رحلة ابن جبير/العمرة الرجبية
العمرة الرجبية
شهر رجب الفرد، عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الخميس الموفي عشرين لشهر أكتوبر بشهادة خلق كثير من الحجاج المجاورين والأشراف أهل مكة، ذكروا أنهم رأوه بطريق العمرة ومن جبل قعيقعان وجبل أبي قبيس، فثبتت شهادتهم بذلك عند الأمير والقاضي، وأما من المسجد الحرام فلم يبصره أحد.
وهذا الشهر المبارك عند أهل مكة موسم من المواسيم المعظمة وهو أكبر أعيادهم، ولم يزالوا على ذلك قديماً وحديثاً بتوارثه خلف عن سلف متصلاً ميراث ذلك الجاهلية لأنهم كانوا يسمونه منصل الأسنة. وهو أحد الأشهر الحرم، وكانوا يحرمون القتال فيه، وهو شهر الله الأصم، كما جاء في الحديث عن رسول الله، ﷺ الله عليه وسلم.
والعمرة الرجبية عندهم الوقفة العرفية، لأنهم يحتفلون لهها الاحتفال الذي لم يسمع بمثله ويبادر إليها أهل الجهات المتصلة بها، فيجتمع لها خلق عظيم لا يحصيهم إلا الله عز وجل. فمن لم يشاهدها مرأى يستهدي ذكره غرابة وعجباً، شاهدنا من ذلك أمراً يعجز الوصف عنه، والمقصود منه الليلة التي يستهل فيها الهلال مع صبحتها. ويقع الاستعداد لها من قبل ذلك بأيام، فأبصرنا من ذلك ما نصف بعضه على جهة الاختصار. وذلك لأنا عاينا شوارع مكة وأزقتها، من عصر يوم الأربعاء، وهي العشية التي ارتقب فيها الهلال، قد امتلأت هوادج مشدودة على الإبل مكسوة بأنواع كسا الحرير وغيرها من ثياب الكتان الرفيعة بحسب سعة أحوال أربابها ووفرهم، كل يتأنق ويحتفل بقدر استطاعته، فأخذوا في الخروج التنعيم ميقات المعتمرين، فسألت تلك الهوادج في أباطح مكة وشعابها، والإبل قد زينت تحها بأنواع التزيين، واشعرت بغير هدي بقلائد رائقة المنظر من الحرير وغيره، وربما فاضت الأستار التي على الهوادج حتى تسحب أذيالها على الأرض.
ومن أعرب ما شاهدناه من ذلك هودج الشريفة جمانة بنت فليتة عمة الأمير كثر، فإن أذيال سترة كانت تنسحب على الأرض انسحاباً؛ وغيره من هوادج حرم الأمير وحرم قواده، غير ذلك من هوادج لم نستطع تقييد عدتها عجزاً عن الإحصاء. فكانت تلوح على ظهور الإبل كالباب المضروبة، فيخيل للناظرإليها أنها محلة قد ضربت أبنيتها من كل لون رائق.
ولم يبق ليلة الخميس المذكور بمكة إلا من خرج للعمرة من أهلها ومن المجاورين، وكنا في جملة من خرج ابتغاء بركة الليلة العظيمة، فدنا لا نتخلص مسجد عائشة من الزحام وانسداد ثنيات الطريق بالهوادج، والنيران قد أشعلت بحافتي الطريق كله، والشمع يتقد بين أيدي الإبل التي عليها هوادج من يشار إليه من عقائل نساء مكة.
فلما قضينا العمرة وطفنا وجئنا للسعي بين الصفا والمروة، وقد مضى هدء من الليل، أبصرناه كله سرجاً ونيرانا وقد غص بالساعين والساعيات على هوادجهن، فكنا لا نتلخص إلا بين هوادجهن وبين قوائم الإبل لكثرة الزحام واصطكاك الهوادج بعضها على بعض. فعاينا ليلة هي أغرب ليالي الدنيا، فمن لم يعاين ذلك لم يعاين عجباً يحدث به ولا عجباً يذكره مرأى الحشر يوم القيامة لكثرة الخلائق فيه، محرمين، ملبين، داعين علىالله عز وجل ضارعين، والبال امكرمة التي بحافتي الطريق تجيبهم بصداها حتى سكتت المسامع، وسكبت من هول تلك المعاينة المدامع، واذابت القلوب الخواشع.
