انتقل إلى المحتوى

سر النجاح (1922)/الفصل السادس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل السادس

في المصورين والنقَّاشين

قال الشاعر ملنس ما معناه:

على الإنسان بالدأب
إذا أخطأ ولم يصبِ
فإنَّ الفضل في الطلبِ
وليس الفضل في الجَلَبِ

وقال جوبر ارتقِ تحيَ.

لا يفوق الإنسان غيره إلا بالاجتهاد سواءٌ كان في التصوير والنقش أم في غيرهما. ولا يمكن لأحد أنْ يصور صورة جميلة بالصدفة ولا أنْ ينقش تمثالًا بديعاً بالاتفاق لأن كل لمسة من لمسات قلم المصوِّر وكل ضربة من ضربات أزميل النقاش هي نتيجة درس متصل. كان من رأي السر يشوع رينلدز أحد آحاد المصورين أنَّ كلَّ إنسان يقدر أن يكون مصوراً ماهراً ولو نُسبت المهارة في التصوير إلى الموهبة أو الذوق أو العطية السماوية. وكتب إلى بَري يقول «كلُّ من يقصد أنْ يمهر في التصوير أو في أي صناعةٍ كانت يجب أنْ يوجه كلَّ انتباهه إلى تلك الصناعة من ساعة قيامه إلى ساعة منامه». وقال في مكان آخر «إنَّ الذين يقصدون أنْ يمهروا يجب أنْ يأخذوا في عملهم نهاراً وليلًا إن اختيارًا وإن قسرًا». إلا أننا لا ننكر أنَّ الاجتهاد والانصباب لا يُصيِّران الإنسان مصوراً إذا لم يكن ذا قريحة للتصوير ولو كانا ضروريين لجعلهِ مصوراً ماهراً. لأن النبوغ أمر طبيعي ولكنهُ يتقوَّى بالتهذيب الشخصي الذي هو أقوى من كل تهذيب المدارس.

والبعض وهم من أعظم المصورين نبغوا من وسط الفقر والمسكنة ونجحوا رغماً عن الصعوبات الكثيرة المحيقة بهم مثل كلود لورين الحلواني وتِنْتورِتو الصباغ وكَرَفدجيو ساحق الأصباغ وكرفدجيو حمَّال الطين وسَلڤاتور روزا رفيق اللصوص وجيتو الفلاح وزنكارو الغجري وكاڤدونا الشحاذ وكَنوڤا القطاع فهؤلاءِ وكثيرون غيرهم برعوا بواسطة الاجتهاد تحت أشدِّ المصاعب

والذين اشتهروا في التصوير في البلاد الإنكليزية أكثر من غيرهم لم تكن أحوالهم أفضل من أحوال هؤلاءِ كثيراً فإن غنسبرو وباكون ابنا خياطين وبَري بن بحري أيرلندي ومكليز كان صانعاً عند بنكيّ وأوبي ورُمني وأنيغو جونس كانوا نجارين ووست ابن فلَّاح ونُرثكوت كان صانع ساعات وجكسن خياطاً وإتي طباعاً ورينلدز وولسن وولكي أولاد قسوس ولورنس ابن صاحب خان وترنر ابن حلَّاق وفلكسمن كان أبوهُ يبيع تماثيل جبسين. وبرد كان ينقش صواني الشاي ومرتن كان يدهن المركبات ورَيت وغلبن كانا يدهنان المراكب وتشنتري كان حفاراً ومذهباً وداود كوكس وستنفيلد وروبرتس كانوا يصورون صور المراسح. فلم يتقدم هؤلاء الرجال كلهم ويمهروا في التصوير بالصدفة ولا بالاتفاق بل بالجهد والتعب والنصب والسهر والأرق. والبعض منهم أَثْرَوا ولكنهم قلائل جدًّا بالنسبة إلى البقية بل لا يمكن أنْ ينكر الصانع نفسهُ ويعكف على صناعتهِ إذا كان طامعاً بالربح. وما من جزاء انتظرهُ هؤلاءِ الصناع أو نالوهُ إلا اللذة التي يجدها كلُّ عامل بعملهِ. أما ما كان يتبع ذلك من الغنى فأمر ثانوي لا يُعْتَدُّ بهِ فضلًا عن كونهِ نادراً وقد آثر كثير من الصناع اتباع ميلهم في إتقان صناعتهم على مساومة الناس. قيل سُئل ميخائيل أنجلو ذات يوم عن رأيه في مُصوِّر صوَّر صورةً وتعب فيها تعباً جزيلًا قَصْدَ الربح فقال سيبقى فقيراً ما دام راغباً في الربح

وكان ميخائيل أنجلو هذا يعتقد مثل السر يشوع رينلدز أنَّ كلَّ ما تتصوَّرهُ المخيلة تقدر اليد على عملهُ على شرط أنْ تكون مطيعة للعقل وكان لا يتعب من العمل ولا يمل ونسب قدرتهُ على مداومة العمل إلى بساطة معيشتهِ فإنهُ لم يكن يأكل في أكثر الأيام إلا قليلًا من الخبز والخمر وكثيراً ما كان يقوم في منتصف الليل ويأخذ في عملهِ وهو لابس قلنسوة من الورق في رأسها شمعة مضيئة. وكان ينام أحياناً بالثياب التي يلبسها وقت العمل لكي يقوم إلى عملهِ حالما يرى أنهُ قد استراح. وكان عندهُ صورة مجسمة وهي صورة شيخ في مركبة عليها ساعة رملية وعلى الساعة هاتان الكلمتان Ancora imparo أي لم أزل متعلماً

وتيشان الشهير كان لا يملُّ من العمل وقد عمل في صورة بطرس الشهيد ثماني سنوات وفي صورة العشاءِ الأخير سبع سنوات. وقال في كتاب أرسلهُ إلى الملك كارلوس الخامس إنني مرسل إلى جلالتكم صورة العشاء الأخير بعد أنْ عملت فيها سبع سنوات كاملات

وقليلون يعرفون مقدار الصبر والجلد والمزاولة الطويلة التي يقضيها المصور حتى يتمرن على صناعتهِ وتصير فيه ملكة أو حتى تسهل عليهِ. قال بعضهم لنقاش «أتطلب مني خمسين ديناراً بتمثال عملتهُ في عشرة أيام» فأجابهُ النقاش «ألا تعلم أنني تعلمت ثلاثين سنة حتى أمكنني عمل هذا التمثال في عشرة أيام». وقيل إنَّ السر أوغسطس كلكوت صنع أكثر من أربعين رسماً قبلما أكمل صورتهُ الشهيرة بصورة روشستر ولا عجب لأن التكرار الكثير شرط لازم للنجاح في الصناعة وفي غيرها

ولا بدَّ من العناء والطويل في إتقان الصناعة ولو مهما كانت مواهب الإنسان عظيمة وقريحتهُ متوقدة. وكثيرون من الصناع كانوا أذكياء من صغر سنهم ولكن الذين لم يجتهدوا منهم لم تنفعهم ذكاؤهم شيئاً. قيل إنَّ المصور الشهير وست رأى وهو في السابعة من عمره ابن أختهِ نائماً فأخذ قلماً وقرطاساً ورسم صورتهُ بحبر أسود وأحمر ثم عكف على الرسم والتصوير حتى صار صرفهُ عنهما متعذراً. ولكنَّ نجاحهُ وهو صغير أضر به كثيراً لأنه لم يصادف صعوبات كثيرة ولم تعلمهُ التجارب بل اكتفى بما وصل إليه بغير تعب

ورتشرد ولسن كان وهو ولد صغير يمسك فحمة ويرسم بها صور الرجال والحيوانات على جدران بيت أبيهِ وكان مغرماً برسم الأشخاص ولكن حدث مرة وهو في رومية أنهُ أتى بيت زُكارلي وكان زكارلي غائباً فأخذ يصور الأراضي الواقعة تجاه كوة الغرفة التي كان فيها. ثم أتى زكارلي ورأى تلك الصورة فاندهش من حسن منظرها وقال لهُ هل تعلمتَ تصوير الأراضي فأجابهُ كلَّا، فقال لهُ إذن أنصحك أنْ تتعلمهُ وأؤكد لك أنك مصيب نجاحاً عظيماً فانتصح بهذه النصيحة وتعلم هذا الفن، وتعب على إتقانه تعباً جزيلًا فصار رأس مصوري الإنكليز في تصوير الأراضي

ولما كان السر يشوع رينلدز صغيراً كان يترك دروسهُ ويلتهي بالرسم وقد نهاهُ أبوهُ عن ذلك مراراً كثيرة فلم يزدد إلَّا ولعاً وانشغافاً وبقي على ذلك حتى صار مصوِّراً شهيراً. وغنسبرو كان يمضي إلى الغابات وهو ولد صغير ويمارس التصوير ولم يبلغ الثانية عشرة حتى صار مصوراً ماهراً. قيل إنه لم يرَ منظراً يستحق التصوير إلا صوَّرهُ. ووليم بلاك كان أبوهُ يبيع الجوارب وكان هو يسلّي نفسهُ وهو صغير برسم صورٍ على ظهر قوائم أبيهِ وعلى مائدتهِ. وإدوارد برد كان يصعد على كرسي وهو ابن أربع سنوات ويرسم على الحائط ما دعاه صور الجنود الفرنساوية والإنكليزية ولما كبر قليلًا وضعه أبوه عند رجل يصنع صواني الشاي فتعلم هذه الصناعة ثم ارتقى بدرسهِ واجتهادهِ حتى صار من أعضاءِ مدرسة التصوير الملكية. وهوغرس لما كان في المدرسة كان مشهوراً بالكسل وكان متأخراً في دروسهِ إلا أنهُ كان متقدماً على كلِّ التلامذة في الكتابة وفي تجميل ما يفرض عليهِ المعلم كتابتهُ. ثم وضعهُ أبوه عند صائغ فتعلم الرسم على الملاعق والنقش عليها.

