ساعة فقط كلَّ يوم. ويجب أن لا تُصرَف ساعة من الوقت بدون ثمرة عقلية أو مادية ولله در القائل
قيل إنَّ الدكتور مازون غود ترجم لكرتيوس في جولانهِ من بيت مريض إلى بيت مريض آخر. والدكتور داروِن أَلَّفَ كلَّ كتبهِ تقريباً على هذه الطريقة والدكتور برني تعلم الفرنسوية والإيطالية وهو ذاهب إلى بيوت تلامذتهِ ليعلمهم الموسيقى. وكرك هوَيت تعلم اليونانية في ذهابه إلى مكتبهِ ورجوعهِ منهُ. والمؤلف يعرف رجلًا منصباً سامياً تعلم اللاتينية والفرنسوية وهو يحمل التحارير إلى أربابها في أسواق منشستر. ودَغَسُّو أحد مشيري فرنسا ألَّف كتاباً ضخماً في الفترات بين طعام وطعام وهو على المائدة. ومدام ده جنلي صنفت كثيراً من كتبها في الدقائق القليلة التي كانت تمضيها في انتظار الأميرة التي كانت تدرسها. وإليهو بُرِث نَسَبَ نجاحهُ إلى اغتنامهِ فضلات الوقت فإنهُ أتقن ثماني عشرة لغة قديمة وحديثة عدا عشرين لهجة من لهجات أوربا وهو يحصل معيشتهُ من صناعة الحدادة
الوقت ثمين وهو رأس مالنا الوحيد وإن فات لا يرجع. قال جكسن الأكستري إذا أسرف الإنسان في مالهِ اليوم أمكنهُ أنْ يقتصد غداً بما يعوض الخسارة ولكن مَن يمكنهُ أنْ يقول سأقتصد في ساعات الغد ما يعوض عن ساعات اليوم. قيل إنَّ ملنكثون كان يُدَوِّن كلَّ ساعة أضاعها حتى يزيد اجتهاداً بما يعوض عنها. كتب أحد العلماء الإيطاليين على بابهِ مَنْ دخل هذا البيت يجب أنْ يشترك مع الذين فيه في عملهم. وقيل إنَّ قوماً دخلوا مكتبة بكستر بقصد الزيارة وقالوا لهُ من باب التجمُّل نخاف أنْ نكون قد أضعنا وقتك فأجابهم حقّاً قد أضعتم.
وقد يعاني بعض الناس في إتمام أعمالهم تعباً يفوق التصديق فإن نيوتن كتب كتابهُ المسمى بالخرونولوجيا خمس عشرة مرة قبلما أتمَّ تهذيبهُ. وغبون كتب مذكراتهِ تسع مرات. وهَل درس سنين عديدة وكان معدل درسهِ ست عشرة ساعة كلَّ يوم ولما كان يتعب من درس الحقوق كان يريح نفسهُ بدرس الفلسفة والرياضيات. وهيوم كان يكتب ثلاث عشرة ساعة كلَّ يوم وهو يؤلف تاريخ إنكلترا. وقال مُنتسكيو لأحد أصدقائهِ إنك تقرأ هذا الكتاب في ساعات قلائل ولكني أؤكد لك أنني قد تعبت في تأليفهِ تعباً شيَّب رأسي
ومن الأمور المفيدة التي يمارسها أكثر رجال العلم تدوين كل ما يخطر لهم من الأفكار أو يسمعونهُ من الفوائد مخافة أنْ يضيع من حيِّز الذاكرة. فإن اللورد باكون ترك بعد وفاته كتب خطٍّ كثيرة سمَّاها أفكار فجائية كُتبت لتُستعمَل. والدكتور باي سمث كان يلخص كلَّ الكتب التي يقرؤها وهو عامل مع أبيه في صناعة التجليد وينتقدها ويكتب الملخص والانتقاد وجرى على ذلك حياته كلها حتى قال فيهِ كتَّاب سيرتهِ إنه كان على الدوام عاملًا جامعاً متقدماً. أما الكتب التي جمعها على هذا الأسلوب فكمعدن للعلم والمعرفة. وقد جرى هذا المجرى الشهير جون هنتر تعويضاً عمَّا بهِ من ضعف الذاكرة وشبَّه من يقرأ كتاباً ولا يُدَوِّن ما يُبقِي في ذاكرتهِ منهُ بتاجر لا يكتب كشفاً بضائعهِ ليعلم كم عنده من كلِّ صنف. ويليق بنا أنْ نذكر طرفاً من سيرة هذا الشهير فنقول
إنهُ لم يتعلم إلا بعد أنْ بلغ عشرين سنة من عمرهِ وعمل بالنجارة في غلاسكو ثم اتضم إلى أخيهِ الذي كان مقيماً في لندن معلماً للتشريح وعاونهُ في التشريح العملي لكنهُ فاقهُ بميلهِ الطبيعي وخصوصاً باجتهادهِ ومواظبته. وكان أول من وَقَف نفسهُ في البلاد الإنكليزية على علم تشريح المقابلة وجمع فيهِ مجموعاً كبيراً رتبهُ فيما بعدُ الدكتور أُوِن ولكن لزم لهُ لترتيبه مدة عشر سنين. وفي هذا المجموع أكثر من عشرين ألف راموز ولم يجمع إنسان واحد مجموعاً مثلهُ قط. وكان مع ذلك يمارس صناعة التطبيب في بيتهِ والجراحة في مستشفى وبين الجنود ويخطب خطباً في هذا الفن ويدير مدرسة تشريحية في بيتهِ. ومع هذه الأشغال الكثيرة ألَّف كتباً علمية وامتحن امتحانات عديدة في نظام الحيوان. وكان ينام أربع ساعات فقط في الليل وساعة بعد الغداءِ ولولا ذلك ما قام بهذه الأعمال الكثيرة العظيمة. قيل سألهُ بعضهم ماذا فعلت حتى نجحت في كلِّ أعمالك فقال إني قبل أنْ أشرع في عمل أقف وأتأمل في هل هو ممكن فإن لم يكن ممكناً تركتهُ وإلا أخذت فيهِ وما زلت حتى أكملهُ ولو مهما نالني منه من التعب والعناء. هذا هو سر نجاحي.