وفي تلك الليلة ملئ المسجد الحرام كله سرجاً فتلألأ نوراً. وعند ثبوت رؤية الهلال عند الأمير أمر بضرب الطبول والدبادب والبوقات إشعاراً بأنها ليلة الموسم.
فلما كانت صبيحة ليلة الخميس خرج العمرة في احتفال لم يسمع بمثله انحشد ه أهل مكة على بكرة أبيهم، فخرجوا على مراتبهم قبيلة قبيلة وحارة حارة شاكين في الأحة فرساناً ورجالة، فاجتمع منهم عدد لا يحصى كثرة، يتعجب المعاين لهم لوف ور عددهم، فلو أ،هم من بلاد جمة لكانوا عدباً، فكيف وهم من بلد واحد وهذا أدل الدلائل على بركة البلد. فكانوا يرجون على ترتيب عجيب، فالفرسان منهم يخرجون بخيلهم يلعبون بالأسلحة عليها، والرجالة يتوائبون ويتثاقفون بالأسلحة في أيديهم حراباً وسيوفاً وحجفاً وهم يظهرون التطاعن بعضهم لبعض والتضار بالسيوف والمدافعة بالحجف التي يستجنون بها. وأظهرون من الحذق لثقباف كل أمر مستغرب. وكانوا يرمون بالحراب الهواء ويبادرون اليها لقفاً بأيديهم وهي قد تصوبت اسنتها على رؤوسهم وهم في زحام لايمكن فيه المجال، وربما رمى بعضهم بالسيوف في الهواء فيستلقونها قبضاً على قوائمها كأنها لم تفارق أيديهم، أن خرج الأمير يزحف بين قواده، وأبناؤه أمامه، وقد قاربوا من الشباب، والرايات تخفق أمامه، والطبول والدبادب بين يديه، والسكينة تفيض عليه، وقد امتلأت الجبال والطرق والثنيات بالنظارة من جميع المجاورين.
فلما انتهى الميقات وقضى غرضه أخذ في الرجوع، وقد ترتب العسكران بين يديه على لعبهم ومرحهم والرجالة على الصفة المذكورة من التجاول. وقد ركب جملة من اعراب البوادي نجباً صهباً لم ير أجمل منظراً منها، وركابها يسابقون الخيل بها، بين يدي الأمير، رافعين أصواتهم بالدعاء له والثناء عليه، أن وصل المسجد الحرام، فطاف بالكعبة، والقراء أمامه، والمؤذن الزمزمي يغرد في سطح قبة زمزم رافعاً عقيرته بتهنئته بالموسم والثناء عليه والدعاء له على العادة، فلما فرغ من الطواف ﷺ عند الملتزم ثم جاء المقام وﷺ خلفه، وقد أخرج له من الكعبة ووضع في قبته الخشبية التي يﷺ خلفها. فلما فرغ من صلاته رفعت له القبة عن المقام فاستلمه وتمسح به، ثم أعيدت القبة عليه، وأخذ في الخروج على باب الصفا المسعى. وانجفل بين يديه، فسعى راكباً والقواد مطيفون به، والرجالة الحرابة أمامه، فلما فرغ من السعي استلت السيون أمامه، واحدقت الأشباع به، وتوجه منزله على هذه الحالة الهائلة مزحوفاً به، وبقي المسعى يومه ذلك يموج بالساعين والساعيات.
فلما كان اليوم الثاني، وهو يوم الجمعة، كان طريق العمرة في العمارة قريباً من امسه، راكبين وماشين، رجالاً ونساء والماشيات المتأجرات كثير يسابقن الرجال في تلك السبيل المبارك، تقبل الله من جميعهم بمنه.
