سر النجاح (1922)/الفصل الرابع
الفصل الرابع
في المزاولة والثبات
قال دافانان: الغني من إذا انهار الرمل من الساعة الرملية انحنى وجمع رملها حبة حبة كأنه يزر الكواكب.
وقال ده لمبر: تقدمْ والإيمان يتبعك.
أكثر الأعمال العظيمة تمَّت بالوسائل البسيطة وباستخدام القوى العادية. وفي سبيل الحياة العام فُرَص كثيرة للاختبار بل إنَّ طرق الحياة المطروقة أكثر من غيرها تولي المجتهد قوة كافية ليسعى في إصلاح شأنه. والنجاح منوط بناصية الثبات والإقدام فأكثر الناس ثباتاً وإقداماً أكثرهم نجاحاً.
وكثيراً ما لام الناس السعد وعدُّوه أعمى وما العُمْي إلَّا هم فإِنَّا إذا أمعنَّا النظر في أحوال أهل الأعمال رأينا أنَّ السعد لأكثرهم اجتهاداً كما أنَّ الرياح والأمواج توافق الربان الماهر. بل إنَّ أسمى مطالب البشر يمكن البلوغ إليها باستخدام القوى العادية كالانتباه والاجتهاد والمواظبة ولا لزوم لما يسمونهُ قريحة أو عبقرية أو موهبة فائقة. على أنَّ القريحة وإنْ كانت من أسمى القرائح لا تنافي القوى العادية ولا تزري بها. وأعظم الناس شأناً أقلهم إركاناً إلى القرائح وأكثرهم مزاولة لأعمالهم ومنهم مَن عرَّف القريحة بأنها ملكة قوية من الملكات العادية. قال أحد رؤساءِ المدارس: إنها قوة السعي وقال جون فُسْتَر: إنها قوة يضرم بها الإنسان نارهُ. وقال بيفون الشهير: إنها هي الصبر.
لا يخفى أنَّ إسحاق نيوتن كان من ذوي العقول الثاقبة ولكنهُ سُئِل مرةً بماذا اكتشفت كلَّ هذه الاكتشافات الفائقة فأجاب «بالتأمل المستمر فيها» ووَصَف في مكان آخر أسلوب بحثهِ فقال «إني أضع الموضوع نصب عيني وأنتظر حتى يبزغ فجره ويصير نوراً كاملًا». ولم ينل ما نالهُ من الشهرة إلَّا بالاجتهاد والمواظبة مثل غيرهِ من المشاهير بل إنهُ كان إذا تعب من الدرس في علم من العلوم يستريح بإبدالهِ بدرس علم آخر. وقال مرة للدكتور بنتلي «إنْ كنتُ قد خدمت الجمهور بشيءِ فباجتهادي وجَلَدي». فما أشبه ذلك بما قالهُ الفيلسوف كبلر الفلكي المشهور باكتشاف القواعد الثلث التي هي أساس علم الفلك وهو أنَّ تمعُّني في دروسي يجعلني أواصل التفكر في مواضيعها إلى أنْ أغوص في لججها بكل قوى عقلي.
لما رأى بعض المشاهير أن الاجتهاد والثبات أنتجا نتائج خارقة العادة ارتابوا في بوجود ما يُسمَّى قريحة أو عبقرية أو موهبة خاصة. قال فُلتير إنَّ الحد الفاصل بين مَنْ لهُ قريحة ومن ليس لهُ يكاد لا يُرى. وقال بكَّاريا إنَّ كل الناس يمكنهم أنْ يكونوا شعراء وخطباء. وقال رينلدز كل أحد يقدر أن يصير مصوراً ونقَّاشاً. وقال هلفيتيوس وديدرو ولُكْ إنَّ كل الناس قابلون لأن يَسمُوا بالقرائح على حدٍّ سوى وإنَّ ما يفعلهُ البعض بواسطة بواسطة عقولهم يجب أنْ يقدر غيرهم على فعلهِ إذا استخدموا نفس الوسائط التي استخدمها أولئك. إلَّا أنهُ وإنْ يكن كلُّ شيءِ منوطاً بالاجتهاد حتى إنَّ أُولي القرائح هم أكثر الناس اجتهاداً وسعياً فلا يسعنا أنْ ننكر أنهُ ما لم يكن للإنسان قريحة فطرية فائقة لا يقدر أنْ يبلغ مبلغ شكسبير أو نيوتن أو بيتوفن أو ميخائيل أنجلو مهما جدَّ واجتهد.
إنَّ دَلتون الكيماوي أنكر أنَّ له شيئاً من المواهب الفائقة ونسب كلَّ ما حصَّلهُ إلى السعي والاجتهاد. وجون هنتر قال «إنَّ عقلي كقفير النحل يظهر مملوءاً من الطنين والارتباك ولكنه مملوءٌ أيضاً من الهدوء والنظام والطعام المجلوب من أفخر منتجات الطبيعة باجتهاد مستمر». وإذا التفتنا إلى ترجمات مشاهير المخترعين والمؤلفين والصنَّاع من كلِّ نوعٍ ولو لفتة واحدة رأينا أنهم بلغوا ما بلغوا بجدهم واجتهادهم وحوَّلوا كلَّ شيء ذهباً حتى الوقت نفسهُ. وقد ارتأى دزرائيلي الكبير أنَّ نجاح الإنسان يقوم بامتلاكهِ ناصية الموضوع الذي يبتغي النجاح فيهِ ولا يحصل إلَّا بالدرس والانصباب الدائمَينِ. فينتج مما تقدم أنَّ الرجال الذين حرَّكوا الدنيا بأسرها لم يكونوا من ذوي المواهب الفائقة بل كانت قواهم العقلية معتدلة ولكنهم كانوا من أهل الجد والثبات. وكثيراً ما سبق البلداءُ النبلاء الأذكياءَ في ميدان الحياة لأنهم كانوا أكثر منهم مواظبة. قال المثل الإيطالي مَن يسر متمهلًا يسر طويلًا.