وأقام زماناً طويلًا يجمع أموراً كثيرة يعدُّها أهل عصرهِ طفيفة لا طائل تحتها ولا يُرجَى منها كبير فائدة فقد اتَّهمه معاصروهُ أنهُ أضاع وقتهُ في ملاحظة نمو قرن الغزال إلَّا أنهُ كان يرتَإِي أن لا شيءَ من التدقيق في الأمور العلمية عديم الفائدة. وكانت نتيجة بحثهِ في نمو قرن الغزال أنهُ عرف كيف تضيق الشرايين وتتسع حسب دواعي الحال فتجاسر مرةً على ربط جذع شريان فرعي حدث فيه. أنيورزم فأنقذ العليل من الموت ولم يجسر أحد على هذه العملية قبلهُ. وسار كلَّ حياتهِ معتمداً على نفسهِ ولم يرَ معاصروهُ غاية أبحاثهِ إلا أنهُ واظب عليها بهمة عالية حاسباً الجري فيها من الواجبات التي لا يفشل مَنْ يهتمُّ بها
وهاك مثالًا آخر للانتباه والصبر والإقدام والمواظبة في حياة أمبروز باري الجراح الفرنساوي الشهير. وُلِدَ هذا الرجل في لاڤال سنة ١٥٠٩ من أبوين فقيرين جدًّا فلم يقدرا أن يرسلاهُ إلى مدرسة بل وضعاهُ عند كاهن قريتهما خادماً أملًا بأن يقتبس منهُ شيئاً من العلوم. ولكن الكاهن المذكور استخدمهُ في سياسة بغلتهِ وغيرها من الأعمال الدنيئة حتى لم يجد وقتاً للدرس. وبينما هو في خدمتهِ دُعي الشهير كوتو لعملية حصاة المثانة في لاڤال وكان باري حاضراً مع من حضر فرأى من تلك العملية ما جعلهُ يعزم من ساعتهِ على درس فن الجراحة. فترك خدمة الكاهن وخدم عند حلَّاق جراح وتعلم منهُ الفصد وقلع الأسنان وعَمَل بعضِ العمليات الصغيرة. وبعد مضي أربع سنوات انتقل إلى باريس وطلب في مدرسة التشريح والجراحة وكان يحصّل من الحلاقة ما يقوم بمعيشته ثم صار معاوناً في مستشفي هوتل ديه وكان يُضرَب المثل بحسن سلوكهِ واجتهادهِ حتى إن غكوبِل رأس الجراحين سلَّمَهُ المرضى الذين لم يقدر أنْ يقف عليهم هو. ولما انتهت المدة المعينة للطلب عُيِّن معلماً في المدرسة ثم عُيِّن جراحاً لجند منمورنسي فلم يكتفِ بما اقتبسهُ من العلم ولا بالسبيل الذي سار فيهِ مَن تقدمهُ من الأطباءِ بل كان كثير الافتكار والتأمُّل في أسرار صناعتهِ وأصولها ومصدر الأمراض ومسيرها والبلوغ إلى العلاج الشافي.
وكان الجراحون في أيامهِ وما قبلها يعذبون جرحى الحروب أكثر مما يعذبهم الأعداءُ لأنهم كانوا يوقفون الدم من جروح الرصاص بالزيت الغالي ويوقفون النزف الدموي بالكي بالحديد المحمي. وإذا ألجأهم الأمر إلى بتر عضو كانوا يبترونهُ بسكين محماة إلى درجة الحمرة. وكان باري يداوي الجروح على هذا الأسلوب ولكنهُ حدث يوماً أنهُ لم يكن تحت يدهِ زيت غالٍ فآسى الجرح بمضادات الالتهاب ونام ليلته في قلق شديد مخافة أنْ يكون أخطأ في العلاج. ولكنهُ رأى في الصباح أنَّ الذي عالجهُ هذه المعالجة مقبلٌ على الشفاءِ والذين عالجهم المعالجة المعتادة في عذاب أليم. هذا أصل الإصلاح الذي أحدثهُ في علاج جروح الرصاص فصار يعتمد عليه دائماً. ثم أدخل إصلاحاً آخر أهم من الأول وهو قطع النزف بربط الشرايين بدلًا من الكي. فقام عليهِ الجراحون وقالوا إنَّ معالجتهُ هذه شديدة الخطر وغير أصولية واعتصبوا ضده عصبةً واحدةً وطعنوا فيهِ وقالوا إنهُ عديم العلم ولا سيما لجهلهِ اللاتينية واليونانية وأثبتوا غلطهُ بعبارات اقتبسوها من كتب الأوائل لم يقدر أنْ يثبتها ولا أنْ ينفيها. وأفضل ما قدر أنْ يجيبهم بهِ هو نجاح معالجته. وكان الجرحى يدعون باسمهِ دائماً ولم يقبلوا علاج أحد غيرهُ. فعالجهم بالشفقة والحنو وكان بعد أنْ يضمد جراحاتهم يقول لهم قد عملت ما عليَّ وعلى الله الشفاء. وبعد أن مضى عليهِ ثلاث سنوات في خدمة الجند رجع إلى باريس ولهُ شهرة عظيمة فأُقِيم جرَّاحاً للملك
