انتقل إلى المحتوى

درء تعارض العقل والنقل/51

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الوجه الرابع

أن يقال: قوله: إما متقومة بما يعقل وإما عارض لها إن يعقل

يقال له: بعد أن ذكرنا أن هذا التقسيم باطل أي تقسيم الصفة اللازمة إلى مقوم وعارض باطل وأن علمه لازم لذاته

هب أن الأمر كذلك فلم قلت: إن العلم لا يكون ذاتيا على اصطلاحكم؟

فإذا قال: يلزم من ذلك أن يكون مركبا من الصفات الذاتية والمركب مفتقر إلى جزئه

قيل: هذا أصل حجتكم على نفي الصفات وقد بين فساده من غير وجه وهذه الحجة لا تختص العلم بل ينفون بها جميع الصفات وهي من أفسد الحجج كما قد بين غير مرة وإن كانت قد أشكلت على طوائف من النظار وقادتهم إلى أقوال من أقوال أهل النار وقد تبين فسادها من جهة أن هذا ليس بتركيب في الحقيقة بل هو اتصاف ذات بصفات لازمة لها وأن لفظ الجزء ليس المراد به اجتماع بعد افتراق ولا إمكان افتراق ولا انفصال شيء من شيء وإنما المراد به ثبوت معان متعددة وهذا مورد النزاع ولا دليل على نفيه بل على ثبوته

ولفظ الافتقار يراد به التلازم وهو هنا حق لا محذور فيه ويراد به افتقار المعلول غلى علة فاعلة وهو باطل وإذا أريد به افتقار الصفة إلى محلها ويسمونه هم افتقار المعلول إلى علة قابلة فهذا لا محذور فيه

ولفظ الغيرين يراد به المتباينان وهو هنا ممتنع ويراد به ما يمكن العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر وهو حق وثبوت هذا الغير لا بد منه

الوجه الخامس

أن يقال: هب أن هذه الصفة عرضية باصطلاحكم فيقال له: إذا كان العلم لازما لذاته أو لوجود لذاته إن قدر أن الوجود زائد على الذات لم يكن ثبوت لوازمه مفتقرا إلى غيره فلم يكن هذا منافيا لوجوب الموجود من جميع جهاته فإن المحذور إنما يحصل لو كان حصول العلم ليس من لوازم ذاته بل حصل بسبب غيره فيكون ثبوت الصفة مفتقرا إلى ذلك الغير

أما إذا كان علمه من لوازم ذاته كان واجبا بوجود ذاته وهم يقولون: هو واجب بذاته مع كونه مستلزما للمفعولات المنفصلة ولم يقدح كونها لازمة له في وجوب ذاته فإن لا يقدح لزوم علمه له بطريق الأولى والأحرى

الوجه السادس

أن يقال: لنظار المسلمين في علم الرب قولان: أحدهما: أن علمه واحد بالعين يعلم به جميع المعلومات أزلا وأبدا وعلى هذا التقدير فهو واجب الوجود بصفاته أزلا وأبدا فليس علمه متوقفا على وجود شيء من المعلومات بل إذا وجدت تعلقت المعلومات به

لكن قد يقول أكثر العقلاء من الفلاسفة وغيرهم إن هذا لا يمكن بل علمه بهذا غير علمه بهذا

فيقال: القول الثاني: إن علمه واحد بالنوع وإنه يتعدد بتعدد المعلومات وعلى هذا القول فهل يكون علمه بأن قد كان الشيء هو نفس علمه بأن سيكون؟ على قولين

ومن النظار من قال: العلم إضافة محضة وأن ذات الرب مقتضية لها بشرط المضاف وسنبين إن شاء الله ما هو الصواب في هذا الباب

وعلى كل تقدير فذاته هي الموجبة لكونه عالما لا أن شيئا من الموجودات جعله عالما وإن كان العلم بأن قد كان مشروطا بوجود المعلوم كما أن رؤيته وسمعه مشروط بوجود المرئي والمسموع فذاك لا يمنع وجوب وجوده بنفسه أزلا وأبدا ولكن عروض هذا السمع والرؤية والعلم بأن قد كان نظير عروض الإضافات له وقد ثبت بصريح العقل واتفاق العقلاء وجوب تجدد الإضافات له

وإذا قيل: الإضافة ليست وجودية والعلم والسمع والبصر أمور وجودية

كان الجواب على هذا القول إلغاء هذا الفرق كما قد قرر في موضعه

ومعلوم أن كون الرب بكل شيء عليما هو أظهر في الأدلة الشرعية والعقلية من كونه لا تقوم به الأمور المتجددة فلو قدر أن لهذا أدلة تعارض تلك وكان ثبوت العلم مستلزما لثبوت الأمور المتجددة للزوم القول بثبوت العلم فإن ثبوت العلم حق ولازم الحق حق فكيف إذا كان ما يمنع الأمور المتجددة إنما هو من أضعف الأدلة؟

أما المتفلسفة فلا يمكنهم أن يقولوا: قيام الحوادث به يستلزم حدوثه فإن القديم عندهم تحله الحوادث وإنما ظن من ظن منهم أن قيام ذلك يمنع وجوب وجوده وهو غلط ظاهر فإنه لا يمنع وجوب وجوده المعلوم الذي قام عليه الدليل وإنما يمنع ما يختلف في وجوب الوجود حيث ظنوا أن واجب الوجود لا يفعل شيئا باختياره ولا يقوم به شيء باختياره وذلك خطأ محض

الوجه السابع

ويظهر هذا بالوجه السابع وهو أن يقال: قول القائل: أنه واجب الوجود من جميع جهاته - إذا أريد به: أنه لا يقبل العدم بوجه من الوجوه فهذا حق فإنه لا يقبل العدم بوجه من الوجوه

وإن أراد به أن كل ما ثبت له من الأحوال فهو واجب الوجود بمعنى أنه نفسه مقتض لذلك لا يحتاج في ثبوته له إلى غيره فهذا أيضا حق

فإن كل ما ثبت للرب تعالى من الصفات والأفعال فلا يحتاج فيه إلى غيره بل هو الموجب لذلك لكن ما كان لا يمكن وجوده إلا باختياره من الأفعال ولوازم الأفعال فهذا يمتنع كونه بعينه أزليا بل يجب تأخره سواء قيل: إنه عالم بذاته أو قيل: إنه منفصل عنه وهو الموجب له عند وجوده لا موجب له في غيره

وإن قيل: واجب الوجود من جميع جهاته بمعنى أنه لا يجوز أن يتأخر عنه شيء مما يضاف إليه بل كل ذلك يجب أن يكون أزليا - فهذا باطل لا دليل عليه بل الدليل يدل على نقيضه فإنا نشاهد المحدثات دائما وهي حادثة عنه سواء قيل: إنها حدثت بواسطة أو بلا واسطة وحدوثها يستلزم حدوث ما به صارت محدثة وإلا فإذا قدر حال الذات قبلها وبعدها سواء

قيل: حدوث الحوادث ترجيح بلا مرجح وإذا أمكن أن يحدث من غير تجدد أمر يقوم بالفاعل بل نفس الخلق يكون نسبة وإضافة أمكن أن لا يتجدد إلا تعلق العلم القديم بالمعلوم ولا يتجدد إلا نسبة وإضافة بقدر ذلك

الوجه الثامن

وهو أن يقال: لا ريب في تجدد المفعولات شيئا بعد شيء فليس كونه محدثا للحادث المعين بالفعل أمرا لازما لذاته بل صار محدثا له بعد أن لم يكن وهذا خروج لهذه الفاعلية عن القوة إلى الفعل فإما أن يكون كونه فاعلا إضافة محضة ولم يقم بذاته فعل يكون به فاعلا كما يقوله من يقول: الخلق هو المخلوق

وإما أن يقال: بل كونه فاعلا أمر وجودي يقوم بنفسه والخلق غير المخلوق كما هو قول الجمهور من أهل السنة وغيرهم

فإن قيل بالأول فمعلوم أنه إذا قيل: إن كونه فاعلا أمر إضافي أمكن أن يقال: كونه عالما أمر إضافي

ثم للناس على هذا التقدير في الفاعلية قولان: منهم من يقول المكونات حادثة بتكوين قديم وإما عند وجود المكون فلا يحدث شيء

ومنهم من يقول: ليست الفاعلية إلا إضافة محضة أزلا وأبدا فعلى هذا القول يمكن أن يقال في العلم كذلك

وعلى الآخر يمكن أن يقال: بل العلم قديم العين ولكن تتجدد له الإضافات كما يقوله ابن كلاب

وهؤلاء جعلوا العلم ثابتا في الأزل دون التكوين فإذا ثبت أن كونه فاعلا لا يقتضي تكوينا قائما بذاته مع تجدد التكوينات الإضافية فهؤلاء إذا أثبتوا علما قديما وقالوا بتجدد تعلقاته كانوا أبعد عن الامتناع

وأما من جعل الفاعلية أمرا قائما بالفاعل وقال: إنه يتجدد عند تجدد المفعولات فإنه إذا قال بتجدد عالمية بعد وجود المعلوم مع قوله: إنه علم ما سيكون قبل أن يكون كان اقتضاء ذاته لهذه العالمية كاقتضائها لتلك الفاعلية وإذا كان واجب الوجود مع تلك الفاعلية فكذلك مع هذه العالمية

الوجه التاسع

أنه إذا قدر واجب الوجود يقدر على الأفعال الحادثة شيئا فشيئا وقدر آخر لا يمكنه إحداث شيء - قضى صريح العقل أن من أمكنه الإحداث شيئا بعد شيء هو أكمل ممن لا يمكنه إحداث شيء

وإذا قال القائل: هذا كان فيه شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا شيئا فشيئا وذاك كله بالفعل ليس فيه شيء بالقوة

قيل له: كل ما لهذا بالفعل هو للآخر فإن ذاته وصفاته التي يمكن قدمها لازمة له وأما الحوادث التي لا يمكن وجودها إلا شيئا فشيئا فهذا يمتنع أن تكون بالفعل قديمة أزلية فلا تكون بالفعل في الأزل بل لا يمكن أن تكون إلا بالقوة ثم تخرج إلى الفعل بحسب الإمكان شيئا فشيئا وإذا لم يمتز من قدر عدم هذه له بوصف كمال بل المتصف بها أكمل كان نفى هذه عن واجب الوجود نفي صفة كمال لا إثبات كمال له