فالثبات من أول وسائل النجاح وهو الذي يكمل الأعمال كلها. بالثبات نال السر روبرت بيل ما جعلهُ زينةً وفخراً لمجلس الأعيان الإنكليزي فإنهُ لما كان صبيّاً كان من عادة أبيهِ أنْ يقيمهُ على المائدة ليتكلم ارتجالًا وعوَّده على إعادة كلِّ ما يحفظهُ من المواعظ التي يسمعها نهار الأحد. وكان نجاحه قليلًا في أول الأمر إلَّا أنَّ المواظبة على ذلك قوَّت فيهِ قوتي الانتباه والذاكرة حتى صار قادراً على إعادة موعظة كاملة حرفاً حرفاً. ثم لما دخل البرلمنت وكان يفند أدلة أضداده واحداً واحداً ببلاغة تفرَّد بها قلَّ مَنْ ظن أنَّ تلك الحافظة الفريدة التي فاق بها أقرانهُ قد اكتسبها بإرشاد أبيهِ لهُ وهو حدَث.
وما أعجب ما تفعلهُ المزاولة حتى في الأمور البسيطة فاللعب على الكمنجة يظهر في بادئ أمراً سهلًا لكنه يستدعي مزاولة طويلة متعبة جدًّا قيل إنَّ شابّاً قال لجِيَرْديني في كم من الزمان أتعلم اللعب على الكمنجة فأجابه في عشرين سنة إذا مارستهُ اثنتي عشرة ساعة كلَّ يوم. ومن يجهل مقدار العناء الذي يعانيهِ الممثلون قبلما يتمكنون من التمثيل. قيل إنَّ تَغْلِيوني الشهيرة كانت قبلما تمثل شيئاً تمارسهُ ساعتين متواليتين وعندما تنتهي الساعتان يغمى عليها من شدة التعب فتجرَّد من ثيابها وترشُّ بالماءِ والمنعشات وكان يصيبها مثل ذلك أيضاً عندما تنتهي من التمثيل
والارتقاء في سلَّم النجاح أمر بطيء جدًّا والنتائج العظيمة لا يبلغها الإنسان دفعة واحدة فعلى كل أحد أنْ يقنع بالارتقاءِ المتدرج. قال ده مايستر إنَّ سر النجاح هو أنْ يعرف الإنسان كيف يتوقع النجاح بالصبر. فعلى الإنسان أنْ يزرع قبل أنْ يحصد وكثيراً ما يضطرُّ أنْ يصطبر وقتاً طويلًا قبلما يصل إلى الحصاد. وأفضل الأثمار أبطؤها نضجاً. قال الشاعر
وقال الآخر
ولا يستطيع الإنسان أنْ يتوقع بلوغ أمانيهِ بالصبر ما لم يجتهد في بلوغها عن طيب نفس. والاجتهاد وطيب النفس تسعة أعشار الحكمة وهما حياة النجاح وروحهُ. وما من لذة في الدنيا أتم من لذة العامل بعمله إذا كان عملهُ عن طيب نفس. قيل إنَّ سدني سمث الشهير لما كان كاهناً في إحدى القرى لم يحسب نفسه عاملًا في العمل الذي يصلح لهُ لكنهُ أخذ فيهِِ بسرور عازماً أنْ يبذل فيهِ جهدهُ فقال «قد صممتُ على أنْ أحب هذا العمل وأوفّق نفسي لهُ فذلك خير من الترفع عليهِ والتذمر منهُ» ومما يماثل ذلك قول الدكتور هوك عندما انتقل إلى عمل جديد قالٍ «حيثما أكون فإني سأفعل بقوتي كل ما تجدهُ يدي وإنْ لم أجد عملًا أوجدت عملًا لنفسي»
والمشتغلون بصلحة الجمهور أنْ يشتغلوا زماناً طويلاً بالصبر لأن كثيرين منهم قد زرعوا زرعهم فغمرتهُ ثلوج الشتاءِ وقبلما جاءَ الربيع وافتهم منيَّتُهم فمضوا ولم يروا نتيجة تعبهم. وفي مثل هذه الأحوال لا شيءَ أفضل من الرجاءِ ولا شيء يقوم مقامهُ فالرجاءُ أو الأمل هو الذي يشجع الإنسان ويقوّيهِ على اقتحام المصاعب. قال الشاعر
إنَّ كاري المبشر الشهير فاق أقرانهُ في كثرة لأعمالهِ ولكنهُ كان دائماً مسروراً وذلك لرجائهِ الثابت وأملهِ الوطيد. قيل إنهُ وهو في الهند كان يشغل ثلاثة كتَّاب فأكثر وكان إذا تعب من عمل وأراد أنْ يستريح يبدلهُ بعمل آخر. وكان معهُ اثنان وهما ورد ومرشام1 وبهمة هؤلاء الثلاثة أقيمت مدرسة كلية في سيرمبور وستة عشر مركزاً للوعظ وترجمت التوراة إلى ست عشرة لغة وصار انقلاب أدبي عظيم في كلِّ الهند الإنكليزية. ومع أنَّ أصل هذا الرجل وضيع كما أشرنا لم يكن يخجل من ذلك. قيل إنهُ دُعِي مرة إلى وليمةٍ أولمها الوالي فسمع وهو على المائدة أحد الضباط يقول لجارهِ ألم يكن كاري سكَّافاً فأجابه كاري على الفور كلا يا مولاي بل كنتُ أُرقع الأحذية العتيقة. وقيل إنهُ حاول في حداثتهِ طلوع شجرة فسقط وكُسر رجلهُ فلازم الفراش إلى أنْ جبرت وأول ما استطاع النهوض والمشي ذهب إلى تلك الشجرة وطلعها ومازال ذلك دأبهُ الذي غلب بهِ كلَّ المصاعب التي حالت دون إتمام مقاصده.
وكان من جملة مبادئ الدكتور ينغ الفيلسوف أنَّ كل إنسان يقدر أنْ يعمل كل ما عملهُ إنسان آخر. وما أحسنَ ما قالهُ ابن الوردي
ومن المعلوم أنَّ ينغ هذا لم يأخذ في عملٍ وأَلَا عنه جهداً. روى بعضهم أنهُ أول ما ركب فرسًا وسار مع فارس شهير فوصلا إلى جدار رفيع فوثب الفارس بجواده من فوقهِ فأراد ينغ أنْ يقتدي به فسقط عن ظهر جوادهِ فركب وحاول ثانيةً فسقط ولكنه نهض قبلما وصل إلى الأرض وحاول ثالثةً فنجح.