وأُولع بنقش صور الغيلان والتنانين وما أشبه مما كان يستعملهُ أهل الفروسة سمةً لهم ومن ثَمَّ تقدم إلى رسم الصور البشرية وإظهار ما فيها من الأمارات فبلغ في ذلك شأواً بعيداً باجتهادهِ وتدقيقهِ. وكان إذا رأى صورة غريبة رَسَخَتْ في ذهنهِ بكلِّ تفاصيلها حتى يرسمها على القرطاس حينما يريد. ومرَّن هذه العادة وقوَّاها بالممارسة الطويلة حتى صارت فيهِ ملكة. وكان إذا رأى صورة بديعة أو هيئة نادرة يرسمها حالًا على ظفر إبهامهِ لكي ينقلها إلى القرطاس عندما تمكنهُ الفرصة وكان يجد لذة خاصة في كلِّ شيء جديد أو غريب حتى لم يفت نظرَهُ شيءٌ. وكثيراً ما كان يعرّج عن الطريق لكي يرى المناظر الجديدة فخزن في ذاكرتهِ كثيراً من الرسوم والأوصاف التي ظهرت أخيراً في مصنوعاتهِ فلذلك ترى في تصاويرهِ رسماً واضحاً لعادات أهل عصرهِ وأخلاقهم وأفكارهم، ولقد كان من رأيهِ أن لا مدرسة لتعليم التصوير إلا مدرسة الطبيعة. غير أنهُ لم يكن متضلعاً من العلوم والمعارف لأنهُ لم يتعلم في المدرسة أكثر من القراءة والكتابة. ولم يكن ذا ثروة لكنهُ كان مقتصداً وكان يفتخر بذلك حتى بعد أنْ صار من ذوي الشهرة واليسار. وقال من كلام لهُ إنني لم أنسَ الزمان الذي كنت أطوف فيهِ الأسواق منكسر الخاطر صفر اليدين ولكنني كنت إذا حصلت بضعة دنانير تقلدت سيفي ومشيت بين الناس كمن في جيبه ألف دينار

قيل إنَّ النقاش بَنكس الشهير جعل شعارهُ هاتين الكلمتين «الاجتهاد والمواظبة» وجرى بموجبهما وحثَّ الغير على ذلك. ولقد اشتُهر أمرهُ باللطف والأنس وسداد الرأي وإخلاص النصح حتى كان يقصدهُ الشبان ليستنصحوهُ ويستعينوا بهِ

رُوِيَ أنَّ فتًى قصدهُ ذات يوم لهذه الغاية فقرع الباب شديداً فخرجت إليهِ الخادمة مغضبة وانتهرتهُ وأوشكت أنْ تطردهُ فسمعها بنكس وخرج بنفسهِ وقال للفتى ماذا تريد يا ابني فقال يا مولاي أرغب في أنْ تدخلني إلى مدرسة التصوير. وكان بيدهِ بعض الصور التي صورها فقال لهُ بنكس (بعد أن أفهمهُ أنَّ إدخال التلاميذ غير منوط بهِ) أرني هذه الصور فأخذها وتَرَوَّى فيها ثم التفت إليهِ وقال لهُ لا تستعجل في الدخول إلى المدرسة بل اذهب الآن إلى بيتك وواظب على دروسك واجتهد لكي تصور صوراً أحسن من هذه وتعال إليَّ بعد شهر وأرني تصويرك. فذهب وعكف على التصوير باجتهاد شديد ورجع إليهِ بعد شهر فرأى بنكس أنَّ تصويرهُ صار أحسن إلا أنهُ نصحهُ لكي يداوم على الدرس والتصوير فرجع إليه بعد أسبوع وإذا بتصويرهِ قد تحسن كثيراً فطيَّب قلبهُ وقال لهُ إذا فسح الله لك في الأجل صرت من المصورين العظام وهكذا كان

إنَّ سبب الأكبر لشهرة كلود لورين اجتهادهُ العظيم فإنهُ وُلِد في شمبانيا من والدين فقيرين ووضع في صباهُ عند حلواني ليتعلم صناعتهُ وكان لهُ أخ أكبر منهُ حرفتهُ حفر الخشب فنقلهُ إلى حانوتهِ ليتعلم هذه الحرفة فأظهر فيها مهارةً فائقة. وحدث أنَّ رجلًا مرَّ بهِ وطلب من أخيهِ أنْ يسمح لهُ باستصحابهِ معهُ إلى إيطاليا فقبل طلبهُ وأرسلهُ معهُ فوصلا إلى رومية ودخل كلود في خدمة أغستينوتسي مصور الأراضي فتعلم منهُ هذه الصناعة، وطاف إيطاليا وفرنسا وألمانيا وكان ينفق من بيع ما يصورهُ في طريقهِ من المناظر الطبيعية. ثم رجع إلى رومية فتقاطر الناس عليهِ يطلبون صورهُ فحاز شهرة عظيمة انتشرت في كلِّ أوربا. وكان يقضي جانباً كبيراً من وقتهِ في تصوير الأبنية والأراضي والأشجار والأوراق وما أشبهُ ويبقي صورها إلى حين الحاجة لكي يدخلها في ما عساهُ أن يصوره. وكان يراقب الجو أياماً كثيرة من الصباح إلى المساءِ ويلاحظ تغيراتهِ بمر السحاب واختلاف النور. وبمواظبته على ذلك مهر في صناعتهِ مهارة فائقة فنال الاسم الأول بين مصوري الأراضي

وتُرنَر الذي لُقب كلود الإنكليز لم يكن دون كلود هذا جدًّا واجتهاداً. قيل إنهُ كان من قصد أبيهِ أنْ يعلمهُ حرفتهُ الحلاقة ولكن حدث أنهُ رسم صورة على صينية من الفضة فرآها واحد من زبائن أبيهِ وأعجبهُ منظرها فعزم أبوهُ أنْ يدعهُ يتعلم التصوير حسب ميلهِ وفعل. فصادف صعوبات كثيرة كغيرهِ من الصناع ولاسيما لضيق ذات يدهِ إلَّا أنهُ كان يحب العمل ولا يستعفي منهُ مهما كان حقيراً لأنه كان يربح بهِ شيئاً من المال ويمهر في صناعتهِ. ومما اشتُهر بهِ أنهُ لم يتهامل قط في إتقان صورة من الصور ولو كانت أجرتها بخسة بل كان يعمل كلَّ شيء بكل ما يمكنهُ من الإتقان حتى إنهُ لم يترك رسماً إلا بعد أنْ أجادهُ أكثر من سلفهِ. ومن يا تُرى يشك في نجاح شخص هذا حالهُ. فنجح نجاحاً عظيماً وخلد اسمهُ بما صورهُ ولاسيما في الصور التي وهبها للأمة

ولطالما كانت بغية المصورين والنقاشين زيارة رومية لأنها مركز أرباب الفنون. والسفر إليها يقتضي نفقة كبيرة والصناع غالباً فقراءُ إلا أنهم كثيراً ما كانوا يأتونها رغماً عن كلِّ الموانع كما فعل فرنسوي بَرْيه المصور الفرنساوي الذي تمكن من بلوغها قائداً لشحاذ أعمى وكما فعل جاك كالو الذي كان أبوهُ من أكبر مضاديهِ ومُمانِعيهِ عن تعاطي التصوير إلا أنَّ ذلك لم يكن ليثني عزمهُ لأنهُ هرب إلى إيطاليا ولما لم يكن معهُ نفقة السفر اختلط بقوم من الفجر (النور) وجال معهم من مكان إلى آخر شريكاً لهم في السراء والضراء. ودرس في غضون ذلك هيئات البشر وأطوارهم وظهرت نتيجة درسهِ في الصور التي حفرها بعدئذٍ. ولما وصل إلى فلورنسا راقت حذاقتهُ في عيني رجل من أعيانها فوضعهُ صانعاً عند عند حفار إلا أنهُ لم يقنع بالإقامة هناك بل طلب البلوغ إلى رومية فسدد خطواتهِ إليها ولم يلبث أنْ دخلها حتى حتى تعرف ببوريجي وثومسين اللذين تنبأا أنهُ سيكون من رجال الماهرين لمَّا رأيا الرسوم التي رسمها بالكربون. وصادفهُ هناك أحد أصحاب عائلتهِ فألزمهُ أنْ يرجع معهُ إلى بلادهِ وأهلهِ وكان قد أُولع بالجولان فترك البيت ثانية وضرب في البلاد فذهب أخوهُ في طلبهِ وأرجعهُ قسراً ولما رأى أبوهُ منهُ ذلك سلَّم لهُ مكرهاً بالذهاب إلى رومية والدرس فيها. فمضى إليها وأقام فيها مدة طويلة وهو يدرس الرسم والحفر على مهرة رجال الفن. ولما كان راجعاً إلى فرنسا شجعهُ كسمو الثاني على الإقامة في فلورنسا فأقام فيها سنين عديدة ممارساً صناعتهُ. ولما تُوفِّي كسمو المذكور عاد كالو إلى بيت أبيهِ في نَنْسي فاشتُهر فيها شهرة عظيمة وأثرى إثراءً وافراً. ثم لما أُخذت ننسي في مدة الحروب الأهلية طلب منهُ رشليه أنْ يحفر رسم تلك الحادثة فلم يجبهُ إلى طلبهِ لأنهُ لم يرد أنْ يُبقي ذكراً لما أصاب وطنه من البلايا فلم ينثنِ رشليه عن طلبهِ ولذلك طرحهُ في السجن فوجد في السجن بعضاً من أصحابه الغجر الذين سافر معهم. ولما بلغ أمر سجنه الملك لويس الثالث عشر أمر بإطلاقهِ ووعدهُ بأن يعطيهُ مهما اقترح عليهِ فلم يقترح سوى أن يُطلَق سبيل أصحابه الغجر ويؤذن لهم بالاستعطاء في باريس فأُعطِي طلبهُ بشرط أن يحفر صورهم فحفرها وطبعها في كتاب سماهُ الشحاذين. وقد عرض هذا الملك على كالو ثلاثة آلاف جنيه جُعلًا سنويًّا على أن لا يباين باريس فلم يرتض محبة بوطنهِ فرجع إلى ننسي وواظب على حرفتهِ إلى أنْ أدركتهُ الوفاة فترك وراءهُ ما ينيف على ألف وستمائة صورة محفورة وهذا يدل على أنهُ كان من أحذق الحفارين وأكثرهم جلداً وانصباباً هذا فضلًا عما في صورهِ من الدقة والإتقان العظيمين

وهاك سيرة مَن فاق كلَّ مَنْ ذكرناهم في اقتحام المخاطر وهو بنڤنيتو سليني الصائغ والمصور وصانع التماثيل والنقاش والمهندس والمؤلف. كان أبوهُ جوڤاني سليني من اللاعبين على آلات الطرب في بلاط لورنزودي مديشي في فلورنسا وكان يأمل أنْ يعلم ابنهُ العزف الفلوت ولكنهُ لم يلبث طويلًا حتى أُخرج من منصبهِ فاضطُر أنْ يعلمهُ حرفة أُخرى فوضعهُ صانعاً عند صائغ وكان لهُ رغبة شديدة في الرسم والتصوير فمهر في صناعة الصياغة. وحدث ذات مرة أنهُ دخل في خصام حدث في المدينة فنُفي من وطنهِ سنةً فذهب إلى سينَّا وكان يعمل عند صائغ فيها فازداد خبرة في فنَّي الصياغة والجوهرية