ولما أتى كارلوس الخامس بجيوش إسبانيا وحاصر متس هلك من المحاصَرين خلق كثير وكان الذين ماتوا بيد الجراحين أكثر من الذين قتلهم العدو فأرسل دوق غيز قائد المحاصَرين يتضرع إلى الملك أنْ يرسل إليهِ باري فأرسلهُ. وبعد معاناة مشقات كثيرة وأخطار عديدة اخترق جيوش العدو ودخل متس فرحَّب بهِ الدوق والقواد والرؤساءُ وأما الجنود فلما سمعوا بقدومه صرخوا: «لسنا نخاف الموت من جراحنا فيما بعد لأن صديقنا صار بيننا»
وفي السنة التالية كان باري في مدينة هسدن ففتحها دوق ساڤوي وأخذه أسيراً إلا أنهُ شفى بعض قواد جندهِ فأطلق سبيلهُ بلا فدية فرجع إلى باريس وقضى غابر حياتهِ في الدرس والتأليف والمبرَّات. وألح عليهِ البعض من أشهر علماءِ عصره له أنْ يكتب نتائج أعمالهِ الجراحية فكتبها في ثمانية وعشرين مجلداً طُبعت في أيامه. وكتاباتهُ من الطراز الأول ولا سيما لكثرة ما فيها من الحوادث التي عالجها ونجح مجتنباً كل علاج لم يتأكد فعلهُ بالتجربة. وبقي جرَّاحاً للملك مع أنهُ كان بروتسطنتي المذهب. ونَجَّاهُ الملك كارلس التاسع من القتل في مذبحة مار برثلماوس لأنهُ كان قد شفاهُ من جرحٍ مميت أوقعهُ بهِ جرَّاحٌ غبي في فصدهِ إياهُ. وقد ذكر برَنْتُوم في كتاب السِّيَر قصة إنقاذ الملك لباري من مذبحة مار برثلماوس فقال إن الملك أرسل فدعاهُ إليهِ وأبقاهُ معهُ الليل كلهُ قائلًا إنهُ ليس من العدل أنْ يُقتل إنسان قد خلَّص حياة كثيرين. فنجا من أهوال تلك الليلة الرهيبة وعاش بعدها سنين عديدة ومات حتف أنفهِ بشيبة صالحة وإكرام يليق بمثلهِ
ومن الذين اشتغلوا بلا ملل في ترقية صناعة الطب هارڤي الشهير مكتشف دورة الدم فإنهُ بحث وامتحن ثماني سنوات قبلما أشهر هذا الاكتشاف. وقد أشهرهُ على أسلوب بسيط مقنع ولكنهُ عومل بكل نوع من الإهانة والاحتقار وبقي وقتاً طويلًا ولم يصادف إنساناً يختم على صدق مقالهِ بل كان الجميع يزعمون أنهُ جاءَ أمراً فريًّا مناقضاً آراءَ الأوائل والكتاب المقدس والديانة والآداب ورماهُ البعض بالجنون والخداع وهجرهُ أصحابهُ وخلَّانهُ وآل حالهُ إلى اسوإِ الأحوال ولكن هذا الحق المبين الذي دافع عنهُ سنين عديدة دخل بعض العقول وأينع فيها ولم يمض عليهِ إلَّا خمس وعشرون سنة حتى عُدَّ من أثبت الحقائق الطبية
والمصاعب التي قاساها الطبيب إدورد جنَّر مكتشف تطعيم الجدري كانت أشد من المصاعب التي قاساها الدكتور هارڤي وهاك طرفاً من سيرتهِ
لا بد من أنَّ كثيرين شاهدوا جدري البقر قبل هارڤي وسمعوا الكلام الجاري على ألسنة الحلَّابات وهو أنَّ الذي يُجدَّر بجدري البقر يسلم من الجدري العادي ولكنهم عدوهُ إشاعة كاذبة وما منهم من ظنهُ يستحق الامتحان حتى طرق مسامع هذا جنَّر. وذلك أنَّ ابنة دخلت حانوت معلمهِ لكي تستشيرهُ في مسئلة ما وحدث حينئذٍ أنَّ بعض الحاضرين ذكر ما كان من أمر الجدري فقالت الابنة أنا لا أُعَدَى بهذا المرض لأنني جُدرت بجدري البقر. فانتبه جنَّر إلى هذا الأمر وأخذ من ساعتهِ يراقبهُ ويبحث عنهُ ثم كاشف البعض من معارفهِ الأطباءِ بذلك فضحكوا منه وتهددوهُ بالطرد من بينهم إذا تجاسر مرة أخرى وذكر لهم ذلك. ثم درس على جون هنتر الفسيولوجي وكاشفه بما في نفسهِ فقال لهُ لا تظن ظنًّا بل امتحن امتحاناً وكن صبوراً مدققاً في بحثك. فَتَقَوَّت عزائمه بهذا الكلام. وأخذ من وقتهِ يمارس صناعتهُ ويمتحن التطعيم ودام على ذلك عشرين سنة وكانت ثقتهُ بالتطعيم قوية جدًّا فطعَّم ابنهُ ونشر وصف تجاربهِ في رسالة ذكر فيها أنهُ طعَّم ثلاثة وعشرين شخصاً بجدري البقر فلم يُعْدَ أحد منهم بالجدري العادي بعد ذلك لا بالمخالطة ولا بالتلقيح. فلم يكترث لهُ أحد في أول الأمر