ومما يماثل ذلك الحادثة التي حدثت لأوديبون العالم بالطيور وقد قصَّ خبرها بقولهِ «أصابتني مصيبة أتلفت مئتي رسم من رسوم الطيور التي رسمتها ولاشت كل أتعابي في هذا الفن. فإنني وضعتُ هذه الرسوم في صندوق وائتمنت عليه رجلًا من معارفي بعد أنْ طلبتُ منهُ أنْ يحترس عليهِ كلَّ الاحتراس لأني ضمَّنتهُ نتيجة أتعاب سنين عديدة. ثم مضيت لأمرٍ ما وبعد بضعة أشهر رجعت وافتقدت الصندوق الذي كنت أسميهِ كنزي ولما فتحتهُ وجدت ما تتفتَّت له الأكباد لأن كلَّ أتعابي أضحت فريسة لجرذين كبيرين دخلا الصندوق من أحد جوانبهِ وقرضا كلَّ ما فيهِ من الأوراق وطحناها طحناً وولدا بينها عائلة كبيرة. فصعد الدم إلى رأسي وأصابتني رجفة ورعدة وانطرحت على ظهري ومضى عليَّ أيام عديدة وأنا في سبات عميق. ولما رجعت إلى نفسي أخذت بندقيتي وقلمي وانطلقت إلى الغابات كأن لم يكن من الأمر شيء بل كنتُ مسروراً بأني صرت أقدر أنْ أرسم رسوماً أفضل من الأولى. وهكذا كان لأنه لم يمضِ عليَّ إلَّا ثلاث سنوات حتى جمعت بدل كلِّ ما خسرتهُ»
ومن قبيل ذلك ما أصاب أوراق السر إسحاق نيوتن وذلك أنَّ كلبهُ رمى عليها شمعة مشتعلة فأحرقتها ولاشت حسابات كبيرة كان ذلك الفيلسوف قد تعب سنين عديدة على استخراجها. ويقال إنه حزن من جراءٍ ذلك حزناً مفرطاً أثَّر في صحته تأثيراً شديداً وأضعف فهمهُ. ومثل ذلك ما أصاب المجلد الأول من كتاب كارليل في الثورة الفرنسوية فإن رجلًا استعارهُ ليطَّلع عليهِ فحدث أنهُ ألقاهُ في أرض غرفة ونسيهُ وبعد مدةٍ أرسل كارليل في طلبهِ ليطبعهُ فرود إليهِ الجواب أنَّ الخادمة وجدتهُ ملقًى على الأرض فظنتهُ رزمة ورق لا منفعة منها وأخذت تضرم النار بهِ. فما أشدَّ ما أصاب كارليل عندما سمع هذا الجواب ولا سيما لأنهُ لم يكن عندهُ شيءٌ من أصلهِ فالتزم أنْ يجهد ذاكرتهُ ويؤلفهُ ثانيةً وتعب في ذلك تعباً لا يوصف ولا يصدَّق ولكنهُ ألَّفهُ ثانية وتأليفهُ له في مثل تلك الأحوال يشهد لهُ بما تفرد بهِ من شدة العزم وعلو الهمة.
ومما يظهر قوة الثبات بأكثر إيضاح سلوك المخترعين. روى بعضهم أنهُ كان من عادة جورج ستفنسن أنْ يقول للشبان عندما ينصح لهم «افعلوا كما فعلت أي اثبتوا». قيل إنهُ بقي يحسِّن في المركبة البخارية التي اخترعها خمس عشرة سنة قبلما فازت بالسبق. وجمس وط قضى على عمل آلتهِ البخارية ثلاثين سنة قبلما أتمها. وللثبات أمثلة كثيرة مدهشة في كلِّ نوع من العلوم والصنائع ومن ألذّها الحوادث المتعلقة باستخراج آثار نينوى واكتشاف قراءة الكتابات السفينية أو المسمارية المرسومة عليها بعد أنْ فُقِدَت قراءتها منذ عصر الإسكندر. أما طريقة اكتشافها فكانت كما يأتي
كان في قرمان شاه من بلاد فارس جندي إنكليزي اسمه رولنصن من شركة الهند الشرقية. فرأى كتابة سفينيَّة قديمة في جوار قرمان شاه فنسخها وكان من جملة ما نسخهُ الكتابة المرسومة على صخر بهستون وهو شاهق يبلغ ارتفاعهُ ألفاً وسبعمائة قدم وعلى سفحهِ كتابات بالفارسية والسكيثية والآشورية ومن مقابلتهِ المجهول بالمعلوم من هذه الكتابات عرف شيئاً من مجهولها وركَّب حروفهُ الهجائية. ثم أرسل رسم ما نسخهُ إلى إنكلترا لكي يطَّلع عليهِ رجال العلم ويجيلوا فيهِ نظرهم. ولم يكن حينئذٍ أحدٌ من أساتذة المدارس الأوربية يعرف شيئاً من أمر هذه الكتابة. إلَّا أنَّ رجلًا اسمهُ نورس كان قبل ذلك كاتباً عند الشركة المذكورة وقد انتبه لهذه الكتابة وأمعن النظر فيها ونجح في حلها بعض النجاح فلما اطَّلع على الرسم الذي رسمهُ رولنصن وأعمل فيهِ نظرهُ قال إنَّ في نسخه بعض الخطأ مع أنه لم ينظر صخر بهستون قط. وكان رولنصن لم يزل في جوار ذلك الصخر فراجع الرسم فرأى أنَّ نورس مصيب في تخطئتهِ فأصلحهُ. ثم قام رجل ثالث اسمهُ لَيَرْد وأحضر لهما شيئاً كثيراً من هذه الكتابات لكي يتسع بحثهما.
وكان ليرد المذكور كاتباً عند محام بلندن. ولما كان لهُ من العمر اثنتان وعشرون سنة طاف في بلاد المشرق قاصداً أنْ يقطع الأراضي التي عبر الفرات ولم يكن معهُ سوى رفيق واحد فمرَّ في وسط قبائل كثيرة متحاربة ونجا منها بقوة ذراعهِ وطلاقة وجههِ وأنس محضرهِ وعلو همتهِ. فوصل إلى أطلال نينوى ونقبها واستخرج منها كنوزاً تاريخية جزيلة الفائدة لم يستخرج مقدارها إنسان واحد قط ولو وُضِعَت قطعها الواحدة حذاءَ الأخرى لملأت مساحة ميلين مربعين. فنُقلَت نُخبة هذه الآثار إلى لندن ووُضِعت في التحف البريطاني وقُرئت فإذا بها تتفق اتفاقاً غريباً مع نص التوراة في حوادث جرت من مضي ثلاثة آلاف سنة وأكثر كأنها وحي جديد هبط على البشر. ولم يكتف لَيرْد باستخراج هذه الآثار بل ألَّف فيها كتاباً جليلًا صادق الرواية حسن الانسجام يشهد لهُ بعلو الهمة وعظم الثبات.