وكان لم يزل من عزم أبيهِ أنْ يعلمهُ الغناءَ فبقي يمارس العزف بالفلوت كرهاً لأنه لم يكن يلتذ إلا بالنقش ثم رجع إلى فلورنسا ودرس أعمال ليونردو داڤنشي وميخائيل أنجلو ومن ثَمَّ قصد رومية ليتقن صناعة الصياغة فأتقنها ورجع إلى فلورنسا ولهُ شهرة عظيمة. ولكنهُ كان نَزِقاً سريع الغضب فوقع في ما ألجأهُ إلى الهرب من فلورنسا في زي راهب فأتى إلى سينَّا وسار منها إلى رومية. وصادف في رومية حظًّا وافراً وأُدخل في خدمة البابا كصائغ وموسقي وكان يدرس مصنوعات أمهر رجال الفن ويرصع بالجواهر وينقش الخواتم ويحفر الذهب والفضة والنحاس ففاق كلَّ معاصريهِ. ولم يسمع بصائغ مشهور في عملٍ من أعمال الصياغة إلَّا عزم أنْ يفوقهُ فيهِ ولم يترك فرعاً من صناعتهِ إلا حاز فيهِ قصَب السَّبْق. وكان مع اجتهادهِ الجزيل سريع التنقل لأننا نراهُ مرةً في فلورنسا وأخرى في رومية وأخرى في منتوى ثم في رومية فنابولي ففلورنسا فباريس. وكان يسافر من مكان إلى آخر على ظهر الخيل فلم يستطع أنْ يأخذ معهُ أمتعةً كثيرة ولا أدوات ولكن كان حيثما حلَّ صنع الأدوات اللازمة له. ولم تخرج من يدهِ قطعة من الحُلِي كبيرة كانت أو صغيرة إلا وهي في غاية الإتقان في شكلها وصوغها ونقشها لأنهُ كان يصنع كلَّ شيءِ بيدهِ. قيل إن جرَّاحاً دخل ذات يوم دكان صائغ ليعمل عملية جراحية في يد ابنتهِ فالتفت سليني (وكان مع من حضر) إلى سكين الجراح وإذا بها ضخمة عديمة الإتقان فطلب إليهِ أنْ يتمهل بضع دقائق ثم هرع إلى دكانهِ وأخذ قطعة من الفولاذ الجيد وصنعها سكيناً جميلة المنظر بديعة الإتقان وأعطاها للجراح فعمل العملية بها

ومن أعظم التماثيل التي صنعها سليني تمثال جوبيتر صنعهُ للملك فرنسيس الأول وتمثال فرساوس من النحاس صنعهُ للغران دوق كسمو الفلورنسي وصنع تماثيل من المرمر لأبلُّو وهياسنثوس ونرسِسْوس ونبتون. أما تمثال فرساوس فإنهُ صنعه أولًا من شمع وأراهُ للغران دوق فقال إنهُ لمن المحال أنْ يُسبَك تمثال من نحاس مثل هذا فدبَّت الحمية في رأس سليني وقال لا بد من أنْ أسبكه هكذا ومضى من ساعتهِ وصنع تمثالًا من الخزف وسواهُ ثم غطاهُ بالشمع وجعل ظاهر الشمع بهيئة التمثال تماماً ثم غطى الشمع بطبقة أخرى من الخزف وشواهُ ثانية في حفرة محفورة تحت الأتون الذي ذوَّب فيهِ النحاس فذاب الشمع وترك خلاءً بين الخزفين لكي يسكب فيهِ النحاس المصهور. ولكنهُ أوقد حطباً من الصنوبر وهو كثير المواد القلفونية فاحتدمت النار حتى احترق المكان الذي كان العمل فيهِ ثم عصفت الرياح وهطلت الأمطار فأخمدت النار ولم يُصهَر المعدن. فمضى عليهِ ساعات كثيرة وهو يحاول إبقاءَها محتدمة وقاسى في ذلك تعباً شديداً فأعيا من شدة التعب حتى خاف أنْ يقضي نحبهُ قبل أنْ يكمل سبك التمثال فترك العمل إلى معاونيهِ ومضى إلى سريرهِ ولكن لم يمضِ إلا برهة يسيرة حتى دخل واحد منهم وقال لهُ قد فسد كلُّ عملك فهرع لساعتهِ إلى الأتون وإذا بالنار قد خمدت والمعدن قد جمد فاستحضر حطب سنديان يابس من عند جارٍٍ لهُ وأخذ يوقد بكثرة فاحتدمت النار وصهر المعدن إلَّا أن الرياح كانت لم تزل تعصف شديداً والأمطار تهطل غزيرة فأقام سترة من الموائد والنُّسُج وجلس تحتها يزج بالوقود ثم رمى في الأتون قطعة من اللحام فوق المعدن وحرَّكهُ جيداً فذاب فذاب كله وحان الوقت لسبكهِ في القالب وإذا بصوت شديد أشبه بالرعد القاصف ووميض برق لاح أمام عينيهِ فالتفت وإذا بسدادة الأتون قد انفتحت وانبثقت منهُ الصهارة ولكنها لم تجر بالسرعة المطلوبة فأسرع إلى المطبخ وأخذ كل آنيتهِ النحاسية والمصنوعة كم القصدير والرصاص وكانت تنيف على مائتي إناءِ وطرحها في الأتون فاستقام جريان الصهارة وهكذا سبك تمثال فرساوس الشهير. وإسراع سليني إلى المطبخ وتعريتهُ إياهُ من آنيتهِ يذكرنا بما فعلهُ بالسي لما حرق أثاث بيتهِ كما تقدم في الفصل الثالث

وممن لهم المقام الأول بين المصورين نيقولا بوسن الذي كان من كبار العقول المناقب. وهاك طرفاً من سيرتهِ. ولد في أندليس بقرب روان. وكان أبوهُ يُعلِّم في مدرسة صغيرة فتعلم فيها إلَّا أنهُ كان يتغاضى عن دروسهِ ويقضي أكثر وقتهِ في التصوير على حواشي كتبهِ. فحدث أنَّ مصوراً رأى صورهُ فأعجبتهُ وطلب من والديه ألَّا ينهياهُ عن التصوير ثم أخذ يتعلم عند هذا المصور فنجح نجاحاً عظيماً حتى إنهُ فاق معلمهُ. وكان قد زاد ولعهُ بهذه الفن فترك معلمهُ ومضى إلى باريس وهو إذ ذاك ابن ثماني عشرة سنة وكان يحصل ما يقوم بمعيشتهِ من تصوير أرمات الحوانيت. فصادف في باريس ميداناً واسعاً للتصوير والنقش ووجد فيها ما أذهلهُ فدخل مجامع التصوير ونقل صوراً عديدة ولم يلبث طويلًا حتى عزم على زيارة رومية أم المدائن ومرضعة المصورين فحرك ركابهُ نحوها ولكنهُ عجز عن البلوغ إليها وأبعد مكان وصل إليهِ فلورنسا فأقام فيها مدة يسيرة ثم قفل راجعاً إلى باريس وبعد قليل سدد خطواتهِ مرة أخرى نحو رومية فلم يمكنهُ أنْ يتخطى ليون إلا أنهُ لم يدع باباً يُستفاد منهُ إلَّا قرعهُ ولم يترك ينبوعاً يُستقَى منهُ إلا ورده. ومضى عليهِ اثنتا عشرة سنة يعمل في إتقان فن التصوير وهو بين تصويب وتصعيد إلى أنْ ساعدتهُ التقادير فأتى رومية العظمى وأجال طرفهُ مليًّا في أعمال أرباب الفن ولاسيما في التماثيل القديمة العهد. وأقام عند دوكانوى النقاش الشهير وساعدهُ في تمثيل أشهر أصنام رومية القديمة. ودرس في غضون ذلك التشريح ومارس تصوير الأشخاص وطالع مؤلفات كثيرة في فن التصوير استعارها من أصحابها. وكان كل هذه المدة في غاية الفقر إلَّا أنهُ لم يضجر من ذلك لأنهُ كان يتقدم في إتقان الفن. وكان يبيع صورهُ بأيِّ ثمن كان فباع صورة نبي بثماني جنيهات وباع صورة الوباءِ الذي أصاب الفلسطينيين بستين ريالًا وقد بيعت هذه الصورة ثانية للكردينال ده رشليه بألف ريال. ثم اعتراهُ مرض شديد فوق ما أَلَمَّ بهِ من التعب فأنهك جسمهُ ولكن رزقهُ الله من اعتنى بهِ وهو الشافليه دل بُسُّو فلما نقِه صوَّر له صورة الراحة في البرية مجازاةً لهُ على اعتنائهِ بهِ فوفَّاهُ وأوفى. ولم يكتفِ بما حازهُ من النجاح فانطلق إلى فلورنسا والبندقية ووسع دائرة معارفهِ فظهرت أثمار جهادهِ في صور كبيرة أخذ في تصويرها نحو ذلك الوقت. منها صورة موت جرمانيكس وصورة المن وغيرهما من الصور الشهيرة. فاشتهر صيتهُ ولكن بطيئاً لأنهُ كان مائلًا إلى العزلة ومجانبة الناس حتى وصفهُ بعضهم بالتفكير أكثر مما وصفهُ بالتصوير فإنهُ كان يقضي أوقات العطلة جائلًا في البراري متأملًا في كيفيات جديدة للتصوير. وكان يحب رومية ويفضلها على ما سواها لأن ليس فيها تغيرات كثيرة تزعج البال فآلى على نفسهِ أنهُ إذا حصَّل فيها ما يقوم بمعيشته لا ينتقل إلى غيرها. وكان في هذا الوقت قد انتشر صيتهُ إلى خارج رومية وعُرِض عليه أنْ يرجع إلى باريس ويكون رأس مصوري الملك فتردد في أول الأمر في قبول هذه الدعوة قائلًا إنهُ عاش خمس عشرة سنة في رومية وتزوج فيها فلا ينتظر إلا دنوَّ الأجل ولكن كَثُر الإلحاح عليهِ فترك رومية وعاد إلى باريس فصادف فيها الجم الغفير من الحاسدين وود الرجوع إلى رومية وصوَّر مدة إقامتهِ في باريس صوراً عديدة مثل صورة القديس زفير وصورة المعمودية وصورة العشاء الأخير وكان يصور كلَّ ما يُطْلَب منه مثل صور التي توضع في فاتحة الكتب الملكية والرسوم اللازمة لنقش اللوڤر والبساط وغير ذلك، فتشكى إلى دوشنتالوب قائلًا «إنني لا أستطيع القيام بهذه الأعمال كلها على اختلاف أنواعها لأن ليس لي إلا يدان ورأس ضعيف ولا أحد يساعدني ويخفف أتعابي»