وهؤلاء النفاة المعطلة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية يظنون أن ما نفوه عن الرب هو كمال له وهو تعظيم له وذلك من جهلهم بل إثبات ما نفوه هو الكمال الذي يكون مثبته معظما للرب

ولكن هم في ذلك نظير إخوانهم من معطلة النبوات الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء وقالوا: الله أعظم من أن يرسل رسولا من البشر

قال تعالى: { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } [ يونس: 2 ]

أو لم يعلموا أن إرسال رسول من البشر يبلغهم رسالات ربهم ويهديهم إلى صراط مستقيم أبلغ في قدرة الرب ورحمته بعباده وإحسانه إليهم وأعظم إثباته للكمال من كون ذلك عنه ممكن له ومن امتناعه عن فعله؟

وكذلك كونه يخلق الأشياء شيء بعد شيء أبلغ من كونه لا يمكنه إحداث شيء بل عند كثير من الناس - أو أكثرهم - كونه يخلق أكمل من كونه لا يخلق كما قال تعالى: { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل: 17 ]

وحينئذ فإذا قيل: جنس الفعل لازم وإنما الحادث أعيانه كان أن يقال: جنس العلم لازم بطريق الأولى والأحرى بل إذا قيل: جنس الخلق حادث

أمكن أن يقال: نفس العلم لازم سواء قيل بحدوث شيء معين عند وجود المعلومات أم لا فذاك أبعد عن منافاة وجوب الوجود من كونه فاعلا لما لم يكن فاعلا له

الوجه العاشر

قوله: إذ يكون لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال يقال له: الضمير في هو: إن كان عائدا إلى الله كان معنى الكلام: لولا تلك الأمور الخارجة لم يكن هو تقدير ارتفاع اللازم يوجب ارتفاع الملزوم لكن ارتفاع اللازم محال وهم يقولون لو ارتفع المعلول لارتفعت العلة فليس في هذا محذور

وإن كان الضمير عائدا إلى العلم أي: لولا المعلوم لم يكن العلم فهذا أولى أن لا يكون ممتنعا

وإنما حصلت الشبهة أن قول القائل: لولا أمور من خارج لم يكن هو يحتمل شيئين :

أحدهما أن تلك الأمور فاعلة له أو جزء من الفاعل أو هو محتاج إليها بوجه من الوجوه وهذا باطل

والثاني: أن تكون تلك الأمور لازمة لإرادته اللازمة له أو لغير ذلك من لوازم اللوازم وعلى هذا فهي المخلوقة المحتاجة إليه من كل وجه

فإذا قيل: لولا تلك الأمور لم يكن

كان معناه أنه إذا قدر ارتفاعها لزم ارتفاع ملزومها وهذا فرض محال

الوجه الحادي عشر

قوله: ويكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره فيكون لغير فيه تأثير الأمور السالفة تبطل هذا

فيقال: ذلك الحال إذا قدر تجدده بعد الحادث فإنه لا يلزم عن نفسه فإن العلم أو غيره مما يقوم بنفسه إنما هو لازم عن ذاته لا عن غيره لكن لزومه عن نفسه قد يقال: إنه يكون عند إحداثه لتلك المحدثات على قول من يقول بذلك وأي محذور في هذا؟ فإن هذا لا ينافي وجوب وجوده بنفسه

هذا لو كان ذلك الغير مخلوقا لغيره فكيف وهو مخلوق له؟ فكلاهما لازم عنه ما قام به وما انفصل عنه وليس لغيره فيه تأثير إذ كانت نفسه هي الموجبة للجميع

ولا ريب أن العباد يدعون الله فيجيبهم ويطيعونه فيرضى عنهم ويعصونه فيغضب عليهم ويفرح بتوبة التائب كما دلت على ذلك النصوص

وهو سبحانه الخالق لكل ما سواه فليس في الوجود ما يؤثر فيه سبحانه وهذا على مذهب أهل السنة المثبتين للقدر القائلين بأنه خالق كل شيء

وأما على قول القدرية الذين يقولون بحدوث حوادث بدون خلقه وإرادته فإنهم وإن كانوا ضالين فهؤلاء الفلاسفة النفاة لعلمه أضل منهم

وهم على قولين: منهم من يقول بتجدد أحوال له ومنهم من ينفي ذلك فمن أثبت ذلك قال لهؤلاء - كما قال لهم أبو البركات - فما الدليل على أنه لا يحصل به حال من الأحوال بسبب هؤلاء؟ ولم قلتم: إن ذلك ينافي وجوب وجوده؟

وهؤلاء يقولون: أفعال العباد توجب له داعيا إلى الثواب والعقاب

الوجه الثاني عشر

قوله: وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له فكذلك إثبات كثير من التعلقات

فيقال له: إن أردت بالأفاعيل ما وجد فليس في إثبات فعله للموجودات نقص له كيف وهو فاعل لها بالاتفاق؟ سواء كان فاعلا لبعضها بوسط أو بغير وسط وإذا كان فاعلا لها على وجه التفصيل فيجب أن يكون عالما بها على وجه التفصيل

ومعلوم أنه إذا لم يلحقه بفعلها نقص فأن لا يلحقه بعلمها نقص بطريق الأولى فإن علم العالم بما لا يفعله لا نقص فيه وإن كان المعلوم خسيسا فكيف علمه بما فعله؟ وإذا كانت لا توجد إلا مفصلة معينة فيجب أن يعلم كذلك وإلا لم يعلم على ما هي عليه

وإن عنى بقوله: إن كثيرا من الأفاعيل لواجب الوجود نقص ما لم يفعله فقياس هذا أن يقول: علمه بما لم يفعله نقص وليس الكلام فيه

الوجه الثالث عشر

أن يقال: أهل الأرض من المسلمين وغيرهم لهم في تنزيه الرب عن بعض الأفعال قولان مشهوران

فطائفة تقول: ليس في فعله لشيء من الممكنات نقص والظلم لا حقيقة له إلا ما هو ممتنع بل كل ممكن ففعله جائز عليه وإن لم يفعله فلعدم مشيئته له لا لكونه نقصا

وهذا قول الجهمية والأشعرية وطوائف من الفقهاء أصحاب المذاهب الأربعة وأهل الحديث والصوفية وغيرهم وعلى هذا لا يسلم هؤلاء أن إثبات شيء من الأفعال لواجب الوجود نقص وإذا منعوا هذا في الفعل ففي العلم أولى وأحرى

والقول الثاني: قول من يقول: بل هو منزه عن بعض الأفعال المقدورة وهذا قول أكثر الناس من المثبتين للقدر كالكرامية وغيرهم من المعتزلة وغيرهم نفاة القدر وهو قول كثير من أهل المذاهب الأربعة وأهل الحديث والصوفية والعامة وغيرهم

وعلى هذا القول فلا نسلم أن ما ينزه عن أن يفعله يجب أن يتنزه عن علمه به فإن العلم يتعلق بالواجب والممكن والممتنع والموجود والمعدوم وأما الفعل فلا يتعلق إلا بما يراد ولا يراد إلا ما هو ممكن في نفسه وما تكون إرادته حكمة على قول هؤلاء

ومعلوم أن الواحد من الناس يحمد بأنه لا يفعل القبيح ولا يحمد بأن لا يعلمه ويعلم حسن فعله ويعلم قبحه ولم يقل أحد قط: إن علمنا بقصص المكذبين للرسل وما فعلوه من السيئات نقص كما أن تلك الأفعال نقص بل المعرفة بالخير والشر من صفات الكمال

وإن قيل: مراده أن العلم يلزم منه التغير أو التكثر

فيقال له: معلوم أن هذا اللازم لفعله المتكثرات والمتغيرات ألزم فإن فعله للمتكثرات والمتغيرات يلزم منه قيام معان في ذاته فليس ذلك نقصا ولا يكون في علمه بها مع هذه اللوازم نقص

وإن قيل: بل فعله للمتغيرات والمتكثرات لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة في ذاته

فيقال: إن كان هذا حقا فعلمه بها أولى أن لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة فإنه من المعلوم بصريح العقل أن اقتضاء الأفعال المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات الفاعلة أولى من اقتضاء المعلومات المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات العالمة فإن كل عاقل لفعل محكم عالم به وليس كل علام به فاعلا له

وهؤلاء وإن كانوا قد قالوا في فعله أقوالا باطلة لظنهم أنه لا يصدر عنه ابتداء إلا واحد بشرط فقد لزمهم أن يجعلوا كل شيء مفعول له بوسط أو بغير وسط فكان الواجب أن يقولوا: إنه علام بكل شيء جرى كما هو فاعل لكل شيء جرى إذ الكليات لا توجد في الأعيان إلا جزئية معينة

الوجه الرابع عشر

قوله: بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض وهذا من العجائب

فيقال: إن عنيت أنه لا يعزب عنه من حيث هو كلي فهل في هذا ما يقتضي أنه يعلم شيئا من الجزئيات؟ فإن العلم بالكلي من حيث هو كلي لا يوجب علما بشيء من المعينات الموجودة فمن علم أن كل إنسان حيوان لم يوجب ذلك أن يعلم إنسانا بعينه ولا شيئا من تعيناته ولا عدد الأناسي بل ولا يعلم حيوانا بعينه

وإن عنيت أنه لا يعزب عنه شيء من المعينات فهذا مع قولك: إنما يعقلها على وجه كلي باطل

وقد قال قبل هذا: إن الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يتشخص فلم تعقل بما هي فاسدة وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة

فقد ذكر أنها إذا عقلت بالماهية المجردة وما يتبعها فلم تعقل عينها المعينة وإن عقلت معينة فهي محسوسة لا معقولة فالمعينات عنده لا تكون إلا محسوسة لا معقولة وعنده لا توصف بالحس فكيف يقول: إنه لا يعزب شيء شخصي مع قوله: إنه لا يعلم شيئا عن المشخصات المتغيرة؟

الوجه الخامس عشر

أنه قال: فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها أولا ويتوسط ذلك في أشخاصها

فقد أثبت هنا أنه يعلم الموجودات التامة بأعيانها وذلك كالأفلاك والكواكب مع ما يثبتونه من العقول والنفوس

ثم قال: وإن عقلت الفاسدات بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة

وقد قال: إنه يعقلها بأعيانها فسمى العلم بالأجسام المعينة تارة عقلا وتارة قال: هو حس أو تخيل ليس بعقل وأثبت أنه يعلمها تارة ونفى ذلك أخرى لكونه حسا لا عقلا