ومن الذين كانوا مثالًا في الصبر والاجتهاد بيفون الشهير الذي قال إنَّ الموهبة الفائقة هي الصبر. فقد كانت قواهُ العقلية في حداثتهِ معتدلة بل ضعيفة وكان كسلان طبعاً عرضة لأن يعيش عيشة الترف إذ كان من ذوي الثروة والوجاهة إلَّا أنهُ اجتنب الترف في حداثتهِ ولم يعطِ نفسهُ هواها بل أنكر عليها لذَّاتها وعكف على الدرس حاسباً الوقت كنزاً محدوداً. ولما رأى أنهُ يضيع ساعات عديدة لأنه لا يقوم باكراً عزم أنْ يعتاد على القيام الباكر وحاول ذلك مراراً فقصَّر عنهُ ولم يقدر على القيام في الساعة التي عينها فاستعان بخادمهِ ووعده بأن يعطيهُ ريالًا في كلِّ يوم يوقظهُ فيهِ قبل الساعة السادسة صباحاً. إلَّا أنهُ كان عندما يدعوهُ الخادم للقيام يدَّعي أنهُ مريض أو يظهر الغضب فلما رأى الخادم أنهُ لم يربح شيئاً سوى التوبيخ عزم على أنْ يكسب الريال على أي حال فألح عليهِ يوماً أنْ يقوم فلم يقم فأتى بماءِ مثلج وسكبهُ في فراشهِ فنهض حالًا فلما رأى الخادم أنهُ نجح بهذه الواسطة واظب على استعمالها إلى أنْ اعتاد سيده على القيام الباكر. وكان يقول إنهُ مديون لخادمه بثلاثة أو أربعة مجلدات من كتابه في التاريخ الطبيعي.
وبقي هذا العلَّامة يشتغل في الدرس والتأليف إحدى عشرة ساعة كلَّ يوم مدة أربعين سنة إلى أنْ صار الشغل ملكة راسخة فيهِ قال مؤرخ حياتهِ «إنَّ الشغل من لوازمه والدرس من لذات حياتهِ» ولم يكن يتعب من تهذيب كتاباتهِ فكان ينقحها مراراً كثيرة لكي يجعل عبارتهُ بسيطة طلية. ومن كتبهِ ما كتبهُ إحدى عشرة مرةً قبلما حسبهُ أهلًا للنشر. وكان مع علوِّ همته كثير الترتيب والتدقيق. ومن قولهِ إنَّ القريحة بلا ترتيب تخسر ثلاثة أرباع قوتها. وكل ما حصَّلهُ إنما حصله بتعبهِ واجتهادهِ. قالت مدام نكر إنَّ بيفون كان يقول إنَّ ما يُدعَى قريحة ليس إلَّا حصر الفكر في موضوع واحد وإنهُ كان يملُّ عندما يؤلف شيئاً ولكنهُ كان يعيد نظرهُ على ما ألفهُ ثم يعيده ثانيةً وثالثة فيجد في تنقيحهِ وتهذيبهِ لذَّةً عوضاً عن الملل. ومن المعلوم أنهُ ألف كلَّ ما ألفهُ وبهِ داءٌ أليم من أشد الأدواء المُعرَّض لها الجسم الإنساني والله در من قال
وبين الشعراءِ والأدباءِ رجال كثيرون يُتَّخذون أمثلة على الثبات والمواظبة منهم السر ولتر سكوت الشاعر الأسكتسي الشهير الذي تمرَّن على العمل وهو كاتب بل ناسخ عند محام وكان عملهُ على نسق واحد فسئمهُ وكان مرتبطاً بهِ في النهار وحرًّا ليعمل ما يشاءُ في المساء فعكف على الدرس والمطالعة. وكان إذا أراد ابتياع كتاب يجهد نفسهُ بنسخ مئَة صفحة أو أكثر فوق المطلوب منهُ فيشتري بأجرتها الكتاب المذكور
وبعد أنْ تقدم في السن والشهرة كان يفتخر بكونهِ كثير العمل ويناقض القائلين إنَّ أهل المواهب الفائقة لا يُضطَرون إلى إتمام الأعمال العادية وجزم أنَّ القوى العقلية تقوى بتعاطي الأعمال. ولما دخل محكمة أيدنبرج كاتباً كان يصنف كلَّ ما يريد تصنيفهُ من نظم ونثر قبلما يفطر ويقيم بقية النهار في المحكمة والظاهر أنهُ كان يشتغل نصف وقته فقط في التصنيف والنصف الآخر في القيام بواجبات منصبهِ لأنهُ حكم على نفسه أنْ يحصل معيشتهُ مما يعملهُ لا مما يؤلفه. وقال ذات مرة إني عقدت قلبي على أنْ أجعل التأليف قضيباً أمسكهُ بيدي والعمل عكازاً أتوكأ عليهِ وأن لا أعتمد في معيشتي على ما أربحهُ من التأليف ولو كان كثيراً
وكان التدقيق في حفظ الوقت ملكة راسخة فيهِ ولولاهُ ما أمكنهُ أنْ يصنِّف كلَّ ما صنفهُ فقد آلى على نفسهِ أنْ يجيب عن كل كتاب يرد إليهِ في اليوم الذي يرد فيهِ ما لم يكن فيهِ شيءٌ يقتضي تأخير الجواب ولولا ذلك ما أمكنه أنْ يجيب الرسائل الكثيرة التي كانت تَرِد عليهِ. فكان ينهض من فراشه الساعة الخامسة أي قبل الظهر بسبع ساعات فيقضي ساعة في الحلاقة واللبس ويجلس في مكتبه الساعة السادسة وأوراقهُ وكتبهُ مرتبة أمامهُ أكمل ترتيب فيأخذ في أشغالهِ إلى أنْ يجتمع أهل بيتهِ للفطور بين الساعة التاسعة والعاشرة. ومع كلِّ جدهِ واجتهادهِ وعلمهِ الجزيل الذي هو نتيجة درس سنين كثيرة لم يكن فيهِ شيءٌ من الغرور بل كان يقول إنَّ جهلهُ كان يعربسهُ في كلِّ عمل أخذ فيهِ
وهذه هي الحكمة الحقيقية والاتضاع الحقيقي لأنهُ كلما زاد الإنسان علماً قلَّ اعتدادهُ بنفسهِ. قيل إنَّ أحد الطلبة ذهب إلى أستاذهِ واستأذنهُ في الانصراف قائلاً على أنهُ أكمل علمهُ أجابهُ الأستاذ إني أرى عجباً في ما تقول لأنني أنا أراني قد ابتدأْت بالعلم الآن. ومن لم يرتشف إلَّا اليسير من بحار المعارف عدَّ نفسهُ قد بلغ من الحكمة أقصاها وأمَّا الحكيم الحقيقي فيقر أنه لا يعرف شيئاً أو يقول كما قال نيوتن إنهُ جامع أصداف على شاطئ بحر الحقائق.
