انتقل إلى المحتوى

درء تعارض العقل والنقل/17

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كلام الآمدي في تقرير هذا المسلك

قال الآمدي وبتقدير تسليم حدوث ماأشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة لجواز ان تكون هذه الفصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها ينتهي إليه

ذكر الآمدي في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها

قلت: وهذا الذي اعتمده الآمدي في هذه المسألة فإنه ذكر في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها :

الأول: مسلك الإمكان وأنه ممكن وكل ممكن محدث

والثاني: مسلك الاختصاص

الثالث: مسلك الخبز المعين

الرابع: مسلك القدم: أنه قديم

والخامس مسلك الإمكان أيضا لكن فيه تقدير الحدوث بطريقة أخرى

والسادس: مسلك الحركة والسكون الذي قدمه الرازي وقد تقدم ما عترض به هو والأرموي وغيرهما على هذه المسالك وبينوا به فسادها

قال الآمدي والمسلك السابع: المسلك المشهور للأصحاب وعليه الاعتماد وذكر أن المسلك المشهور للأشعرية والرازي ونحوه لم يعتمد على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وقدح الآمدي في الطرق التي اعتمد عليها الرازي

قال الآمدي: وهو أنا نقول: العالم مؤلف من أجزاء حادثة والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث فالعالم حادث بيان الأول أن أجزاء العالم منحصرة في الجواهر والأعراض والواهر والأعراض حادثة فأجزاء العالم حادثة وبيان الأول ما سبق في الوجود والممكن بيانت الثانية إما بيان أن الأعراض حادثة فلانا بينا ان الأعراض ممتنعة البقاء وكل ممتنع البقاء فهو حادث مسبوق بعدم نفسه فكل واحد من الأعراض حادث مسبوق بعدم نفسه وعند ذلم فإما أن تكون متعاقبة في وجودها إلى غير النهاية او هي منتهية إلى عرض ليس وراءه عرض آخر الأول محال لما بيناه من بيان امتناع حوادث لا أول لها ينتهي إليه في إثبات واجب الوجود فلم يبق إلا الثاني وهو أن تكون جملتها متناهية ومسبوقة بالعدم فتكون حادثة وأما الواهر فلأنا بينا فيما تقدم امتناع عرو الواهر عن الأعراض وإذا كانت الأعراض التي لا عرو للجواهر عنها حادثة ومسبوقة بالعدم فالجواهر كذلك لأن مالا يعرى عما له أول فله أول وهو حادث وإلا فلو كان قديما للزم منه غما عروة عن العرض في حال قدمه وإما أن تكون الأعراض لا أول لها وكل واحد من الأمرين محال لما تقدم

اما بيان المقدمة الثانية من أصل الدليل فهو أن ما كانت أجزاؤه حادثة ولها أول تنتهي إليه فالهيئة الاجتماعية الكائنة عنها تكون حادثة مسبوقة بالعدم وهو معلوم بالضرورة

فهذا تمام تقريره لهذا المسلك الذي ارتضاه

تعليق ابن تيمية

ولقائل أن يقول: هذا الدليل أضعف بكثير ممن ذكره الرازي ولهذا لم يعرج الرازي على هذا لضعفه واستدل بدليل الحركة والسكون كما استدل به من استدل من المعتزلة فإن هذا الدليل مبني على مقدمتين إحداهما أن الأعراض جميعها ممتنعة البقاء وجمهور العقلاء من أهل الكلام وغيرهم من أصناف الناس ينكرون ذلك بل يقولون إن هذا خلاف الحس والضرورة ويجعلونه من جنس قول النظام إن الأجسام أيضا لا تبقى

وعمدة من قال بامتناع بقائها: أن العرض لو جاز لامتنع عدمه لأن العدم لا يجوز أن يكون بحدوث ذد فإن الحادث إنما يحدث في حال عدم الثاني لامتناع اجتماع الضدين لأنه ليس عدم الثاني لطريان الحادث بأولى من العكس ولا يجوز ان يكون بفعل القادر المختار لأن العدم نفي محض وفعل الفاعل لا يكون نفيا محضا

ومعلوم ان هذا كلام ضعيف فإنه يمكن عدمه بالإعدام وفعل الإعدام ليس فعلا لعدم مستمر بل هو إحداث لعدم ما كان موجودا كما أن إحداث الوجود إحداث لوجود ما كان معدوما وهذا أمر متجدد يعقل كونه مفعولا للفاعل

وأيضا فالضد الحادث إذا قدر أنه أقوى من الباقي كان إزالته له لفضل قوته فإن كون العرضين متضادين لا يستلزم تساويهما وتماثلهما في القوة والضعف

وأيضا فإن الفاعل المحدث للعرض الحادث يجعله مزيلا لذلك الباقي دون العكس

ولولا أن هذا ليس موضع بسط الكلام في مثل هذه الأمور وإلا لكان ينبغي أن تبين أن مثل هذا الكلام من أسخف الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وغيرهم من العقلاء فإن هؤلاء يقولون إن الله لا يمكن أن يفني شيئا من الأجسام والأعراض بل طريق فنائها أنه لا يخلق الأعراض التي تحتاج إلى تجديد وإحداث دائما فإذا لم يحدثها عمدمت الأجسام وفنيت بأنفسها لأنه لا وجود لها إلا بالأعراض ومثل هذا الكلام لو قاله الصبيان لضحك منهم

وأما المقدمة الثانية فهو وجوب تناهي الحوادث وقد تقدم كلامهم في إفساد جميع ما استدل به على ذلك والطريقة التي قررها الآمدي قد تقدم اعتراض الأموري وغيره عليها وبيان فسادها

فهذا جملة ما احتج به هؤلاء الذين هم فحول النظر وأئمة الكلام والفلسفة في هذه المسائل وقد تبين بكلام بعضهم في بعض إفساد هذه الدلائل وهذا جملة ما يعارضون به الكتاب والسنة ويسمونه قواطع عقلية ويقولون: إنه يجب تقديم مثل هذا الكلام على نصوص التنزيل والثابت من أخبار الرسول وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها

فلو لم يكن في المعقول ما يوافق قول الرسول لم تجز معارضته بمثل هذا الكلام فضلا عن تقديمه عليه فكيف والمعقول الصريح موافق لما جاء به الرسول كما بين في موضعه بل لا يجوز أن تعارض بمثل هذا الكلام الأحكام الثابتة بالمعومات والأقيسة والظاهر وأخبار الآحاد فكيف تعارض بذلك النصوص الثابتة عن المعصوم؟

بل مثل هذا الكلام لا يصلح لإفادة ظن ولا يقين وإنما هو كلام طويل بعبارت طويلة وتقسيمات متنوعة يهابه من لم يفهمه وعامة من وافق عليه وافق عليه تقليدا لمن قاله قبله لا عن تحقيق عقلي قام في نفسه

وكلام السلف والأئمة في ذم مثل هذا الكلام الذي احتجوا فيه بطريقة الأعراض والجواهر على حدوث الأجسام وإثبات الصانع كثير منتشر قد كتب في غير هذا الموضع وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علما وأبر قلوبا وأقل تكلفا وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم وقبلوا الحق وردوا الباطل والله أعلم

فصل

وإذ قد عرف ما قله الناس من جميع الطوائف في مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى وضعف أدلة النفاة واعتراف أب يعبد الله الرازي وغيره بذلك وانه اعتمد على حجة الكمال والنقصان وهي ضعيفة أيضا كما تقدم وذكر هو وأبو الحسن الآمدي ومن اتبعهما ادلة نفاة ذلك وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفي ذلك إلا بأن ما يقوم به: إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثه نقصا وإن كان نقصا لزم اتصافه بالنقص والله منزة عن ذلك

ضعف تضعيف الرازي وغيره لحجة الكمال والنقصان

وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه فإن لقائل أن يبطلها من وجوه كثيرة

الوجه الأول

أن يقال: القول في افعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة التي يحدثها بمشيئته وقدرته فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال فقالوا الفعل إن كان صفة كما لزم عدم الكمال له في الأزل وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائص فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال

وهذا كما أن من حجج النفاة أنه لو كان قابلا لقيام الحادث به لكان القبول من لوازم ذاته ووجود المقبول في الأزل محال

فأجيبوا بانه لا فرق بين حدوث ما يقوم به أو بغيره

فإذا قيل: لو كان قادرا على فعل الحوادث لكان ذلك من لوازم ذاته وذلك في الأزل محال فما كان جوابا عم هذا كان جوابا عن هذا

وقد اورد الرازي على ذلك في بعض كتبه أن القادر يتقدم المقدور والقابل لا يجب أن يتقدم المقبول وهذا فرق في غاية الضعف لوجوه :

أحدها: أن الكلام إنما هو في مقبول مقدور لا في مقبول غير مقدور فإن ما كان حادثا فالرب قادر عليه وهو قادر على افعاله القائمة به كما هو قادر على مفعولاته المنفصلة

قال تعالى: { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } القيامة 40 وقال تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } الآية الأنعام 65 وقال تعالى { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } يس 81 وقال تعالى { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } الشورى 29 فبين أنه قادر على الإحياء والبعث والخلق والجمع وهذه أفعال وقد قال النبي لأبي مسعود البدري لما رآه يضرب عبدا له لله أقدر عليك منك عليه فتعين انه قادر عليه نفسه

والمقصود هنا أن الكلام إنما هو في الحوادث التي هي مقدورة ليس في كل مقبول فإذا كان المقدور لا يوجد في الأزل اتمنع وجود الحوادث كذلك فلا يصح أن يفرق بين مقبول مقدور ومقبول غير مقدور إذ كلاهما مقدور

الثاني: أن يقال إما أن يكون وجود الحادث في الأزل ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا أمكن وجود المقدور في الأزل وإن كان ممتنعا امتنع وجوده مقبولا ومقدورا

الثالث: أن يقال: إثبات المقدور حال امتناع المقدور جمع بين المتناقضين ن فلا يعقل إثبات القدرة في حال امتناع المقدور بل في حال إمكانه ولهذا أنكر المسلمون وغيرهم على من قال من أهل الكلام إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل وقالوا هذا جمع بين المتناقضين وقالوا: أنه يستلزم انتقال المقدور من الإمكان إلى الامتناع بدون سبب يوجب هذا الانتقال ويوجب أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن قادرا بدون سبب يوجب ذلك وقد بسط الكلام على ذلك ف يغير هذا الموضع

الوجه الثاني

أن يقال: كونه بحيث يتكلم ويفعل ما يشاء صفة كمال وهو لم يزل متصفا بذلك وأما الشيء المعين فحدوثه لا نقص ولا كمال

الوجه الثالث

أن يقال: ما تعني بقولك عدم ذلك نقص؟ أتعني به أن ذاته ناقصة وأنها ليست منتصفة بصفات الكمال الواجبة لها؟ أم تعني به عدم ما سيوجد لها؟ أما الأول فباطل وأما الثاني فلم قلت إن هذا ممتنع

الوجه الرابع

أن يقال أنتم قلتم ما ذكره أبو المعالي والرازي وغيرهما من أن تنزيهه عن النقائض إنما علم بالسمع لا بالعقل فإذا قلتم إنه ليس في العقل ما ينفي ذلك لم يبقي ذلك إلا بالسمع الذي هو الإجماع عندكم ومعلوم أن السمع الذي هو الإجماع والإجماع وغيره لم ينف هذه الأمور وإنما نفي ما يناقض صفات الكمال كالموت المنافي للحياة والسنة والنوم المنافي للقيومية واللغوب المنافي لكمال القدرة