ثم قام عليهِ خصوم كثيرون حتى إنهُ لما أتى لندن قصْد استعمال التطعيم بقي ثلاثة أشهر من غير أنْ يطعم أحداً ولم يقبل أحد من الأطباء أنْ يستعمل التطعيم فرجع على عقبيهِ وقام عليهِ خصومهُ ونسبوا إليهِ أموراً يضحك منها الأطفال في هذا العصر مثل أنهُ قصد أن يحول البشر إلى بهائم بإدخال مادة بقرية إلى بنيتهم. ونادى رجال الديان في الكنائس بأن التطعيم صناعة شيطانية شريرة وتطرَّف بعضهم فقال إنَّ الأولاد المتطعمين تصير وجوههم مثل وجوه البقر وينبت لهم نتوات على شكل قرونها وتتغير هيئتهم رويداً رويداً إلى هيئة البقر ويصير مزاجهم بقريًّا وصوتهم خواراً. وكانوا يرجمون المتطعم إذا خرج من بيتهِ. ومع كلِّ هذه المقاومات وهؤلاءِ الأضداد كان التصديق بالتطعيم يشيع يوماً بعد يوم. وأول من أقدم على استعماله السيدتان الشريفتان السيدة دوسي والكونتة بركلي فطعمتا أولادهما فانكسرت شوكة المقاومين ومال الأطباءُ إلى تصديق جنَّر. ومنهم من حاول أنْ يسلبهُ شرف هذا الاكتشاف ولكن خاب مسعاهم وثبت الحق لجنر وجُوزِي علانية. ثم دُعِي للسكنى في لندن وأكَّد لهُ البعض أنهُ يكتسب هناك عشرة آلاف جنيه سنويًّا فأجابهم إنني في شبيبتي فضَّلت وادي الحياة على جبلها والآن في شيخوختي لا يليق بي أنْ أطمع بثروة ولا بشهرة.
أما التطعيم فانتشر في كلِّ البلدان المتمدنة في حياة جنَّر وأقر لهُ الجميع بالفضل من عالٍ ودون. قال كيڤيه إذا كان التطعيم هو الاكتشاف الوحيد الذي اكتُشِف في ذلك العصر فبهِ الكفاءَة لإشهارهِ إلى الأبد ولو أنهُ قرع أبواب المدارس عشرين مرة قبلما قبلتهُ
ومن الذين أظهروا حزماً وعزماً وإقداماً السر تشارلس بل الذي اكتشف أموراً كثيرة في المجموع العصبي فإن كلَّ ما عرفهُ العلماءُ قبل أيامهِ عن هذا الجهاز أوهن من بيت العنكبوت ولم يزيدوا شيئاً تقريباً على ما كان يعرفهُ ديمقريطس وإنكساغوراس من مضي ثلاثة آلاف سنة. وأما السر تشارلس بل هذا فابتدأ سنة ١٨٢١ ينشر رسائل في هذا الموضوع مبنية على أبحاث مدققة وامتحانات متوالية تتبَّع فيها ارتقاءَ المجموع العصبي من أدنى الحيوانات رتبةً حتى الإنسان أعلاها وشرح ذلك شرحاً وافياً. وهو الذي قال إنَّ الأعصاب الشوكية مزدوجة الوظيفة وإنها تنشأُ بأصلين من الحبل الشوكي وإن أحدهما للحس والآخر للحركة. ودام هذا الموضوع شاغلًا ذهنهُ مدة أربعين سنة. ولكن أصابهُ ما أصاب هارڤي وجنَّر وهو أنه بعد أنْ تعب تعباً جزيلًا في تسكات المستهزئين وإفحام المضادين وجد أناساً كثيرين قد قاموا وادَّعوا اكتشافاتهِ. ثم ثبت أنهُ هو المكتشف وأقر لهُ الجميع بالفضل من قاصٍ ودانٍ حتى إن كيڤيه لما رأى وجهه قد انحرف وهو على فراش الموت أشار إلى الحاضرين وقال إنَّ هذا برهان قاطع على صدق مذهب السر تشارلس بل.
ومن الذين يجب ذكرهم في هذا المقام الطبيب مرشَل هُل فإن هذا الفاضل مارس صناعة الطب بنشاط وأمانة وكان يبحث في أسرارها ويتعمق في غوامضها باجتهاد لا يفوقهُ اجتهاد منتبهاً لكلِّ حادثة مهما كانت طفيفة. والاكتشاف العظيم الذي اكتشفه وخلَّد بهِ اسمهُ بين رجال العلم وهو الفعل العصبي المنعكس نبهتهُ إليهِ أسباب بسيطة لأنهُ كان مرة يمتحن الدورة الرئوية في في عظاية من نوع السمندل فقطع رأسها ونزع ذنبها ووكزها بالصدفة في غشائها الخارجي. فتحركت وتلوَّت مرات كثيرة ولم يكن قد لمس عضلة ولا أعصاباً عضلية. ويحتمل أنَّ كثيرين شاهدوا هذه الحادثة قبلهُ ولكنهُ كان أول من نظر إليها نظر الخبير المدقق وأخذ من تلك الساعة يجرب ويمتحن عساهُ أنْ يعرف سبب هذه الحركة. ويقال إنهُ أقام أكثر من خمسة وعشرين ألف ساعة باحثاً في هذا الموضوع حتى عرفهُ تماماً وكان في ذلك الوقت يطبب ويُدَرِّس في مستشفى مار توما وفي مدارس أخرى طبية. ومن العجيب أنَّ الجمعية الملكية رفضت التسليم باكتشافهِ هذا ولم تسلم بهِ إلَّا بعد مضي سبع عشرة سنة حينما قُبل في كلِّ الأقطار.