وبين المؤلفين الذين يُعَدُّون من الطبقة الثانية كثيرون يُضرَب بهم المثل في الثبات والاجتهاد منهم جون برتون مؤلف كتاب «محاسن إنكلترا وولس» وكتب اخرى في فن البناءِ فإنهُ وُلد في كوخ حقير في كنستون وكان أبوه خبَّازاً فجُنَّ بسبب خسارة مالية اصابتهُ حينما كان ابنهُ صغيراً فوُضع عند عمه وهو صاحب خان فبقي عندهُ أكثر من خمس سنوات وعملهُ صب الخمر في القناني وساءت صحتهُ فتركه عمهُ ليهيم على وجههِ وفي جيبهِ جنيهان فقط وهما أجرة السنوات الخمس التي خدمه فيها. فمضى عليهِ وهو على هذه الحال سبع سنوات قاسى فيها مشقات لا تُوصَف إلَّا أنهُ سعى وراءَ المعرفة فنال منها الحظ الأوفر. قال في تاريخ حياتهِ «إنني كنتُ نازلًا في منزل حقير ولم أقدر أنْ أشتري وقوداً في ليالي الشتاءِ فكنتُ أدرس وأنا في فراشي». ثم سافر إلى باث ماشياً وبعد أنْ أقام فيها برهة رجع إلى لندن حافياً لا قميص على بدنهِ. ثم وجد عملًا في حان لندن وكان هذا العمل في دهليز تحت الأرض فأثَّر في صحته تأثيراً شديداً لأنهُ كان يعمل فيهِ عملًا شاقًّا ثماني عشرة ساعة كلَّ يوم فتركهُ ودخل كاتباً عند محام وكان يأخذ خمسة عشر شلناً كلَّ أسبوع لأنهُ كان قد أتقن الخط فصار يتردّد على مخازن الكتب في ساعات الفراغ ويقرأ ما لا يستطيع ابتياعهُ من الكتب. فاقتطف كثيراً من ثمار المعرفة ولما دخل في الثامنة والعشرين من العمر كتب كتاباً سماهُ مساعي بيزارو ومن ثمَّ عكف على التأليف والتصنيف ودام على ذلك خمسين سنة إلى أنْ أدركتهُ الوفاة. ومؤلفاته المطبوعة تنيف عن سبعة وثمانين كتاباً أشهرها كتاب آثار كنائس لندن في أربعة عشر مجلداً وهو تذكار لاجتهادهِ ومواظبتهِ.
ومنهم لودُن البستاني الذي كان يدرس ليلتين كاملتين كلَّ أسبوع وهو صانع عند بستاني فتعلم اللغة الفرنسوية وترجم سيرة أبيلرد قبل أنْ بلغ الثامنة عشرة وكان معها ذُكر حريصاً على النجاح حتى إنهُ لما بلغ العشرين من عمرهِ كتب في مفكرتهِ «الآن قد بلغت السنة العشرين وربما كان ثلث حياتي قد مضى فما هو العمل الذي عملته لإفادة بني نوعي» وهذا أمر يستغرب من شاب في هذا السن. وبعد أنْ أتقن الفرنسوية درس الألمانية وأتقنها في برهة وجيزة واقتنى أرضاً واسعة واستعمل فيها الإصلاحات الأسكتسية في فن الزراعة فنجح وأحرز ريعاً في وقت قصير. ثم ساح في ممالك أوربا مرتين لكي يطَّلع على أحوالها الزراعية وكتب نتائج سياحتهِ في إنسكلوبيدياه الشهيرة التي جمع فيها من الفوائد ما يقل نظيرهُ
ومنهم صموئيل درو وهو ابن فاعل فقير وكان لهُ أخ أكبر منهُ يُدعَى جابز فوضعهما أبوهما في مدرسة صغيرة وكان يدفع عليهما أربعة مليمات كل أسبوع. فأفلح جابز في دروسه وكان هادئاً مجتهداً وأمَّا صموئيل فلم يفلح بل كان مشهوراً بطيشه ومحبتهِ للَّعب. فلما بلغ الثامنة من عمرهِ أخرجهُ أبوه من المدرسة ووضعهُ في منجم قصدير بأجرة ستة مليمات كلَّ يوم ولما بلغ العاشرة وُضِع عند سكَّاف ليتعلم صناعة السكافة فلقي ما لا يُقدَّر من التعب حتى إنهُ عزم مراراً كثيرة على الهرب واتِّباع القرصان. وكان يتقدَّم في الطيش بتقدمه في السن فاشتُهر بسرقة الجنائن وتهريب الأمتعة. ولما بلغ السابعة عشرة هرب عازماً أنْ يدخل خادماً في سفينة حربية. ولكنهُ لم ينل مأْربهُ. ثم انتقل إلى جوار بليموث وشرع يعمل في حرفة السكافة. وبينما هو هناك أوشك أنْ يهلك بسبب التهريب من الجمرك وقد حملهُ على ارتكاب ذلك محبة اقتحام المخاطر وانتظار الربح لأنهُ لم يكن يحصِّل بحرفتهِ أكثر من ثمانية شلنات في الأسبوع. أمَّا تفصيل هذه الحادثة فكما ترى. بلغهُ مرة أنَّ سفينة تجارية أقبلت وقاربت البر فهرع جميع الرجال الذين صناعتهم تهريب البضائع في فريقين فريق بقي على الشاطئ لينذر بالخطر ويستلم البضائع وفريق ركب القوارب التي كانت هناك وبينهم درو وكانت الظلمة حالكة جدًّا. وقبل أنْ أنزلوا قسماً كبيراً من الشحن عصفت الرياح وتعالت الأمواج إلَّا أنهم كانوا معتادين اقتحام المخاطر فلم يرعهم ذلك بل عزموا على تفريغ الشحن كلهِ. وفيما هم كذلك أطارت الريح قبع أحد رجال القارب الذي فيهِ درو فمال لكي يمسكهُ ففُقدَت موازنة القارب وقُلِب فغرق ثلاثة من رجالهِ وامسك الباقون بهِ ولكنهم وجدوا أنهُ أخذ في التوغل بهم في البحر فتركوهُ وشرعوا في السباحة وبينهم وبين الشاطئ نحو ميلين. وبعد ثلاث ساعات وصل درو إلى صخر بجانب الشاطئ مع ثلاثة من رفاقهِ وبقوا عليهِ إلى الصباح حتى كادوا يموتون برداً. فعلم بمكانهم بعض رفقائهم فأتوا إليهم وسقوهم شيئاً من البرندي الذي هرَّبوه فأفاقوا