وفي أثناء ذلك يلاقي الرجال بعضهم بعضاَ فيتصافحون ويتهادون الدعاءوالتفافر بينهم، والنساء كذلك. والكل منهم قد لبس أفخر ثيابه واحتفل احتفال أهل البلاد للأعياد. وأما أهل البلد الأمين فهذا الموسم عيدهم، له يعبأون وله يحتفلون، وفي المباهاة فيه يتنافسون وله يعظمون، وفيه تنفق أسواقهم وصنائعهم، يقدمون النظر في ذلك والأستعداد له بأشهر.
السرو الماثرون
ومن لطيف صنع الله، عز وجل، لهم فيه اعتناء كريم منه سبحانه مجرمه الأمين، أن قبائل من اليمن تعرف بالسرو، وهم أهل جبال حصينة باليمن تعرف بالسرة، كأنها مضافة لسراة الرجال، على ما أخبرني به فقيه من أهل اليمن يعرف بابن أبي الصيف، فاشتق الناس لهم هذا الاسم المذكور من اسم بلادهم، وهم قبائل شتى كبجيلة وسواها، يستعدون للوصول هذه البلدة المبالاكة قبل حلولها بعشرة أيام، فيجتمعون بين النية في العمرة وميرة البلد بضروب من الأطعمة كالحنطة وسائر الحبوب اللوبياء مادونها، ويجلبون السمن والسعل والزبيب واللوز. فتجمع ميرتهم بين الطعام والإدام والفاكهة. ويصلون في آلاف من العدد رجالاً وجمالاً موقرة بجميع ماذكر. فيرغدون معايس أهل البلد والمجاورين فيه يتقوتون ويدخرون، وترخص الأسعار، وتعم المرافق. فيعد منها الناس مايكفيهم لعامهم ميرة اخرى. ولولا هذه الميرة لكان أهل مكة في شظف من العيش.
ومن العجب في أمر هؤلاء المائرين أنهم لايبيعون من جميع ماذكرناه بدينار ولا بدرهم، إنما يبيونه بالخرق والعباءات والشمل، فأهل مكة يعدون لهم من ذلك مع الأقنعة والملاحف المتان وما أشبه ذلك مما يلبسه الأعراق ويبايعونهم به ويشارونهم. ويذكر أنهم متى اقاموا عن هذه الميرة ببلادهم تجب ويقع الموتان في مواشيهم وانعامهم، وبوصولهم بها تخصب بلادهم وتقع البركة أموالهم فمتى في قرب الوقت ووقعت منهم بعض غفلة في التأهب للخروج اجتمع نساؤهم فأخرجنهم. وكل هذا لطف من الله تع لحرمه البلد الأمين.
وبلادهم على ماذكر لنا خصيبة متسعة كثير التين والعنب واسعة المحرث وافرة الغلات، وقد اعتقدوا اعتقاداً صحيحاً أن البركة كلها في هذه الميرة التي يجلبونها، فهم من ذلك في تجارة رابحة مع الله عز وجل.
والقوم عرب صرحاء فصحاء جفاة أصحاء، لم تغذهم الرقة الحضرية ولا هذبتهم السير المدنية ولاسددت مقاصدهم السنن الشرعية، فلا تجد لديهم من أعمال العبادات سوى صدق النية، فهم اذا طافوا بالكعبة المقدسة يتطارحون عليها تطارح البنين على الام المشفقة لائذين بجوارها متعلقين بأستارها فحيثما علقت أأيديهم منها تمزق لشدة اجتذابهم لها وانكبابهم عليها، وفي اثناء ذلك تصدع لسنتهم بأدعية تتصدع لها القلوب وتتفجر لها الأعين والجوامد فتصوب. فترى الناس حولهم باسطي ايديهم مؤمنين على أدعيتهم متلقنين لها من السنتهم، على أنهم طول مقامهم لايتمكن منهم طواف ولا يوجد سبيل استلام الحجر.