وممَّن هم مثال للاجتهاد والمواظبة أيضاً السر وليم هرشل الألماني الشهير الأصل. كان أبوهُ موسيقياً فقير الحال ولهُ أربعة بنين علمهم حرفتهُ فأتى أحدهم وليم إلى إنكلترا في طلب رزق وانتظم في جوقة فرقة حربية وفي أحد الأيام مرَّ به الدكتور ملر فسمعهُ يغني على الكمنجة فأعجبهُ غناؤة وتحدث معه مدةً فَسُرَّ بحديثهِ وطلب إليهِ أنْ يقيم في بيته فأجابهُ إلى طلبهِ وكان في بيتهِ مدة وهو يستغنم كلَّ فرصة للدرس في كتب ذلك الدكتور وحينئذ صُنع أرغنٌ لكنيسة هليفكس وطُلب له موسيقي يعزف عليهِ فوقع الانتخاب علي هرشل ونحو ذلك الوقت اكتُشفت اكتشافات جديدة في علم الهيئة فانشغل بالهُ بها ومال إلى البحث في هذا العلم فاستعار من أحد أصحابه نظارة من النوع الغريغوري وكان يرصد بها ثم سامَ تلسكوباً لابتياعهِ فطُلب فيهِ مبلغ كبير جدّاً فعزم من ساعتهِ على اصطناع تلسكوب مهما كلفهُ من التعب. والذين يعرفون ما هو تلسكوب الانعكاس وما يقتضي لعمل مرآتهِ من العناءِ والمهارة يعرفون عظم العمل الذي أقدم عليه هرشل ولكنهُ نجح ولو بعد تعب شاق وصنع تلسكوباً عاكساً طولهُ خمس أقدام نظر بهِ حلقات زُحَل وأقمارهُ ولم يكتف بذلك بل صنع عدة نظارات عديدة منها ما طولهُ سبع أقدام وعشر أقدام وأخيراً صنع واحدة طولها عشرون قدماً. ولما كان يعمل التي طولها سبع أقدام صنع أكثر من مائتي مرآة قبل أنْ وجد واحدة صالحة وهذا دليل على شدة مواظبتهِ وكان في غضون هذه المدة يحصِّل معيشتهُ من الموسيقى. ثم اكتشف السيار أورانوس وحسب فلكهُ ومعدَّل حركتهِ وأرسل النتيجة إلى الجمعية الملكية فاشتُهر بذلك شهرة عظيمة وعُيِّن فلكيًّا ملكيًّا ورقَّاهُ الملك جورج الثالث إلى منصب يليق بهِ فبقي مع ما حازهُ من الرفعة والشهرة متضعاً رقيق الجانب كما كان قبل أنْ عُرف شيء من أمرهِ. ولعلهُ لم يقم بين البشر من ضاهاهُ في الرقة والصبر والنجاح
وممن هم مثال للصبر والاجتهاد وانتهاز الفرص وليم سمث أبو الجيولوجيا الإنكليزية فإنه وُلِدَ سنة ١٧٦٩ من فلَّاح ومات أبوهُ وهو صبي صغير فكان يُرسل إلى مدرسة في قريتهِ فلم يتعلم إلا شيئًا يسيراً لأنه كان طائشاً يفضل اللعب على الدرس. ثم تزوجت أمهُ وتركتهُ فضمه عمُّهُ إليه وهو فلاح أيضاً وكان مغرماً بجمع الحجارة المتنوعة فلم يستحسن عمُّهُ ذلك بل اشترى لهُ كتباً في مبادئ الهندسة والمساحة لكي يدرس فيها ويصير مسَّاحاً. وامتاز وهو حدَثٌ بدقة النظر وقوة الذاكرة حتى إنهُ لم يَنْسَ شيئاً أمعن فيهِ نظرهُ. ثم أخذ يتعلم صناعة الرسم والتلوين والمساحة وقياس الأراضي كلُّ ذلك بدون أنْ يدرس على أستاذ فصار معاوناً لمهندس كبير فدعاهُ عملهُ أنْ يجول مراراً كثيرة في مقاطعة أكسفُرْد وما جاورها وكان أول شيءِ وجَّه إليه أفكارهُ أنواع تربة تلك الأراضي وترتيب طبقات صخورها. ودُعي مراراً كثيرة لمساحة مناجم الفحم فزاد فحصاً واختباراً حتى إنهُ لما بلغ السنة الثالثة والعشرين من عمرهِ عزم أنْ يصنع مثالًا يشخِّص طبقات الأرض
وبينما كان يمسح بعض الأراضي لحفر ترعة لاحظ أنَّ الطبقات التي فوق الفحم الحجري لم تكن أفقيَّة بل مائلة إلى الشرق وتأكَّد ذلك فيما بعد بملاحظتهِ الطبقات في واديين متوازيين فرأى أنها جميعها تتحدر نحو الشرق فتغور من طرفها الشرقي ويظهر فوقها نَضَد آخر. ثم مكنتهُ الفرصة من أنْ يتأكد ذلك إذ عُيِّن لفحص الأراضي الموافقة لحفر الترع في إنكلترا وويلس. فجال فيهما وكان يراقب هيئة أراضيهما الصخرية وصخورهما ويعي كلَّ ما يراهُ في ذاكرتهِ فأثبتت لهُ المراقبة أنَّ الصخور في الأنحاءِ الغربية من إنكلترا تميل إلى الشرق والجنوب الشرقي وأنَّ الحجر الرملي الأحمر الذي فوق طبقات الفحم يمر تحت الطبقات الطفالية والكلسية وهذه تمر تحت الرمال والصخور الكلسية الصفراءِ وهذه تمر أيضاً تحت الرواسب الطباشيرية في الأجزاء الشرقية من إنكلترا. ولاحظ أيضاً أنَّ لكلِّ طبقة من الطفال والرمل والكلس نوعاً خاصًّا من الأحافير. وبعد التأمل الطويل في هذا الأمر استنتج منه نتيجةً لم يسبقهُ إليها أحد قط وهي أنَّ كلَّ مجتمع من الحيوانات البحرية المتحجرة في هذه الطبقات يدل على أنها كانت في قاع البحر وقتًا ما وأنَّ كلَّ طبقة من الطفال والرمل والطباشير والحجر تدل على حصة مخصوصة من تاريخ الأرض