قلنا إنَّ نجاحهُ في باريس أهاج عليهِ كثيرين من الحاسدين فلم تطب لهُ الإقامة فيها ولذلك تركها حالما سنحت لهُ الفرصة ورجع إلى رومية وسكن في بيته القديم على تل بنشيو وواظب على صناعتهِ باجتهاد وكان يعيش بالبساطة ويقضي القسم الكبير من وقتهِ في المطالعة. وقال من جملة كلام لهُ إنني كلما أتقدم في السن تزيد رغبتي في إحراز الدرجة العليا بين المصورين. فدام على اجتهادهِ إلى أنْ حضرتهُ الوفاة سنة ١٦٦٥ ولم يخلف ولداً وكانت زوجتهُ قد تُوفِّيت قبلهُ فأُرْسِلَت تركتهُ إلى أقربائه في أندليس وكانت تبلغ عشرة آلاف ريال

ومن المتأخرين الذين تستحق سيرهم أنْ تُدوَّن في بطون التاريخ أري شفر الذي وقف نفسهُ على فن التصوير. وُلِد هذا الرجل في درترخت من والد ألماني حرفتهُ التصوير فأظهر في حداثتهِ ميلًا لهذه الفن ومات أبوهُ وهو حدَث فانتقلت بهِ أمهُ إلى باريس لكي تمكنهُ من الدرس فيها مع أنها لم تكن من ذوي اليسار فباعت كلَّ حلاها وأنكرت على نفسها كلَّ تنعُّم لكي يمكنها أنْ تقوم بتعليم أولادها. فوضعتهُ عند غرن المصور ولكن لم يمكنها أنْ تسمح لهُ بتخصيص كلِّ وقتهِ لتعلُّم التصوير. فلما بلغ الثامنة عشرة شرع يصور صوراً صغيرة ويبيعها بأثمان بخسة فراجت رواجاً عظيماً. ومارس أيضاً تصوير الأشخاص فربح وتقدَّم في إتقان صناعته. وأول صورة عرضها واشتهر بها هي صورة المعمودية. وما زال يتقدم في صناعته إلى أنْ بلغ صيتهُ الدرجة العليا ولاسيما حينما صوَّر صورة الفوست وصورة فرنسيسكا ده ريميني وصورة يسوع المعزي وصورة النساءِ القديسات وصورة القديس مونيكا والقديس أوغسطينوس وغيرها.

قال المستر غروت إنَّ مقدار التعب الذي تكبدهُ شفر في عمل صورة فرنسيسكا يفوق الوصف وذلك لأن معرفتهُ بأصول العلوم اللازمة لفن التصوير كانت نزرة جدًّا حتى إنه اضطر أنْ يتسلق في عراقيبها الشاهقة وليس لهُ دليل سوى عقلهِ الثاقب. وكان عليهِ أنْ يجرب أموراً كثيرة في تركيب الألوان قبل أنْ يصل إلى المطلوب. وكثيراً ما كان يصور الشيء ثم يمحوهُ ويصورهُ ثانية وثالثة حتى يوافق ذوقهُ. فكأن الطبيعة قد وهبتهُ قوة الصبر والمزاولة بدل نقص معارفهِ

ومن الصنَّاع الذين كان شفر يُعْجَب بهم فلكسمن قال مرة لأحد أصحابهِ إذا كنتُ قد اقتبست شيئاً في صورة فرنسيسكا وإن يكن عن غير قصد فمن صور فلكسمن. أما فلكسمن هذا فهو ابن رجل فقير حرفتهُ بيع تماثيل الجبسين وكان في صغرهِ نحيف الجسم فكان يُوضَع في دكان أبيهِ ويُسنَد بالمساند ويتسلَّى بالقراءة والرسم. وحدث ذات يوم أنْ زار دكان أبيهِ القس متيوس وهو رجل فاضل فرأى هذا الولد عاكفاً على قراءة كتاب فتطلع وإذا الكتاب نسخة من كُرنيليوس نبوس اشتراها لهُ أبوهُ من بعض المكاتب فتحدث معهُ قليلًا ثم قال لهُ إنَّ هذا الكتاب لا تناسبك قراءتهُ ولكني سآتيك بكتاب أفضل منهُ فأتى في اليوم التاني وبيدهِ نسخة من هوميروس ونسخة من دون كوِزوت فقرأهما بلذة وللحال شغفت قلبهُ حماسة هوميروس وكان في دكان أبيهِ كثير من التماثيل التي تشخص أجكس وأكلس فعزم أنْ يصور صور الأبطال الذين قرأ سيرهم. فكانت هذه الصور خالية من كلِّ إتقان مثل صور غيرهِ من الأحداث المبتدئين. وفي أحد الأيام أخذ أبوهُ هذه الصور وأراها لروبلياك النقاش فتأفَّف من رؤيتها ولكن ما كان ذلك ليوهن عزم فلكسمن بل زادهُ رغبة وما لبث أنْ صار يصنع تماثيل من الجبسين والشمع وبعض هذه التماثيل باقٍ تذكاراً لأول أثمار قريحتهِ

ثم إنَّ القس متيوس المتقدم ذكرهُ دعاهُ إلى بيتهِ فقرأَ على امرأتهِ هوميروس وملتون وعلَّماه كلاهما اليونانية واللاتينية وكان تصويره قد تحسن في هذا الوقت حتى إنَّ إحدى السيدات طلبت منهُ أنْ يصور لها ست صور تشخص أموراً مذكورة في هوميروس فصنعها وأجاد فاعطتهُ أجرة حسنة وأثنت عليه ثناءً جميلًا وكانت هذه الأجرة باكورة ما كسبهُ من التصوير

ولما بلغ الخامسة عشرة تتلمذ في مدرسة التصوير الملكية وفي وقت قصير اشتُهر أمرهُ بين الطلبة مع أنهُ كان يحب العزلة فانتظروا منهُ أموراً كثيرة ولم يخب انتظارهم لأنهُ نال الجائزة الفضية وهو في الخامسة عشرة وكان في السنة التالية بين المستحقين الجائزة الذهبية وظن الجميع أنهُ سينالها ولكن نالها تلميذ آخر لم يُعرَف عنهُ شيءٌ بعد ذلك. واستفاد فلكسمن كثيراً من خيبتهِ هذه لأن الفشل لا يوهن عزم أولي الهمة بل يزيدهم حزماً وإقداماً فاسمع ما قالهُ لأبيهِ حينئذٍ قال «أعطني وقتاً فأصنع أعمالًا تفتخر بها مدرسة التصوير». ثم أخذ يرسم ويصور باجتهاد لا يفوقهُ اجتهاد ولكن كان في بيت أبيهِ في ضنك عظيم لأن تجارة التماثيل الجبسينية لم يكن منها ربح كافٍ فطرح هوميروس جانباً وأخذ يسعف أباهُ في عملهِ فتدرب على احتمال المشقات واستقبالها بالصبر الجميل

وحدث أنَّ شهرتهُ في الرسم طرقت أذني يوشيا ودجود الخزاف المار ذكرهُ في الفصل الثالث فاستدعاهُ لكي يصنع لهُ رسوماً للخزف الصيني الذي كان يصنعهُ. وربما ظهر أنَّ هذا العمل لا يليق بمصور ماهر كفلكسمن وليس الأمر كذلك لأن الآنية التي يقع نظر الناس عليها دائماً تفيدهم رؤيتها ماديًّا وأدبيًّا أكثر من الصور الثمينة التي تُباع بألوف من الدنانير لتعلق في بيت رجل غني حيث لا يراها إلا قليلون. وكانت رسوم الآنية الخزفية قبل أيام ودجود بل قبل أن استخدم فلكسمن شنيعة إلى الغاية فأبدلها فلكسمن برسوم جديدة تشخص أشخاصاً وحوادث مذكورة في كتب الأقدمين. واقتبس أمثلة من الكؤوس الأترسكانية ونقشها نقشاً جميلًا. وحينئذٍ نشر ستورت كتابهُ في أثينا وفيهِ رسوم الآنية فاقتبس فلكسمن أجملها منظراً وتفنَّن في رسمها ونقشها فوضح لهُ أنهُ عاملٌ عملًا ذا طائل لا يقل عن تهذيب الجمهور كله. وكان يفتخر عندما تقدم في السن أنه هذب ذوقه بهذا العمل وبثَّ محبة التصوير والرسم في أذهان العامة وكسب مالًا غير قليل وأغنى ودجود مستخدمهُ

وسنة ١٧٨٢ ترك بيت أبيهِ واستأجر بيتاً صغيراً ثم تزوج بفتاة تُدعَى حنة دَنْمَن وكانت تحب الشعر والتصوير وتُعجَب بمهارة زوجها. ويقال إنَّ السر يشوع رينلدز المصور الشهير التقى بفلكسمن بعد زواجهِ بأيام قليلة وقال لهُ بلغني أنك تزوجت فإذا كان الأمر كذلك فلم تعد من رجال الفن. وكان رينادز عزباً. فمضى فلكسمن إلى بيتهِ وجلس بجانب امرأتهِ وقال لها ألا ترين يا حنة أني قد عدمت صناعتي فقالت من أعدمكها قال أنتِ قالت وكيف ذلك اصدُقني الخبر فقصَّ عليها ما قاله لهُ السر يشوع رينلدز وأخبرها بما يرتئيهِ وهو أنَّ من يقصد إتقان الفن يجب أنْ يصبَّ كلَّ قوى عقلهِ عليهِ من الصباح حتى المساءِ وأنهُ لا يمكن لأحد أنْ يكون من رجال الفن الماهرين ما لم يذهب إلى رومية وفلورنسا ويشاهد أعمال رافائيل وميخائيل أنجلو وغيرهما ثم التفت إليها وقال وأنا مرادي أنْ أكون ماهراً. فقالت وستكون وتزور رومية إنْ كان ذلك لا بدَّ منهُ للمهارة. قال وبمَ قالت بالاجتهاد والاقتصاد لأني لا أريد أنْ يقال إنَّ حنة دنمن أعدمت يوحنا فلكسمن صناعتهُ فقال إذن أَمْضِي إلى رومية وتكونين معي وسوف أُري الرئيس (يريد بهِ رينلدز لأنهُ كان رئيس مدرسة التصوير) أنَّ الزواج يأول إلى خير الرجل لا إلى ضرهِ

فبقيا خمس سنوات في بيتهما الصغير واضعين زيارة رومية نصب أعينهما ولم ينفقا درهماً واحداً في غير محلهِ بل كانا يذَّخران كلَّ ما يمكنهما ذخرهُ لينفقاهُ في ذلك السفر الطويل ولم يكاشفا أحداً بما أضمراهُ ولم يطلبا مساعدة المدرسة بل اعتمدا على عمل أيديهما وميل قلبيهما. ولم يكن فلكسمن قادراً على ابتياع المرمر ونقش التماثيل المبتكرة ولكنهُ صنع عدة تماثيل مما يوضع فوق اللحود حسب طلب أهلها فكسب بها ما يكفي لنفقة بيتهِ وذخر أجرتهُ التي كان يأخذها من ودجود