واذا فتح الباب الكريم فهم الداخلون بسلام، فتراهم في محاولة دخولهم يتسللون كأنهم بعض ببعض مرتبطون، يتصل منهم على هذه الصفة الثلاثون والأربعون أزيد من ذلك، والسلاسل منهم يتبع بعضهم بعضاً، وربما انفصمت بواحد منهم، يميل عن المطلع المبالاك البيت الكريم. فيقع الكل لوقوعه، فيشاهد الناظر لذلك مرأى يؤدي الضحك.
وأما صلاتهم فلم يذكر في مضحكات الأعراب أظرف منها، وذلك أنهم يستبلون البيت الكريم فيسجدون دون ركوع وينقرون بالسجود نقراً، ومنهم من يسجد السجدة الواحدة ومنهم من يسجد الثنتين والثلاث والابع ثم يرفعون رؤوسهم من الأرض قليلاً وأيدهم مبسوطة عليها، ويلتفتون يميناً وشمالاً التفات المروع ثم يسلمون أو يقومون دون تسليم ولا جلوس للتشهد، وربما تكلموا في أثناء ذلك، وربما رفع أحدهم رأسه من سجوده صاحبه وصاح به ووصاه بما شاء ثم عاد سجوده، غير ذلك من أحوالهم الغريبة.
ولا ملبس لهم سوى أزر وسخة أو جلود يستترون بها. وهم مع ذلك أهل بأس ونجدة، لهم القسي العربية الكبار كأنها في القطانين لاتفارقهم في أسفارهم، فمتى رحلوا الزيارة هاب أعراب الطريق الممسكون للحاج مقدمهم وتجنبوا اعتراضهم وخلوا لهم عن الطريق. ويصحبهم الحجاج الزائرون فيحمدون صحبتهم. وعلى ماوصفنا من أحوالهم فهم أهل اعتقاد للإيمان صحيح، وذكر أن النبي، ﷺ الله عليه وسلم، ذكرهم واثنى عليهم خيراً، وقال: علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء. وكفى بأن دخلوا في عموم قوله، ﷺ، : الإيمان يمان غير ذلك من الأحاديث الواردة في اليمن واهله.وذكر أن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، كان يحترم وقت طوافهم ويتحرى الدخول في جملتهم تبركاً بأدعيتهم. فشأنهم عجيب كله.
وشاهدنا منهم صبياً في الحجر قد جلس احد الحجاج يعلمه فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص. فكان يقول له: قل هو الله أحد فيقول الصبي: هو الله أحد فيعيد عليه المعلم، فيقول له: ألم تأمرني بأن أقول: هو الله أحد? قد قلت. فكابد في تلقينه مشقة، وبعد لأي ماعلقت بلسانه. وكان يقول له: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، فيقول الصبي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله. فيعيد عليه المعلم، ويقول له: لاتقل: والحمد لله انما قل: الحمد لله فيقول الصبي: اذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم، أقول: والحمد لله، للاتصال، واذا لم أقل بسم الله، وبدأبت قلت: الحمد لله، فعجبنا من أمره ومن معرفته طبعاً بصلة الكلام وفصله دون تعلم. وأما فصاحتهم فبديعة جداً، ودعاؤهم كثير التخشيع للنفوس، والله يصلح أحوالهم وأحوال جميع عباده بمنه.
تكملة وصف العمرة
والعمرة في هذا الشهر كله متصلة ليلاً ونهاراً، رجالاً ونساء، لكن المجتمع كله انما كان في الليلة الاولى، وهي ليلة الموسم عندهم. والبيت الكريم يفتح كل يوم من هذا الشهر المبارك. فاذا كان يوم التاسع والعشرون منه افرد للنساء خاصة، فيظهر للنساء بمكة في ذلك اليوم احتفال عظيم، فهو عندهم يوم زينتهم المشهور المستعد له.
وفي يوم الخميس الخامس عشر من الشهر المذكور شاهدنا من الاحتفال للعمرة قريباً من المشهد الأول المذكور في أوله، فكان لايبقى أحد من الرجال والنساء الاخرج لها. وبالجملة فالشهر المبارك كله معمور بأنواع العبادات من العمرة وسواها، ويختص أوله ونصفه من ذلك بخط متميز، وكذلك السابع والعشرون منه.