فشغف بهذا الموضوع حتى لم يعد يفتكر ولم يعد يتكلم إلا بهِ. فصار إذا حضر حفر الترع أو جز الغنم أو غير ذلك من الأعمال يطرق هذا الموضوع ويفيض فيهِ فلُقِّب سمث الطبقات. ومع هذا كله بقي مجهولًا لدى رجال العلم. ثم أخذ في عمل خريطة لإنكلترا حسب ترتيب طبقاتها. ولم ينفك عن البحث والتنقيب والمراقبة حتى صار يعرف بناء طبقات الأرض من هيئتها الظاهرة وصار الناس يستشيرونهُ في نزح مياه الأرض واشتُهر بذلك شهرة فائقة
وحدث ذات يوم أنهُ اطَّلع على مجموع الأحافير الذي جمعهُ القس صموئيل رتشردسن في باث فقلب ترتيبهُ ورتبهُ ترتيباً آخر قائلًا إنَّ هذه الأصداف خرجت من الطبقة الفلانية وتلك من الطبقة الفلانية فانذهل القس المشار إليه كلَّ الانذهال وصَدَّقَ قول سمث وصار من أنصارهِ. إلَّا أنَّ جيولوجي العصر لم يقبلوا آراءهُ بل لم يريدوا أنْ يعرفوا أنَّ مساحاً خامل الذكر يقوم ويعلمهم علم الجيولوجيا وكانوا يجهلون أنَّ له عيناً حادة البصر تخترق طبقات الأرض وتكشف خفياتها كيف لا وقد أملى مرة على رتشردسن شرح ثلاث وعشرين طبقة متوالية وما فيها من الأحافير فكتب رتشردسن ذلك وطبعه سنة ١۸٠١
ثم شرح في فحص الأراضي التي تبعد عن باث حسبما سمحت لهُ وسائطه فجال سنين عديدة وهو يعتاض بسرى الليل عمَّا يضيع من سير النهار وكان إذا دُعي إلى أماكن بعيدة لعمل مساحي يعتسف عن الطريق لكي يلاحظ صفات الأرض الجيولوجية. وبقي سنين عديدة يسافر من مكان إلى آخر في إنكلترا وأيرلندا. وكان يقطع أكثر من عشرة آلاف ميل سنويًّا وفي كلِّ ذلك لم يدع أمراً يتخطى عينيهِ مهما كان طفيفاً بدون أنْ يمعن فيهِ نظرهُ ولم يترك فرصة تذهب سدًى وتظهر سعة معرفتهِ الجيولوجية من القصة الآتية وهي أنهُ كان مارًّا ذات يوم بقرب تلال طباشيرية فقال لرفاقه إذا رأينا أرضاً مكسورة عند سفح هذه التلال وجدنا فيها أسنان كلب البحر فلم يتقدموا مسافة طويلة حتى التقطوا ستًّا منها من جانب حفرة محفورة حديثاً
وكان يقول إنَّ عادة الملاحظة رسخت في ذهنهِ وصارت ملكة فيهِ وكانت تهيج عند أول فكر بالسفر حتى إنهُ كثيراً ما كان يسير مصحوباً بخريطات وقد كتب عليها موضوع بحثهِ في سيرهِ والأمور التي يشاهدها فصار ذهنهُ كقرطاس معد لرسم كلِّ شيء يراهُ من أول وهلة
ولكن مع كلِّ أتعابه واجتهادهِ ومهارتهِ تصدَّت لهُ موانع كثيرة منعتهُ عن إشهار خريطة طبقات إنكلترا وولس التي صنعها ودام على ذلك إلى سنة ١٨١٤ حينما تمكَّن من نشر ثمرة أتعابهِ بمساعدة بعض أصدقائهِ وقد التزم أنْ ينفق كلَّ ما حصلهُ من صناعتهِ وأن يبيع ما لهُ من الأملاك لكي يتمكن من الطوفان في الأماكن البعيدة. ونحو ذلك الوقت فتح مقالع الحجارة بقرب باث فخسر بها والتزم أن يبيع مجموعه الجيولوجي للميوزيوم البريطاني وباع أيضاً أثاث بيتهِ ومكتبتهُ ولم يبقِ إلا أوراقهُ وخرائطهُ التي لا تنفع أحداً غيرهُ. واحتمل كلَّ هذه المصائب والخسائر بصبر جميل ولم ينفك عن البحث برغبتهِ المعتادة وتُوفِّي سنة ١٨٣٩ وهو ذاهب ليحضر مجمع تقدم العلوم البريطاني في برمنهام