ولما صار لديهِ ما يكفيهِ للسفر قام هو وامرأتهُ وتوجها إلى رومية ولما وصلاها أخذ ينسخ المصنوعات القديمة ويبيع ما ينسخهُ للزوار وفي ذلك الوقت رسم هوميروس وأسكيلوس ودنتي وباع كلَّ رسم بخمسة عشر شلناً وصنع رسماً لكوبد (إله الحب) وأورورا (إلهة الفجر) وصنع صورة فوري (إلهة النقمة) ثم أخذ يتأهب للرجوع إلى إنكلترا لأنهُ كان قد نال بغيتهُ. وقبلما ترك إيطاليا انتخبتهُ جمعيتا فلورنسا وكارارا عضواً فيها. ولما وصل إلى لندن وجد أنَّ شهرتهُ قد سبقتهُ إليها وأنَّ أعمالًا كثيرة مهيأة لهُ منها التمثال العظيم الشهير الذي صنعهُ لِيُنْصَب فوق لَحْدِ لورد منسفيلد في وستمنستر ولم يزل هذا التمثال تذكاراً لمهارة فلكسمن. قال بنكس النقاش وهو في معظم شهرتهِ عندما ما رأى هذا التمثال «قد قصَّرنا كلنا عن هذا القصير» يريد بهِ فلكسمن

ولما سمع أعضاء المدرسة الملكية برجوعهِ ورأوا ما أذهلهم من المهارة التي أظهرها في تمثال منسفيلد طلبوا إليهِ بلجاجة أنْ يدخل بينهم عضواً ولم يمضِ عليهِ إلا وقت قصير حتى انتُخِب أستاذاً للنقش في المدرسة الملكية ولم يكن أليق منهُ لهذا المنصب كيف لا وقد حصل ما حصلهُ بالسعي والاجتهاد متغلباً على ما حال دونهُ من المصاعب

وعاش فلكسمن زمناً طويلًا في الراحة والتوفيق ولم يكدر صفاءَ عيشه إلا موت امرأتهِ وعاش بعدها سنين عديدة صنع فيها شيئين من أعظم ما صنعه وهما ترس أكلس وتمثال ميخائيل رئيس الملائكة قاهرًا الشيطان

وهاك ترجمة نقاش آخر وهو تشنتري الشهير الذي كان يفتخر بأنهُ تغلب على الصعوبات الكثيرة المحدقة بهِ باجتهادهِ. مات أبوهُ وهو صغير فتزوجت أمهُ وكان عملهُ حينئذٍ أنْ يحمِّل حماراً وطبي لبن ويسوقهُ إلى شفيلد فيبيعهما فيها ولكن زوج أمهِ تذمر من وجودهِ في بيتهِ فوضعهُ صانعاً عند بدَّال (بقال) فمرَّ يومًا أمام دكان نقاش ينقش الخشب فرأى فيهِ من المصنوعات المذهَّبة ما أذهلهُ فأحب أنْ يتعلم هذهِ الصناعة وأخذ يتوسل إلى أقاربهِ لكي يضعوهُ عند النقاش فاستحسنوا ذلك ووضعوهُ عنده صانعاً ليتعلم النقش والتذهيب على شرط أنْ يبقى عندهُ سبع سنوات وكان يقضي كلَّ ساعات العطلة في الرسم والتمثيل والدرس حتى إنهُ كان يُحيي جانباً كبيراً من الليل في مثل ذلك. ولما بلغ الحادية والعشرين وكان لم يَنْتَهِ الأجل المعين لبقائهِ تلميذاً عند معلمهِ دفع لهُ كلَّ ما كان يملكهُ حينئذٍ وهو خمسون جنيهاً لكي يفسخهُ العقد الذي بينهما ففسخهُ وانطلق إلى لندن وأخذ يعمل عند نقاش فيها وكان يمضي أوقات الراحة في الدرس فن التصوير والتمثيل. ومن جملة الأعمال التي عملها وحدهُ نقش غرفة المائدة لرجرس الشاعر. وكثيراً ما كان يُدعَى بعد أنْ اشتهر أمرهُ ليأكل في تلك الغرفة فكان يُري المدعوين معهُ عملهُ الذي عملهُ في أوائل حياتهِ

ثم اقتضى عملهُ أنْ يذهب إلى شفيلد فذهب إليها وأعلن في الجرائد أنه يصوّر الناس بالكربون وبالزيت وأول صورة صورها بالكربون باعها بجنيه إنكليزي وأوَّل صورة صوَّرها بالزيت باعها بخمس جنيهات وحذاءِ ثم رجع إلى لندن لِيَدْرُس في المدرسة الملكية ولم يلبث طويلًا حتى عاد إلى شفيلد وأعلن في الجرائد أنه يصنع تماثيل الناس بالجبسين ويصورهم تصويراً. فطُلب منهُ أنْ يعمل تذكاراً لقسيس مُتوفًّى فعملهُ عملًا متقناً. ولما كان في لندن صنع تمثال رأس الشيطان لكي يعرضه في معرض التصوير وهو أول مبتكراتهِ وكان في غاية المهابة والغرابة. قيل أن صاحباً له زارهُ في أواخر حياتهِ والتفت إلى هذا الرأس فاندهش من منظرهِ فقال تشنتري إنَّ هذا الرأس أول مصنوعاتي في لندن وقد صنعتهُ وأنا ساكن بين السقف والقرميد وعلى رأسي قلنسوة من الورق ولم يمكني حينئذٍ أنْ أشتري أكثر من شمعة واحدة فكنت أركزها في قلنسوتي لكي تدور معي كيفما درت. ولما عُرِض هذا الرأس في معرض المدرسة الملكية رآه فلكسمن المار ذكرهُ فأعجبهُ حسن صنعتهِ وكان قوم يطلبون منه نحَّاتاً ليعمل أربعة تماثيل نصفية لأربعة قواد فأشار عليهم بتشنتري فعمل التماثيل وأجاد. وحينئذٍ دُعي لعمل تماثيل أُخرى فترك فن التصوير وأخذ في النحت مع أنهُ كان قد استعمل النحت قبل ذلك ثماني سنوات ولم يكسب منهُ أكثر من خمس جنيهات. ومن أشهر ما نحتهُ رأس هورن توك وكان هذا التمثال سبباً لتشغيلهِ باثني عشر ألف جنيه. فعُدَّ بين مهرة النحاتين واختير من بين ستين نحاتاً لعمل تمثال الملك جورج الثالث لمدينة لندن. وبعد ذلك بقليل عمل تمثال البديع الأولاد النائمين. ومن ثَمَّ أخذ صيتهُ يمتد في الآفاق وشهرتهُ تزيد يوماً فيوماً. وقد نال كلَّ ما نال بالصبر والاجتهاد والمواظبة. نعم إنهُ كان ذا موهبة طبيعية فائقة ولكنهُ اجتهد في استعمالها حق الاستعمال. وقد أدخل البساطة التامة في جميع مصنوعاتهِ فإن تمثال وط الذي صنعهُ لكنيسة هنسورث بلغ فيه الدرجة القصوى من الإتقان والبساطة. وكان كريماً على أبناءِ فنهِ ووهب الجانب الأكبر من تركتهِ لمدرسة الفنون الملكية لترقية فني التصوير والنحت.

وهاك مثالًا آخر للاجتهاد والمواظبة في حياة داود ولكي المصور وهو ابن قسيس اسكتلندي. فقد لاحت عليهِ منذ حداثتهِ أمارات الذكاء والميل إلى فنِّ التصوير فكان يمضي أكثر أوقاتهِ في الرسم والوجوه والأشكال مغتنماً كلَّ فرصة لذلك فكنتَ ترى جدران البيوت ورمال الأنهار مغطاة برسومهِ. وكان يستعمل كلَّ قلم صادفهُ ولو قطعةً من الفحم ويصور على كلِّ سطح وجدهُ ولو صخراً أملس. وقلما زار بيتاً إلا رسم شيئاً على جدارهِ علامة لمجيئهِ إليهِ ولو على غير إرادة صاحبة البيت. وكان أبوهُ يكره هذه الصناعة محرِّماً إياها ولكن ما كان ولكي ليرتدع بردع أبيهِ لهُ بل أعطى نفسهُ هواها وركب مركباً خشناً محفوفاً بالمصاعب. فعرض نفسهُ عضواً على مدرسة الفنون إيدنبرج فرُفض لأن صورهُ كانت بعيدة عن الإتقان فأخذ يجتهد في إتقان التصوير إلى أن قُبِل فيها. وكان نجاحهُ إلى بطيئاً جدًّا إلَّا أنهُ عقد قلبهُ على النجاح التام فنجح ولم يَقْتدِ بغيره من الشبان الذين لا يبالون كثيراً بالاجتهاد لزعمهم أنَّ لهم موهبة فائقة بل كان ينسب كلَّ نجاحهِ إلى اجتهادهِ الدائم. ثم عزم على المجيء إلى لندن لأن فيها باباً واسعاً للعلم والعمل فأتاها وصوَّر فيها صورتهُ المسماة بڤلدْج بوليتيشنس (أي رجال السياسة القرويين) فراقت هذه الصورة في عيون الجمهور وفتحت لهُ باباً واسعاً للعمل ولكنهُ بقي فقيراً وذلك لأنهُ كان يقيم وقتاً طويلًا على تصوير كلِّ صورة حتى مهما كان ثمنها كثيراً يصير قليلًا نظراً إلى الوقت الذي يضيعهُ فيها. ووضع لنفسهِ قاعدة مثل أنموذج رينلدز وهو أن كلَّ ما يستحق أنْ يُصنَع يجب أنْ يصنع جيداً. وكان يكرهُ المصورين الثرثارين ويقول إنَّ المتكلم يزرع والساكت يحصد. ويوبّخ الذين يلهونهُ بالحديث بقولهِ لهم هلموا نعمل عملًا ما. وقال مرة لأحد أصحابهِ إنني لما كنت أَدْرُس في المدرسة الأسكتسية كان من عادة المعلم غراهم أنْ يقول لنا بكلام رينادز إذا كان لكم موهبة فالاجتهاد يقويها وإن لم يكن لكم موهبة فالاجتهاد يقوم مقامها ولذلك عزمت أنْ أكون مجتهداً إلى الغاية القصوى لأنني أعلم أنْ ليس لي موهبة.