وفي عشي يوم الخميس المذكور كنا جلوساً بالحجر المكرم فما راعنا الا الامير مكثر طالعاً محرماً قد وصل من ميقات العمرة تبركاً بذلك اليوم وجرياً فيه على الرسم وابناؤه وراءه محرمين وقد حف به بعض خاصته. وبادر المؤذن الزمزمي للحين سطح قبة زمزم داعياً على عامته ومتناوباً في ذلك مع أخيه صغيره. وحانت صلاة العشاء مع فراغ الأمير من طوافه فﷺ خلف الامام الشافعي وخرج المسعى المبارك. وفي يوم الجمعة السادس عشر منه خرجت قافلة كبيرة من الحاج في نحو اربع مئة جمل مع الشريف الداودي زيارة الرسول ﷺ الله عليه وسلم. وفي جمادى الثانية قبله كانت ايضاً زيارة اخرى لبعض الحجاج في قافلة اصغر من هذه المذكورة. وبقيت الزيارة الشوالية والتي مع الحاج العراقي اثر الوقفة، إن شاء الله عز وجل. وفي التاسع عشر من شعبان كان انصراف هذه القافلة الكبيرة في كنف السلامة، والحمد لله.
وفي ليلة الثلاثاء السابع والعشرين منه. اعني من رجب، ظهر لاهل مكة أيضاً احتفال عظيم في الخروج العمرة لم يقصر عن الاحتفال الأول، فانجفل الجميع اليها، تلك الليلة، رجالاً ونساء على الصفات والهيئات المتقدمة الذكر تبركاً بفضل هذه الليلة لأنها من الليالي الشهيرة الفضل. فكانت مع صبيحتها عجباً في الاحتفال وحسن المنظر، جعل الله ذلك كله خالصاً لوجهة الكريم. وهذه العمرة يسمونها عمرة الأكمة، لأنهم يحرمون فيها من اكمة إمام مسجد عائشة، رضي الله عنها، بمقدار غلوة، وهي على مقربة من المسجد المنسوب لعلي، عليه السلام.
والأصل في هذه العمرة الاكمية عندهم أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشياً حافياً معتمراً واهل مكة معه فانتهى تلك الأكمة فأحرم منها، وكان ذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب وجعل طريقه على ثنية الحجون المفضية المعلى التي كان دخول المسلمين يوم فتح لمكة منها، وحسبما تقدم ذكره. فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة في ذلك اليوم بعينه وعلى تلك الأكمة بعينها.
وكان يوم عبد الله، رضي الله عنه، مذكوراً مشهوراً، لأنه أهدى فيه كذا وكذا بدنة، عدداً لم تتحصل صحته، فكنت أثبته، لكنه بالجملة كثير.
ولم يبق من أشراف مكة وذوي الاستطاعة فيها الا من اهدى، وأقام أهلها أياماً يطمعون ويطعمون ويتنعمون شكراً لله، عز وجل، على ماوهبهم من المعونة والتيسير في بناء بيته الحرام على الصفة التي كان عليها مدة الخليل ابراهيم، ﷺ الله عليه وسلم، فنقضها الحجاج، لعنه الله وأعادها على ما كانت عليه مدة قريش، لأنهم كانوا اقتصروا في بنائه عن قواعد ابراهيم، ﷺ، وابقى نبينا محمد ﷺ الله عليه وسلم، ذلك على حالة لحدثان عهدهم بالكفر، حسبما ثبت في رواية عائشة، رضى الله عنها، في موطإ مالك بن أنس، رضي الله عنه.