ولهذا كان الصواب أن الله منزه عن النقائص شرعا وعقلا فإن العقل كما دل على اتصافه بصفات الكمال من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام دل أيضا على نفي أضداد هذه فإن إثبات الشيء يستلزم نفي ضده ولا معنى للنقائص إلا ما ينافي صفات الكمال

وأيضا فكل كمال اتصف به المخلوق إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أحق به لأنه هو الذي خلقه وكل كمال اتصف به موجود ممكن وحادث فالموجود الواجب القديم أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق موجود حادث إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أولى بتنزيهه عنه

الوجه الخامس

أن يقال إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا علم لها ولا قدرة ولا حياة ولا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر أو لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات وذاتا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والكلام والمشيئة كان صريح العقل قاضيا بان المتصفة بهذه الصفات التي هي صفات الكمال بل القابلة للاتصاف بها أكمل من ذات لا تتصف بهذه أو لا تقبل الاتصاف بها

ومعلوم بصريح العقل أن الخالق المبدع لجميع الذوات وكمالاتها أحق بكل كمال وأحق بالكمال الذي باين به جميع الموجودات وهذا الطريق وتحوه مما سلكه أهل الإثبات للصفات

فيقال: وإذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا فعل لها ولا حركة ولا تقدر أن تصعد ولا تنزل ولا تأتي ولا تجيء ولا تقرب ولا تقبض ولا تطوي ولا تحدث شيئا بفعل يقوم بها وذاتا تقدر على هذه الفعال ولا تحدث الأشياء بفعل لها كانت هذه الذات أكمل فإن تلك كالجماد أو الحي الزمن المجدع والحي أكمل من الجماد والحي القادر على العمل أكمل من العاجز عنه كما أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم كالجماد أو كالأعمى الصم الأخرس والحي أكمل من الجماد والحي الذي يسمع ويبصر ويتكلم أكمل من الأصم الأعمى الأخرس

وإذا كان كذلك فإذا أراد نافي الفعل أن ينفيه لئلا يصفه في الأزل بالنقص فقال لو كان فعالا بنفسه لكان الفعل المتأخر معدوما في الأزل وعدمه صفة نقص فكان متصفا بالنقص كان بمنزلة من يقول إنه لا يقدر أن يحدث الحوادث ولا يفعل ذلك لأنه لو قدر على ذلك وفعله لكان إحداثه للحادث الثاني معدوما قبل إحداثه وذلك نقص فيكون متصفا بالنقص

فيقال: أنت وصفته بالكمال عن النقص حذرا من أن تصفه بما هو عندك نوع نقص فإن من لا يفعل قط ولا يقدر أن يفعل هو أعظم نقصا ممن يقدر على الفعل ويفعله والفعل لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شيء

وهذه عادة النفاة لا ينفون شيئا من الصفات فرارا من محذور إلا لزمهم في النفي أعظم من ذلك المحذور كنفاة الصفات من الباطنية من المتفلسفة وغيرهم لما قبل لهم إذا لم يوصف بالعلم والقدرة والحياة لزم أن يتصف بما يقابل ذلك كالعجز والجهل والموت

فقالوا: إنما يلزم ذلك لو كان قابلا للاتصاف بذلك فإن المتقابلين تقابل السلب والإيجاب كالوجود والعدم إذا عدم أحدهما ثبت الآخر وأما المتقابلان تقابل العدم والملكة كالحياة والموت والعمى والبصر فقد يخلو المحل عنهما كالجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا

فيقال لهم: فررتم عن تشبيهه بالحيوان الناقص الذي لا يسمع ولا يبصر مع إمكانه ذلك منه فشبهتموه بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا فكان ما فررتم إليه شرا مما فررتم منه ولهذا نظائر مبسوطة ف يغير هذا الموضع

والمقصود هنا أن من نفي الأفعال الاختيارية القائمة به لئلا يكون وجود الحادث منها ناقصا كان قد وصفه بالنقص التام فرارا بزعمه مما يظنه نقصا

الوجه السادس

أن يقال: الأفعال التي حدثت بعد ان لم تكن لم تكن وجودها قبل وجودها كمالا ولا عدمها نقصا فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده وما به يحصل الكمال وما ينبغي وجوده ونحو ذلك والرب تعالى حكيم في أفعاله وهو المقدم والمؤخر فما قدمه كان الكمال في تقديمه وما أخره كان الكمال في تأخيره كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات

الوجه السابع

أن يقال: الحوادث يمتنع قدمها ويمتنع أن توجد معا واو وجدت معا لم تكن حوادث ومعلوم انه إذا دار الأمر بين إحداث الحوادث وعدم إحداثها كان أحداثها أكمل ولا يكون إحداثها إلا مع عدم الحادث منها في الأزل

وإذا كان كذلك صار هذا بمنزلة جعل الشيء موجودا معدوما فلا يقال عدم فعل هذا او عدم تعلق القدرة به صفة نقص بل النقص عدم القدرة على جعله موجودا فإذا كان قادرا على ذلك كان موصوفا بصفة الكمال التي لا يمكن غيرها فكذلك المحدث للأمور المتعاقبة هو موصوف بالكمال الذي لا يمكن في الحدوث غيره

الوجه الثامن

أن يقال: لا ريب أن الحوادث مشهودة وأن لها محدثا أحدثها فالمحدث لها: إما أن يحدثها بفعل اختياري يقوم به وإما أن تحث عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به ولا حدوث شيء منه ومعلوم أن اتصافه بالأول أولى لو كان الاثنين ممكنا فإن الأول فيه وصفة بصفة الكمال بخلاف الثاني فكيف والثاني ممتنع لأن حدوث الحوادث من غير سبب حادث ممتنع

وإذا كان حال الفاعل قبل حدوثها كحاله مع حدوثها وبعد حدوثها وهي في الحالين حادثة لم يكن الفاعل قد فعل شيئا ولا أحدث شيئا بل حدثت بذاتها

وهذا الدليل قد بسط في غير هذا الموضع وبين فساد قول الفلاسفة الدهرية القائلين بان حركات الأفلاك تصدر عن قديم أزلي لا يحدث منه شيء وإن قولهم أفسد من قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام فغن هؤلاء الفلاسفة استدلوا على قدم العالم بحجتهم العظمى وهو انه لو حدث بعد أن لم يكن لاحتاج إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب كالقول فيه فيلزم التسلسل او الترجيح بلا مرجح

فيقال لهم: أنتم تقولون بحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن فاعل قائم بنفسه لا تقوم به صفة ولا فعل ولا يحدث له فعل ولا غير فعل فقولكم بصدور الحوادث المختلفة الدائمة عمن لا فعل له ولا صفة ولا يحدث منه شيء أعظم فسادا من قول من يقول إنه تارة تصدر عنه الحوادث وتارة تصدر فإنه إن كان صدور الحوادث عنه من غير حدوث شيء فيه محالا فصدورها دائما عنه من غير حدوث شيء فيه أشد إحالة

الوجه التاسع

إن يقال: أفعال الله تعالى: إما أن يكون لها حكمة هي غايتها المطلوبة وإما أن لا يكون والناس في هذا المقام مشهوران أحدهما قول من لا يثبت إلا المشيئة والثاني قول من يثبت حكمه قائمة بالمخلوق أو حكمه قائمة بالخالق 0 والأقول الثلاثة معروفة في الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم

فإن نفيتم الحكمة جوزتم أن يفعل أفعالا لا يحصل له بها كمال فيقال لهم قولوا في أفعاله القائمة بنفسه الاختيارية ما تقولونه في حدوث المفعولات عنه وهو الفعل عندكم

وإن أثبتم الحكمو قيل لكم الحكمة الحاصلة بالفعل الحادث حادثة بعده فحدوث هذه الحكمة بعد أن لم تكن سواء كانت قائمة بنفسه أو بغيره اهي صفة كمال أو لا؟

فإن قلتم صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة به

وإن قلتم ليست صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة

فقد لزمكم في الحكمة إن أثبتموها أو نفيتموها ما يلزمكم في نفس الفعل سواء بسواء وهذا بين واضح

الوجه العاشر

أن يقول من يثبت الفعل القائم به والحكمة القائمة به معلوم بصريح العقل ان هذا صفة كمال وأن من يكون كذلك أكمل ممن لا يفعل أو يفعل لا لحكمة فلم قلتم إن هذا ممتنع؟

فإذا قيل لئلا يلزم الكمال بعد النقص

قيل لهم لم قلتم وجود مثل هذا الكمال ممتنع؟

ولفظ النقص لفظ مجمل كما تقدم فإن غايته أن يفسر بعدم ما وجد قبل أن يوجد فيعود الأمر إلى أن هذا الموجود إذا وجد بعد أن لم يكن لزم أن يكون معدوما قبل وجوده

فيقال ومن أين علمتم أن وجود هذا بعد عدمه محال؟ وليس في ذلك افتقار الرب إلى غيره ولا استكماله بفعل غيره بل هو الحي الفعال لما يشاء العليم القدير الحكيم الخبير الرحيم الودود لا إله إلا هو وكل ما سواه فقير إليه وهو غني عما سواه لا يكمل بغيره ولا يحتاج إلى سواه ولا يستعين بغيره في فعل ولا يبلغ العباد نفعه فينفعوه ولا ضره فيضروه بل هو خالق الاسباب والمسببات وهو الذي يلهم عبده الدعاء ثم يجيبه وييسر عليه العمل ثم يثيبه ويلهمه التوبة ويحبه ويفرح بتوبته وهو الذي استعمل المؤمنين فيما يرضيه ورضي عنهم فلم يحتج في فعله لما يحبه ويرضاه إلى سواه بل هو الذي خلق حركات العباد التي يحبها ويرضاها وهو الذي خلق ما لايحبه ولا يرضاه من اعمالهم لما له في ذلك من الحكمة التي يحبها ويرضاها { وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } القصص: 70 فلا إله إلا هو { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } الانبياء: 22 إذا كان هو الذي يستحق أن تكون العبادة له وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه فما لا يكون به لا يكون فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم كما قال تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } الفرقان: 23 وقال { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء } إبراهيم: 18 وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوبا

فإذا كنا إذا أحببنا شيئا لله هو المحبوب في الحقيقة وحبنا لذلك بطريق التبع وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله فالله تعالى يحب الذين يحبونه فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود وأن يكون غاية كل حب كيف وهو سبحانه الذي يحمد نفسه ويثني على نفسه ويحب الحمد من خلقه

كما قال النبي في الحديث الصحيح لا أحد أحب إليه المدح من الله

وقال له الأسود بن سريع يا رسول الله إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد

وفي الحديث الصحيح أن النبي كان يقول في سجوده اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقد روى انه كان يقول ذلك في آخر الوتر

فهو المثني على نفسه إذا أفضل خلقه لا يحصى ثناء عليه، والثناء تكرير المحامد وتثنيتها كما في الحدث الصحيح عن النبي انه قال إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدني فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي

وفي الحديث الصحيح عن النبي انه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد احق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد 0 فذكر الحمد والثناء والمجد هنا كما ذكره في اول الفاتحة فالحمد يتناول جنس المحامد والثناء يقتضي تكريرها وتعديدها والزيادة في عددها 0 والمجد تعظيمها وتوسيعها والزيادة في قدرها وصفتها

فهو سبحانه مستحق للحمد والثناء والمجد ولا أحد يحسن أن يحمد كما يحمد نفسه ن ولا يثني عليه كما يثني على نفسه ولا يمجده كما يمجد نفسه

كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيح لما قرأ النبي على المنبر { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر: 67 قال يقبض الله سماواته بيده والأرضون بيده الأخرى ثم يمجد نفسه فيقول نا الملك انا القدوس انا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبار أنا المتكبر أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبارون أين المتكبرون؟ أو كما قال

وفي الحديث الآخر يقول الله تعالى إني جواد ماجد واجد إنما أمري إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون

فصل كلام الآمدي في أبكار الأفكار في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى

ونحن نذكر ما ذكره أبو الحسن الآمدي في هذا الأصل وتتكلم عليه قال في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار المسألة الرابعة من النوع الرابع الذي سماه إبطال التشبيه في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى :

قال وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول المراد بالحادث المتنازع فيه الموجود بعد العدم كان ذاتا قائمة بنفسها أو صفة لغيره كالأعراض وأما ما لا وجود له كالعدم أو الأحوال عند القائلين بها فإنها غير موصوفة بالوجود ولا بالعدم كالعالمية والقادرية والمريدية ونحو ذلك أو النسب والإضافات فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال له متجدد ولا يقال له حادث

قال وعند هذا فنقول العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى غير المجوس والكرامية فإنهم اتفقوا على جواز ذلك

غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب تعالى بل قال أكثرهم هو ما يفتقر إليه في الإيجاد والخلق ثم اختلفوا في هذا الحادث فمنهم من قال هو قوله كن ومنهم من قال هو الإرادة أو القول في ذاته يستند إلى القدرة القديمة لا أنه حادث بإحداث ن وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول على اختلاف مذهبهم فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث ومنهم من زاد على ذلك حادثين آخرين وهما السمع والبصر

قال وأجمعت الكرامية على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة لا يتجدد له منها اسم ولا يعود إليه منها حكم حتى لا يقال إنه قائل بقول ولا مريد بإرادة بل قائل بالقائلية ومريد بالمريدية ولم يجوزواعليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا يزال بل قالوا أسماؤه كلها أزلية حتى في الخالق والرازق وغن لم يكن في الأزل خلق ولا رزق

قال وأما ما كان من الصفات المتجددة التي لا وجود لها في الأعيان فما كان منها حالا فقد اتفق المتكلمون على امتناع اتصاف الرب به غير أبي الحسين البصري فإنه قال تتجدد عالميات لله تعالى بتجدد الملومات ن وما كان من النسب والإضافات والتعلقات فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب تعالى بها حتى يقال إنه موجود مع العالم بعد أن لم يكن وإنه خالق العالم بعد أن لم يكن 0 وما كان من الأعدام والسلوب 0 فإن كان سلب أمر يستحيل تقدير وجوده لله تعالى فلا يكون متجددا بالإجماع مثل كونه غير جسم ولا جوهر ولا عرض إلى غير ذلك 0 وإن كان سلب أمر لا يستحيل تقدير اتصاف الرب به كالنسب والإضافات فغير ممتنع إن يتصف به الرب تعالى بعد أن لم يكن بالإتفاق فإنه إذا كان الحادث موجودا صح أن يقال الرب تعالى موجود مع موجوده وتنعدم هذه المعية عند فرض عدم ذلك الحادث فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن

تعليق ابن تيمية

قلت قد ذكر أن لفظ الحادث مرادهم به الموجود بعد العدم سواء كان قائما بنفسه كالجوهر أو صفة لغيره كالأعراض ن وسمي ما ليس بموجود كالأحوال والسلوب والإضافات متجددات وهذا الفرق أمر اصطلاحي وإلا فلا فرق بين معنى المتجدد ومعنى الحادث

وأيضا فإن الأحوال عند القائلين بها منهم من يقول بوجودها وقالوا يصح أن تكون معلومة تبعا لغيرها وأن يكون وجودها تبعا لغيرها

وخالفوا أبا هاشم في قوله ليست معلومة ولا مجهولة ولا موجودة ولا معدومة

وأيضا فالنسب والإضافات عند الفلاسفة قد تكون وجودية وأما المذاهب فيقال لفظ الحوادث والمتجدادت في لغة العرب يتناول أشياء كثيرة وربما أفهم أو اوهم في العرف استحالات كالأمراض والغموم والأحزان ونحوها إذا قيل فلان حدث به حادث وكثير منهم يعبر بالأحداث عن المعاصي والذنوب ونحو ذلك كما قد عرف هذا

وأما مورد النزاع انه هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته إما من باب الأفعال كالاستواء إلى غيره والأستواء عليه والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك وإما من باب الأقوال والكلمات وإما من باب الأحوال كالفرح والغضب والإرادات والرضا والضحك ونحو ذلك وإما من باب العلوم والإدراكات كالسمع والبصر والعلم بالموجود بعد العلم بأنه سيوجد وإذا كان كذلك فقوله إن العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة ذلك غير أن الكرامية إلى آخره ليس بنقل مطابق

أما أهل الملل فلا يضاف إليهم من حيث هم أرباب ملة إلا ما ثبت عن صاحب الملة صلوات الله عليه وسلامه أو ما أجمع عليه أهل العلم وأما ما قاله بعض أهل الملة برأيه أو استنباطه مع منازعة غيره له فلا يجوز إضافته إلى الملة ومن المعلوم أنه لا يمكن أحد أن ينقل عن محمد ولا عن إخوانه المرسلين كموسى وعيسى صلوات الله عليهما ما يدل على قول النفاة لا نصا ولا ظاهرا بل الكتب الإلهية المتواترة عنهم والأحاديث المتواترة عنهم تدل على نقيض قول النفاة وتوافق قول أهل الإثبات

وكذلك أصحاب رسول الله والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين أرباب المذاهب المشهورة وشيوخ المسلمين المتقدمين لا يمكن أحد أن ينقل نقلا صحيحا عن أحد منهم بما يوافق قول النفاة بل المنقول المستفيض عنهم يوافق قول أهل الإثبات فنقل مثل هذا عن أهل الملة خطأ ظاهر

ولكن أهل الكلام والنظر من أهل الملة تنازعوا في هذا الأصل لما حدث في أهل الملة مذهب الجهمية نفاة الصفات وذلك بعد المائة الأولى في أواخر عصر التابعين ولم يكن قبل هذا يعرف في أهل الملة من يقول بنفي الصفات ولا بنفي الأمور الاختيارية القائمة بذاته

فلما حدث هذا القول وقالت به المعتزلة وقالوا لا تحل به الأعراض والحوادث وأرادوا بذلك انه لا تقوم به صفة كالعلم والقدرة ولا فعل كالخلق والاستواء أنكر أئمة السلف ذلك عليهم كما هو متواتر معروف

وعن هذا قالت المعتزلة إن القرآن مخلوق لأنه لو قام بذاته للزم أن تقوم به الأفعال والصفات وأطبق السلف والأئمة على إنكار هذا عليهم

وكل من خالفهم قبل ابن كلاب كان يقول بقيام الصفات والأقوال والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته به لكن ابن كلاب ومتبعوه فرقوا بين ما يلزم الذات من أعيان الصفات كالحياة والعلم وبين ما يتعلق بالمشيئة والقدرة فقالوا هذا لا يقوم بذاته لن ذلك يستلزم تعاقب الحوادث عليه كما سيأتي

وابن كرام كان متأخرا بعد محنة الإمام أحمد بن حنبل وتوفي ابن كرام في حدود ستين ومائتين فكان بعد ابن كلاب بمدة وكان أكثر أهل القبلة قبلة على مخالفة المتزلة والكلابية حتى طوائف أهل الكلام من الشيعة والمرجئة كالهشامية وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهما كما ذكر عنهم الأشعري في المقالات

وأمثال هؤلاء كانوا يقولون بقيام الحوادث به حتى صرح طوائف منهم بالحركة كما صرح بذلك طوائف من أئمة الحديث والسنة وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء وأن الحركة من لوازم الحياة وأمثال ذلك بل هم يقولون إنه إنما ابتدع من ابتداع من أهل الكلام البدع المخالفة للنصوص وللمعقول بهذا الأصل كقول من قال إن الكلام معنى واحد قديم وقول من قال إن المعدوم يرى ويسمع وقول من قال بقدم صوت معين

وأما غير أهل الملل فالفلاسفة متنازعون في هذا الأصل والمحكي عن كثير من أساطينهم القدماء أنه كان يقول بذلك كما تقدم نقل المقالات عنهم حتى صرح بالحركة من صرح منهم بل الذين كانوا قبل أرسطو من الأساطين كانوا يقولون بحدوث العالم عن أسباب حادثة وهم يقولون بهذا الأصل إما تصريحا وإما لزوما وكذلك غير واحد من متأخريهم كأبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهذا اختيار طائفة من النظار كالأثير الأبهري وغيره

وما حكاه عن أبي الحسين البصري فهو قول غير واحد قبل أبي الحسين وبعده كهشام ونحوه وغيره وإبن عقيل يختار قول ابي الحسين وهو معنى قول السلف والرازي يميل إلى قول أبي الحسين بل وإلى زيادة على قوله كما ذكره في المطالب العالية بل ينصره وقوله عن الكرامية إنهم قالوا أسماؤه كلها أزلية أي معاني أسمائه أي ما لأجله استحق تلك الأسماء كالخالقية والرازقية

واما نفس الاسم فهو من كلامه وكلامه عندهم حادث قائم بذاته ويمتنع عندهم أن يكون في الأزل كلام أو أسماء لن ذلك يقتضي حوادث لا أول لها أو يقتضي قدم القول المعين وكلاهما باطل عندهم وحكايته عن الكرامية أنهم يقولون خلق الإرادة والقول في ذاته مستند إلى القدرة القديمة وخلق ما في المخلوقات يستند إلى الإرادة والقول تعبير عن مذهبهم بعبارته وإلا فهم لا يسمون شيئا مما يقوم بذات الرب لا مخلوقا ولا محدثا وغنما يقولون حادث ولا يقولون إن إرادته وكلامه لا مخلوق ولا محدوث

تابع كلام الآمدي وتعليق ابن تيمية عليه

قال وقد احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة :

الأولى قالوا لو كان الباري تعالى قابلا لحلول الحوادث بذاته لما خلا عنها أو عن أضدادها وضد الحادث وما لا يخلو عن الحوادث فيجب أن يكون حادثا والرب تعالى ليس بحادث

قال وهذه الحجة مبينة على خمس مقدمات الأولى أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد والثانية أن ضد الصفة الحادثة لا بد وأن يكون حادثا والثالثة أن ما قبل حادثا فلا يخلو عنه وعن ضده والرابعة أن مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث والخامسة أن الحدوث على الله تعالى محال أما أن الرب تعالى ليس بحادث فقد سبق تقريره