وليس الكلام هنا في إدراكها متغيرة أو غير متغيرة بل في إدراك الأجسام المعينة هل يعلمها معينة أم لا؟ وهل ذلك عقل أو حس؟ فقد أثبت أنه يعقلها وعلل غيرها بعلة تقتضي أنه لا يعقلها وهذا تناقض بين

ولا ريب أن كلامه هنا إنما ينفي كونه يعلمها متغيرة لئلا يكون متغير الذات ثم يعلل ذلك بأنه لا يعلم الحسيات

لكنه في موضع آخر قال: إن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما يدركها المدرك بآله متجزئة وإن مدرك الجزئيات لا يكون عقلا بل قوة جسمانية

وهنا قد ذكر أن واجب الوجود الجسمانيات التامة بأعيانها فيلزم أحد الأمرين إما أنه جسم يدركها بقوة جسمانية وإما أنه لا يدركها كما قاله أرسطو وإما أن تكون الأجسام تدرك بقوة غير جمسانية كما قاله أبو البركات وقد ناقضه أبو البركات في هذا الفصل وسنذكر إن شاء الله كلامهما

فكلام ابن سينا في العلم متناقض فإنه يثبت أنه يعلم الموجودات التامة بأعيانها وهذا يناقض جميع ما ذكره في نفي العلم أو حصول التغير ولم يذكر على نفي كونه عالما بالجزئيات إلا حصول التغير وأما التعدد فقد التزمه

الوجه السادس عشر

فيقال: الوجه السادس عشر: أن يقال: ابن سينا يثبت علمه بأعيان الباقيات مع كثرتها كما سنذكر لفظه إن شاء الله وما ذكره من الحجة على نفي علمه بالمتغيرات مثل كونه إما متقوم وإما عارض لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة وقوله: تكون حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره ونحو ذلك - يلزم من العلم بأعيان الباقيات وأنواع المتغيرات كما يلزم في المتغيرات وإنما يختص بالمتغيرات بحدوث شيء آخر وذاك ليس عنده ما ينفيه بخصوصه فإنه يجوز في القديم أن تحله الحوادث وإنما منع حلول الحوادث به لكونه يمنع قيام الصفات أو أن يقول بما ذكر عن أرسطو من أن ذلك يوجب تعبه وكلاله وكل ذلك فضيحة من الفضائح ما يظن بأضعف الناس عقلا أن يقول بمثل ذلك

ولولا أن هذا نقل أصحابهم عنهم في كتبهم المتواترة عنهم عندهم لاستبعد الإنسان أن يقول معروف بالعقل مثل هذا الهذيان

وهذه ألفاظ ابن سينا في الإشارات بعد أن قرر بطلان قول من يقول باتحاد العاقل والمعقول: فيظهر لك من هذا أن كل ما يعقل بأنه ذات موجودة تتقرر فيها القضايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر قال: تنبيه: الصورة العقلية قد يجوز بوجه ما أن تستفاد من الصور الخارجية مثلا كما تستفيد صورة السماء من السماء وقد يجوز أن تسبق الصورة الأولى إلى القوة العاقلة ثم يصير لها وجود من خارج مثلما تعقل شكلا ثم تجعله موجودا ويجب أن يكون بما يعقل واجب الوجود من الكل على الوجه الثاني

ثم قال: تنبيه: كل واحد من الوجهين قد يجوز أن يحصل من سبب عقلي متصور لوجود الصورة في الأعيان أو غير موجودها بعد في جوهر قابل للصور المعقولة ويجوز أن يكون للجوهر العقلي من ذاته لا من غيره ولولا ذلك لذهبت العقول المفارقة إلى غير النهاية وواجب الوجود يجب أن يكون له ذلك من ذاته

قلت: فقد بين أن علم الرب هو من نفسه لا من غيره وأن علمه بالمعقولات ليس مستفادا بها بل علمه بها سبب لوجودها وحينئذ فلا يكون علمه مفتقرا إلى معلومه بل معلومه مفتقرا إلى علمه سواء كان المعلوم متغيرا أو غير متغير

ثم قال: إشارة: واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقق ويعقل ما بعده من حيث هو علة لما بعده ومنه وجوده ويعقل سائر الأشياء من حيث حدثها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا

ثم قال: إشارة: إدراك الأول للأشياء من ذاته في ذاته هو أفضل أنحاء كون الشيء مدركا ومدركا ويتلوه إدراك الجواهر العقلية اللازمة للأول بإشراق الأول ولما بعده منه من ذاته وبعدهما الإدراكات النفسانية التي هي نقش ورسم عن طابع عقلي متبدد المبادئ والمناسب

ثم قال: وهم وتنبيه: ولعلك تقول: إن كانت المعقولات لا تتحد بالعاقل ولا بعضها مع بعض لما ذكرت ثم سلمت أن الواجب الوجود يعقل كل شيء فليس واحدا حقا بل هناك كثرة فنقول: إنه لما كان تعقل ذاته بذاته لم يلزم قيوميته عقلا بذاته لذاته أن يعقل الكثرة جاءت الكثرة لازمة متأخرة لا داخلة في الذات مقومة بها وجاءت أيضا على ترتيب وكثرة اللوازم من الذات مباينة أو غير مباينة لا تثلم الوحدة والأول تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب وبسبب ذلك كثرة أسماء لكن لا تأثير لذلك في وحدانية ذاته

قلت: فقال: هذا الكلام صريح في ثبوت صفات الله قائمة به ليس إضافية ولا سلوب كما قال: تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب

وهذا مما اعترف به الشارحون لكلامه المنتصرون له وغير المنتصرين

كلام الرازي في شرح الإشارات

قال الرازي في شرحه: أقول هذا سؤال جيد وتقديره: أنك إذا قلت: الله يعلم جميع الماهيات والعلم عبارة عن حصول صورة المعلوم عند العالم فقد حصل في ذاته صور المعلومات بأسرها ثم زعمت أن العالم لا يتحد بالعلم فلزم أن تكون ذات الله محلا لتلك الصورة الكثيرة الغير المتناهية

قال: وحاصل جوابه أنه التزم ذلك وبين أنه لا يلزم منه محذور لأن الدلالة إنما دلت على تنزيه ذات الله عن الكثرة فأما أنه لا يكون في لوازمه كثرة فذلك مما لم يثبت بالدلالة أصلا وقد بينا أن علمه بالأشياء من لوازم علمه بذاته فتكون الكثرة الحاصلة بسبب علمه بالأشياء كثرة في لوازم ذاته وكثرة اللوازم لا توجب الكثرة في الملزوم فإن الوحدة التي هي أبعد الأشياء عن طبائع الكثرة يلزمها لوازم غير متناهية من كونها نصفا للإثنين وثلثا للثلاثة وربعا للأربعة وهلم جرا إلى ما لا نهاية له

ثم قال بعد ذلك: فالأول تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب وبسبب ذلك كثرة أسماء لكن لا تأثير لذلك في وحدانيته ذاته

قال الرازي: وأقول: إن هذا الكلام يدل على رجوع الشيخ عن مذهب الفلاسفة في مسألتين من أمهات المسائل: أحدهما: أن المشهور من قولهم إن البسيط لا يكون قابلا وفاعلا وهنا اعترف بأن المؤثر في تلك الصور العقلية ذاته والقابل لها أيضا ذاته فالبسيط هناك فاعل وقابل

وثانيتهما: أن المشهور من مذهبهم أنه ليس لله من الصفات إلا السلوب والإضافات وهاهنا اعترف أن لله كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب فأثبت لله صفات ثبوتية غير إضافية وكيف يمكنه أن لا يعرف بذلك؟ وعنده أن الله عالم بالماهيات والعلم بالأشياء عنده عبارة عن حصول صورة في العالم وتلك الصورة ليست مجرد إضافات لأن مذهبه أن الصورة الحاصلة عند العقل مساوية لماهية المعقول والمساوي للجواهر والكميات والكيفيات في تمام ماهيتها كيف يكون مجرد إضافات؟

فظهر أن الفلاسفة لا يمكنهم ادعاء تنزه الله عن الصفات الحقيقية

كلام الآمدي

وكذلك الآمدي قال: واعلم أن من أثبت لواجب الوجود من الفلاسفة علما وفسر العلم بانطباع صورة المعلوم في النفس فقد أثبت لواجب الوجود صفة وجودية زائدة على ذاته وناقض أصله في نفي الصفات الوجودية الزائدة لذات واجب الوجود ضرورة لأن انطباع صورة المعلوم في النفس أمر وجودي زائد على الذات

كلام الطوسي في شرح الإشارات

ثم إن الطوسي في شرحه قرر ما ذكره الرازي وزاد عليه هذا مع كثرة مناقضته للرازي وحرصه على ذلك وعلى نصر ابن سينا ومع هذا فلما شرح هذا الفصل قال: تقرير الوهم أن يقال: إنك ذكرت أن المعقولات لا تتحد بالعاقل ولا بعضها ببعض بل هي صور متباينة منفردة في جوهر العاقل وذكرت أن الأول الواجب يعقل كل شيء فإذن معقولاته صور متباينة متقررة في ذاته ويلزمك على ذلك أن لا تكون ذات الأول الواجب واحدا حقا بل تكون مشتملة على كثرة

قال: وتقرير التنبيه أن يقال: إن الأول لما عقل ذاته بذاته وكانت ذاته علة للكثرة لزمه تعقل الكثرة بسبب تعقله لذاته بذاته فتعقله للكثرة لازم معلوم له فصور الكثرة التي هي معقولاته هي معلولاته ولوازمه مترتبة ترتب المعلولات فهي متأخرة عن حقيقة ذاته تأخر المعلول عن العلة وذاته ليست بمتقومة بها ولا بغيرها بل هي واحدة وتكثر اللوازم والمعلولات لا ينافي وحدة علمها الملزومة إياها سواء كانت تلك اللوازم متقررة في ذات العلة أو مباينة لها فإذن تقرر الكثرة المعلولة في ذات الواحد القائم بذاته المتقدم عليها بالعلية والوجود لا يقتضي تكثره والحاصل أن الواجب واحد ووحدته لا تزول بكثرة الصور المعقولة المقررة فيه

قال: فهذا تقرير التنبيه وباقي الفصل ظاهر

قال: ولا شك في أن القول بتقرر لوازم الأول في ذاته قول بكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا وقول بكون الأول موصوفا بصفات غير إضافية ولا سلبية على ما ذكره الفاضل الشارح يعني الرازي