وهاك مثالًا آخر للاجتهاد العظيم والمواظبة المستمرة في حياة وليم أَتي وهو ابن صانع كعك وأمهُ ابنة صانع حبال وقد وُضِع في صغرهِ عند طبَّاع ليتعلم صناعة الطباعة ولكنهُ كان يغتنم كل فرصة ويمارس الرسم فكان يملأ الحيطان برسومهِ ولو بفحمة. ولما انتهت مدة تلمذته للطباع عزم أنْ يتبع ميلهُ الطبيعي فساعده عمهُ وأخوهُ حتى طلب في المدرسة الفنون الملكية ولم يكن ذكيًّا إلَّا أنهُ كان مجتهداً فارتقى باجتهادهِ إلى أسمى المراتب.

إنَّ أكثر الصناع قاسوا ضيقات عظيمة واحتملوا ضنك المعيشة الشديد قبل أنْ نجحوا النجاح المطلوب وكثيرون منهم برَّحت بهم المصائب ولم تنفرج حتى أوردتهم حتفهم. مثال ذلك أن مرتن المصور أصابتهُ ضيقات شديدة قلَّ مَن أصابهُ نظيرها لأنهُ مراراً كثيرة أوشك أنْ يموت جوعاً وهو يصور الصورة الأولى الكبيرة. روى بعضهم أنهُ مرة لم يكن في كيسه إلَّا شلن واحد وكان قد عني بحفظهِ لأنهُ وجدهُ لامعاً أكثر من غيرهِ ثم اضطر أنْ يبتاع به خبزاً لسد رمقهِ فمضى إلى الخباز واشترى بهِ خبزاً وهمَّ بالخروج، فنظر الخباز وإذا بالشلن زائف فردَّهُ عليهِ وأخذ منهُ الخبز. فرجع إلى منزلهِ منصدع الفؤاد وأخذ يفتش في مزودهِ عساهُ أنْ يجد شيئاً من فتات الخبز يسد بهِ رمقهُ. وقد احتمل هذا الضنك الشديد بالصبر الجميل وجدَّ في عمل الصورة حتى أكملها وعرضها واشتهر أمرهُ بها وصار يعدُّ بين المصورين العظام. وحياة هذا الرجل تبين كما تبين حياة سائر المصورين أنَّ الموهبة المعززة بالاجتهاد تكفي للنجاح مهما كانت الأحوال ضيقة وأن الشهرة وإن تأخرت فلا بدَّ من أنْ ينالها مَن يستحقها.

وأفضل الوسائل التي تستعملها المدارس الفنون لا يمكنها أنْ تجعل الإنسان مصوراً ماهراً ما لم يجتهد هو في ذلك. وهذا الأمر يصدق على كلِّ نوع من العلوم والفنون. يُرْوَى أنَّ بوجن المهندس البناء قال بعد أنْ تعلم من أبيهِ كلَّ ما كان يعرفهُ من صناعة الهندسة المعمارية إنهُ لا يعرف إلا شيئاً يسيراً وإنهُ يجب عليهِ أنْ يبتدئ من الأول فأخذ يعمل كمهندس بسيط في بعض المراسح وتقدم رويداً رويداً إلى أنْ صار يعمل الأعمال الدقيقة ثم لما أُغلِق المرسح الذي كان يعمل فيهِ أخذ يتاجر في سفينة شراعية بين إنكلترا وفرنسا وكان كلما سنحت لهُ الفرصة يرسم ما يقع نظرهُ عليهِ من الأبنية القديمة كالأديرة والصوامع والكنائس وكان يضرب في البلاد طويلًا لهذا المقصد وما زال على مثل ذلك حتى بلغ درجة عليا بين أرباب هذه الفن.

ومن قبيل ذلك نجاح جورج كمب راسم مدفن سكُت الشهير فإنهُ ابن راعٍ فقير مقامهُ بين تلال بنتلند وهناك تربى غير متمتع برؤية شيءِ من الفنون ولما بلغ السنة العاشرة أرسلهُ صاحب الغنم التي كان يرعاها أبوهُ إلى رُزلين فرأى قلعتها وكنيستها الشهيرتين واندهش من حسن منظرهما وبقيت صورتهما في ذهنه زماناً طويلًا. ثم طلب من أبيهِ أنْ يضعهُ صانعاً عند نجار ففعل ولما انتهت أيام تعلمهِ مضى إلى غلاشيلس يطلب عملًا وإذ كان مارًّا في وادي نهر تويد وأدواتهُ في صندوق على ظهرهِ مرت بهِ مركبة فسألهُ السائق أين تقصد فقال إنهُ ذاهب إلى غلاشلس فأشار إليهِ أنْ يصعد إلى المركبة فصعد وإذا بالسر ولتر سكوت راكب فيها وكان هو الذي أمر السائق أنْ يصعدهُ إلى المركبة. ولما كان يعمل في غلاشلس سنحت لهُ فرص كثيرة لزيارة الأديرة القديمة والاطلاع على ما فيها من صناعة البناءِ. فطاف في أكثر شمالي إنكلترا ولم يترك بناءً غوطيًّا إلا زارهُ ورسمهُ بعد أنْ نظر فيه نظراً مدققاً. ولما كان في لنكشير ذهب إلى يورك ماشياً وذلك مسافة خمسين ميلًا وبقي أسبوعاً كاملًا وهو يمعن نظرهُ في بناءِ كنيستها الكبيرة ثم رجع ماشياً. وبعد ذلك انتقل إلى غلاسكو وأقام فيها أربع سنوات وكان يذهب إلى الكنيسة الكبرى كلما مكَّنتهُ الفرصة وينظر في بنائها. ثم انتقل إلى الجنوب ودرس كنتربري وونشستر وتنترن وغيرها من الأبنية الشهيرة. وسنة ١٨٢٤ عزم على الطوفان في أوربا لهذه الغاية وكان يعول نفسهُ على الطريق من عمل يديهِ فوصل إلى بولون ومنها إلى باريس فأقام فيها بضعة أسابيع وكان يرسم كل ما ظنهُ يستحق الرسم وكان ماهراً في عمل الآلات والمطاحن وجد عملًا يعمل به حيثما توجه وكان يفضل الإقامة قرب بناء غوطية قديمة لكي يعن النظر فيهِ كلما سنحت لهُ الفرصة. فبقي سنة في هذه السياحة ثم انقلب راجعاً إلى اسكتلندا وواظب على بحثهِ حتى صار ماهراً في الرسم. وكانت خرائب دير ملروز أحب الخرائب إليهِ وقد رسم لها رسوماً عديدة ثم أخذ يرسم رسوماً لواحد كان شارعاً في طبع كتاب مصور على مبدأ كتاب برتون في آثار الكنائس وكان هذا العمل يلذ لهُ جدًّا وقد عمل فيهِ برغبة شديدة واضطر أنْ يطوف في نصف أراضي اسكتلندا لأجلهِ إلا أن المؤلف مات فجأة توقف عمل الكتاب فطلب كمب باباً آخر للرزق. ولم يشتهر أمرهُ كثيراً مع ما وصل إليهِ من المهارة واتساع العلم وطول الباع لأنهُ كان يميل إلى الصمت وعدم التظاهر ولو بما في الواقع. ولما عينت لجنة مدفن سكت جائزة لمن يرسم الرسم الأفضل لذلك المدفن اختير رسمهُ من بين رسوم كثيرة صنعها أمهر صناع العصر فأُرسل إليهِ كتاب يعلمهُ باختيار رسمهِ ولكنهُ لم يعش بعد ذلك إلا وقتًا قصيراً ولم يرَ شيئاً من ثمار أتعابهِ العظيمة راسخة في حجارة ذلك المدفن الذي هو أعظم مدفن أقيم لرجل من رجال الإنشاءِ.

ومن المشهورين بين أرباب جون جبسن. كان أبوهُ بستانيًّا فرأى ميلهُ إلى التصوير والنقش من الخشب مما كان ينقشهُ بسكين صغيرة فأرسلهُ إلى لڤربول ووضعهُ صانعاً عند نقاش خشب فأتقن هذه الصناعة في وقت قصير وأُدْهِش الجميع بجمال منقوشاتهِ ثم انتقل من نقش الخشب إلى نحت التماثيل في الحجارة. ولما كان ابن ثماني عشرة سنة صنع تمثالًا للوقت بديع المنظر فأخذهُ أولاد فرنسيس النحاتون بعد أنْ أطلقوهُ من عند معلمهِ الأوَّل ووضعوهُ عندهم ست سنوات أظهر فيها الغرائب. ثم انتقل إلى لندن ومن ثَمَّ إلى رومية وحينئذٍ انتشر صيتهُ في كل أقطار أوربا.

ونويل باتون المصور الشهير ابتدأ في صناعتهِ يرسم رسوماً لتطريز أغطية الموائد وكان يرسم الصور البشرية أيضاً ولم يشتهر أمرهُ حتى عينت جوائز لصور البرلمنت فصور صورة روح الديانة ونال جائزة من الجوائز الأولى واشتُهر بها شهرة فائقة ثم عرض صورة مصالحة أوبرون وتيتانيا وصورة الوطن وغيرهما مما بان منه أنهُ كان يتقدم في إتقان هذه الصناعة تقدماً مستمرًّا.