قلت هذا معلوم باتفاق أهل الملل وسائر العقلاء ممن أثبت الصانع ومعلوم بالأدلة اليقينية بل معلوم بالضرورة وقد ذكر انه قرر ذلك وهو لم يقرره فإنه إنما قرره بناء على إثبات واجب الوجود وبني ذلك على نفي التسلسل في العلل وإبطال حوادث لا أول لها وحجته على ذلك ضعيفة

وقد أورد في كتابه المسمى بدقائق الحقائق على إبطال تسلسل العلل سؤلا زعم أنه لا يعرف عنه جوابا فبطل ما ذكره من تقريره لكن هذا بحمد الله أجل من أن يحتاج إلى مثل هذا التقرير

وقال وأما أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فسيأتي تقريره في حدوث الجواهر

قلت لم يقرر ذلك إلا بدليل حدوث الأعراض وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها وإنما قرر ذلك بإبطال التسلسل في الآثار وقرر ذلك بان الحادث يمتنع أن يكون أزليا

وقد تقدم فساد ذلك بأن لفظ الحادث يراد به النوع الدائم ويراد به الحادث المعين والمعلوم امتناعه إنما هو النوع الثاني والنزاع إنما هو في الأول

وأيضا فإن الذي قرر به امتناع تسلسل العلل في دقائق الحقائق أورد عليه سؤلا واعترف بأنه لا جواب له عنه وإذا كان تقريره لنفى تسلسل العلل قد بين انه ورد عليه سؤال لا يعرف جوابه فكيف بتقرير نفي تسلسل الحوادث

ومن المعلوم أن العقلاء اتفقوا على نفي تسلسل العلل وتنازعوا في نفي تسلسل الحوادث فإن كان لم يقم على نفي ذاك عنده دليل عقلي فهذا أولى

والسؤال الذي أورده يرد على النوعين وقد ذكرنا وذكرنا الجواب عنه فيما تقدم ومضمونه أنه: لم يلا يجوز أن كان لم لا يجوز أن يكون مجموع المعلومات التي لا تتناهى وإن كان ممكنا في نفسه لكنه واجب بوجوب آحاده المتعاقبة وكل واحد واجب بما قبله وهذا وإن كان باطلا لكن المقصود التنبيه على أن من خالف الكتاب والسنة وقال إنه ينصر بالمعقول أصول الدين يخل بمثل هذا الواجب في أعظم أصول الدين مع انه يقرر ما لا يحتاج إليه في الدين أو ما يعارض ما يثبت انه من الدين

وكذلك من قال مثل هذا وأمثاله انه يتكلم بالقليات يظهر منه في أعظم المعقولات التقصير والتوقف والخيرة فيها ويحقق من المعقولات ما تقل الحاجة إليه أو ما يكون وسيلة إلى غيره مع أن المقصود بالوسيلة لم يحققه

وقد احتج على إبطال حوادث لا أول لها بعد أن أبطل حجج موافقيه بأن ذلك يستلزم كون الحادث أزليا وهذا الوجه ضعيف

فإن المنازع يقول أشخاص الحوادث ليست أزلية وإنما الأزلي النوع فالموصوف بأنه أزلي ليس هو الموصوف بأنه حادث ثم يقال إذا لم تقدر أن تقيم حجة على امتناع تسلسل المعلولات وإثبات الصانع عندك موقوف على هذا فأي شيء ينفعك نفي حلول الحوادث عما لم تقم حجة على إثباته فضلا عن قدمه؟

قال: وإنما الإشكال في المقدمات الثلاثة الأول

قال وذلك أن لقائل أن يقول قولكم إن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد فإما أن يراد بالضد معنى وجودي يستحيل اجتماعه مع تلك الصفة لذاتيهما وإما أن يراد به ما هو اعم من ذلك وهو ما لا يتصور اجتماعه مع وجود الصفة لذاتيهما وإن كان عدما حتى يقال فإن عدم الصفة يكون ضدا لوجودها فإن كان الأول فلا نسلم انه لا بد وان يكون للصفة ضد بذلك الاعتبار والاستدلال على موقع المنع عسير جدا وإن كان الثاني فلا نسلم أنه يلزم أن يكون ضد الحادث حادثا وإلا كان عدم العالم السابق على وجوده حادثا ولو كان عدمه حادثا كان وجوده سابقا على عدمه وهو محال

قال وإن سلمنا انه لا بد أن يكون ضد الحادث معنى وجوديا ولكن لا نسلم امتناع خلو عن الصفة وضدها بهذا الاعتبار وحيث قررنا في مسألة الكلام والإدراكات أن القابل لصفة لا يخلو عنها وعن ضدها إنما كان بالمعنى الأعم لا بالمعنى الأخص فلا مناقضة

قلت هذا كلام حسن جيد لو كان قد وفي بموجبه فإن هذه الطريقة مما كان يحتج بها السلف والأئمة في إثبات صفات الكمال كالكلام والسمع والبصر وقد اتبعهم في ذلك متكلمة الصفلتية من أصحاب أبي كلاب وابن كرام والأشعري وغيرهم بل أثبتوا بها عامة صفات الكمال

وقد أورد عليها ما يورده نفاة الصفات وزعم أن ذلك قادح فيها فقال أما أهل الإثبات يعني للصفات فقد سلك بعضهم في الإثبات مسلكا ضعيفا وهو انهم تعرضوا لإثبات أحكام الصفات ثم توصلوا منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيا 0 فقالوا إن العالم لا محالة على غاية من الحكمة والإتقان وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه كما سيأتي وهو مستند في التخصيص والإيجاد إلى واجب الوجود كما سيأتي أيضا فيجب أن يكون قادرا عليه مريدا له عالما به كما وقع به الاستقراء في الشاهد فإن من لم يكن قادرا لا يصح صدور شيء عنه ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات عنه دون بعض بأولى من العكس إذ نسبتها إليه واحدة ومن لم يكن عالما بالشيء لا يتصور منه القصد إلى إيجاده

قالوا وإذا ثبت كونه قادرا مريدا عالما وجب أن يكون حيا إذ الحياة شرط في هذه الصفات على ما عرف في الشاهد وما كان له في وجوده أو عدمه شرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما فإن من لم تثبت له هذه الصفات من الأحياء فهو متصف بأضدادها كالعمي والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد أيضا والإله تعالى يتقدس عن الاتصاف بهذه الصفات

قالوا وإذا ثبت له هذه الأحكام فهي في الشاهد معللة بالصفات فالعلم في الشاهد علة كون العالم عالما والقدرة علة كون القادر قادرا وعلى هذا النحو باقي الصفات والعلة لا تختلف لا شاهدا ولا غائبا

وأيضا فإن حد العالم في الشاهد من قام به العلم والقادر من قامت به القدرة وعلى هذا النحو والحد لا يختلف شاهدا ولا غائبا

وأيضا فإن شرط العالم في الشاهد قيام العلم به وكذلك في القدرة وغيرها والشرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا

قلت وهذه الطريقة مع إمكان تقريرها علي هذا الوجه فإنه يمكن تقريرها على وجه اكمل منه ومع هذا فقد قال هذه الحجة مما يضعف التمسك بها جدا وأورد عليها أنها مبنية على الجمع بين الشاهد والغائب

وقد تكلمنا على ما ذكره هو وغيره في غير هذا الموضع وبينا أن الحجة لا يحتاج فيها إلى هذا الجمع ولو احتيج فيها إلى هذا الجمع فهو صحيح فإنه من باب قياس الأولى وهو أن ما كان من لوازم الكمال فثبوته للخالق أولى منه للمخلوق كما قد ذكر في غير هذا الموضع

لكن المقصود هنا انه اعترض على قولهم لو لم يتصف بهذا لاتصف بضده العام الذي يتضمن النفي وهو قد ذكر هنا أنه قرره

قال وأما قولهم لو لم يتصف بهذه الصفات مع كونه حيا لكان متصفا بما يقابلها فالتحقيق فيه موقوف على بيان حقيقة المتقابلين يعني المتنافيين

وذكر التقسيم المشهور فيه للفلاسفة وانه أربعة أقسام تقابل السلب والإيجاب والعدم والملكة والتضايف والتضاد وان تقابل العلم والجهل أعمى والبصر هو عندهم من باب تقابل أتعدم والملكة

والملكة على اصطلاحهم كل معني وجودي أمكن أن يكون ثابتا للشيء إما بحق جنسه للإنسان فإن البصير يمكن ثبوته لجنسه وهو الحيوان أو بحق نوعه ككتابه زيد فإن هذا ممكن لنوع الإنسان أو بحق شخصه كاللحية للرجل فإنها ممكنة في حق الرجل

قال والعدم المقابل لها ارتفاع هذه الملكة

قال فإن أريد بتقابل الإدراك ونفيه تقابل التناقض بالسلب والإيجاب وهو انه لا يخلو من كونه سميعا وبصيرا ومتكلما أو ليس فهو ما يقوله الخصم ولا يقبل نفيه من غير دليل

وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة فلا يلزم من نفي الملكة تحقق العدم ولا بالعكس إلا في محل يكون قابلا لهما ولهذا يصح أن يقال الحجر لا أعمى ولا بصير والقول بكون البارىء تعالى قابلا للبصر والعمى دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب وعلى هذا فقد امتنع نفي لزوم العمي والخرس والطرش في حق الله تعالى من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام عنه

قلت وقد أشكل هذا على كثير من النظار حتى ضل به لاعتقادهم صحته حتى على الآمدي فهذا كلامه في الخلو عن الضدين بالمعنى العام قد أورد عليه ما ذكر فكيف يدعي انه قرره وهذا الإيراد إيراد معروف للمعطلة نفاة الصفات وهو إيراد فاسد من وجوه

الوجه الأول لن يقال نحن نريد بالتقابل السلب والإيجاب ونفي هذه الصفات يتضمن النقص لكل من نفيت عنه سواء قيل إنه قابل لها أو لم يقل فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المتصف بالحياة والعلم والكلام والسمع والبصر اكمل ممن لم يتصف بذلك وما قدر انتفاء ذلك عنه كالجماد فهو أنقص بالنسبة إلى من اتصف بذلك

وهو قد سلك في إثبات الصفات طريقة الكمال وهي في الحقيقة من جنس هذه فقال واعلم أن ههنا طريقة رشيقة سهلة المعرك قريبة المدرك يعسر على المنصف المتبحر الخروج عنها والقدح في دلالتها يمكن طردها في إثبات جميع الصفات النفسانية وهي مما ألهمني الله إياها ولم أجدها على صورتها وتحريرها لأحد غيري وهو أن يقال المفهوم من كل واحد من هذه الصفات المذكورة مع قطع النظر عما يتصف به صفة كمال أو لا صفة كمال لا جائز أن تكون لا صفة كمال وإلا كان حال من اتصف بها في الشاهد أنقص من حال من لم يتصف بها إن كان عدمها في نفس الأمر كمالا أو مساويا من لم يتصف بها إن لم يكن عدمها في نفس الأمر كمالا وهو خلاف ما نعلمه بالضرورة في الشاهد فلم يبق إلا القسم الأول وهو انه في نفسها وذواتها كمال وعند ذلك فلو قدر عدم اتصاف الباري تعالى بها لكان ناقصا بالنسبة إلى من اتصف بها من مخلوقاته ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق

قلت هذه الحجة مادتها صحيحة وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف وغن كان تصويرها والتعبير عنها يتنوع وهذه المادة بعينها يمكن نقلها إلى الحجة الأولى التي زيفها بان يقال لو لم يتصف بصفات الكمال لاتصف بنقائضها وهي صفات نقص فيكون انقص من بعض مخلوقاته

الوجه الثاني أن يقال هب انهما متقابلان تقابل العدم والملكة فقولكم لا يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر إلا إذا كان المحل قابلا

جوابه أن يقال الموجودات نوعان نوع يقبل الاتصاف بأحد هذين كالحيوان وصنف لا يقبل ذلك كالجماد ومن المعلوم أن ما قبل أحدهما اكمل ممن لا يقبل واحدا منهما وإن كان موصوفا بالعمى والصم والخرس فإن الحيوان الذي هو كذلك أقرب إلى الكمال ممن لا يقبل لا هذا ولا هذا إذ الحيوان الأبكم الأعمى الأصم يمكن أن يتصف بصفات الكمال وما يقبل الاتصاف بصفات الكمال اكمل ممن لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال

فإذا كان قد علم أن الرب تعالى مقدس عن أن يتصف بهذه النقائص مع قبوله للاتصاف بصفات الكمال فلان يقدس عن كونه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أولى وأحرى وهذا معلوم ببداهة العقول

الوجه الثالث: إن نقول: لا نسلم أن في الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم وأن ينطقه كما أنطق ما شاء من الجمادات وقد قال تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء } النحل 20 - 21

وإذا كان كذلك فدعواهم أن من الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات رجوع منهم إلى مجرد ما شهدوه من العادة وإلا فمن كان مصدقا بأن الله قلب عصا موسى وهي جماد ثعبانا عظيما ابتلعت الحبال والعصي لم يمكنه أن يطرد هذه الدعوى

وإذا كان سبحانه قادرا على أن يثبت هذه الصفات صفات الكمال لما كان جمادا من مخلوقاته وكان كل مخلوق يقبل ذلك بقدرة الله تعالى فهو أحق بقبول ذلك بل بوجود به له إذ ما كان ممكنا في حقه من صفات الكمال كان واجبا فإنه لا يستفيد صفات الكمال من غيره بل هو مستحق لها بذاته فهي من لوازم ذاته

وهذا فصل معترض ذكرناه تنبيها على تقصير من يقصر في الاستدلال على الحق الذي قامت عليه الدلائل اليقينية العقلية مع السمعية مع مدافعتهم لما دلت عليه دلائل السمع والعقل وإن كنا لا نظن بمسلم بل بعاقل أن يتكلم في جهة الربوبية بما يراه تقصيرا ولكن لا يخلو صاحب هذه الطريق من عجز أو تفريط وكلاهما يظهر به نقصه عن حال السلف الأئمة الموافقين للشرع والعقل وأنهم كانوا فوق المخالفين لهم في هذه المطالب الإلهية والمعارف الربانية

وهذه الحجة التي صدر بها الآمدي وزيفها هي الحجة التي اعتمد عليها الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من السالمية والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم وهي مبنية على مقدمتين أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وأكثر الناس ينازعونهم في ذلك بل جميع الطوائف من أهل النظر والأثر ينازعونهم كالمعتزلة والكرامية والشيعة والمرجئة وأهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة

والثانية: على امتناع تسلسل الحوادث والنزاع فيها مشهور بين جميع الطوائف قال الآمدي الحجة الثانية أنه لو قامت الحوادث بذات الرب تعالى لكان لها سبب والسبب إما الذات وإما خارج عنها فإن كان هو الذات وجب دوامها بدوام الذات وخرجت عن أن تكون حادثة وإن كان خارجا عن الذات فإما أن يكون معلولا للإله تعالى أو لا يكون معلولا له فإن كان الأول لزم الدور وإن كان الثاني فذلك الخارج يكون واجب الوجود بذاته مفيدا للإله تعالى صفاته فكان أولى أن يكون هو إلاله

وهذه المحالات إنما لزمت من قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى فتكون محالا

قال الآمدي ولقائل أن يقول وإن افتقرت الصفات الحادثة إلى سبب فالسبب إنما هو القدرة القديمة والمشيئة الأزلية القائمة بذات الرب كما هو مذهب الكرامية على ما أوضحناه فليس السبب هو المسبب ولا خارجا ولا يلزم من دوام القدرة دوام المقدور وإلا كان العالم قديما وهو محال

قال: فإن قيل: إذا كان المرجح للصفة الحادثة هو القدرة والاختيار فلا بد وأن يكون الرب تعالى قاصدا لمحل حدوثها ومحل حدوثها ليس إلا ذاته فيجيب أن يكون قاصدا لذاته والقصد إلى الشيء يستدعي كونه في الجهة وهو محال ثم ولجاز قيام كل حادث به هو محال

وأيضا فإن الصفةالحادثة عند الكرامية إنما هو قوله كن والإرادة هي مستند المحدثات وعند ذلك فلا حاجة إلى الحادث الذي هو القول والإرادة لإمكان إسناد جميع المحدثات إلى القدرة القديمة

قلنا أما الأول فمندفع فإن القصد إلى إيجاد الصفة وإن استدعي القصد إلى محل حدوثها فإنما يلزم من ذلك أن يكون المحل في الجهة أن لو كان القصد بمعنى الإشارة إلى الجهة وليس كذلك بل بمعنى إرادة إحداث الصفة فيه وذلك غير موجب للجهة

ثم وإن كان القصد إلى إيجاد الصفة في المحل يوجب كون المحل في الجهة فيلزم من ذلك امتناع القصد من الله تعالى إلى إيجاد الأعراض لأن القصد إلى إيجادها يكون قصدا لمحالها ويلزم من ذلك أن تكون محالها في الجهات والقصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال وذلك يفضي إلى أن يكون الرب في الجهة عند قصد خلق الأعراض وهو محال

والقول بأنه إذا جاز خلق بعض الحوادث في ذاته جاز خلق كل حادث فدعوى مجردة وقياس من غير جامع وهو باطل على ما أسلفناه في تحقيق الدليل

وأما الثاني فحاصله يرجع إلى لزوم رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله تعالى وهو غير موافق لأصولنا وإن كان ذلك بطريق الإلزام للخصم فلعله لا يقول به وإن كان قائلا به فليس القول بتخطئته في القول بحلول الحوادث بذات الرب تعالى ضرورة تصويبه في رعاية الحكمة أولى من العكس

قلت هذه الحجة مادتها من الفلاسفة الدهرية كابن سينا وامثاله الذين يقولون إن الرب لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا ولهذا يستدل بهذه الحجة على نفي الحوادث المنفصلة كما يستدل بها على نفي الحوادث المتصلة وهو أن الموجب لحدوث الحادث مطلقا من الذات إن كان الذات لزم دوامه وإن كان الذات لزم دوامه وغن كان خارجا عنها فإن كان معلولا للذات لزم الدور لن ذلك الحادث موقوف على ذلك المعلول الخارج وذلك المعلول الخارج لا بد أن يكون حادثا وإلا لو كان قديما لكان كمال المقتضي لذلك الحادث قديما وهو الذات ومعولها القديم وإذا كان المعلول الخارج حادثا فلا يحدث إلا بسبب حادث في الذات وإلا لزم حدوث الحادث بلا سبب فيلزم أن يكون ما حدث في الذات من الذات موقوفا على الحادث الخارج وما حدث في الخارج موقوفا على الحادث فيها \ فيلزم الدور وإن كان الخارج ليس من مقتضيات الذات لزم أن يكون واجبا بنفسه فيكون ما يقوم بالرب من الحوادث موقوفا على ذلك الواحب بنفسه ثم قال فيكون أولى بالإلهية فهذه عمدة هؤلاء الدهرية في نفي فعله للحوادث سواء كانت قائمة به أو بغيره

ولهذا بين الآمدي ضعفها بين المتكلمين المنازعين للكرامية فإن قال الكرامية يقولون في الحوادث بذاته كما تقولون أنتم في الحوادث المنفصلة عنه فكما أن تلك الحوادث تحدث عندكم بكونه قادرا أو بالقدرة أو المشيئة القديمة فهكذا نقول فيما يقوم بذاته

ولا ريب أن ما ذكره جواب تنقطع به عنهم مطالبة إخوانهم المتكلمين من المعتزلة والأشعرية ولكن لا تنقطع عنهم مطالبة الفلاسفة إلا بما يقوله الجميع من أن القادر المختار يرجح أحد المتساويين لا لمرجح أو أن الإرادة الأزلية ترجح أحد المتساويين لا لمرجح

والمنازعون في هذا من أهل الحديث والكلام والفلسفة يقولون إن هذا جحد للضرورة وإن هذا يقدح فيما به أثبتوا وجود الصانع فإنهم أثبتوا الصانع بأن ترجيح أحد المتساويين لا بد له من مرجح وقد عرف كلام الناس في هذا المقام

الرد على الفلاسفة في مسألة امتناع حلول الحوادث بذاته تعالى من وجوه

ونحن نذكر ما تجاب به الفلاسفة عن أهل الملل جميعا وذلك من وجوه

الوجه الأول

ان يقال الحوادث إما أن يجب تناهيها أو لا يجب بل يجوز أن لا يكون لها نهاية فإن وجب تناهيها لزم أن يكون للحوادث اول ولزم جواز حدوث الحوادث بدون سبب حادث وبطلت حجتكم وقولكم بدوام حركات الفلك وأنها أزلية وإن جاز دوام الحوادث فحينئذ ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث وحينئذ فالأفلاك إذا كانت حادثة لزم أن يكون قبلها حادث آخر وحينئذ فيمكن أن تكون تلك الإرادات المتعاقبة القائمة بذات الواجب أو غيرها من الحوادث هي الشرط في حدوث الأفلاك كما تقولون انتم كل حادث فهو مشروط بحادث قبله

فإن قالوا ذاته لا تحلها الحوادث

قيل لهم دليلكم على نفي قيام الحوادث به إما أن يكون نافيا لقيام الصفات به مطلقا وإما ان يخص الحوادث فإن كان الول فقد عرف فساد قولكم فيه ببيان فساد حجتكم على نفي الصفات وإبطال ما تذكرونه في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات كما بسط في موضعه

وإن كان مختصا فدليلكم على النفي هو هذا الدليل على امتناع حدوث الحوادث عنه فليس لكم ان تثبتوا هذا بهذا وهذا بهذا فإنه يكون دورا وهذا من المصادرة على المطلوب فغن نفيكم لحدوث الحوادث بذاته وبغيره سواء فإذا لم يمكنكم نفي ذلك إلا بنفي حلولها بذاته كنتم قد صادرتم على المطلوب

الوجه الثاني

إن يقال لهم قول القائل سبب الحوادث غما الذات أو خارج عنها أتريدون به سبب كل حادث أو سبب نوع الحوادث فإن أردتم الأول منعوكم الحصر وقالوا لكم بل سبب كل حادث الذات بما قام بها من الحوادث المتعاقبة

فإن قلتم هذا يستدعي تعاقب الحوادث بذاته وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث

قالوا لكم فهذا يبطل قولكم بقدم الأفلاك ويوجب حدوثها

وأيضا فيقال لكم مالا يخلو عن جنس الحوادث إن لم يجب حدوثه بطلت هذه الحجة وغن وجب حدوثه لزم حدوث الأفلاك وحينئذ فالموجب لحدوث الأفلاك إن كان قديما لم يحدث به حادث جاز حدوث الحادث بدون سبب حادث ولا فرق حينئذ بين أن يكون الحادث بذاته أو منفصلا إنه فيلزم قول الكرامية 0 وإن كانت الحوادث لا تحدث إلا بحوادث متعاقبة لزم تسلسل الحوادث وبطل القائل فما لا ينفك عن حنس الحوادث فهو حادث وحينئذ فتبطل هذه الحجة

فتبين انه يلزمكم إما بطلان هذه الحجة وإما تصحيح قول الكرامية وذلك يستلزم بطلان الحجة فثبت بطلانها على كل تقدير

وإن أردتم سبب نوع الحوادث فيقال لكم سبب نوع الحادث المتصل كسبب نوع الحادث المنفصل عندكم وإذا جاز عندكم ان تكون الذات سبب الحوادث التي لا أول لها مع انفصاله عنها فمع قيامها به بطريق الأولى فإن اقتضاء المقتضي لما قام به أولى من اقتضائه لما باينه ولا محيص لهم عن هذا إلا بما ينفون به الصفات مطلقا

وقد عرف فساد قولهم في ذلك وأن حجتهم عليه من أسقط الحجج وحينئذ فيكون جماهير الناس خصومهم في ذلك الأصل

الوجه الثالث

أن يقال هب أن سبب الحادث خارج عن الذات وهو معلول الذات قولهم يلزم الدور له إنما يلزم الدور إذا كان ذلك الحادث الخارج موقوفا على الحادث المتصل والمتصل موقوفا على الخارج وأما إذا كان ذلك الخارج موقوفا على متصل وذلك المتصل موقوف على خارج آخر والخارج الآخر موقوف على متصل آخر فإنما يلزم التسلسل في الآثار وفي تمام التأثيرات المعينة لا يلزم الدور على هذا التقدير

وإذا كان اللازم هو التسلسل في الآثار والتأثيرات المعينة فذلك لا يلزم منه الدور والتسلسل جائز عند هؤلاء الفلاسفة وكثير من أهل الكلام والحديث وغيرهم وليس هذا تسلسلا ولا دورا في أصل التأثير فإن هذا باطل باتفاق العقلاء كالدور والتسلسل في نفس المؤثر فإن الدور والتسلسل في تمام التأثيرات المعينة فإنه كالتسلسل في الآثار المعنية والتسلسل في أصل التأثير كالتسلسل في أصل الآثار

ثم يقال إن كان هذا التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول وان تصدر الحوادث كلها عن قديم بلا سبب حادث من غير أن يجب دوام الحوادث 0 وحينئذ فيلزم صحة قول الكرامية كما يلزم صحة قول غيرهم من أهل الكلام الجهمية والقدرية وأتباعهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث بدون سبب حادث وإنما النزاع بينهم في المتصل والمنفصل

والوجه الرابع

في الجواب أن يقال هب أن ذلك الخارج إذا كان ليس معلول الذات يلزم إن يكون مفيدا للإله صفاته فيكون أولى بالإلهية

يقال لهم هذا وغن كان باطلا عند المسلمين وغيرهم من أهل الملل ولكن على أصولكم لا يمتنع بطلانه وذلك أن هذا لا ينافي وجوب وجوده بذاته بمعنى أنه لا فاعل له فإن ما كان لا فاعل له لم يمتنع من هذه الجهة أن يقوم به أمر بسبب منه ومن أمر مباين له وغنما ينتفي ذلك بنفي واجب بذاته مباين له وذلك مبني على نفي واجبين بالذات

وأنتم ادعيتم ذلك وادرجتم في ذلك نفي الصفات كما ادعت الجهمية أن القديم واحد وادرجوا في ذلك نفي الصفات فقلتم أنتم لو كان له صفات لتعدد الواجب بذاته كما قال أولئك لو كان له صفات لتعدد القديم وحجتكم على ذلك ضعيفة جدا وحتى إن منكم من قال بقدم الأفلاك ووجوب وجودها بذاتها لضعف ذلك

وهذا حقيقة قول أرسطو وأصحابه في الأفلاك وهو قول أهل وحدة الوجود في كل موجود الذين أظهروا التصوف والتحقيق وحقيقة قولهم قول هؤلاء الدهرية المعطلة

وحينئذ فنخاطب الجميع خطابا يتناول الطوائف كلها ونقول إما أن تكون الأفلاك واجبة الوجود بذاتها وإما أن لا تكون

فإن قيل: إنها واجبة الوجود بذاتها مع ان الحوادث تقوم بها بطل قولكم: إن الواجب أو القديم لا تقوم به الحوادث

وإن قلتم: إنها معلولة مفعولة لغيرها فالموجب لها: إن كان علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله فلا تصدر عنه الحركات والحوادث فتفتقر الحوادث المشاهدة إلى واجب آخر والقول فيه كالقول فيه وإن لم يكن علة تامة فلا بد لما يتأخر حدوثه أن يكون موقوفا على شرط حادث والقول فيه كالقول في الذي قلبه فيلزم التسلسل وإذا لزم لزم دوام الحوادث المتسلسلة ويمتنع صدورها عن علة تامة أزلية لا يقوم بها حادث فإن ذلك يقتضي مقارنة جميع معلوها لها لوجوب مقارنة جميع معلول العلة التامة لها وامتناع أن يصير علة لشيء ما بعد أن لم يكن علة بدون سبب منها وإذا جاز أن تقوم به الحوادث المتعاقبة فيلزم قيام الحوادث المتعلقة بالقديم على كل تقدير فبطلي هذه الحجة

وأيضا فقدماؤهم يقولون: إن الأول يحرك الأفلاك حركة شوقية مثل حركة المحبوب لمحبه ولم يذكروا أن الأفلاك مبدعة له ولا معلولة لعلة فاعلة

وحينئذ فلا بد أن يقال: هي واجبة بنفسها وهي مفتقرة في حركتها إلى المحرك المنفصل عنها فلا يمكن من قال هذا أن يقول: إن الواجب بنفسه لا يقوم به حادث بسبب مباين له كما لا يمكنه أن ينفي شيئين واجبين بأنفسهما كل منها متوقف على الآخر

إذ حقيقة قول هؤلاء أن الفلك والعلة الأولى كل منها محتاج إلى الآخر حاجة المشروط إلى شرطه لا حاجة المصنوع إلى مبدعه

الوجه الخامس

أن يقال: غاية ما ذكرتموه في الحوادث منقوص بالمتجددات كالإضافات والعدميات فإنهم سلموا حدوثها وهذه الحجة تتناول هذا كما تتناول هذا فما كان جوابكم عن هذا كان جواب منازعيكم عن هذا

فإنه يقال: تلك الأمور الإضافية والعدمية إذا تجددت فلا بد لها من سبب متجدد والسبب إما: الذات وغما خارج عنها فإن كان الأول لزم دوام الإضافات والعدميات وإن كان الثاني لزم الدور أو التسلسل وإن كان الثالث فالأمر الخارجي الذي أوجب تجدد تلك الإضافات والإعدام يجب أن يكون واجب والوجود

وأما الأسئلة التي ذكر أبو الحسن الآمدي أنهم أوردها على هذه الحجة فهي ضعيفة كما ذكر ضعفها ويمكن الجواب عنها ما ذكر أيضا

أما قول القائل: القاصد إلى الحدوث في محل يستدعي كون المحل في جهة فإن أراد به ما يقصد حدوثه في محل مباين له فالكرامية تقول بموجب ذلك وليس هذا محل الأنواع هنا ثم القائل لهذا إما أن يجوز كون الأمور المبانية للرب في جهة منه أو لا يجوز ذلك

فإن جوزه فقال بموجبه مع بقاء محل النزاع وإن لم يجوزه كان ذلك دليلا على فساد قوله في مسألة الجهة وحينئذ فيكون ذلك أقوى لقول الكرامية ومن وافقهم

وإن أرادا ان ما يقصد حدوثه في محل هو ذاته يوجب أن تكون ذاته في جهة من ذاته

فيقال له: هل يعقل كون الشيء في جهة من نفسه أم لا؟ فإن عقل ذلك قالوا بموجب التلازم وإن لم يعقل ذلك منعوا التلازم

يبين ذلك أن الإنسان يحدث حوادث في نفسه بقصده وإدارته وهذا السؤال يرد عليها فإن عقل كون نفسه في جهة من نفسه أمكن للمنازعين أن يقولوا بموجب ذلك في كل شيء وإلا فلا

وأيضا فيقال: قصد الشيء إما أن يستلزم كونه بجهة منم المقاصد وأما أن لا يستلزم ذلك فإن استلزم ذلك لزم كون جميع الأجسام بجهة من الرب فإنه إذا أحدث فيها الأعراض الحادثة كان قاصدا لها على ما ذكروه فيلزم أن يكون بجهة منه على هذا التقدير وحينئذ فيكون هو أيضا بجهة منها لامتناع كون أحد الشيئين بجهة من الآخر من غير عكس كما ذكروه وإذا كان كذلك لزم أن يكون الباري في جهة

وإذا كان كذلك بطلب حجتهم لأن غايتها أن قصده للحوادث في ذاته يستلزم كون ذاته في جهة بطل نفي هذا اللازم

وإما ان يقال: قصد الشيء لا يستلزم كونه بجهة من القاصد وحينئذ فبطلت هذه الحجة فثبت بطلانها على التقديرين

وإيضاح فسادها أنها مبنية على مقدمتين وصحة إحداهما تستلزم بطلان الأخرى وبطلانها يتضمن بطلان إحدى المقدمتين فثبت بطلان إحداهما على كل تقدير وإذا بطلت إحدى المقدمتين بطلت الحجة فإن أحدى المقدمتين أن القاصد لا يقصد إلا ما هو في جهة والثانية أن كون الباري في الجهة محال فإن كانت المقدمة الأولى صحيحة لزم أن يكون في الجهة لأنه يقصد حدوث حوادث قطعا فبطلت الثانية وإن كانت الأولى باطلة بطلت الحجة أيضال لبطلان أحدى مقدمتيها

وكما أن فساد هذه الحجة ظاهر على أصول أهل الملل وغيرهم ممن يقول بحدوث العالم فبطلانها على رأي الفلاسفة الدهرية أظهر فإن هؤلاء لا ينكرون حدوث الحوادث فإن قالوا: إنها حادثة عن علة أزلية موجبة بنفسها كما يقوله ابن سينا وأمثاله فهؤلاء يقولون بان الحوادث تحدث عنه بوسائط

وحينئذ فيقال: إما أن ذلك يستلزم كونها منه في جهة أو لا يستلزم؟ وتبطل الحجة على التقديرين كما تقدم

وإن قالوا: بل العالم واجب الوجود بنفسه فقد قالوا بحدوث الحوادث عن القديم الواجب بنفسه وقيامها به فإن الحوادث قائمة بذات الأفلاك وحينئذ فكل ما يحتج به على نقيض ذلك فهو باطل فإن صحة أحد النقيضين تستلزم بطلان الآخر وبطلان اللازم الذي هو المدلول كانت أدلته المستلزمة له كلها باطلة