أما الخريطة الجيولوجية التي صنعها فإنها وإن كانت الأولى من نوعها فهي في غاية الدقة حتى يعجز القلم عن وصفها وهي أساس كل ما تلاها من الخرائط الجيولوجية. ولم تزل في الجمعية الجيولوجية شاهدة بفضل مخططها مع ما مرَّ عليها من السنين لأننا إذا قابلناها بالخرائط الحديثة وجدنا بينها موافقة عجيبة في كلِّ الأمور الجوهرية. وقد فاتنا أنْ نذكر أنَّ أهل عصره أقروا لهُ بالفضل ففي سنة ١٨٣١ اهدى إليهِ مجمع لندن الجيولوجي بنيشان وُلَسْتن على اكتشافاتهِ الجيولوجية كوحدة طبقات الأرض في كلِّ الجهات وتمييزها بما تتضمنهُ من الأحافير. ولقد أجاد من قال إنهُ ما من اكتشاف في العالم يضاهي هذا الاكتشاف إلا إذا اكتُشف أصل الحياة. وسيبقى اسم هذا الفاضل مكرَّماً مشرَّفاً ما دام هذا العلم
ومن الذين كانت قوة الانتباه قوية فيهم جدًّا وبلغوا بها شأواً بعيداً مِلَّر الذي درس العلوم برغبة وصبر لا مثيل لهما وكتب تاريخ حياتهِ في كتاب قيم هو غاية في الفائدة ويظهر منهُ ما كان في هذا الإنسان من التعويل على نفسهِ. وهاك جملة وجيزة من سيرتهِ وهي أنهُ لما كان فتًى صغيراً مات أبوهُ غرقاً فلم تمكنهُ الفرص من الدرس على أساتذة كبار إلا أنهُ طالع كتباً كثيرة فارتشف اليسير من بحر المعرفة من مصادر مختلفة وعاشر أقواماً متنوعة صناعاً ونجارين وصيادين وملاحين واستفاد منهم جميعاً وكان يجول وبيدهِ مطرقة كبيرة يكسر بها الحجارة ويجمع كسرها. وكان في بعض الأيام يقضي يوماً كاملًا في الغابات متأملًا في مناظرها الجيولوجية. ولما ترعرع وُضع عند بَنَّاءٍ ليتعلم صناعة البناءِ وكان مغرماً بها فابتدأ يعمل في مقلع (محجر) فانفتح لهُ باب واسع لتعلم الجيولوجيا في ذلك المقلع وكان يرى فيهِ أموراً كثيرة تدهشهُ بينما لا يرى أحد من العاملين شيئاً. فأخذ يقابل بين ما يراهُ من طبقات الأرض فيرى ما بينها من المطابقة والمخالفة وما يمتاز بهِ بعضها عن بعض وجرى على هذا النمط معتمداً على بصرهِ وبصيرتهِ وكان رصيناً مجتهداً مواظباً وهذا هو سر نجاحهِ
ومما زاد تعجبهُ وانتباههُ البقايا الآلية التي رآها في الحجارة التي كسرها أو في الصخور التي سحلتها أمواج البحر كالأسماك والأصداف والأشنان. ودام هذا الموضوع شاغلًا عقلهُ سنين عديدة وفي آخرها ألَّف كتابهُ في الحجر الرملي الأحمر القديم فحاز بهِ شهرة عظيمة بين رجال العلم وعدُّوه من علماء الجيولويجيا. وكان هذا الكتاب ثمرة أتعاب سنين عديدة قضاها في التفتيش والتنقير بصبر وجَلَد عظيمين. ولقد قال في سيرته التي ألَّفَها «إنني أنسب نجاحي إلى اعتمادي في البحث والتنقيب على الصبر الأمر الذي يقدر كلُّ إنسان أن يجاريني أو يفوقني فيهِ ولا ريب عندي أنَّ الصبر إذا استُعمل حقَّ الاستعمال نتجت منهُ نتائج خارقة العادة لا يقدر على بلوغها من كانت لهُ موهبة خاصة»
وكان جون برون الجيولوجي في أوَّل حياتهِ بنَّاءً مثل مِلَّر فنبهته الأحافير الكثيرة التي كانت تقع تحت نظرهِ إلى درسها فدرسها وجمع منها مجموعاً كبيراً من أفضل المجاميع الإنكليزية. وهو الذي اكتشف بقايا عظمية من بقايا الفيل والكركدن وأهداها إلى المتحف البريطاني. ثم عكف في آخر حياتهِ على درس الأصداف التي في الطباشير واكتشف عدة اكتشافات مهمة في ذلك. وتُوفِّي سنة ١٨٥٩ ولهُ من العمر ثمانون سنة وكان شهماً مفيداً لأبناءِ جيله ومكرَّماً من الجميع
من مدة وجيزة اكتشف السر رُدرك مرتشسن رئيس الجمعية الجيولوجية جيولوجيًّا كبيراً وهو خبَّاز في شمالي إسكتسيا يُسمَّى روبرت دِك ولما زارهُ في فرنهِ رسم له (روبرت دِك) هيئة بلادهِ الجيولوجية بالطحين وأشار إلى الخطاءِ الذي في الخريطات الموجودة حينئذٍ قائلًا إنهُ قد تأكّد ذلك بطوفانهِ في البلاد في أيام العطلة. وبعد البحث وجد السر ردرك أنَّ ذلك الخباز كان جيولوجيًّا بارعاً ونباتيّاً من الطراز الأول وهاك ما قالهُ في هذا الصدد وهو أنني وجدت ذلك الخبَّاز يعرف علم النبات أحسن مما أعرفهُ بعشرة أضعاف وعندهُ مجموع نباتي حاوٍ كل أنواع النبات إلَّا عشرين أو ثلاثين صنفاً من ذوات الأزهار وهو مرتب أفضل ترتيب وتحت كل نوع اسمه العلمي