إفراد البيت للنساء
وفي اليوم التاسع والعشرين منه، وهو يوم الخميس، أفرد البيت للناس خاصة، فاجتمعن من كل أوب. وقد تقدم احتفالن لذلك بأيام كاحتفالهن للمشاهد الكريمة، ولم تبق إمرأة بمكة إلا حضرت المسجد الحرام ذلك اليوم. فلما وصل الشيبيون لفتح البيت الكريم، على العادة، وأسرعوا في الخروج منه وافرجوا للنساء عنه. وأفرج الناس لهن عن الطواف وعن الحجر ولم يبق حول البيت المبارك أحد من الرجال تبادر النساء الصعود، حتى كاد الشيبيون لا يخلصون بينهن عند هبوطهم من البيت الكريم، وتسلسل النساء بعضهن ببعض وتشابكن حتى تواقعن، فمن صائحة ومعولة ومكبرة ومهللة، وظهر من تزاحمهن ماظهر من السرو اليمنيين مدة مقامهم بمكة وصعودهم يوم فتح بيت المقدس، وأشبهت الحال الحال، وتمادين على ذلك صدراً من النهار، وانفسحن في الطواف والحجر، وتشفين من تقبيل الحجر واستلام الأركان. وكان ذلك اليوم عندهن الأكبر، ويومهن الأزهر الأشهر، نفعهن الله به وجعله خالصاً لكريم وجهه. وبالجملة فهن مع الرجال مسكينات مفبونات يرين البيت الكريم ولا يلجنه ويلحظن الحجر المبارك ولا يستلمنه. فحظهن من ذلك كله النظر والأسف المستطير المستشعر. فليس لهن سوى الطواف على البعد، وهذا اليوم الذي هو من عام عام فهن يرتقبنه ارتقاب أشراف الأعياد ويكثرن له من التأهب والاستعداد، والله ينفعهن في ذلك، بحسن النية والاعتقاد، بمنه وكرمه.
غسيل البيت
وفي اليوم الثاني منه بكر الشيبيون غسله بماء زمزم المبارك بسبب أن كثيراً من النساء أدخلن أبناءهن الصغار والرضع معهن، فيتحرى غسله تكريماً وتنزيهاً وازالة لما يحيك في النفوس من هواجس الظنون فيمن ليست له ملكة عقلية تمنعه من أن تصدر عنه حادثة نجس في ذلك الموطن الكريم والمحل المخصوص بالتقديس، والتعظيم، فعند انسياب الماء عنه كان كثير من الرجال والنساء يبادرون اليه تبركاً بغسل أوجههم وأيديهم فيه، وربما جمعوا منه في أوان قد اعدوها لذلك ولم يراعوا العلة التي غسل لها. وكان منهم من توقف عن ذلك، وربما لخظ الحال لحظة من لايستجيزها ولا يصوب العقل في ذلك. وما ظنك بماء زمزم المبارك قد صب داخل بيت الله الحرام وماج في جنبات أركانه الكرام ثم انصب ابازاء الملتزم والركن الأسود المستلم، أليس جديراً بأن تتلقاه الافواه فضلاً عن الأيدي، وتغمس فيه الوجوه فضلاً عن الأقدام? وحاشا لله أن تعرض في ذلك علة تمنع منه وشبهة من شبهات الظنون تدفع عنه، والنيات عند الله تع مقبولة، والمثابرة على تعظيم حرماته برضاه موصولة، وهو المجازي على الضمائر وخفيات السرائر، لا اله سواه.
شهر شبعبان المكرم، عرفنا الله بركته
استهل هلاله ليلة السبت التاسع عشر لشهر نونبر. وفي صبيحته بكر الأمير مكثر الطواف على العادة في ذلك رأس كل شهر مع أخيه وبنيه ومن جرى الرسم بأستصحابه من القواد والأشياع والأتباع، وعلى الأسلوب المتقدم الذكر، والزمزمي يصرخ في مرقبته على عادته متناوباً مع أخيه صغيره. وفي سحر يوم الخميس الثالث عشر منه، وهو أول يوم من دجنبر، بعد طلوع الفجر، كسف القمر، وبدأ الكسوف والناس في صلاة الصبح في الحرم الشريف، وغاب مكسوفاً، وانتهى الكسوف ثلثه، والله يعرفنا حقيقة ألاعتبار بآياته.