إلا إنَّ هذا الإسكاف الذي شبَّ على السرقة وتهريب البضائع صار مبشراً فاضلًا ومؤلفاً بارعاً وهاك تفصيل ذلك: لمَّا سمع أبوهُ بما هو عليهِ أرجعهُ إلى بيتهِ فصار يسمع مواعظ الدكتور آدم كلرك، فأثَّرت فيهِ تأثيراً شديداً ثم مات أخوهُ فزاد موتهُ في تحويل أفكارهِ عن الجهل والطيش إلى التعقل والرزانة. وكان قد نسي ما تعلمهُ في صغرهِ من القراءة والكتابة فأخذ يدرس باجتهاد وثبات وبعد تعب سنين عديدة أتقن القراءة والكتابة بعض الإتقان ثم أخذ يطالع الكتب الكثيرة ويقتبس ما فيها من الفوائد. وممَّا قالهُ عن حالهِ حينئذٍ إنني كنت كلما أكثرت المطالعة كثر شعوري بجهلي واشتدت رغبتي في المطالعة فكنت اغتنم كلَّ فرصة للدرس وكان الوقت الذي يمكنني أنْ أدرس فيه قصيراً جدًّا لأني كنت مضطرًّا أنْ أعمل كلَّ النهار لأجل تحصيل ما يقوم بمعيشتي فكنت أفتح كتاباً أمامي وقت الأكل فأقرأ في وقت كلِّ وجبة نحو خمس صفحات. ونحو ذلك الوقت قرأ مقالة الفيلسوف لوك في الفهم فكانت أول باعث على توجيه أفكارهِ إلى علم ما وراء الطبيعة (المتافيزيك) وتجريده عما فيه من شوائب الأوهام.
ثم شرع يعمل في حرفتهِ وحدهُ لأنه كان كل هذه المدَّة صانعاً عند سكاف وكان رأس مالهِ دريهمات قليلات. إلَّا أنَّ أحد جيرانهِ وكان طحَّاناً عرض عليهِ مبلغاً من المال قرضةً فقبله منهُ واشترى الأدوات اللازمة وأخذ في عملهِ ولم تمضِ عليه سنة حتى وفَّاهُ وكان قصارى رغبتهِ الاستقلال في العمل والاقتصاد فكان ينام أحياناً بلا عشاء مخافة أنْ يصبح وعليهِ دين. ولم ينسَ تهذيب عقلهِ فأكثر من المطالعة ودَرَس علم الفلك والتاريخ وما وراء الطبيعة وعكف بالأكثر على هذا العلم الأخير لأن كتبهُ التي يرجه ‘ليها أقل من كتب الفلك والتاريخ وقال إنني أعلم أنَّ هذا المسلك وَعِر لا يسلكه من كان مثلي ولكني عازم على الولوج فيهِ. ثم زاد على السكافة وعلم وما وراء الطبيعة الوعظ والسياسة فأضحى حانوتهُ نادياً لرجال السياسة من أهل قريتهِ حتى إذا انقطعوا عن المجيء إليهِ ذهب إليهم. فانهمك في ذلك أي انهماك وأضاع قسماً كبيراً من وقتهِ حتى كان يضطر أنْ يعمل إلى نصف الليل بدل ما يضيعه في النهار. فحدث ذات ليلة أنهُ كان يطرِّق نعلًا في حانوتهِ فمرَّ بهِ ولد صغير ووضع فمهُ في ثقب المفتاح وصرخ قائلًا «يا سكَّاف يا سكَّاف اشتغل في الليل ودُر في النهار «قال درو فيما بعد إنهُ لو أُطْلِقَت طبنجة حينئذٍ في أذني ما كنت انتبهت إليها أكثر مما انتبهت إلى صوت ذلك الولد فطرحت النعل من يدي وقلت في نفسي لقد أصاب فلا بُدَّ من أنْ أترك هذه العادة حتى لا أدعهُ يقول مثل ذلك مرة أخرى ما دمت حيًّا ولا ريب عندي أنَّ هذا الصوت من الله فتعلمتُ منهُ أن لا أترك للغد ما يمكنني عملهُ اليوم ولا أتكاسل في عملي أبداً. ومن تلك اللحظة طرح السياسة جانباً وعكف على عمله محيياً أوقات العطلة في الدرس والمطالعة. ثم تزوَّج ومال إلى نظم الشعر وكان مكتبهُ المطبخ ومكتبتهُ المنفخ
وفي ذلك الوقت انتشر كتاب باين المعنون «بعصر العقل» ووقع عند البعض موقعاً حسناً فألف درو رسالةً ردَّ عليهِ وكان يقول بعد ذلك إنَّ عصر العقل صيَّرهُ مؤلفاً
ثم كتب كتباً أخرى ونشرها منها كتابه المشهور في جوهرية النفس وخلودها كتبهُ وهو يعمل في حرفة السكافة وباعهُ للطبع بعشرين جنيهاً وكان ذلك ثمناً كبيراً. وقد طُبِع هذا الكتاب مراراً عديدة ولم يزل من الكتب القيمة إلى يومنا هذا. ولم يغترَّ بما صادفهُ من النجاح ولم ينتفخ ككثير من المؤلفين الأحداث بل بقي يعمل في حرفتهِ إلى ما بعد اشتهارهِ بالتأليف وكان يكنس أمام باب دكانهِ بيدهِ. ولم يتوقع أنْ يعيش من قلمهِ بل من مِخْرَزه وإبرتهِ على أنهُ عزم أنْ يقضي كلَّ أوقات العطلة بالقراءة والتأليف ولكنه زاد علماً وشهرة حتى استُخدم منشئاً لإحدى الجرائد ومحرراً لبعض الكتب وكان يكتب في مجلة الأكلكتك وألَّف تاريخاً قيما لوطنه وكتباً أخرى. وبقي يقول إلى آخر دقيقة من حياتهِ إني ابتدأت من أدنى الدرجات واجتهدت دائماً في البلوغ إلى أعلاها بالمواظبة والاقتصاد والاستقامة وقد وفَّقتني العناية الإلهية وكلَّلت مساعيَّ بالنجاح