وقول بكونه محلا لمعلولاته الممكنة المتكثرة تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقول بأن معلوله الأول غير مباين لذاته وبأنه تعالى لا يوجد شيئا مما يباينه بذاته بل بتوسط الأمور الحالة فيه إلى غير ذلك مما يخالف الظاهر من مذاهب الحكماء والقدماء القائلين بنفي العلم عنه تعالى وأفلاطن القائل بقيام الصور المعقولة بذاتها والمشاؤون القائلون باتحاد العاقل بالمعقول إنما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني

قال: ولولا أني اشترطت على نفسي في صدر هذه المقالات أني لا أتعرض لذكر ما أعتمده فيما أجده مخالفا لما أعتقده لبينت وجه التقصي عن هذه المضايق وغيرها بيانا شافيا لكن الشرط أملك ومع ذلك فلا أجد في نفسي رخصة أن لا أشير في هذا الموضع إلى شيء من ذلك أصلا فأشرت إليه إشارة خفيفة يلوح الحق منها لمن هو ميسر لذلك

قال: فأقول: العاقل كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو فلا يحتاج أيضا في إدراك ما يصدر عن ذاته لذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر التي بها هو هو واعتبر في نفسك: أنك تعقل شيئا بصورة تتصورها أو تستحضرها فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا بل بمشاركة ما من غيرك ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها أيضا بنفسها من غير أن تتضاعف الصور فيك بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك وبتلك الصورة فقط على سبيل التركب وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك لك هذه الحال فما ظنك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟

قال: ولا تظنن أن كونك محلا لتلك الصورة شرط في تعقلك إياها فإنك تعقل ذاتك مع كونك لست بمحل لها بل إنما كان كونك محلا لتلك الصورة شرطا في حصول تلك الصورة الذي هو شرط تعقلك إياها فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول فيك

ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون حصول الشيء لقابله فإذن المعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته حاصلة من غير أن تحل فيه فهو عاقل إياها من غير أن تكون هي حالة فيه

وإذ تقدم هذا فأقول: قد علمت أن الأول عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلا في اعتبار المعتبرين على ما مر وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله لمعلوله الأول فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير فاحكم بكون المعلولين أيضا: أعني المعلول الأول وعقل الأول له شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مباينا للأول والثاني متقررا فيه وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتبارا محضا فاحكم بكونه في المعلولين كذلك فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحل ذات الأول تعالى عن ذلك

ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها بحصول صور فيها وهي تعقل الأول الواجب ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور لا بصور غيرها بل بأعيان تلك الجواهر والصور وكذلك الوجود على ما هو عليه فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة

قال: فهذا أصل إن حققته وبسطته انكشفت لك كيفية إحاطته تعالى بجميع الأشياء الكلية والجزئية إن شاء الله تعالى و{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } [ المائدة: 54 ] ولولا أن تلخيص هذا البحث على هذا الوجه الشافي يستدعي كلاما بسيطا لا يليق أن نورد أمثاله على سبيل الحشو لذكرت ما فيه كفاية لكن الاقتصار هنا على هذا الإيماء أولى

الرد على كلام الطوسي من وجوه

قلت: فليتدبر العاقل الذي هداه الله تعالى وفهمه ما جاءت به الرسل وما قاله غيرهم كلام هذا الذي هو رئيس طائفته في وقته وما قرر به كلام سلفه الملحدين في علم الله تعالى لما كان ابن سينا - وهو أفضل متأخريهم - قد قال في ذلك بعض الحق الذي يقتضيه العقل الصريح مع موافقته للنقل الصحيح فأراد هذا الطوسي أن يرد ما قاله ابن سينا من الحق انتصارا لطائفته الملاحدة فقال في الكلام الذي عظم قدره وتبجح به ما يظهر لمن فهمه أنه من أفسد أقوال الآدميين وأشبه الأشياء بأقوال المجانين

ولا ريب أن هذه عقول كادها باريها لما ألحدت في صفات الله تعالى وأرادت نصر التعطيل وقعت في هذا الجهل الطويل فجعل نفس الحقائق المعلومة الموجودة المباينة للعالم هي نفس علم العالم بها ولا ريب أن هذا أفسد من قول من جعل العلم نفس العالم كما يقوله طائفة من النفاة كابن رشد ونحوه وقول أبي الهذيل خير منه

ولا ريب أن من جعل نفس المخلوقات نفس علم الخالق بها فقد أتى من السفسطة بما هو من أعظم الأشياء فرية على الخالق تعالى وعلى مخلوقاته وما هو من أظهر الأقوال فسادا عند كل من تدبره

والحمد لله الذي جعل أقوال الملحدين يظهر فسادها لكل ذي عقل كما علم إلحادهم كل ذي دين هذا مع تعظيم أتباعهم لهم ونسبتهم لهذا ونحوه إلى التحقيق في المعارف الحكمية والعلوم الإلهية

ثم إن هذه اللوازم الظاهرة لفساد بناها على مقدمة ستسلفها ممن سلمها له من أشباهه وأقرب الأشياء شبها بهذا القول قول أهل الوحدة الذين يقولون: وجود المخلوق عين وجود الخالق فإن أولئك جعلوا الوجودين وجودا واحدا وهذا جعل نفس علم الخالق ووجود المخلوق شيئا واحدا فتلك وحدة في وجوده وهذه وحدة في علمه مع وجود المخلوقات

ولا ريب أن قول النصارى بالاتحاد والحلول أقرب إلى المعقول من قول هؤلاء فإن أولئك يجعلون الكلمة التي هي عندهم جوهر قد تجدد له اتحاد بالمسيح وهؤلاء جعلوا نفس علمه اللازم له الذي لم يزل ولا يزال هو نفس المخلوقات كلها

ونحن نبين فساد مقدماته التي استسلفها وفساد نتائجه التي استنتجها

أما قوله: العاقل كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو فلا يحتاج أيضا في إدراك ما يصدر عن ذاته بذاته إلى صورة غير صورة تلك الصادر التي بها هو هو

الوجه الأول

فيقال: كلا المقدمتين ممنوع فلا نسلم أنه لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته ولا نسلم أنه إذا كان كذلك لا يحتاج في إدراك ما يصدر عنه إلى صورة غير صورة الصادرة عنه

والمقدمة الأولى له فيها سلف وعليها بنى طائفة من الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين كالسهروردي المقتول كلامهم في مسألة العلم وإن كان جماهير العقلاء من بني آدم يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة

حتى قال الرازي: وأعلم أنه لولا ولوع الناس بكل كلام هائل لا يخلصون حقيقته لما احتيج إلى الكلام على قولهم: إن الشيء الأحدى الذات عقل وعاقل ومعقول من غير تعدد صفاته وأما هذه الثانية فما علمت له فيها سلفا

فنقول في الأولى التي ذهب إليها بعض سلفه لم قلت: إن العالم إذا علم نفسه لم يكن علمه بنفسه إلا مجرد نفسه؟ وما الدليل على ذلك؟ وهل هذه إلا مجرد الدعوى؟

ثم إنها دعوى معلومة الفساد بالضرورة وبالأدلة فإن الإنسان حاله قبل أن يعرف نفسه خلاف حاله إذا عرفها: يعلم أنه حصل له علم لم يكن مع أن نفسه لم تزل ويعلم أنه إذا قال: علمت نفسي كان في هذا زائد على قوله: كانت نفسي

وإذا قال: علمي بنفسي موجود علم أن هذا زائد على قوله: نفسي موجودة وقوله: علمت نفسي كقوله: أحببت نفسي وظلمت نفسي ورأيت نفسي فهل يكون حبه لها وظلمه لها ورؤيته لها هو ذاتها؟ !

الوجه الثاني

ومن الأقوال المشهورة عند الناس: من عرف نفسه عرف ربه فلو كانت معرفته بنفسه هو نفسه لكان كل أحد عارفا بنفسه وبربه

ثم إن العاقل يتبين له كل وقت من أحوال نفسه ما لم يكن متبينا له قبل ذلك فيزداد عقلا ومعرفة وتبينا لنفسه ويجد ذلك فيه وجودا ضروريا كما يجد علومه الضرورية فكيف يكون علمه بنفسه ليس فيه زيادة على مجرد نفسه التي كانت قبل العلم بها؟

وقول القائل: العاقل لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو

يقال له: من المعلوم بالضرورة أن إدراك ذاته ليس هو عين ذاته بل إذا قدر ذاته بدون إدراكها وقدر ذاته مع إدراكها كان إدراكها قدرا زائدا على ذاته بدون إدراكها وهذا الإدراك غير الذات الخلية عن إدراك فهذا معلوم بالحس والضرورة

ثم إن كان القائل ممن يقول: الإدراك هو انطباع صورة المعقول في العاقل أو يقول: الإدراك هو نفس تلك الصورة أو هو إدراك تلك الصورة أو يقول: ليس هناك صورة بل الإدراك علم بالمدرك بلا صورة أو يقول: هو نسبة بين المدرك والمدرك بلا صورة فأي قول في هذه الأقوال قاله فلا بد له أن يجعل الإدراك ليس هو المدرك فليس العلم هو نفس المعلوم كما أنه ليس هو العالم بل يعقل بالضرورة الفرق بين العالم والمعلوم والعلم كما يعقل الفرق بين المريد والمراد والإرادة والمرئي والرائي والرؤية والمسموع والسامع والسمع والمحبوب والمحب والمحبة

لكن إن كان الواحد هو العالم والمعلوم والمحب والمحبوب بحيث يقال: إنه يعرف نفسه ويحب نفسه فهنا مع كونها العالم والمعلوم والمحب والمحبوب فليس علمها بنفسها وحبها نفسها هو ذات نفسها بل يمكن تقديرها غير عالمه بنفسها ولا محبة لنفسها ويمكن تقديرها مع علمها وحبها

ويعلم أنه مع تقديرها الوجود هناك أمر موجود زائد على تقدير العدم هذا مع أن جهة كونه عالما غير جهة كونه معلوما وإن كانت الذات واحدة وأما نفس العلم فليس هو لا ذات العالم ولا ذات المعلوم

وقول القائل: الشيء لا يضاف إلى نفسه كلام مجمل فإن عنى به أنه لا يضاف في اللفظ فهذا ليس بحثا عقليا مع أنه ممنوع فإنه قال: نفسه وذاته وليس الكلام في هذه