وهذا الجواب خير من جواب الآمدي بقوله: القصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال فإن جميع نفاة الجهة من أهل الكلام يقولون إن الرب تعالى يقصد إلى ما هو في جهة من المخلوقات والقصد منه وليس هو في جهة عندهم

بل يقال جوابا قاطعا: القصد في الجهة ممن ليس في الجهة إن كان ممكنا بطلت المقدمة الأولى من الأعتراض وإن كان ممتنعا بطلت المقدمة الثانية

وأما الاعتراض الثاني وهو قولهم: لجاز قيام كل حادث به فظاهر الفساد فإنا إذا جوزنا قيام صفة به لم يلزم قيام كل صفة به فإذا جوزنا أن تقوم به صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام لم يلزم أن تقوم صفات النقص به كالجهل المركب والمرض والسنة والنوم وغير ذلك من النقائض الوجودية وإذا جوزنا أن يقوم به كلام لم نجوز قيام كل كلام به وإذا جاز إرادة به لم يجز قيام إرادة كل شيء به وإنما يقوم به ما يليق بجلاله وما يناسب كبرياءه إذ هو موصوف بصفات الكمال ولا يوصف بنقائضها بحال

وذلك لأن كونه سبحانه قابلا لأن تقوم به الصفات أو الحوادث لم يكن لمجرد كون ذلك صفة أو حادثا فيلزم طرد ذلك في كل صفة وحادث كما انه إذا قيل: تقوم به أمور وجودية ولم يلزم أن يقوم به كل موجود لأن قيام الصفات الوجودية به لم يكن لمجرد كونها موجودة حتى يقوم به كل موجود وهذا كما إذا قلنا: إن رب العالمين قائم بنفسه وهو موجود وهو ذات متصفة بالصفات لم يلزم من ذلك أن يكون كل ما هو قائم بنفسه وهو موجود وهو ذات متصفة بالصفات أن يكون رب العالمين

والناس متنازعون في صفاته: هل تسمى أعراضا أو لا تسمى؟ مع تنازعهم في ثبوتها ونفيها ففي مثبتة الصفات ونفاتها من يسميها أعراضا

فإذا قيل: لو جاز أن يقوم به عرض لزم أن يقوم به كل عرض لكان هذا أيضا باطلا فإن ذلك لم يكن لكونه عرضا فيلزم قيام كل عرض به

والمسلمون متفقون على أن الله خالق كل موجود سواه فلو قيل: لو جاز أن يخلق موجودا للزم أن يخلق كل موجود فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال أو لو قيل: لو جاز أن يخلق عالما قادرا حيا لزم أن يخلق كل حي عالم قادر وهو حي عالم قادر فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال لكان هذا كلاما باطلا

وأصل هذا أن السالب النافي لما نفي نفيا عاما أن يقوم بالله صفة أو أن يقوم به ما يريده ويقدره عليه لكونه حادثا فنفي عاما أن يقوم به حادث ونحو ذلك قابلة المثبت فناقض هذا الخبر العام وهذه القضية السالبة الكلية وكذبها يحصل بإثبات خاص وهو القضية الجزئية الموجبة فيجوز قيام صفة ما من الصفات وحادث ما من الحوادث وذلك الجائز لم يجز قيامه للمعنى المشترك بينه وبين سائر الصفات والحوادث وإنما قام لمعنى يختص به وبأمثاله لا يشاركه فيه جميع الصفات والحوادث

لكن المشترك كما انه ليس هو المقتضي له للقيام بالذات فليس هو مانعا فكون القائم به صفات أو حادثا ليس أمرا موجبا للقيام به حتى يقوم كل صفة وحادث ولا مانعا من القيام به حتى يمنع كل صفة وحادث

فمن نفى نفيا عاما لأجل ذلك فهو معارض بمن أثبت إثباتا عاما لأجل ذلك وكلاهما باطل بل هو المستحق لصفات الكمال العارية عن النقص وهو على كل شيء قدير ولم يزل قادرا على أن يتكلم ويفعل بمشيئة واختياره سبحانه وتعالى

وإذا قال القائل: هذا يقتضي قيام الصفات أو الحوادث به قيل: هذا المعنى عديم التأثير لا هو موجب للامتناع ولا للجواز

والمثبتون يقولون: كونه قادرا على الفعل والكلام بنفسه صفة كمال وكونه لا يقدر على ذلك صفة نقص فإن القدرة على الفعل والكلام مما يعلم بصريح العقل أنه صفة كمال وأن من يقدر أن يخلق ويتكلم أكمل ممن لا يقدر أن يخلق ويتكلم فإنه يكون بمنزلة الزمن ويقولون: بالطريق التي تثبت له صفات الكمال يثبت هذا فإن الفاعل بنفسه الذي يقدر بنفسه على الفعل من حيث هو كذلك أكمل ممن لا يمكنه ذلك كما قد بسط كلامهم في غير هذا الموضع

وأيضا فإن أراد المريد بقوله: تقوم به الحوادث كلها أنه قادر على أن يمسك العالم كله في قبضته كما جاءت به الأخبار الإلهية فهم يجوزون ذلك بل هذا عندهم من أعظم أنواع الكمال كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر 67

وقد ثبت في الصحاح عن النبي من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ما يوافق مضمون هذه الآية وأن الله تعالى يقبض العالم العلوي والسفلي ويمسكه ويهزه ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟

وفي بعض الآثار: ويدحوها كما يدحو أحدكم الكرة وقال ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم

فإن أراد مريد بقوله إن الحوادث كلها تقوم بذاته المعنى الذي دلت عليه النصوص فهو حق وهو من أعظم الأدلة على عظمة الله وعظم قدره وقدرته وعلى فعله القائم بنفسه وفي مخلوقاته

وإن أراد بذلك أنه يتصف بكل حادث فهذا يستلزم أن يتصف بالنقائض الوجودية مثل أن يتصف بالجهل المركب الحادث ونحو ذلك وهذا ممتنع لكونه نقصا لا لكونه حادثا فالموت والسنة والنوم والعجز واللغوب والجهل وغير ذلك من النقائص هو منزه عنها ومقدس أزلا وأبدا فلا يجوز أن تقوم به لا قديمة ولا حادثة لكونه نقاقض ما وجب له من الكمال اللازم لذاته

وإذا كان أحد النقيضين لازما للذات لزم انتقاء النقيض الآخر فكل ما تنزه الرب عنه من الحوادث والصفات فهو منزه عنه لما أوجب ذلك لا للقدر المشترك بينه وبين ما قام به من الكمالات

وأما السؤال الثالث وهو قوله: إنه لا حاجة إلى ذلك فيقال ليس كل مالا تعلم الحاجة إليه يجزم بنفيه فإن الله أخبر أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلقهم ولا يعلم إلى ذلك حاجة وكذلك قد خلق آدم بيده عند أهل الإثبات مع قدرته على أن يخلقه كما خلق غيره

وأيضا فإن عدم الحاجة إلى الشيء أوجبت نفيه فينبغي أن تنفي جميع المخلوقات فإن الله لا يحتاج إلى شيء

وأما ما يقوم بذاته فما كان الخلق محتاجا إليه وجب إثباته وما لم يكن الخلق محتجا إليه كان قد انتفى هذا الدليل المعين الدال على إثباته وعدم الدليل مطلقا لا يستلزم عدم المدلول عليه في نفس الأمر وإن استلزم عدم علم المستدل به فضلا عن عدم الدليل المعين

وأيضا فإن الرب تعالى يمكن ان يكون له من صفات الكمال مالا يعلمه البعاد ولا يمكنهم نفيه لانتفاء الحاجة إليه

ولكن هذا السؤال يمكن تحريره على وجه آخر وهو أن يقال: الكرامية إنما أثبتوا ما أثبتوه لاحتياج الخلق إليه والقدرة والمشيئة الأزلية مكافية في حدوث المخلوقات المنفصلة كما هي كافية في حدوث ما قام بالذات فيكون دليلهم على ذلك باطلا

وهذا الكلام إنما يفيد إن أفاد إبطال هذا الدليل المعين ولا يبطل دليلا آخر ولا يبطل ثبوت المدلول فلا يجوز أن ينفي قيام الحوادث بذاته لعدم ما يثبت ذلك بل الواجب فيما لا يعرف دليل ثبوته وانتفائه الوقف فيه

ثم هم قد يقولون: صدور المفعولات المنفصلة من غير سبب حادث يقوم بالفاعل أمر ممتنع كصدور المفعولات بدون قدرة وإرادة للفاعل

ويقولون أيضا: قد علم أن الله خالق لعالم والخلق ليس هو المخلوق إذ هذا مصدر وهذا مفعول به والمصدر ليس هو المفعول به فلا بد من إثبات خلق قائم به ومن إثبات مخلوق منفصل عنه

وهذا قول جمهور الناس وهو أشهر القولين عند أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهو قول جمهور الناس: أهل الحديث والصوفية وكثير من أهل الكلام أو أكثرهم وكثير من أساطين الفلاسفة أو أكثرهم

لكن النزاع بينهم في الخلق المغاير للمخلوق: هل هو قديم قائم بذاته؟ أو هو منفصل عنه؟ أو هو حادث قائم بذاته؟ وإذا كان حادثا فهل الحادث نوه؟ أو أن الحوادث هي الأعيان الحادثة ونوع الحوادث قديم لتكون صفات الكمال قديمة لله لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال؟

هذه الأقوال الأربعة قد قال كل قول طائفة ويقولون أيضا: إن قيام هذه الأمور بذاته من صفات الكمال وذلك أنا قد علمنا أن الله متكلم وأن المتكلم لا يكون متكلما إلا بكلام قائم بذاته وأنه مريد ولا يكون مريدا إلا بإرادة قائمة بذاته إذ ما قام بغيره من الكلام والإرادة لا يكون كلاما له ولا إرادة إذ الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره ويقولون قد أخبر الله انه { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وان تدل على أن الفعل مستقبل فوجب أن يكون القول والإرادة حادثين بالسمع

وبالجملة عامة ما يذكر في هذا الباب يعود إلى نوع تناقض من الكرامية وهو عمدة منازعيهم ليس معهم ما يعتمدون عليه إلا تناقضهم وتناقض أحد المتنازعين لا يستلزم صحة قول الآخر لجواز ان يكون الحق في قول ثالث لا قول هذا ولا قول هذا لا سيما إذا عرف أن هناك قولا ثالثا وذلك القول يتضمن زوال الشبه القادحة في كل من القولين الضعيفين

الحجة الثالثة عند الآمدي على امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى

قال الآمدي الحجة الثالثة: أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها في الأزل وإلا كانت القابلية عارضة لذاته واستدعت قابلية أخرى وهو تسلسل ممتنع وكون الشيء قابلا للشيء فرع إمكان وجود المقبول فيستدعي تحقق كل واحد منهما ويلزم من ذلك إمكان حدوث الحوادث في الأزل وحدوث الحادث في الأزل ممتنع للتناقض بين كون الشيء أزليا وبين كونه حادثا