وممن اشتُهروا بالمواظبة يوسف هيوم الذي كان الثبات شعاراً لهُ وفاق مَن سواهُ بالاجتهاد والحزم مع أنَّ قواهُ العقلية كانت معتدلة فإن أباه مات وتركهُ صغيراً فعالتهُ أمّهُ بعمل يديها ووضعتهُ عند جرَّاح ليتعلم الجراحة فتعلم وسافر إلى الهند مراراً عديدة2 جرَّاحاً في السفن ثم دخل في خدمة الشركة الهندية فقام بعبءِ منصبهِ بكل نشاط ونال احترام من هم أعلى منهُ فرفعوا مرتبتهُ. وسنة ١٨٠٣ دخل في فرقة من الجند فمات الترجمان فأقيم مقامهُ لأنهُ كان قد درس اللغات الهندية وأتقنها ثم جُعِل رئيساً على أطباء الجند وتسلَّم إدارة البريد ودفع الأجور وتعهَّد بتقديم المؤن للجنود وقام بعبءِ هذه الأعمال كلها. وبعد أنْ قضى نحو عشر سنين في العمل المتواصل رجع إلى إنكلترا بمال وافر وكان أول شيءِ عملهُ أنْ أعطى فقراء عائلتهِ ما يكفيهم على حدِّ قول الشاعر
ولم يكن ممن يتمتعون بثمرة عملهم بالكسل والتراخي بل كانت لذتهُ العظمى في انصبابهِ على العمل فطاف كل المدن الصناعية في المملكة لكي يطَّلع على حالتها الأدبية والمادية ثم طاف البلدان الأجنبية لكي يطلع على أحوال صنائعها ومعاملها ورجع إلى بلاده ودخل البرلمنت سنة ١٨١٢ وبقي فيه نحو أربع وثلاثين سنة. وأول خطبة ألقاها في البرلمنت كانت في التعليم العمومي. وكان في كلِّ مدة عضويته مهتمًّا بهذه المسألة وغيرها من المسائل التي تأول إلى رفع شأن الأمة كإصلاح السجون وإقامة بنوك الاقتصاد وحرية التجارة والاقتصاد في النفقات وتوسيع نطاق الانتخاب لمجلس النواب وما أشبه. ولم يتعرض لموضوع إلَّا أفرغ فيهِ جهدهُ ولم يكن فصيح اللسان إلَّا أنهُ كان لكلامه وقع عظيم لأن السامعين رأوا فيهِ كلام رجل مستقيم مدقِّق وكثيراً ما كانوا يغلبونه بأكثرية الأصوات ولكنه كان يدافع عن آرائهِ بحماسة شديدة فتحصل الفائدة من كلامهِ ولو غلِب.
وكانت أعمالهُ كثيرة جدًّا فكان يقوم قبل الظهر بست ساعات ويكتب تحاريرهُ ويهيِّئ أوراقه للبرلمنت ويتناول غداءهُ ويقابل نحو عشرين ممَّن لهم أشغال معهُ ثم يذهب إلى البرلمنت. وكثيراً ما كان اجتماع البرلمنت يمتد إلى الساعة الثالثة بعد نصف الليل فكان يلازمهُ من أولهِ إلى آخرهِ. والخلاصة أنهُ باشر أعمالًا عظيمة وواظب عليها سنين كثيرة وكثيراً ما كان كلُّ أعضاءِ البرلمنت يقومون عليه ويهزاون بهِ ويغلبونهُ ولكنهُ لم ينثنِ عن عزمهِ ولا خارت قواهُ ولا ضعفت آماله. وعاش حتى رأى الجميع يسلِّمون بأكثر مطالبهِ ويمدحونها ويعملون بها. وهذا من أعظم ما جاءت بهِ ترجمات البشر وأكبر الأدلة على قوة الثبات
ولا يحسن بنا أنْ نختم هذا الفصل قبل أنْ نضيف إليه شيئاً مما جمعناهُ بعد البحث والتنقيب عن الذين اشتُهروا في البلاد الشرقية وكانوا مثالًا في الثبات والمواظبة. فزهير بن أبي سلمى كان ينظم القصيدة الواحدة في أربعة أشهر وينقحها أربعة أشهر ويعرضها على الشعراء أربعة أشهر، ثم يشهرها فسمِّيت قصائده بحوليَّات زهير. والأخطل بقي سنة كاملة يهذب قصيدتهُ التي يقول فيها «خفَّ القطين فراحوا منك أو بكروا» قبلما بلغ كلَّ ما أراد منها
وابن الجوزي ألَّف كتباً أكثر من أنْ تعد والناس يغالون في ذلك على ما قالهُ ابن خلكان ويقولون إنه جُمِعَت الكراريس التي كتبها مدة عمره وقُسمَت على المدة فكان ما خصَّ كلَّ يوم تسع كراريس
وجلال الدين السيوطي كتب في كلِّ مسألة مصنفاً بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسيَّة وبلغت مصنفاته نحواً من أربع مائة مصنّف
وعبد اللطيف البغدادي لم يخلِ وقتاً من أوقاته من النظر في الكتب والتصنيف والكتابة ومصنفاتهُ عديدة تنيِّف على المائة والستين. وكان يُقرئ الناس في النهار بالجامع الأزهر وفي الليل يشتغل على نفسهِ. وكتبهُ تشهد لهُ بدقة البحث وسعة الاطلاع وغزارة المادة وصدق الرواية.
وأبو الفرج الأصبهاني جمع كتاب الأغاني في خمسين سنة. ولم يقتصر عليهِ بل ألَّف كتباً أخرى كثيرة ككتاب الإماء الشواعر وكتاب الديارات وكتاب الحانات وآداب الغرباء وكتاب أيام العرب وكتاب التعديل والانتصاف في مآثر العرب ومثالبها.
وابن الأثير صاحب المثل السائر والوشي المرقوم حفظ من الأشعار القديمة والمحدثة ما لا يُحصَى كثرة ثم اقتصر على شعر أبي تمام الطائي وأبي عبادة البحتري وأبي الطيب المتنبي وكان يكرر عليها بالدرس مدة سنين حتى تمكَّن من صوغ المعاني وصار الإدمان لهُ خلقاً.