وإن أراد بذلك ما نحن فيه وهو أن ذاته لا تتعلق بها الصفات الثبوتية الإضافية كالعلم والحب والظلم فلا يكون عالما بنفسه ولا محبا لها ولا ظالما لها - فهذا مكابرة

ثم لو قدر أن إدراكه لذاته ليس فيه صورة عقلية غير صورة ذاته التي بها هو فلم قلت: إنه يلزم مثل ذلك في إدراك كل شيء؟ والذين فرقوا قالوا: ذاته لا تضاف إلى ذاته وهذا الفرق منتف فيما سواهما

قالوا: ليس بينه وبين ذاته واسطة أقرب من ذاته إلى ذاته وهذا منتف فيما سوى ذاته

وقالوا: العلم هو العالم وليس هو المعلوم فعلمه بذاته هو نفس ذاته بخلاف علمه بغيره

وبالجملة فهم قد ذكروا فروقا إن كانت صحيحة بطل الجمع وإن كانت باطلة منع الحكم في الأصل

أما كون الحكم في الأصل يوجد مسلما مع قياس العلم بما سواه على العلم بنفسه في أن كل عالم بمعلوم هو نفس المعلوم وليس هناك علم زائد على المعلوم - فهذا مردود بصريح العقل ومجرد تصوره التام كاف في العلم بفساده

الوجه الثالث

أن يقال: قوله: فلا يحتاج في إدراك ما يصدر عن ذاته بذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر التي بها هو هو قضية معلومة الفساد بالضرورة فإن الإنسان يجد من نفسه أنه إذا أراد أن تصدر عنه صورة خارجية من قول أو فعل فإنه يتصور في ذهنه ما يريد أن يظهره قبل أن يظهره ويميز بين الصورة التي في ذهنه وبين ما يظهره بقوله وفعله

والفلاسفة مع سائر العقلاء متفقون على هذا ويقولون: أول الفعلة آخر العمل وأول البغية آخر الدرك ويقولون: العلة الغائية هي أول في التصور آخر في الوجود وجمهور العقلاء يقولون: السابق هو تصور العلة الغائية وإرادتها

وأما ابن سينا ونحوه من الفلاسفة فيقولون: بل نفس العلة هي السابقة في الذهن ويقولون: العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية

وجمهور العقلاء لا يجعلونها علة فاعلية بل يقولون: تصور الفاعل لها وإرادته لها به صار فاعلا فلولا تصور الغاية والإرادة لها لما كان فاعلا فتصورها وإرادتها شرط في كون الفاعل فاعلا وهي مقدمة في التصور والإرادة وإن تأخرت في الوجود

ففي الجملة العاقل الفاعل فعلا باختياره يتصور ما يريد أن يفعله في نفسه ثم يوجده في الخارج فتلك الصورة الموجودة في الخارج بفعله ليست هي الصورة المعقولة في ذهنه كمن أراد أن يصنع شكلا مثلثا أو مربعا أو يصنف خطبة أو يبني دارا أو يغرس شجرا أو يسافر إلى مدينة فإنه يتصور ما يريده ابتداء فتكون له صورة عقلية في نفسه قبل صورته التي توجد في الخارج وهو معنى قولهم: أول البغية آخر الدرك أي أول ما تبغيه فتريده وتطلبه هو آخر ما تدركه وتناله

وهذا العلم هو العلم الفعلي المشروط في الفعل وعلم الرب عندهم فعلي فكيف يكون نفس علمه به هو نفس المعلوم الذي أبدعه في الخارج؟ وهل يقول هذا من يتصور ما يقول؟

الوجه الرابع

قوله: واعتبر من نفسك أنك تعقل شيئا بصورة تتصورها أو تستحضرها فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا بل بمشاركة ما من غيرك ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها بنفسها من غير أن تتضاعف الصور فيك إلى قوله: وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك هذه الحال فما ظنك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟

فيقال له: هذا تلبيس لا يروج إلا على جاهل أو متجاهل فإن هنا أمرين: أحدهما: الشيء الموجود في الخارج وهذا هو الذي يقال: إن تعقله ارتسام صورته في العالم والثاني: نفس الصورة العلمية التي في العاقل المطابقة لهذا المعلوم فهذه الصورة لم يقل أحد: إنها تفتقر إلى صورة أخرى فإن هذه هي العلم

وهم قالوا: إن العلم صورة مطابقة للمعلوم والعلم من حيث هو علم لا يجب أن تكون له صورة غير نفسه في العقل تطابقه اللهم إلا إذا قيل: إن ذلك العلم صار معلوما فتكون له صورة من حيث هو معلوم لا من حيث هو علم

وقوله: إنك تعقل شيئا بصورة تتصورها وتستحضرها فهي صادرة عنك وأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها أيضا بنفسها

فيقال: قوله: صادرة عنك إنما تعرف فيما يفعله الإنسان أما حصول الصورة العلمية في نفسه فهذا قد يكون ضروريا حصل بغير فعل منه وإن كان نظريا فهو ضروري بعد وجود سببه

ولهذا من يقول: المتولدات ليست مكتسبة يجعل جمهورهم العلوم كلها ضرورية كما قال أبو المعالي: والمختار عندنا أن العلوم كلها ضرورية وحينئذ فلا تكون تلك الصورة العقلية صادرة عنه بل هي حاصلة في ذاته بغير اختياره

وعلم الرب القديم اللازم لذاته كعلمه بنفسه لا يقال: إنه صادر عنه ولا مفعول له بل هو كحياته ولكن ما يتجدد من سمع وبصر وعلم بالكائن كائنا فهذا من أثبته فإنه يمكن أن يجعله صادرا عنه

وأما علمه بالأشياء التي يريد أن يفعلها قبل فعلها فهذا للناس فيه كلام بحسب تنازعهم في هذا الأصل

وعلى كل قول وبكل تقدير ليست صورة المعلوم التي خلقها وأبدعها هي نفس علمه به وإذا سمي العلم صورة عقلية فليس هذا هو ذاك

وإذا قيل: إن عقل العاقل للصورة الموجودة لا يكون إلا بصورة عقلية لم نقل: إن الصورة العقلية لها صورة أخرى

ولكن للناس هنا نزاع وهو أن العلم بالعلم هل يحصل بالعلم أم لا بد من علم ثان؟ وكذلك العلم الثاني هل يفتقر إلى ثالث؟ فمن أثبت ذاك بطلت الحجة على قوله ومن نفي ذاك قال: العلم يعلم به غيره فلأن يعلم هو بنفسه بطريق الأولى كالنور الذي يرى به غيره ويرى هو بنفسه فلا يلزم إذا احتاج ما ليس بعلم إلى صورة عقلية أن يحتاج نفس العلم إلى صورة عقلية غير العلم بل من علم شيئا علما تاما علم أنه عالم ومن نصر القول الأول يقول: قد يعلم المعلوم ويذهل عن كونه عالما به

فإن قيل: هذا لا يتصور في حق الله تعالى فإنه يعلم المخلوقات ويعلم أنه عالم بها فإذا كان العلم بكونه عالما ليس هو العلم بالمعلوم المنفصل لزم وجود علوم لا تتناهى

وهذا هو الذي احتج به الطوسي فيقال: علمه بنفسه يوجب كونه عالما بصفاتها ومن صفاتها كونه عالما بهذا وهذا فعلمه بنفسه يتضمن العلم بكونه عالما بالمعلومات وهذا العلم ليس هو العلم بالمعلومات المخلوقات لكن هو مستلزم له فعلمه تعالى بنفسه مستلزم للعلم بجميع صفاته يمتنع وجود أحدهما دون الآخر فليس هناك علمان متباينان بخلاف علمه ومخلوقه المعلوم فإن هذا مباين لهذا

والعلم محله نفسه المقدسة والمخلوق ليس بمباين له فكيف يكون هو إياه؟ وهو سبحانه يعلم الشيء قبل وجوده فيكون العلم به موجودا والمعلوم لم يوجد بعد

وهذا بخلاف علمه وعلمه بعلمه فإنه يمتنع وجود أحدهما دون الآخر فيمكن أن يقال: علمه بنفسه يتضمن العلم بعلمه فلا يوجد بدونه كما يوجد علمه بالمخلوقات قبل وجود المخلوق

الوجه الخامس

قوله: بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك وبتلك الصورة فقط على سبيل التركب

فيقال: تضاعف هذا الاعتبار هو الذي يريده من يقول بتضاعف الصور فإن مقصودهم أن العلم بالعلم بالشيء ليس هو العلم بالشيء ثم كون العلم صورة المعلوم في العالم أو إدراك الصورة أو إدراكه بلا صورة أو نسبة أو غير ذلك - نزاع في حقيقة العلم

والمقصود هنا أن علم العالم بالمعلوم ليس هو المعلوم وهو يريد أن يقرر أن العلم بالمعلوم عين المعلوم كما أن العلم بالعلم بالمعلوم هو نفس العلم المعلوم وجوابه إما بالمنع وإما بالفرق

فإن كان العلم بالعلم زائدا على العلم منع الحكم في الأصل وإن لم يكن زائدا فالفرق حاصل وهو يريد التسوية بين العلم بالعلم وبين العلم بالمعلوم

ونقول: إذا كان ذاك المعلوم هو نفس العلم فكل معلوم نفس العلم وكلا المقدمتين ممنوعة ولقد قرر أنه لم تنحل هذه الشبهة فنحن نعلم علما ضروريا أن هذا سفسطة وأن من جعل نفس المعلوم الموجود المخلوق هو نفس علم العالم به فهو مكابر جاحد للخالق

الوجه السادس

قوله: ولا تظنن أن كونك محلا لتلك الصورة شرط في تعقلك إياها فإنك تعقل ذاتك مع أنك لست بمحل لها بل إنسا كان كونك محلا لتلك الصورة شرطا في حصول تلك الصورة لك الذي هو شرط في تعقلك إياها فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول

فيقال: هنا صورتان: الصورة الموجودة في الخارج والصورة المعقولة المطابقة لتلك المسماة بالعلم

فإن أريد أن كونه محلا للصورة العقلية ليس شرطا في تعقل الصورة العقلية فهذا باطل فإن تعقلها لا يكون إلا بحصولها له والصورة العقلية لا تحصل له إلا إذا قامت به بل الصورة العقلية لا تكون إلا حالة في الإنسان لا تكون حاصلة له بدون الحلول أبدا