زيادة ماء زمزم
وفي يوم الجمعة الثاني من ذلك اليوم أصبح بالحرم أمر عجيب وذلك أنه لم يبق بمكة صبي الا وصبحه واجتمعوا كلهم في قبة زمزم، وينادون بلسان واحد: هللوا وكبروا ياعباد الله، فيهلل الناس ويكبرون. وربما دخل معهم من عرض العامة من ينادي معهم بندائهم. والناس والنساء يزدحمون على قبة البئر المباركة لأنهم يزعمون، بل يقطعون قطعاً جهلياً لاقطعاً عقلياً، أن ماء زمزم يفيض ليلة النصف من شعبان.
كانوا على ظن من هلال الشهر، لأنه قيل: أنه رؤس ليلة الجمعة في جهة اليمن. فبكر الناس القبة، وكان فيها من الازدحام مالم يعهد مثله، ومقصد التنور يستقون ويفيضون على رؤوس الناس الماء بالدلاء قذفاً، فمنهم من يصيبه في وجهه ومنهم من يصيبه في رأسه غير ذلك. وربما تمادى لشدة نفوذه من أيديهم، والناس مع ذلك يستزيدون ويبكون، والنساء من جهة اخرى يساجلنهم بالبكاء ويطارحنهم بالدعاء، والصبيان يضجون بالتهليل والتكبير، فكان مرأى هلائلاً مسموعاً رائعاً، لم يتخلص للطائفين بسببه طواف ولا للمصلين صلاة لعلو تلك تلك الأصوات وانشعال الأسماع والأذهان بها. ودخل القبة المذكورة أحدنا ذلك اليوم فكابد من لز الزحام عنتاً ومشقة، فسمع الناس يقولون: زاد الماء سبع اذرع. فجعل يقصد من يتوسم فيه بعض عقل ونظر من ذوي السبال البيض فيسأله عن ذلك، فيقول وأدمعه تسيل: نعم زاد الماء سبع أذرع، لا شك في ذلك، فيقول: أعن خبرة وحقيقة؟ فيقول: نعم.
ومن العجيب أن كان منهم من قال: أنه بكر سحر يوم الجمعة المذكور فالفى الماء قد قارب التنور بنحو القامة. فيا عجباً لهذا الاختراع الكاذب، نعوذ بالله من الفتنة! وكان من الأتفاق أن اعتنينا بهذا الأمر لغلبة الاستفاضة التي سمعناها في ذلك واستمرارها مع سوالف الأزمنة عند عوام أهل مكة. فتوجه منا ليلة الجمعة من أدلى دلوه في البئر المباركة أن ضرب في صفح الماء وانتهى الحبل حافة التنور وعقد فيه عقداً يصح عندنا القياس به في ذلك. فلما كان في صبيحتها وتنادى الناس بالزيادة، الزيادة الظاهرة، خلص أحدنا في ذلك الزحام على صعوبة ومعه من استصحب الدلو وأدلاه فوجد القياس على حاله لم نيقص ولم يزد، بل كان من العجب أن عاد للقياس ليلة السبت فألفاه قد نقص يسيراً لكثرة ما امتاح الناس منه ذلك اليوم. فلو امتيح من البحر لظهر النقص فيه، فسبحان من خص به من البركة ووضع فيه من المنفعة.
وفي صبيحة يوم السبت الخامس عشر منه تتبعنا هذا القياس استبراء لصحة الحال فوجدناه على ماكان عليه، ولو أن لافظاً يلفظ ذلك اليوم بأنه لم يزد لصب في البئر صباً أول لدراسته الاقدام حتى تذيبه، نعوذ بالله من غلبات العوام، واعتدائها وركوبها جوامح أهوائها.