وحنين بن إسحاق المترجم المشهور ألَّف أكثر من سبعين كتاباً عدا الرسائل الكثيرة. ويعقوب بن إسحاق الكندي ألَّف خمسة عشر كتاباً ومائتين وخمسين رسالة في مواضيع شتَّى. وثابت بن قرة الصابي ألَّف اثنين وسبعين كتاباً ما عدا الرسائل المختلفة. وقسطا بن لوقا البعلبكي ألَّف سبعة وثلاثين كتاباً عدا الرسائل الكثيرة. والرازي ألَّف نحو ثمانين كتاباً. وابن سينا ألَّف نحو أربعين كتاباً في مئة وعشرين مجلداً عدا غيرها من الرسائل. والفارابي ألَّف أكثر من ثمانين كتاباً. وكان في أول عمره ناطوراً (غفيراً) في بستان بدمشق وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة والنظر فيها والتطلُّع على آراء المتقدمين وشرح معانيها. وكان ضعيف الحال يسهر للمطالعة والتصنيف ويستضيء بالقنديل الذي للحارس وبقي على ذلك مدةَ ثم عظم شأنهُ وظهر فضلهُ واشتُهرت تصانيفهُ وكثرت تلاميذهُ واجتمع بهِ الأمير سيف الدولة وأكرمهُ إكراماً كثيراً وعظُمت منزلتهُ عندهُ ويُذكَر أنهُ لم يكن يتناول من سيف الدولة سوى أربعة دراهم فضة في اليوم يخرجها فيما يحتاج إليهِ من ضروري عيشهِ. ويُذكَر عنهُ أيضاً أنهُ قال قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة وأرى أني محتاج إلى معاودتهِ. وهذا يماثل ما ذكرهُ ابن سينا عن نفسهِ قال إني قرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيهِ والتبس عليَّ غرض واضعهِ حتى أعدت قراءتهُ أربعين مرة وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمهُ وأيست من نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمهِ وإذا إنهُ يوماً حضرت وقت العصر في سوق الورَّاقين وبيد دلَّال مجلَّد ينادي عليهِ فعرضهُ عليَّ فرددتهُ ردَّ متبرم معتقد أنْ لا فائدة في هذا العلم فقال لي اشترِ مني هذا فإنهُ رخيص أبيعكهُ بثلاثة دراهم وصاحبهُ محتاج إلى ثمنهِ فاشتريتهُ فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. فرجعت إلى بيتي وأسرعت إلى قراءتهِ فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنهُ قد صار على ظهر القلب. وقال (أي ابن سينا) واصفاً كيفية انكبابهِ على الدرس «كنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي وأشتغل بالقراءة والكتابة حتى إذا غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليَّ قوتي ومتى أخذني النوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها حتى إنَّ كثيراً منها انفتح عليَّ وجوهها في المنام.» وهذا شأن كلِّ العلماءِ العظام فإن العلم لا يهبط عليهم بالوحي والشهرة لا تأتيهم عفواً بل لا بُدَّ لهم من الدرس الكثير نهاراً وليلًا
وأكثر الذين ألَّفوا في التاريخ والجغرافية من علماءِ الإسلام كانوا ينزعون إلى الارتحال والتجول طلباً لأسباب العلم والتقاطاً لدررهِ ويجمعون في أسفارهم شتات الأخبار ونوادر الآثار ويتفحصون عن خواص البلدان وأمزجة الأقاليم. فالمسعودي لم يؤلف كتبهُ النفيسة حتى طاف أكثر الممالك الإسلامية ودخل الهند وتفحص عن أقطارها وجاب سواحل أفريقية الشرقية واجتاز منها إلى جزيرة العرب
وابن حوقل كان تاجراً من تجار بغداد فأقبل على التجوُّل في البلدان واستمر في حلٍّ وارتحال ثمانياً وعشرين سنة. ثم دوَّن أخبار رحلتهِ في كتاب المسالك والممالك ووصف فيه الأقطار والأصقاع التي طافها ومدنها وأنهارها ومناهلها وغدرانها وسباسبها وقفارها وألمع في ثروتها وتجارتها
والهروي جاب بلاد الشام ومصر والمغرب وجزائر البحر وبلاد الروم والجزيرة والحرمين واليمن وبلاد العجم والهند قبلما ألف كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات
وياقوت الحموي الرومي كان يشتغل بالتجارة فقضى سنين كثيرة في الرحلة والتجول في بلاد العرب ومصر والشام والجزيرة وخرسان حتى تمكن من تأليف كتابه «معجم البلدان» وهذا الكتاب من أجلِّ الكتب الموضوعة في فن الجغرافية لأنه «أحاط بجميع أقسام المعمورة وذكر أسماء البلدان والجبال والأودية والغيطان والقرى والمحال والأوطان والبحار والأنهار والغدران والأصنام والأوثان وتعرَّض للكلام على صفة الأرض وما فيها من الجبال والبحار وذكر أمزجة البلدان وأهواءَها ومطالع نجومها وأنواءَها» ولقد لقي في تأليفهِ من المشقة والعناءِ ما يحلهُ في المحل الأول بين رجال الإقدام والثبات
وابن بطوطة الرحَّالة الشهير صاحب تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار خرج من طنجة مسقط رأسهِ عام ٧٢٥ للهجرة ولهُ من العمر اثنتان وعشرون سنة وجوَّل في المغرب وأفريقية وطرابلس وبرقة ومصر والشام والعراق واليمن وسواحل أفريقية الشرقية وجزائر بحر فارس ودخل الأناضول وجال فيها وقدَّم بلاد القرم وساح في جنوبي روسيا ورحل إلى بلاد البلغار والقسطنطينية ثم جال في البلاد الواقعة شرقي بحر الخزر ودخل خوارزم وبخارى وخراسان وقندهار ووادي السند وأقام بدلهي حاضرة ملك الهند ونُصِب على القضاءِ فيها ثم ساح في الأقطار الصينية والتترية ودخل سيلان وسمطرة وجاوة وباكين قاعدة الصين. ثم انقلب إلى المغرب وكان قد بارح بلادهُ منذ ٢٤ سنة. وما لبث أنْ وصل طنجة حتى عاد إلى الرحلة فدخل الأندلس وتطوَّف فيها. وذهب رسولًا من سلطان مراكش إلى بلاد السودان ثم عاد إلى فاس وألف رحلته المشهورة ووصف فيها ما شاهدهُ من الأمصار وما علق بحفظهِ من نوادر الأخبار.