وكذلك كل عالم لا بد أن يكون العلم قائما به وحصول العلم للعالم بدون قيامه به ممتنع فإن العلم لا يقوم بنفسه ولو قدر قيامه بنفسه لم تختص به ذات دون ذات فلا تكون الذات عالمة علما إن لم يكن ذلك العلم قائما بها

وهذا مما رد به على جهم حيث قال: إن الرب عالم بعلم لا يقوم به لامتناع قيام الصفات به

كما رد به على البصريين من المعتزلة قولهم: مريد بإرادة لا تقوم به

وقول هذا الطوسي شر من قول جهم فإن جهما وإن قال: إنه عالم بعلم لا يقوم به - فالعلم عنده ليس هو المعلوم

وهذا يجعله عالما بعلم منفصل عنه ويجعل العلم هو المعلوم

فإن حقيقة قول النفاة للصفات من الفلاسفة من جنس قول النفاة لها من الجهمية فيشتركان في التعطيل ويفترقان في مسائل الحدوث والقدم

ولهذا وصى ابن سينا بملازمة قول النفاة للصفات فإن القول بالحدوث ممتنع على أصلهم فالنفي حجة له عليهم بخلاف مثبتة الصفات فإن فساد قول الدهرية على قولهم ظاهر

وإن أراد أن تعقل الموجود في الخارج ليس مشروطا بحصول الصورة العقلية فقد اعترف هو بثبوت الصورة العقلية وادعى أنها صورة المفعول

ثم نقول: مقصودنا لا يتوقف إلا على إثبات علم قائم بالعالم سواء سمي صورة عقلية أو لم يسم فعقل الوجود في الخارج لا يكون إلا إذا قام بالعاقل عقل له وذلك العقل ليس هو العقل الموجود في الخارج المباين للعاقل وإذا سمي ذلك العقل صورة عقلية وقيل: إن التعقل ليس مشروطا بها كان معناه أن وجود العلم ليس مشروطا بوجود العلم

ومعلوم أن الشيء لا يثبت بدون لازمه فكيف يثبت الشيء مع انتفائه؟ وهل هذا إلا جمع بين النقيضين: وجوده وعدمه؟

وحينئذ فكون العالم محلا للعلم شرط في حصول العلم فإن حصول العلم للعالم بدون اتصافه به وقيامه به ممتنع فلا يكون العقل الذي هو العلم حاصلا للعاقل إلا إذا كان العاقل الذي هو العالم محلا لذلك العقل الذي هو العلم كما أن المحب لا يكون محبا إلا إذا كانت المحبة قائمة به وكذلك في الإرادة والكلام وسائر الصفات

وهذا أصل مطرد لأهل السنة: أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يتصف بتلك الصفة غير ذلك المحل

ولهذا قالوا: لو كان كلام الله مخلوقا لكان المتكلم به هو المحل الذي خلق فيه وطرد أئمتهم وجمهورهم هذا في الصفات الفعلية وآخرون كالأشعري ونحوه فرقوا بينهما فرقا كانوا به متناقضين عند جمهور الناس من المثبتة والنفاة

وأما من يقول: عالم لا بعلم يقوم به ومريد لا بإرادة تقوم به ومتكلم لا بكلام يقوم به - فهذا كلام الجهمية النفاة ومن وافقهم من المعتزلة

وهذا الطوسي وأمثاله هم الجهمية النفاة المتفلسفة الملاحدة وهو في التعطيل شر من المعتزلة وغيرهم

وكذلك ابن سينا وأمثاله هم من أتباع الملاحدة النفاة وكان هذا الطوسي من أعوان الملاحدة الذين بالألموت ثم صار من أعوان المشركين الترك لما استولوا على البلاد

وكذلك ابن سينا وقد ذكر سيرته فيما ذكره عنه أصحابه فذكر أن أباه كان بلخيا وأنه تزوج بقرية من قرى بخارى في أيام نوح بن منصور بامرأة منها فولد بها وأنهم انتقلوا إلى بخارى

قال: وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ومقدمهم وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي وكانا ربما تذاكروا ذلك بينهم وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه وابتدأوا يدعونني إليه ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي وكان يدعي الفلسفة وأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه

ثم ذكر قراءته عليه المنطق وإقليدس والمجسطي

ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين - بني عبيد الباطنية - كالحاكم وأمثاله الذين هم سادة أهل بيته من أعظم الناس نفاقا وإلحادا في الإسلام وأبعد الناس عن الرسول نسبا ودينا بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول فليس لهم سمع ولا عقل

وقولهم في الصفات صريح قول جهم بل وشرا منه وزادوا عليه من التكذيب بالحق والبعث والشرائع ما لم يقله الجهم تلقيا عن سلفهم الدهرية وأخذوا ما نطق به الرسول في الإيمان بالله واليوم الآخر والشرائع فجعلوا لها بواطن يعلم علماء المسلمين بالاضطرار أنها مخالفة لدين الرسول

فأصحاب الإشارات هم من جنس هؤلاء لكن يتفاوتون في التكذيب والإلحاد

وأما قوله: فإنك تعقل ذاتك ولست بمحل لها

فيقال: ليس من شرط الموجود المعلوم أن يكون هو نفسه حالا في العالم بل أن يكون العلم به حالا في العالم ومن عرف نفسه فلابد أن يقوم في نفسه علم بنفسه فيكون العلم بنفسه حالا في نفسه لا أن تكون نفسه حالة في نفسه ولكن هو يريد أن يسوي بين العلم والمعلوم فيجعل ما لا يشترط في المعلوم لا يشترط في العلم ويجعل العلم نفس المعلوم وهذا باطل كما تقدم

الوجه السابع

قوله: بل إنما كان كونك محلا لتلك الصورة شرطا في حصول تلك الصورة لك الذي هو شرط في تعقلك إياها فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول فيك

هذا كلام متناقض فإن كونه محلا لتلك الصورة: إذا كان شرطا في حصول تلك الصورة امتنع وجود المشروط بدون شرطه فلا تحصل الصورة له إلا بحلولها فيه لأن الحلول شرط فيها فدعواه بعد هذا أنه يمكن حصولها له بدون الحلول جمع بين النقيضين

وكان ينبغي أن يقول: إنما كان كونك محلا للصورة سببا في حصولها لك والحصول يحصل بهذا السبب تارة وبغيره أخرى ومع هذا فلو قال ذلك كان باطلا أيضا لكن هو يعلم أن هذا الحلول شرط في تعقل العبد وإنما يدعي أنه ليس بشرط في علم الرب

الوجه الثامن

أن يقال: حصول العلم للعالم بدون قيامه به ممتنع فإذا كانت الصورة العقلية هي العلم أو كان العلم مستلزما لها لا يوجد إلا بوجودها لكونها شرطا فيه امتنع حصول العلم وحصول الصورة العقلية التي هي العلم أو شرطه أو لازمه للعالم بدون حلولها فيه كما يمتنع مثل ذلك في سائر صفات الحي فيمتنع أن يحصل له علم أو قدرة أو حب أو بغض أو رضى أو سخط أو فرح أو ألم أو لذة أو غير ذلك من صفات الحي بدون حلول ذلك في الحي ولا يحصل ذلك له إلا بحلوله فيه لا مع وجوده مباينا له

الوجه التاسع

أن يقال: مراده بالصورة الحاصلة بلا حلول: إن كان هو مجرد الصورة الموجودة وهو لم يرد ذلك كان حقيقته أن العلم يحصل بمجرد وجود المعلوم فلا يكون هنا علم قائم بالعالم ولا صورة عقلية وهذا مع ظهور فساده فهو يسلم بطلانه في العبد ويقول: إن كونه محلا لتلك الصورة شرط في حصول تلك الصورة الذي هو شرط في تعقله إياها فيجعل الحلول شرطا في الحصول الذي هو شرط في التعقل ويثبت الصورة العقلية القائمة بقلب الإنسان فيمتنع أن يريد بالصورة الحاصلة بلا حلول الصورة العقلية الحاصلة للإنسان

وإن أراد بذلك الصورة الموجودة فلا ريب أنها تحصل من غير حلول بل الحلول فيها ممتنع لكن يقال: ليس في مجرد حصولها للإنسان ما يوجب أن يكون الإنسان عاقلا لها إذا لم يكن في نفسه علم بها بل الحصول الخالي عما يقوم بالعالم من العلم ليس معه علم ضرورة فإن ادعى حصول الصورة العقلية بلا حلول فيمتنع وإن ادعى حصول الصورة الموجودة بلا حلول فهو ممكن لكن وجود العلم بمجرد ذلك من غير شعور يقوم بالشاعر بها ممتنع

وهذا أمر معلوم بالضرورة واتفاق العقلاء لكن هؤلاء القوم يدعون أن علم الله بالأشياء بلا علم يقوم به ويسمونه عاقلا ويفرقون بين عقل وعقل مع جعل العقل جنسا واحدا وهو تناقض بين وقول بلا علم بل مما يعلم بطلانه

الوجه العاشر

أن يقال: قوله: فإذا حصلت تلك الصورة بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول فيك ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون حصول الشيء لقابله

فيقال: حصول الشيء لغيره بدون حلول فيه لفظ مجمل قد يراد به حصوله في ملكه وقد يراد به حصوله عنده وفي يده وقد يراد به حصوله لينتفع به بوجه معاونا له ومشاركا

فإنه يقال لك: هذا المال وهذه الدار وهذا المملوك ويقال: حصل لك هذا لتستعيره أو تستأجره وقد يقال: حصلت لك هذه المرأة لتتزوجها وهذا الرفيق أو الشريك لترافقه وتشاركه وحصل لك هذا المعلم لتتعلم منه وحصل لك هذا العدو في يديك وقبضتك وأمثال ذلك

ومعلوم أنه ليس في هذه الأنواع من الحصول ما يوجب أن يكون هذا الحصول موجبا للعلم بدون شعور يقوم بالعالم بل إن لم يقم بالحي شعور قائم بنفسه بما حصل له وإلا لم يكن شاعرا بها والشعور أول درجات العلم والعقل فمن لم يكن شاعرا بالشيء كيف يكون عالما به وعاقلا له؟

فقوله: إذا حصلت تلك الصورة بوجه غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول فيك كلام لا دليل عليه وهو باطل ويكفيه المنع المجرد وهو أن يقال: لا نسلم أن الحصول الخالي عن حلول يكون تعقلا من غير حلول أو يوجب التعقل من غير حلول ونعني بالحلول ما بيناه من حلول نفس الشعور بالشاعر سواء كان هناك صورة عقلية أو لم يكن فكيف وقد رأينا الحصول من غير شعور لا يكون علما في عامة أنواع الحصول؟