أما السر رُدرك مرتشيسن المذكور فعالم مشهور بهذه العلوم وأشباهها وهاك ما قالهُ فيهِ بعضهم في جريدة الكورترلي رڤيو. قال إنَّ هذا الفاضل كان في أوائل حياتهِ جنديًّا ثم عكف على طلب العلم باجتهاد ورغبة لا مثيل لهما فنال شهرة بعيدة واسماً خالداً وذلك لأنهُ ابتاع أرضاً قفراء وأقام سنين كثيرة يبحث في تركيب صخورها ثم رتبها حسب بنائها الطبيعي مشيراً إلى ما في كلِّ طبقة منها من أنواع الأحافير. وهو أول من حلَّ قضيتين كبيرتين من تاريخ الأرض الجيولوجي وهما تذكار لا يمحي لاسمهِ وعلمهِ ولم يكتفِ بذلك بل جال في بلدان كثيرة وفحصها فحصاً جيولوجيًّا مدققاً واكتشف أموراً كثيرة في هذا الفن ولم يقتصر على الجيولوجيا بل عكف على علوم كثيرة حتى صار يُعَدُّ من أشهر رجال العلم
وهنا يجدر بنا أنْ نذكر شيئاً من أقوال العرب وطرفاً من ترجماتهم ممَّا يناسب المقام، فنقول قال الإمام علي كرَّم الله وجههُ «قليلٌ مُدامٌ عليه خيرٌ من كثير مملول «وقال أيضاً «من أطاع التواني ضيَّع الحقوق». وقال الأمام الشافعي «احرص على ما ينفعك ودع كلام الناس»
وقال الشيخ السابوري
وقال بعضهم
وقال ابن لئون التجيبي
وقال ابن سعيد المغربي في وصيته لابنهِ
وقد اشتهر كثيرون من أهل العربية بانتهاز الفرص فإن ابن خلدون المؤرخ المشهور اضطرتهُ أحوال السياسة مرة أنْ يقيم في البادية أربع سنوات فاتخذها فرصة أَلَّف في غضونها مقدمتهُ المشهورة واستقصى حينئذٍ أحوال العرب والبربر وزنانة وكتب أخبارهم في تاريخهِ كما فعل ولتر سكوت عندما كان في جبال اسكتلندا. ثم انتهز فرصة إقامتهِ بالقاهرة فأكمل تاريخه فيها معتمداً على ما وجدهُ في مكاتبها من الكتب. وياقوت الحموي كان مولاهُ ينفذهُ للاتجار إلى البلدان البعيدة فانتهز هذه الفرصة وراقب أحوال هذه البلدان وأثبتها في معجمهِ. ثم اتَّجر بالكتب فلم يرضَ لنفسهِ أنْ يحمل أسباب العلم لغيرهِ ولا ينتفع بها هو بل أكبَّ على الدرس حتى أحاط بعلوم كثيرة
وقال إبرهيم الصولي المغني إنَّ أول شيء أُعطيتهُ بالغناءِ أني كنت بالري أنادم أهلها وأنفق من بقية مال كان معي من الموصل فمرَّ بنا خادم أنفذهُ أبو جعفر المنصور إلى بعض عمالهِ برسالة فسمعني أغني فشغف بي وخلع عليَّ دواج سمور لهُ قيمة ومضى بالرسالة ورجع وقد وصلهُ العامل بسبعة آلاف درهم وكساهُ كسوة فاخرة فجاءَني إلى منزلي فأقام عندي ثلاثة أيام ووهب لي نصف الكسوة وألفي درهم فكان ذلك أول ما اكتسبتهُ بالغناءِ فقلت لا أنفق هذه الدراهم إلا على الصناعة التي أفادتنيها قال ذلك وفعل ففاق كلَّ المغنِّين
وممن اشتهر بانتهاز الفرص واعتبار الوقت ابن رشد الفيلسوف الأندلسي المشهور. قال ابن الأبَّار إنه سوَّد في التأليف عشرة آلاف طبق ورقاً وإنهُ لم يصرف ليلة من عمرهِ بلا درس أو تصنيف إلا ليلة عرسهِ وليلة وفاة أبيهِ. ويُرْوَى أنَّ ابن الصابوني لما صار خازناً للكتب المستنصرية ببغداد لم يرتض أنْ يكون خازناً لكتب ينتفع بها غيرهُ ولا ينتفع بها هو بل أكبَّ على الدرس والتحبير فألَّف مجمع الآداب في خمسين مجلدًا ودر الأصداف في عشرين مجلدًا.
ومما يدلُّ على الثبات في الأعمال وتوخي إتقانها أنَّ ابن القسيس البغدادي نسخ قانون ابن سينا كلَّهُ بخطهِ وهو كتاب ضخم يقع في عشرين مجلداً ثم خرجت النسخة منهُ بحكم شرعي وحصلت لخزانة المدرسة المستنصرية فلمَّا أسنَّ طلبها وقابلها وصححها وأعادها إلى مكانها فنسبهُ مبغضوهُ إلى فضول ومحبوهُ إلى مثوبة يتوخاها. فقال كلا الفريقين مخطئٌ وإنما فعلت ذلك لئلا يُزرَى عليَّ بعد موتي.