ومنهم جمس شاربلس الحداد وُلِد هذا الرجل سنة ١٨٢٥ وإخوتهُ وأخواتهُ اثنا عشر وهو الثالث عشر وكان أبوهُ يعمل في سبك الحديد ولم يُعلَّم أحداً من أولادهِ في مدرسة بل كان يرسلهم إلى معمل حالما يصيرون قادرين على العمل. ولذلك صار جمس هذا عاملًا في مسبك قبلما بلغ العاشرة ولما بلغ الثانية عشرة دخل معمل الآلات وكان عملهُ فيهِ إحماء المسامير وتقديمها لصانع الخلاقين. وقد حاول أبوهُ في غضون ذلك أنْ يعلمهُ القراءة مع أنه كان يقيم في المعمل من الساعة السادسة قبل الظهر إلى الثامنة بعدهُ. وكان من عادتهِ أنْ يمسك خيط الطباشير لناظر المسبك عندما يرسم رسوم الخلاقين على الأرض ويساعدهُ في الرسم فأُغرم بالرسم وصار حينما يرجع إلى البيت يجلس على أرضهِ ويرسم عليها رسوم الخلاقين. وذات يوم أُخبرت أمهُ أن واحدة من نسيباتها آتية لزيارتهم فنظفت البيت لاستقبالها بقدر ما يمكن وخرجت فلاقتها وأتت بها وكان جمس قد عاد في غيبتها من المسبك وجلس يرسم رسم خلقين على الأرض كجاري عادته فاغتاظت أمهُ غيظًا شديداً إلَّا أنَّ نسيبتهم مدحت عملهُ وطلبت من أمهِ أنْ تعطيه ما يحتاج إليهِ من الورق والأقلام

ثم أخذ يرسم صور الأشخاص وينقل الصور المطبوعة وكان يجهل قوانين النور والأظلال ولكنه استمر على ما هو فيه إلى أنْ برع في النقل. ولما بلغ السادسة عشرة دخل المدرسة الميكانيكية لكي يتعلم صناعة الرسم وكان معلم الرسم فيها حلاقاً قد تعلم الرسم من نفسهِ وكان جمس يتعلم في هذه المدرسة يوماً واحداً كل أسبوع ودام على ذلك ثلاثة أشهر فنصحهُ معلمهُ أنْ يستعير من المكتبة مقالات برنت في التصوير ولم يكن يعرف القراءة فكانت أمهُ تقرأ لهُ وهو يسمع فشق عليهِ جهله القراءة وخصوصًا لرغبتهِ في هذا الكتاب فترك الذهاب إلى المدرسة وأكبَّ على تعلم القراءة والكتابة في البيت فنجح سريعاً ثم رجع إلى المدرسة وصار يقرأ في كتاب برنت بنفسه ولم يكتف بالقراءة بل كان يكتب ملخص أمور كثيرة منهُ ويبقيها معهُ إلى حين الحاجة. وكان يقوم الساعة الرابعة صباحاً ويعكف على القراءة إلى الساعة السادسة صباحاً وحينئذ يذهب إلى المسبك ويبقى فيه من الساعة السادسة صباحاً إلى الثامنة مساءً فيرجع إلى البيت ويعود إلى القراءة ويبقى قارئاً إلى نصف الليل وكثيراً ما كان يحيي الليل كلهُ في نقل بعض الصور. ثم قصد أنْ يمارس التصوير بالزيت فاشترى قطعة جنفيص ومدَّها على برواز ودهنها بالأسفيداج وابتاع ادهاناً وأخذ يصور عليها ولكنهُ لم ينجح لأن الجنفيص كان خشناً ولم يجف الدهان عليهِ فشاور معلمهُ الحلاق في ذلك فأخبرهُ من أين يمكنه أنْ يبتاع جنفيصاً وادهاناً محضرة للتصوير. فلما صار معهُ ما يكفي لابتياع المواد اللازمة للتصوير ابتاعها وأتى معلمهُ الحلاق فعلمهُ بعض المبادئ فلم يلبث طويلًا حتى فاق معلمهُ. وأول صورة صوَّرها نقلها عن صورة مطبوعة تُدعَى جز الغنم فباعها بستة غروش. ثم اشترى رسالة صغيرة في فن التصوير بالزيت وصنع لنفسهِ الأدوات التي استطاع صنعها واشترى البقية بدراهم حصلها مما عملهُ في المسبك فوق المطلوب منهُ وهذا كل ما أمكن والداه أن يسمحا له بهِ لكبر عائلتهما. وكان يذهب إلى منشستر ماشياً لكي يجلب شيئاً من الأدهان والجنفيص وهي على بعد ثلاث ساعات ويرجع والتعب آخذ منهُ كل مأخذ. وما يأتي مأخوذ من كتاب كتبهُ للمؤلف قال « والصورة الثانية التي صورتها صورة أرض وأُوقِع عليها نور القمر ثم صورت صورتين أو أكثر وحينئذٍ خطر ببالي أن أصوّر مسبكاً وكان ذلك في فكري منذ زمان طويل ولم أجسر عليهِ قبلًا خوفاً من الفشل ولكني رسمتهُ حينئذٍ على القرطاس وشرعت في تصويرهِ على الجنفيص ولم يكن صورة مسبك خاص ولذلك يمكنني أنْ أحسبهُ صورة مبتكرة لانني لم أنقلهُ عن شيءٍ. وبعد أنْ رسمت حدودهُ رأيت أنهُ يلزمني أنْ أدرس التشريح لكي يمكني أنْ أصور أعضاءَ العمال وعضلاتهم تصويراً صحيحاً. وهنا يجب أنْ اعترف بفضل أخي عليَّ لأنه اشترى لي كتاب فلكسمن في التشريح الذي لم يكن في طاقتي أن أشتريهُ لأن ثمنه أربعة وعشرون شلنًا فاعتبرته ككنز ثمين ودرستهُ باجتهاد لا يفوقهُ اجتهاد فكنت أقوم إلى درسهِ الساعة الثالثة صباحاً وأعري أخي وأوقفه أمامي لكي أدرس عليهِ وأرسمهُ. وما زالت على ذلك إلى أنْ تيقنت أنني صرت كفوءَا للشروع في صورة المسبك ولكنني وجدت صعوبةً في الأظلال فاستحضرت كتاباً في هذا الموضوع وأخذت أدرس فيهِ. وحينئذٍ طلبت من رئيس المسبك أنْ يسمح لي بالعمل في الأدوات الكبيرة لأنها يقتضي وقتاً طويلًا لإحمائها فيمكني في مدة إحمائها أنْ أرسم رسوماً كثيرة على صفيحة الحديد التي على واجهة الكور»

وما زال يدرس ويعمل حتى أتقن فن التصوير وكل متعلقاتهِ وصوَّر أباهُ صورة بديعة ثم أكمل صورة المسبك ولما رأى رئيس المسبك منهُ ذلك طلب إليهِ أنْ يصور لهُ عائلتهُ فصورها صورة متقنة فلم يكتفِ بإعطائهِ الأجرة التي قاولهُ عليها وهي ثمانية عشر جنيهاً بل أعطاهُ فوقها ثلاثين شلناً. ولما كان يصور هذه الصورة ترك العمل في المسبك وقصد أنْ يتركهُ دائماً ويقتصر على التصوير فصور صوراً عديدة بين منقول ومبتكر ولما لم ترُج بضاعتهُ كما يجب عاد إلى صناعة الحدادة. وكان يصرف أوقات العطلة في حفر صورة المسبك التي صورها. أما سبب أخذهِ في حفرها فهو أنهُ أراها ذات يوم لبائع صور فقال لهُ لو حفرها حفار ماهر وطبعها لخرجت ذات رونق بديع. فقال في نفسهِ علامَ لا احفرها أنا إلا أنهُ كان يجهل صناعة الحفر على الإطلاق وهاك وصف المشقات التي عاناها في حفرها

قال «رأيت إعلاناً في بعض الجرائد من رجل يصنع صفائح الفولاذ لحفر الصور وقد عرضها للبيع بأثمان ذكرها في الجريدة فاخترت واحدة ذات قدر مناسب وأرسلت إليهِ الثمن المطلوب وزدته قليلًا من الدراهم طلبت منهُ أنْ يرسل إليَّ بهِ بعض أدوات الحفر اللازمة ولم يمكني أنْ أذكر لهُ أنواع الأدوات لأنني لم أكن أعرف ما هي فأتتني الصفيحة مع الأدوات. ولما كنت احفر هذه الصورة أعلنتْ جمعية المهندسين أنها تعطي جائز لأحسن صورة تشخيصية تُقدَّم لها فاعتمدت أنْ أتطفل على أرباب هذه الصناعة وأطلقت فرسي في ميدانهم ولحسن حظي نلت الجائزة. ثم انتقلت إلى بلكبرن ودخلت معمل الخواجات يتس حداداً للآلات وكنت أقضي أوقات العطلة في الرسم والتصوير وحفر صورة المسبك وصادفت مصاعب كثيرة في حفرها لأنهُ لم يكن عندي الأدوات اللازمة فخطر لي أنْ أصنع هذه الأدوات بيدي وبعد تعب كثير صنعت منها ما يوافق ذوقي. وكنت محتاجاً إلى زجاجة مكبرة لأني حفرت قسماً كبيراً من صور المسبك بعوينات أبي قبل أن وجدت زجاجة مكبرة تفي بغرضي. وحدثت حادثة بينما كنت أحفر هذه الصورة كادت تجعلني أترك حفرها وذلك أنهُ كان من عاداتي أن أضع الصفيحة جانباً عندما أُدعَى لعمل آخر بعد أنْ أدهن الجزء المحفور بالزيت حذراً من الصدأ وذات مرة افتقدتها بعد أن تركتها زماناً طويلًا فوجدت الزيت قد جمد عليها فحاولت إخراجهُ بالإبرة فوجدت أنه إخراجهُ يقتضي وقتاً قدر وقت الحفر فاسقط في يدي وساءَني الأمر جداً ولكنهُ خطر ببالي أنْ أغليها في ماءِ الصودا ففعلت ومسحتها بفرشاة ناعمة فزال الزيت عنها. ولما زِلت هذه الصعوبة رأيت أنهُ لم يبقَ عليَّ إلا الاستمرار على حفرها بالصبر ولم يكن من يساعدني ولا من يرشدني في شيءٍ ولذلك أقول بكل جراءة إنهُ إذا كان في هذه الصورة شيءٌ من الفضل فجميعهُ لي وليس لي فيهِ شريك وما من شيءٍ يدعوني لإشهارها إلَّا إظهار ما يمكن أن يُعمل بواسطة الاجتهاد والمواظبة وهذا هو فخري» وقال أيضًا إنَّ زوجتهُ كانت تجلس بجانبهِ وهو آخذ في حفر هذه الصورة وتقرأُ لهُ في الكتب المفيدة فتسليهِ وتعينهُ على السهر الطويل

وليس من قصدنا أنْ نطيل الكلام على هذه الصورة وما تستحقهُ من الاعجاب لأن جرائد التصوير قد استوفت ذلك وإنما نقول إنهُ حفرها في أوقات العطلة مدة خمس سنوات ولم يرَ قط صورة محفورة قبل أنْ أتم حفرها وأتى بها إلى المطبعة

وما رأيناهُ من الاجتهاد والمواظبة بين المصورين نراهُ في الموسيقين لأن صناعة فن الموسيقى من أخوات فن التصوير. والموسيقى للأصوات كالتصوير للألوان وكالشعر للكلمات. فهندل الموسيقي المشهور لم يكن يمل من المواظبة ولم ييأس من الفشل بل كان يزيد همة كلما زاد الدهر لهُ عناداً وعمل وحدهُ أعمالًا يعجز عنها اثنا عشر رجلًا. وقال هيدن إن تعلم فن الموسيقى يقوم بالمواظبة. وقال موزار «إن العمل لذَّتي العظمى». وقال بيتوڤن «لا شيء يصد المجتهد عن التقدم». قيل عَرَضَ مشلز كتاب موسيقى على بيتوڤن فرآهُ قد كتب في آخرهِ انتهى بعون الله فكتب تحتها «يا إنسان عِن نفسك». وقال يوحنا سبسنيان باخ «على قدر الاجتهاد النجاح». أما ميربير فقد قال فيهِ بيل إنهُ يمارس الموسيقى خمس عشرة ساعة كل يوم وهو ليس بذي موهبة خاصة ولكنه مفطور على الاجتهاد.