الوجه الحادي عشر

قوله: ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون حصول الشيء لقابله فإذن المعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته حاصلة من غير أن تحل فيه فهو عاقل إياها من غير أن تكون هي حالة فيه

يقال له: لا ريب أن كونها مفعولة مخلوقة فيه مغاير لكونها قائمة به لكن يجب أن نعرف أنه لم يقل عاقل: إن العلم بالمخلوقات يقتضي حلول المخلوقات بذات الخالق كما أن خلقه لها نفس إبداع ذواتها فلم يقل عاقل: إن الذي هو مخلوق مفعول هو نفس الذي هو حال مقبول حتى نفرق بينهما بأن أحدهما حصول للفاعل والآخر حصول للقابل بل الحاصل للفاعل هو نفس الأشياء المخلوقة كالسماوات والأرض وما بينهما وأما القبول القائم بالقابل فهو العلم بها الذي يسمونه صورة عقلية لا نفسها الموجودة

ولا يقول عاقل يتصور ما يقول: إن العلم حصول نفس الموجودات في العالم فإن كل عاقل يعلم أنه إذا علم النار والشمس والقمر لم تكن هذه الحقائق في نفسه وإن قدر أن أحدا قال ذلك أو قال: إن الحاصل في نفسه مثل حقائقها الموجودة في الخارج في الحد والحقيقة حتى يقول: إن من علم الشمس صار في نفسه شمسا مساوية في الحد والحقيقة للشمس التي في السماء ومن علم النار حصل في نفسه نار مساوية في الحقيقة للنار التي تحرق فهذا القول ظاهر الفساد

وإنما الذي قد يقال: إنه تحصل صورة عقلية تطابق تلك الحقيقة مطابقة ما في النفس لما في الخارج ولهذا يمثلون ذلك بمطابقة الوجه لما في المرآة

فنقول: حصول الصورة العلمية في العالم كحصول الصورة المرئية في المرآة أو في الماء ونحو ذلك ومعلوم أنه لم تحل في المرآة والماء نفس الشمس والوجه ولا ما يساويهما في الحد والحقيقة ولكن صورة تحكيهما وليست هذه الصورة كالصورة التي تحصل في الشمع والطين من طبع الخاتم والرسم فإن تلك عرض منقوش حل في جسم يشبه الآخر بخلاف ما في المرآة فإنه عرض والشمس والوجه جسم وكذلك العلم الذي في القلب والمعلوم القائم بنفسه كالسماء والأرض جواهر فليس هذا مثل هذا

وبالجملة فنحن ليس غرضنا في هذا المقام إلا إثبات قيام العلم بالعالم فإنه أمر موضع الكلام فيه إذ كل أحد يميز بين شعوره بالشيء وعدم شعوره به

أما كون ذلك بانطباع صورة عقلية مطابقة أو مشابهة أو غير ذلك - فليس هذا موضع الكلام فيه إذ المقصود هنا أن ذلك العلم هو المسمى بالصورة العقلية وهو حال في العالم

وليس هذا هو الصورة الموجودة في الخارج ولا فاعل هذا فاعل ذاك ولا قابل هذا هو قابل ذاك فإن العلم بقلبه - قلب العالم - فهو صفة قائمة بالعالم وفاعله هو ما أحدثه فيه

وعلم الله القديم اللازم لذاته قائم به وليس له فاعل وإن كان له موصوف به يسمى محلا ويسمى قابلا

وأما الصورة الموجودة في الخارج فالله سبحانه خالقها والإنسان قد يكون له فعل في بعض الصور ومحلها - إن كانت عرضا - الجسم الذي قامت به كما أن محل الصياغة هو الذهب والفضة ومحل النجارة هو الخشب ومحل صورة الدرهم والدينار والخاتم هو الذهب والفضة ومحل الخياطة الثوب ومحل النساجة الغزل وأمثال ذلك

فقول القائل: حصول الشيء لفاعله غير حصوله لقابله يقتضي أن الشيء الحاصل للفاعل هو الشيء الحاصل للقابل وإنما اختلف الحصولان

وليس كذلك فإن حصول الشيء لفاعله هو حصول نفسه المخلوقة الموجودة كحصول العالمين لرب العالمين فإن كل المخلوقات حاصلة له حصول المفعول لفاعله بل حصولا لا يماثله فيه أحد فإن أحدا لا يخلق كخلقه

وأما حصول المقبول لقابله فإنما المراد به هنا حصول العلم بهذه المخلوقات للعالم بها فإن العلم يحصل له حصول المقبول لقابله لا يراد به أنها نفسها حصلت له حصول المقبول لقابله بحيث حلت فيه وكان محلا لها فهذا هذا

الوجه الثاني عشر

أن يقال: وإذا كان هذا الحصول غير هذا الحصول فأي مقصود يحصل لك بذلك؟ وأي دليل في ذلك على أن المعلولات - التي هي المخلوقات - إذا كانت حاصلة للخالق الذي خلقها من غير أن يقوم به شعور بها أصلا بل ذاته مع عدم العلم بها كذاته مع وجود العلم بها فيكون عالما بها من غير حلول شيء فيه؟

وقوله: فهو عاقل إياها من غير أن تكون حالة فيه

يقال له: لم يشترط أحد حلول ذواتها فيه فإن كان هذا الشخص رد قول من أدخل فيه ما يماثلها في الحد والحقيقة فنحن نساعده على ذلك ولا حاجة إلى ما ذكره

ولم يقل أحد من المسلمين: إن الله لا يعلم المخلوقات حتى تحل في ذاته أو يحل في ذاته ما هو مماثل في الحقيقة لهذه المخلوقات فإن كان في سلفه الملاحدة من قال نحو هذا فدونه وإياه وأما سلفنا المسلمون فلم يقل أحد منهم شيئا من هذا

وإن أراد بقوله: من غير أن تكون حالة فيه من غير أن يقوم به علم بها بل يكون حال ذاته مع العلم بها كحالها إذا قدر عدم العلم بها فهذا باطل معلوم الفساد بالضرورة وإذا أثبت علما بجميع المخلوقات يتصف به الرب غير المخلوقات المعلومة حصل المقصود في هذا المقام ويبقى المقام في تفصيل ذلك له مقام آخر

الوجه الثالث عشر

قوله: وإذ تقدم هذا فأقول: قد علمت أن الأول عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود لا في اعتبار المعتبرين على ما مر وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله المعلول الأول فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير فاحكم بكون المعلولين أيضا: أعني المعلول الأول وعقل الأول له شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مباينا للأول والثاني متقررا فيه وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتبارا محضا فاحكم بكونه في المعلولين كذلك

فيقال: كلا المقدمتين ممنوعة باطلة: التلازمية والاستثنائية المشبه والمشبه به الأصل والفرع

أما قوله: حكمت بكون ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود فهذا لم يحكم به أحد من مثبتة الصفات الذين هم سلف الأمة وأئمتها وجماهيرها على تنوع أصنافهم فلم يقل منهم أحد: إن علمه بنفسه هو عين نفسه وإنما يحكي ما يشبه هذا عن المعطلة الجهمية من أهل الكلام والفلسفة كابن رشد ونحوه بل علمه بنفسه في كونه ليس هو نفسه كعلمه بسائر المعلومات فليس العلم نفس العالم عند أحد من أهل الإثبات للصفات

ولكن هل يقال: إنه غيره؟ هذا فيه نزاع لفظي

منهم من يقول: إن علمه غيره

ومنهم من يقول: لا هو هو ولا هو غيره

ومنهم من يقول: لا نقول: لا هو هو ولا هو غيره فأنفيهما جميعا بل أقول: ليس هو إياه منفردا وأقول: ليس هو غيره مفردا ولا أجمع بينهما فأقول: لا هو هو ولا هو غيره

وأما السلف والأئمة ك أحمد بن حنبل وغيره فلم يقولوا شيئا من ذلك بل امتنعوا من إطلاق القول بأنه غيره كما لم يطلقوا أنه هو ولم يقولوا: إنه لا هو هو ولا غيره فينفوهما جميعا: لا مجتمعين ولا منفردين بل منعوا من إطلاق لفظ الغير لأن لفظ الغير مجمل يراد به المباين ويراد به ما ليس هو إياه

والجهمي إذا سأل أ دهم عن القرآن: أهو الله أو غيره؟ فإن قال: هو غيره قال: كل ما هو غير الله مخلوق

ولهذا لما سألوا الإمام أحمد في المحنة عن القرآن: أهو الله أو غيره؟ وإذا كان غيره كان مخلوقا - عارضهم بالعلم فسكتوا وقد تكلم على لفظ الغير في الرد على الجهمية

والقول الذي قبله قول الأشعري وطائفة والذي قبلهما قول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وطائفة والأول قول الكرامية وطائفة

ومما يدل على قول الأئمة أن النبي قال: [ من حلف بغير الله فقد أشرك ]

وثبت عنه الحلف بعزة الله والحلف بقوله: لعمر الله فلو كان الحلف بصفاته حلفا بغير الله لم يجز فعلم أن الحالف بهما لم يحلف بغير الله ولكن هو حالف بالله بطريق اللزوم لأن الحلف بالصفة اللازمة حلف بالموصوف سبحانه وتعالى

وقول القائل: الصفات زائدة على الذات ليس كقوله: صفات الله زائدة على الله لأن مسمى اسم الله يدخل في صفاته فإذا قال: الله دخل فيه صفاته فإذا قال: هي غيره أوهم مباينة لله لم تدخل في اسمه

وأما لفظ الذات فقد يراد بها الذات التي يقدر أنها مجردة عن الصفات والصفات زائدة على لفظ الذات

ولفظ الغيرين يراد بهما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر وعلى هذا فالصفة ليست مغايرة للموصوف ويراد بهما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر وعلى هذا فالصفة غير الموصوف والعلم غير العالم وهذا هو لغة هؤلاء فنخاطبهم بلغتهم

فإذا قال: الأول عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود

قيل: هذا ممنوع بل عقله لذاته ليس هو ذاته بل هو مفهوم مغاير لمفهوم الذات وإن كانا متلازمين واعتبار المعتبرين: إن كان مطابقا للحقيقة وإلا كان خطأ