ليلة النصف من شعبان
وهذه الليلة المباركة، أعني ليلة النصف من شعبان، عند أهل مكة معظمه للأثر الكريم الوارد فيها، يبادرون فيها أعمال البر من العمرة والطواف والصلاة أفراداً وجماعة، فينقسمون في ذلك اقاساماً مباركة، فشاهدنا ليلة السبت، التي هي ليلة النصف حقيقة، احتفالاً عظيماً في الحرم المقدس أثر صلاة العتمة، جعل الناس يصلون فيها جماعات جماعات، تراويح يقرأون فيها بفاتحة الكتاب ويقل هو الله أحد، عشر مرات في كل ركة أن يكملوا خمسن تسليمة بمئة ركعة، قد قدمت كل جماعة اماماً، وبسطت الحصر وأوقدت الشمع واشعلت المشاعل وأسرجت المصابيح ومصباح السماء الأزهر الأقمر قد أفاض نوره على الأرض وبسط شعاعه. فتلاقت الأنوار في ذلك الحرم الشريف الذي هو نور بذاته، فيا لك مرأى لايتخيله المتخيل ولا يتوهمه المتوهم! فأقام الناس تلك الليلة على أقسام: فطائفة التزمت تلك التراويح مع الجماعة وكانت سبع جماعات أو ثمانياً، وطائفة التزمت الحجر المبارك للصلاة على انفراد، وطائفة خرجت للاعتمار؛ وطائفة آثرت الطواف على هذا كله، أغلبها المالكية، فكانت من الليالي الشهيرة المأمولة أن تكون من غرر القربات ومحاسنها، نفع الله به ولا أخلى من بركتها وفضلها وأوصل هذه المثابة المقدسة كل شيق اليها بمنه.
وفي تلك الليلة المباركة شاهد أحمد بن حسان منا أمراً عجيباً هو من غرائب الأحاديث المأثورات في رقة النفوس وذلك أنه أصابه النوم عند الثلث الباقي من الليل، فأوى المصطبة التي تحف بها قبة زمزم مما يقابل الحجر الأسود وباب البيت فاستلقى فيها لينام فاذا بإنسان من العجم قد جلس على المصطبة بإزائه مما يلي رأسه. فجعل يقرأ بتشويق وترقيق، ويتبع ذلك بزفير وشهيق، أحسن قراءة واوقعها في النفوس وأشدها تحريكاً للساكن، فامتنع المذكور من المنام استمتاعاً بحسن ذلك المسموع وما فيه من التشويق والتخشع، أن قطع القراءة وجعل يقول: ان كان سوء الفعال أبعدني ،،، فحسن ظني اليك قربنـي
ويردد ذلك بلحن يتصدع له الجماد وينشق عليه الفؤاد. ومضى في ترديد ذلك البيت ودموعه تكف وصوته ترق وتضعف أن وقع في نفس أحمد بن حسان المذكور أنه سيغشى عليه؛ فما كان بين اعتراض هذا الخاطر بنفسه وبين وقوع الرجل مغشيا عليه من المصطبة الارض الا كلا ولا، وبقي ملقى كأنه لقى لاحراك به. فقام ابن حسان مذعوراً لهول ماعاينه متردداً في حياة الرجل أو موته لشدة تلك الوجبة، والموضع من الارض بائن الاتفاع، وقام أحد من كان بازائه نائماً، وأفاما متحيرين ولم يقدما على تحريك الرجل ولا على الدنومنه أن اجازت امرأة أعجمية، وقالت: هكذا تتركون هذا الرجل على مثل هذا الحال؟ وبادرت شيء من ماء فنضحت به وجهه، ودنا المذكوران منه وأقاماه فعندما أبصرهما زوى وجهه للحين عنهما مخافة أن تثبت له صفة في أعينهما وقام من فوره آخذاً جهة باب بني شيبة. وبقيا متعجبين مما شاهداه، وعض ابن حسان بنان الأسف على مافاته من بركة دعائه اذا لم يمكنه الحال استدعاءه منه، وعلى أنه لم تثبت له صورة في نفسه، فكان يتبرك به متى لقيه.
ومقامات هؤلاء الأعاجم في رقة الأنفس وتأثرها وسرعة انفعالها وشدة مجاهداتها في العبادات وطول مثابراتها على أفعال البر وظهور بركاتها مقامات عجيبة شريفة، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
وفي سحر يوم الخميس الثالث عشر من الشهر المذكور كسف القمر وانتهى الكسوف منه مقدار ثلثيه، وغاب مكسوفاً عند طلوع الشمس، والله يلهمنا الاعتبار بآياته.