قال الآمدي ولقائل أن يقول لا نسلم أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها في الأزل فإنه لا يلزم من القبول للحادث فيمالا يزال مع إمكانه القبول له أزلا مع كونه غير ممكن أزلا والقول بأنه يلزم منه التسلسل يلزم عليه الأيجاد بالقدرة للمقدور وكون الرب خالقا للحوادث فإنه نسبة متجددة بعد أن لم يكن فما هو الجواب ههنا به يكون الجواب ثم وإن سلمنا أنه يلزم من القبول فيما لا يزال القبول أزلا فلا نسلم أن ذلك يوجب إمكان وجود المقبول أزلا ولهذا على أصلنا الباري موصوف في الأزل قادرا على خلق العالم ولا يلزم منه إمكان وجود العالم أزلا

قلت: قد ذكر في إفساد هذه الحجة وجهين هما منع لكلتا مقدمتيها فإن مبناها على مقدمتين: إحداهما: أنه لو كان قابلا لكان القبول أزليا

والثانية أنه يمكن وجود المقبول مع المقبول

فيقال في الأولى لا نسلم أنه إذا كان قابلا للحوادث في الأبد يلزم قبلوها في الأزل لأن وجودها فيما لا يزال ممكن وجودها في الأزل ممتنع فلا يلزم من قبول الممكن قبول الممتنع وهذا كما يقال إذا أمكن حدوث الحوادث فيما لا يزال أمكن حدوثها في الأزل

وقد احتجوا على ذلك بأنه يجب أن يكون القبول من لوازم الذات إذ لو كان من عوارضها لكان للقبول قبول آخر ولزم التسلسل

فأجاب عن هذه الحجة بالمعارضة بالإيجاد والإحداث فإنه عند من يمنع تسلسل الأثار من عوارض الذات لا من لوازمها فالقول في قبولها كالقول في فعله لها إذ التسلسل في القابل كالتسلسل في الفاعل

وهذا الجواب من جنس جوابه عن الحجة الأولى وهو جواب صحيح على أصل من وافق الكرامية من المعتزلة والأشعرية والسالمية وغيرهم وهؤلاء أخذوا هذا الأصل عن الجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم

وأما المقدمة الثانية فيقال: لا نسلم انه يلزم من ثبوت القبول في الأزل إمكان وجود المقبول في الأزل بدليل أن القدرة ثابتة في الأزل ولا يمكن وجود المقدور في الأزل عند هذه الطوائف

وهذا الجواب أيضا جواب لمن وافقه على ذلك والنكتة في الجوابين: أن ما ذكروه في المقبول ينتقض عليهم بالمقدور فإن المقبول من الحوادث هو نوع من المقدورات لكن فارق غيره في المحل فهذا مقدور في الذات وهذا مقدور منفصل عن الذات فإن قدرته قائمة بذاته ومقدور القدرة هو فعله القائم بذاته وإن كانت المخلوقات أيضا مقدورة عندهم فهذا المنفصل عندهم مقدور وفعله القائم بذاته مقدور وقدرته قائمة بمحل هذا المقدور المتصل دون المنفصل

والناس لهم في وجود المقدور بمحل القدرة وخارجا عنها أقوال: منهم من يقول القدرة القديمة والمحدثة توجد في محل المقدور كأئمة أهل الحديث والكرامية وغيرهم

ومنهم من يقول القدرتان توجدان في غير محل المقدور كالجهعية والمعتزلة وغيرهم

ومنهم من يقول المحدثة لا تكون إلا في محل المقدور والقديمة لا تكون في محل المقدور وهم الكلابية ومن وافقهم

ومتنازعون أيضا هل يمكن أن تكون القدرتان أو إحداهما متعلقة بالمقدور في محلها وخارجة عن محلها جميعا

والمقصود هنا ان ما عارضهم به معارضة صحيحة ولكن كثير من الناس من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم يقولون في المقدور ما يقولون في المقبول ويقولون بجواز حوادث لا تتناهى ومنهم من يخص ذلك بالمقدورات

فيقال لهؤلاء: حينئذ فيجوز حوادث لا تتناهى في المقبولات والمقدورات كما في المقدورات المنفصلة لا فرق بينهما

والجواب القاطع المركب ان يقال إما يكون وجود حوادث لا تتناهي ممكنا وغما أن يكون ممتنعا فإن كان الأول كان وجود نوع الحوادث في الأزل ممكنا وحينئذ فلا يكون اللازم منفيا فتبطل المقدمة الثانية

وإن كان ممتنعا لم يجز أن يقال إنه قابل لها في الأزل قبولا يستلزم إمكان وجود المقبول وحينئذ فلا يلزم وجودها في الأزل فتبطل المقدمة الأولى

فتبين أنه لا بد من بطلان إحدى المقدمتين وأيهما بطلت بطلت الحجة فهذا جواب ليس بإلزامي بل هو علمي يبطل الحجة قطعا

وهنا طريقة ثالثة في الجواب على قول من قال: إنه لم يزل متكلما إذا شاء وإن الحركة من لوازم الحياة من أهل السنة والحديث وغيرهم فغن هؤلاء يقولون إنه قابل لها في الأزل وإنها موجودة في الأزل

وما ذكره من الحجة يستلزم صحة قول هؤلاء في المقدور والمقبول فإنهم يقولون هو قادر عليها فيما لا يزال وهي ممكنة فيما لا يزال فوجب أنه لم يزل قادرا وأنها ممكنة فإن هذه القدرة والإمكان إما أن تكون قديمة وإما أن تكون حادثة فإن كانت قديمة حصل المطلوب وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث وذلك يستلزم التسلسل والتسلسل يتضمن دوام القدرة وإمكان الفعل فثبت أنه لم يزل قادرا على الفعل والفعل ممكن له وهو المطلوب

وإيضاح ذلك أنه إذا كان قادرا على الفعل وجب أن يكون قادرا عليه في الأزل وإلا كانت القادرية عارضة لذاته واستدعت القادرية قادرية أخرى وذلك يقتضي التسلسل فإن كان التسلسل باطلا لزم دوام نوع القادرية لأنه يمتنع أن تكون عارضة إذ كانت العارضة تستلزم التسلسل الباطل على هذا التقدير وما استلزم الباطل فهو باطل وإذا امتنع كونها عارضة ثبت كونها لازمة لأنه متصف بها قطعا وإن كان ممكنا لزم إمكان دوام قادريات لا تتناهى لأنه يتصف بها ويمتنع تجددها له إذ كانت قدرته من لوازم ذاته لامتناع أن يكون غير القادر يجعل نفسه قادرا بعد أن لم يكن وذلك يقتضي دوام نوع القادرية فلا بد في الأزل من ثبوت القادرية على التقديرين وهو المطلوب

وإذا كان كذلك فالقدرة على الشيء فرع إمكان المقدور إذ القادرية نسبة بين القادر والمقدور فتستدعي تحقق كل منهما وإلا فما لا يكون ممكنا لا يكون مقدورا فلا تكون القادرية عليه ثابتة في الأزل فدل على أنه يلزم من ثبوت القدرة في الأزل إمكان وجود المقدور في الأزل

وحينئذ فذلك يدل على إمكان الفعل في الأزل فلا يكون هنا ما يمنع وجود المقدور المقبول في الأزل فصار ما ذكروه حجة على النفي هو حجة على الإثبات لكن هذا حجة لإمكان وجود المقبول في الأزل ويمكن أن يحتجوا على وجود المقبول في الأزل بأن يقولوا: لو لم يقم بذاته ما هو مقدور مراد له دائما للزم أن لا يحدث شيئا لكنه قد أحدث الحوادث فثبت دوام فاعليته وقابليته لما يقوم بذاته من مقدورات ومرادات

وبيان التلازم أن الحادث بعد أن لم يكن إن حدث بغير سبب لزم ترجيح الممكن بلا مرجح وتخصيص أحد المثلين من الوقتين وغيرهما بلا مخصص وهذا ممتنع

وإن حدث بالسبب فالقول في ذلك السبب كالقول في غيره فيلزم تسلسل الحوادث

ثم تلك الحوادث الدائمة: إما أن تحدث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها وهو ممتنع لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء منه وإما أن تحدث عن غير علة تامة وما ليس بعلة تامة ففعله للحادث موقوف على الشرط الذي به يتم فاعليته لذلك الحادث

وذلك الشرط إما منه وغما من غيره فإن كان من غيره لزم أن يكون رب العالمين محتاجا في أفعاله إلى غيره وإن كان منه لزم أن يكون دائما فاعلا للحوادث

وتلك الحوادث إما ان تحدث بغير أحوال تقوم به وإما أنه لا بد من أحوال تقوم به والثاني يستلزم انه لم يزل قادرا قابلا فاعلا تقوم به الأفعال والأول باطل لأنه إذا كان في نفسه أزلا وابدا على حال واحدة لم يقم به حال من الأحوال أصلا كانت نسبة الأزمان والكائنات إليه واحدة فلم يكن تخصيص أحد الزمانين بحوادث تخالف الحوادث في الزمان الآخر اولى من العكس

وتخصيص الأزمنة بالحوادث المختلفة أمر مشهود ولأن الفاعل الذي يحدث ما يحدثه من غير فعل يقوم بنفسه غير مفعول بل ذلك يقتضي أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق وأن مسمى المصدر هو مسمي المفعول به وأن التأثير هو الأثر

ونحن نعلم بالاضطرار أن التأثير أمر وجودي وإذا كان دائما لزم قيامه بذاته دائما وأن تكون ذاته دائما موصوفة بالتأثير والتأثير صفة كمال فهو لم يزل متصفا بالكمال قابلا للكمال مستوجبا للكمال وهذا أعظم في إجلاله وإكرامه سبحانه وتعالى

وبهذه الطريق وأمثالها يتبين أن الحجة العقلية التي يحتج بها أهل الضلال فإنه يحتج بها على نقيض مطلوبهم كما أن الحجج السمعية التي يحتجون بها حالها كذلك

وذلك مثل احتجاجهم على قدم الأفلاك بأنه إذا كان مؤثرا في العالم فإما أن يكون التأثير وجوديا أو عدميا والثاني معلوم الفساد بالضرورة

لكن هذا قول كثير من المعتزلة والأشعرية وهو قول من يقول الخلق هو المخلوق وإن كان وجوديا فإن كان حادثا لزم التسلسل ولزم كونه محلا للحوادث فيجب أن لا يكون قديما وغن كان قديما لزم قدم مقتضاه فيلزم قدم الأثر

فيقال أولا هذا يقتضي أن لا يكون شيء من آثاره محدثا وهذا خلاف المشاهدة

وموجب هذه الحجة ان الأثر يقترن بالمؤثر التام التأثير وإذا كان كذلك فكلما حدث من الحوادث شيء كان التأثير التام منتفيا في الأزل وكذلك أيضا كلما تجدد شيء من المتجددات وحينئذ فيلزم أنه لم يكن في الأزل تأثير يستلزم آثاره وهذا نقيض قولهم

وحينئذ فيلزم حدوث التأثير وتسلسله وإذا كان التأثير وجوديا وجب أن يكون قائما بالمؤثر وهذا يقتضي دوام ما يقوم بذاته من أحواله وشؤونه التي هي من آثار قدرته ومشيئته

وهذه الحجج الثلاث المذكورة مبناها على جواز التسلسل في الآثار والكرامية لا تقول بذلك لكن يقول به غيرهم من المسلمين وأهلل الملل وغير أهل الملل

والكرامية تجيب من يوافقها على التسلسل بما تقدم من المعارضات أو الممانعات

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55