وكون الشيء لا يتميز عن الشيء من وجه لا يقتضي أنه لا يتميز عنه من وجه آخر فالطعم لا يتميز عن اللون باللمس ولكن يتميز أحدهما عن الآخر بالرؤية والذوق فلو قدرنا عدم القوة المميزة لم يمتنع الامتياز في نفس الأمر

وكذلك إذا قدرنا صفة لازمة لموصوفها لم نشعر بأحدهما منفكا عن الآخر لم يدل ذلك على أنهما شيء واحد في نفس الأمر

وكذلك الصفات العامة والخاصة في الموصوف الواحد مثل كون الإنسان حيوانا وناطقا وكون الجسم جسما ونباتا وكون اللون سوادا وبياضا وإن لم يتميز هذا من هذا ببعض أنواع الإدراك فإنه يتميز بنوع آخر

الوجه الرابع عشر

قوله: وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله لمعلوله الأول فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير فاحكم بكون المعلولين شيئا واحدا

فيقال: أما كون ذاته علة فمعناه أنها مبدعة فاعلة لمفعولها وأما كون عقله لذاته علة لعقله فليس معناه أن عقل ذاته أبدع عقل مفعوله بل معناه أن عقله لذاته مستلزم لعقله لمفعوله فإن كونه فاعلا له من لوازم ذاته والعلم التام بالملزوم يقتضي العلم بلوازمه فكونه هنا علة بمعنى كونه ملزوما وهناك بمعنى كونه فاعلا

ولفظ العلة فيه اشتراك كثير بحسب اصطلاحات الناس ينبغي لمن خاطب به أن يعرف مقصود المخاطب به فقد رأيت من غلط الناس بسبب اشتراك هذا اللفظ لتعدد الاصطلاحات فيه ما لا يمكن إحصاؤه ها هنا

وإذا كان كذلك لم يلزم من كون ذاته الفاعلة وعلمه بنفسه شيئا واحدا - إذا قدر أن الأمر كذلك - أن يكون مخلوقه المباين له وعلمه بهذا المخلوق شيئا واحدا لأن المخلوق مباين له وعلم الخالق صفة للخالق قائمة به فلم يكن العلم قائما بالمخلوق كما كان عقله لذاته قائما بذاته

وهناك إنما جعل من جعل عقله عين ذاته لكون العلم هو العالم عندهم لا لكون العلم هو المعلوم عندهم لكن هناك كان ذات العلم والمعلوم واحدة ولم يبق إلا العلم وعندهم العلم ليس بزائد على الذات فقالوا: ذاته وعقله لذاته شيء واحد

وأما هنا: فالعالم مباين للمعلوم والعلم صفة للعالم قائمة به ليس صفة للمعلوم قائمة به فلم يكن جعل المخلوق الذي يسمونه المعلول الأول وعلم الخالق به شيئا واحدا

الوجه الخامس عشر

أن يقال بأن العلم بالمخلوق ليس هو المخلوق علم ضروري لا يمكن دفعه بالشبهات بل القدح فيه سفسطة فإن كان من لوازم هذا كون علمه بنفسه ليس هو نفسه فلازم الحق حق والتزام هذا هو من التزام كون المخلوق هو نفس علم الخالق وإن لم يكن من لوازم هذا كون علمه بنفسه هو نفسه فقد بطلت الحجة

وهذا بين جدا إذا تصور الإنسان نتيجة مقدماته وهو قوله: فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه فهل يقول هذا من يتصور ما يقول؟ ويقول مع ذلك: إن الله أبدع شيئا من الأشياء فيقول: إن نفس مبدعه المفعول المصنوع المخلوق المباين له هو نفس علمه

وطرد هذا أن تكون السموات والأرض هي نفس علمه بالسموات والأرض والإنسان هو علم الله بالإنسان

والإنسان مولود كان في بطن أمه فيكون علم الله مولودا كان في بطن أمه فهل قالت النصارى مثل هذا القول الباطل؟ !

الوجه السادس عشر

قوله: فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحل ذات الأول تعالى عن ذلك

فيقال له: ليس كل أحد يقول: إنه يحتاج إلى صورة مستأنفة بل من يقول: إنه يعلم الأشياء قبل وقوعها وأن علمه بها بعد الوجود هو ذلك الأول لا يقول: إنه تكون هناك صورة مستأنفة فهؤلاء لا يلزمهم ما ذكرت

فإن قلت: قول هؤلاء ضعيف لأن العلم بأن الشيء سيكون ليس هو العلم بأن قد كان

قلت لك: معلوم أن قولك: إن نفس علم الخالق هو نفس المخلوق أشد امتناعا في العقل من هذا فعجل العلم بأن سيكون هو العلم بأن قد كان إن كان باطلا فهو أقرب إلى العقل من جعل العلم نفس المخلوق وإذا كان أقرب إلى العقل كان التزامه - إن كان تجدد العلم محذورا - أولى من التزام ذاك وإن لم يكن محذورا التزم ذاك

الوجه السابع عشر

أن يقال: لم قلت إن استئناف علم يحل ذات الأول بعد وجود المخلوق محال؟

وقولك: إنه يتعالى عن ذلك فلا ريب أنه يتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ومنازعك يقول: إنك أنت الظالم المفتري على الله الذي سلبته صفات الكمال ووصفته بصفة الجهل وقلت فيه المحال وألحدت في أسمائه وآياته إلحاد طائفتك الضلال

وأما أهل الإثبات فوصفوه بصفات الكمال ووافقوا صريح المنقول عن الأنبياء والمرسلين وما فطر الله عليه عباده أجمعين وما دلت عليه صرائح عقول الآدميين ووصفوا ربهم بأنه يسمع كلامهم ويرى أعيانهم ويسمع سرهم ونجواهم

وأنت وصفت رب العالمين بنقيض ذلك ولم تجعل له علما سوى المخلوقات والمخلوقات ليست علما باتفاق أهل الفطر السليمات فتعالى الملك الحق عن قولك وقول أمثالك المفترين الملحدين أعداء الأنبياء شياطين الإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا

وأنت فليس لك دليل أصلا ينفي ذلك فإن قيام ما يتعلق بمشيئته وقدرته بذاته لا دليل لك على نفيه إلا ما تنفي به الصفات كما نفيت العلم

ومعلوم أن هذا من أفسد أقوال الآدميين وغاية ما تقوله أنت وأصحابك: إن ذلك يستلزم التكثر والتغير وهما لفظان مجملان فذاك لا يستلزم تكثر الآلهة بل الرب إله واحد وإنما يستلزم تكثر علمه وكلماته وهذا حق وهو من أعظم كمالاته

وأما التغير فليس المراد به استحالته وإنما المراد أنه يتكلم بمشيئته وقدرته ويحدث الحوادث بقدرته ومشيئته

ومعلوم أن من كان قادرا على أن يفعل بمشيئته وقدرته ما شاء كان أكمل ممن لا يقدر على فعل يختاره يفعل به المخلوقات ولا كلام يتكلم به بمشيئته ولا يرضى على من أطاعه ولا يغضب على من عصاه وهم يعلمون أن الفعل الاختياري القائم بالفاعل صفة كمال بل الحركة عندهم صفة كمال فبأي دليل ينفون ذلك مع تجويزهم حوادث لا أول لها بل إيجابهم لذلك؟

الوجه الثامن عشر

قوله: ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها بحصول صور فيها وهي تعقل الأول الواجب ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها

فيقال: مضمون هذا الكلام أن الجواهر العقلية لما عقلت الأول لزم أن تعقل كل شيء لأن ما سواه معلول له وأن تكون جميع صور الوجود حاصلة فيها

وفي هذا الكلام من الباطل أنواع :

منها أن يقال: ومن أين لكم أن مخلوق الرب يعلمه علما تاما بحيث لا يخفى عليه من أحوال الرب شيء؟ بل يعلم الرب كما يعلم نفسه حتى يكون علمه بالرب متضمنا للعلم بكل موجود؟ وما الدليل على هذا والكتب الإلهية والدلائل العقلية تناقض ذلك؟

قال تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } [ البقرة: 255 ]

وقال عن الملائكة: { لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة: 32 ]

وقال تعالى: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } [ الأنبياء: 26 - 28 ]

وقال: { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض } [ الأعراف: 187 ]: أي خفي علمها على أهل السماوات والأرض

وقال تعالى: { إن الساعة آتية أكاد أخفيها } [ طه: 15 ] أي أخفيها من نفسي فكيف أطلعكم عليها؟

وقال: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } [ النمل: 65 ]

وقال عن الملائكة: { وما نتنزل إلا بأمر ربك } [ مريم: 64 ]

وقال: { إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما } [ طه: 98 ] إلى قوله: { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما } [ طه: 108 - 110 ]

ومنها أن الأول الواجب لم يثبتوا له علما محققا بجزئيات المخلوقات بل ولا بكلياتها فكيف يستفاد من العلم بنفسه العلم بتفاصيلها وهو عندهم لا يعلم تفاصيلها؟ فإذا لم يستفد العلم بتفاصيلها إلا من العلم به لكونه مبدأ امتنع ذلك

ومنها أن يقال: حصول جميع صور الموجودات الجزئية والكلية على ما هي عليه: إن كان صفة الكمال فالرب أحق بها من مخلوقاته وإن كان صفة نقص فلا موجب لوصف العقول بها

فإن قلتم: أثبتناها للعقول لتعلم جميع الأشياء

قيل: إن كان العلم بجميع الأشياء يمكن بدون حصول صورها في العالم أمكن ذلك في العقل كما أمكن في الأول وإن لم يمكن ذلك وجب إثباتها للأول وكان أحق بذلك من مفعوله فإن الأول إذا كان علمه بالمخلوق نفس المخلوق كان علم العقل به يفيده العلم بالمخلوق من غير قيام صورة المخلوق عنده بل يكفيه ارتسام صورة المخلوق

ومنها: أن يقال: إذا كان العقل المعلول إنما يستفيد علمه بالموجودات من علمه بالأول وهي ليست متصورة في ذات الأول فكيف يتصور في ذات العقل ما لم يتصور في ذات معلومة؟ وكيف يكون الفرع أكمل من أصله؟

فإن قيل: علمه بالأول ومعلولاته يوجب الارتسام فاستفاد ذلك من علمه بوجوده لا من علمه بعلمه

قيل: إذا كان هذا صفة كمال فالأول أحق به وإن كان نقصا وجب تنزيه العقل عنه

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55