ولم يشتهر الإنكليز كثيراً بوضع الألحان الموسيقية حتى الآن ولكن قام من بينهم موسيقيون يحق لهم أنْ يفتخروا بهم مثل أرن وهو ابن منجد وكان أبوهُ عازماً أنْ يعلمهُ الحقوق ولكنهُ كان مغرماً بالموسيقى حتى لم يمكن صرفهُ عنها فتعلم اللعب على الكمنجه خفيةً عن أبيهِ. وحدث مرة أنَّ أباهُ دخل بيتاً فرأى فيهِ نفراً من الموسيقيين وأرن بينهم فتركهُ إلى هواهُ فخسر الناس محامياً ولكنهم كسبوا موسيقيًّا حسن الذوق

ووليم جكسن وهو ابن طحان غلب المصاعب بالمواظبة. ويظهر أنَّ محبة الغناء كانت وراثية في بيتهِ لأن أباهُ كان مرتلًا في الكنيسة وجده كان رأس المرتلين ولما بلغ وليم السنة الثامنة من عمرهِ كان ينفخ على صافور أبيهِ وكان فيهِ بعض الخلل فاشترت لهُ أمه فلوتاً صغيراً ذا مفتاح واحد ثم أهداه إليهِ رجل فلوتاً من الفضة ذا أربعة مفاتيح فدخل في زمرة الموسيقيين وتعلم مبادئ الموسيقى حسب الأسلوب الإنكليزي القديم ونجح سريعاً ثم تعلم اللعب على البيانو ونحو ذلك الوقت اشترى واحد من جيرانهم أرغناً صغيراً مختلًّا واجتهد لكي يصلحهُ فذهب تعبهُ سدًى فأعطاه لجكسن هذا ليصلحهُ لأنهُ كان قد أصلح أرغن الكنيسة فأصلحهُ على أتم المراد. وحينئذٍ خطر ببال جكسن أنْ يصنع أرغناً مثلهُ فأخذ هو وأبوهُ في هذا العمل مع أنهما لم يكونا نجارين. وبعد معاناة مشقات كثيرة استتبَّ لهما عمل أرغن يدق عشرة أنغام فنظر الجميع إلى هذه الآلة بعين الاندهاش وصاروا يدعونُ جكسن لإصلاح الأراغن فكان يأتي بالغرائب

وفي ذلك الوقت تألف صفٌّ من المغنين فصحبهم جكسن فعينوهُ قائداً لهم، وكان يلعب على كل آلاتهم ونظم لهم ألحاناً كثيرة ثم تعين للدق على أرغن جديد كان قد أُهدي إلى الكنيسة وكان قد ترك صناعتهُ الأولى الطحانة وأخذ في عمل الشمع الأبيض وصار يقضي أوقات العطلة في ممارسة الموسيقى. وسنة ١٨٣٩ نشر أغنية مطلعها «لتغنِّ الأودية المخصبة فرحاً» وفي السنة التالية نال الجائزة الأولى على أغنية نظمها اسمها أخوات المرج ثم نظم ترنيمة مطلعها يا رب كن لي راحمًا ونظم غناءً مزدوجاً للمزمور المئة والثالث وفي غضون ذلك كان آخذاً في نظم خروج بني إسرائيل من بابل ثم طبعهُ في أجزاءٍ بين سنة ١٨٤٤ و١٨٤٥ وقد انتهى من طبعهِ يوم بلوغهِ السنة التاسعة والعشرين. ثم صار أستاذاً للموسيقى في برَدْفرد ومثل بين الملكة ڤكتوريا في قصر بكنهام وفي قصر البلور وغنَّى لها شيئاً من نظمهِ ونال منها الثناء الجميل. وقبل أن انتهت الطبعة التي ترجم منها هذا الكتاب وردت الأخبار بموت هذا الشهير وله من العمر خمسون سنة أما ما كتب عنهُ في هذا الفصل فقد نقله المؤلف عن لسانهِ حينما كان يصنع الشمع. وهنا نختم الكلام عن المصورين والنحاتين والمغنين الذين ارتقوا إلى أسمى درجات الشهرة باجتهادهم في العمل ومواظبتهم وتغلبوا على كل الموانع التي حالت في طريق تقدمهم

وكنا نود أنْ نضيف إلى هذا الفصل شيئاً عن الذين اشتُهروا في المشرق بالتصوير والنقش والغناءِ من المصريين والآشوريين والبابليين وغيرهم من أُمم المشرق ولكن المعروف من ذلك نزر لا يُعتد بهِ مع أنَّ أمم المشرق أتقنت هذه الفنون إلى الغاية القصوى ولاسيما صناعة النحت أي عمل التماثيل كما تشهد الآثار المصرية. أما العرب ومن قام في دولهم فلم يتعاطوا فن التصوير والنحت ولكن قام من بينهم مغنون مشهورون بالغناءِ مثل إبرهيم الموصلي وابن جامع وغيرهما وحازوا أسمى المراتب بجدهم واجتهادهم في إتقان هذه الصناعة كما سترى

ولد إبرهيم الموصلي سنة ١٢٥ للهجرة وتُوفِّي أبوه بالطاعون وهو ابن سنتين أو ثلاث فنشأ مع أمهِ وأخواله ولما أدرك صحب الفتيان ومال إلى الغناءِ فضيَّق عليهِ أخوالهُ بذلك فهرب إلى الموصل وأقام بها فلُقِّب بالموصلي. ثم أتقن صناعة الغناءِ فبلغ خبرهُ إلى الخليفة المهدي فاستدعاهُ وسمع منهُ وأمرهُ أن يلازمهُ. وكان أميًّا يجهل القراءَة والكتابة وفَرَطَ منهُ ذنب حبسهُ المهدي عليهِ فتعلم القراءَة والكتابة وهو في الحبس. ثم مات الخليفة المهدي وتولَّى ابنه موسى الهادي الخلافة بعدهُ فقرَّب إبرهيم لحسن غنائهِ وواصلهُ بالعطايا الكثيرة. قال ابنهُ إسحاق لو عاش لنا الهادي بَنَيْنا حيطان دورنا بالذهب والفضة. وقال أيضاً إنَّ أباهُ صنع تسع مئة صوت تقدَّم بثلثمئة منها جميع الناس. وقيل سأل الرشيد يوماً إبرهيم الموصلي كيف تصنع إذا أردت أنْ تصوغ الألحان فقال يا أمير المؤمنين «أُخرج الهمَّ من فكري وأمثل الطرب بين عينيَّ فيسرع إليَّ مسالك الألحان فأسلكها بدليل الإيقاع فأرجع مصيباً ظافراً بما أريد» وهو مثل قول الفيلسوف إسحاق نيوتن عندما سُئِل بمَ اكتشفت هذه الاكتشافات العظيمة كما جاءَ في الفصل الأول من هذا الكتاب. ومما يشهد بمهارة إبرهيم في هذه الصناعة ما رواهُ علي بن عبد الكريم قال زار ابن جامع إبرهيم فأخرج إليهِ ثلاثين جارية فضربنَ جميعاً طريقة واحدةً فقال ابن جامع في الأوتار وترٌ غير مستوٍ فقال إبرهيم يا فلانة شدي مثناك فشدتهُ فعجبتُ أولًا من فطنة ابن جامع لوتر غير مستوٍ في مئة وعشرين وتراً ثم ازداد عجبي من فطنة إبرهيم لهُ بعينهِ

ومرض إبرهيم بداءِ القولنج فلزمهُ وعادهُ الرشيد يوماً في مرضهِ وقال لهُ كيف أنت يا إبرهيم فقال كما قال الشاعر

سقيمٌ ملَّ منه أقربوهُ
وأسلمهُ المداوي والحميمُ

فقال الرشيد إنَّا لله وخرج فلم يبعد حتى سمع الناعية عليهِ. وكانت وفاتهُ سنة ١٨٨ هجرية ولهُ من العمر ٦٣ سنة وأسف عليهِ الناس ورثاهُ كثير من الشعراءِ من ذلك قول ابنه إسحاق

ستبكيه أشراف الملوك إذا رأوا
محل التصابي قد خلا منه جانبه
ويبكيه أهل الظرف طرًّا كما بكى
عليه أمير المؤمنين وحاجبه

أما ابن جامع المذكور فمغنٍّ من أشهر المغنين من طبقة إبرهيم الموصلي ومن معاصريهِ وهو عربي الأصل قدم من مكة على الرشيد وكان حسن السمت متضلعاً بعلوم الدين حتى ظنهُ أبو يوسف القاضي من الفقهاءِ. قيل وكان ابن جامع بارًّا بأمهِ فاحتال عليهِ الرشيد مرةً وأخبرهُ أنها ماتت فاندفع يغني بصوت حزين حتى أبكى كل من كان حاضراً فأمر له الرشيد بمال كثير وأعلمهُ أنَّ الخبر حيلة ليسمع غناءهُ المحزن

ومن المغنين المشهورين إبرهيم بن المهدي أخو هرون الرشيد كان لهُ اليد الطولى في الغناءِ والضرب بالملاهي وكان أسود اللون لأن أمهُ جارية سوداءُ. ولم يُرَ في أولاد الخلفاءِ قبله أفصح منه لساناً ولا أحسن منهُ شعراً. وبويع لهُ بالخلافة ببغداد والمأمون يومئذٍ بخراسان وأقام بها خليفة نحو سنتين ثم خلعهُ أهل بغداد ودعوا للمأمون بالخلافة.

ومنهم ابن سريج وهو تركي الأصل وكان من أحسن الناس غناءً. غنَّى في خلافة عثمان بن عفان ومات في خلافة هاشم بن عبد الملك وهو أول مَنْ ضرب بالعود على الغناءِ العربي بمكة وكان مثلًا في حسن الغناء.

ومنهم ابن مسحج وهو أول من نقل غناءَ الفرس إلى غناءِ العرب. رحل إلى الشام وأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية وانقلب إلى فارس وأخذ بها غناءً كثيراً وتعلَّم الضرب ثم قدم الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النغم وألقى منها ما استقبحهُ وغنى على هذا المذهب فكان أول من أثبت ذلك ولحنهُ وتبعهُ الناس بعد ذلك.

والمغنون والمغنيات كثار ونوادرهم عديدة وكثيرون منهم بذلوا جهدهم في إتقان هذه الصناعة فتقربوا بها من الملوك وأَثْرَوا إثراءً وافراً. ومن أراد الإسهاب في هذا الموضوع فعليهِ بما جاءَ في كتاب الأغاني