درء تعارض العقل والنقل/44
كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد
[عدل]والقائلون بأن المعرفة تحصل بغير العقل يفسرون كلامهم بمعنى صحيح مثل ما ذكره الشريف أبو علي بن أبي موسى في شرح الإرشاد في الفقه تصنيفه لما شرح عقيدته المختصرة التي ذكرها في أول الإرشاد
قال لما ذكر التوحيد: ( الكلام بعد ذلك: المعرفة هل تدرك بالعقول أم بالسمع؟ ) قال: ( فالذي نذهب إليه قول إمامنا: إن معرفة الخالق أنه الله لا تدرك إلا بالسمع ) قال: ( وقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين فقال الأقلون منهم: إن المعرفة تدرك بالعقول مع اتفاقهم معنا أنها لا تدرك بمجرد العقل قبل ورود السمع بها )
قال: ( والدليل على أنه تدرك بالسمع وأنه لا مدخل للعقول فيها قبل ورود السمع بها: ان العقل مخلوق كالحواس الخمس من البصر والسمع والشم واللمس والمذاق ثم المقسوم منه يتفاضل الخلق فيه يعلم ذلك كل أحد ضرورة فإذا كان كذلك فاللمس لا يدرك له اللامس الأراييح والشم لا يدرك به الشام الأصوات )
قال: ( وجملة هذا أن الله لم يجعل اللمس سبيلا إلى إدراك الأراييح ولا الشم سبيلا إلى إدراك المسموعات بل جعل كل واحد منهما سبيلا لإدراك ما خص به وإن كنا نجوز أن يفعل ذلك ويجعل العلم في اليد والكلام في الرجل والنظر في اللسان لأن الجواهر من جنس واحد وإذا جاز قيام الرؤية ببعضها جاز بجميعها ولكن ذلك لا يكون في الدنيا إلا لنبي ليكون من معجزاته ودليل تصوره كلام الذراع للنبي ﷺ
وفي الآخرة إذا أنطق الله عز وجل الجوارح بقوله: { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } وبقوله: { ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة }
قال: ( فيجوز أن يجعل الله الظن يوم القيامة في الوجوه المعذبة كذلك العقل لم يجعل الله له سبيلا إلى إدراك السواد والبياض ولا إلى إدراك المشام والطعوم بل جعل الله له سبيلا إلى التمييز بين الموجودات وإلى إدراك فهم السمعيات والفرق بين الحسن منها والقبيح والباطل منها والصحيح فإذا نظر إلى المصنوعات التي لا سبيل للخلق إلى مثلها ويعجز كل فاعل عنها وتحقق بصحة التمييز المركب فيه - إذا أراد الله هدايته - أن المحدثات لا تصنع نفسها علم أنها مفتقرة إلى صانع غير أنه لا يعرف من هو قبل ورود السمع فإذا ورد السمع بأن الصانع هو الله قبله العقل ووقع له فهم في السمع وتحقق صحة الخبر وعرف الله من ناحية السمع لا من ناحية العقل لأن العقل بمجرده لا يعلم من الصانع قط وأكثر ما في بابه أن يقع به التمييز فيبقى أن يفعل الجماد نفسه ويقتضي بالشاهد على الغائب فأما أن يعرف من الصانع فمحال إلا من جهة السمع )
قال: ( والدليل على صحة اعتبارنا أن الله خاطب العقلاء بالاعتبار فقال { فاعتبروا يا أولي الأبصار } يعني البصائر وقال: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي عقل وقال: { ليتذكر أولو الألباب } فأمرهم باعتبار ما جعل لهم سبيلا إلى اعتباره دون غيره
ثم الدليل القاهر هو القاضي بصحة ما ذكرت: أن الله عز وجل حجب عن الخلق - من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر الخلق أجمعين - معرفة ما هو ولم يجعل لهم طريقا إلى علم مائيته ولا سبيل إلى إدراك كيفيته جل أن يدرك أو يحاط به علما وتعالى علوا كبيرا: { ولا يحيطون به علما } فمنع من أحاطة العلم به فلا سبيل لأحد إليه
وقال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فنفى عن نفسه الأشبهاه والأمثال فمنع من الاستدلال عيه بالمثلية كما منع الدليل على إدراك كيفيته أو علم ماهيته فهذا الذي لا سبيل للعقل إلى معرفته ولا طريق له إلى علمه
ثم كلف جل إسمه سائر بريته وأفترض على جميع المكلفين من خليقته علم من هو ليعرف الخلق معبودهم ويعلموا أمر إلههم وخالقهم فلما كلفهم ذلك نصب لهم الدليل عليه سمعا ليتوصلوا به إلى أداء ما افترض عليهم من عبادته وعلم ما كلفهم من معرفته علما منه جلت عظمته بأن لا طريق للعقل إلى علم ذلك بحال فقال تعالى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقال: { ذلكم الله ربكم } وقال: { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم } وقال: { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }
قال: ( ولو سألهم قبل أن يسمعوا باسمه عن تأويل من خلقهم ماكان لهم طريق إلى علم ذلك لأن الأسماء لا تسمع من جهة العقل )
قال: فثبت وتقرر بالدليل الذي لا يحتمل إلا ما ذكرناه: أن الله العظيم لم يعرف إلا من جهة السمع لإحاطة العلم أنه لا طريق للعقل بمجرده إلى معرفة هذه الأسماء ولا إلى معرفة المسمى لو لم يرد السمع بذلك ومدعي ذلك ومجوزه من ناحية العقل بعلم بطلان دعواه ضرورة )
وتكلم على قصة إبراهيم بكلام ليس هذا موضعه إلى أن قال: ( والمعرفة عندنا موهبة من الله وتقع استدلالا لا اضطرارا لأنه لو كانت تعلم بضرورة لاستوى فيها العقلاء )
إلى أن قال: ( فثبت أن المعرفة لا تقع إلا من ناحية السمع على ما نقول: إن الله لا يخلى خلقه في وقت من الأوقات ولا في عصر من الأعصار ممن يعرفه إليهم فتعرف إليهم على ألسنة رسله وأرسل الرسل بالدعاء إليه والدلاة عليه لكيلا تسقط حجج الله
وكان كل نبي يعرف أمته معبودهم كقول نوح لقومه: { يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله } وكقول شعيب: { يا قوم اعبدوا الله }
وكذلك في قصص غيرهم من الرسل كل منهم يديم الدعوة لقومه فإذا قبض كان حكم شريعته قائما في حال الفترة إلى أن ينسخها الله بإرسال نبي آخر فيقوم الثاني لأمته في التعريف والدعوة قيام الماضي لأمته فما أخلى الله الخلق من سمع يعرفونه به ويستدلون به على ربوبيته ومعرفة أسمائه )
تعليق ابن تيمية
[عدل]قلت: ففي هذا الكلام قد جعل العلم ثلاثة أنواع: أحدها: هو الذي يعرف بالعقل والثاني: المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع والثالث: ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع
فالأول: المعرفة المطلقة المجملة بأن هذه المحدثات التي يعجز عنها الخلق لا بد لها من صانع ولكن هذه المعرفة لا تفيد معرفة عينه ولا أسمائه فإن المحدثات إنما تدل على فاعل ما مطلق من حيث الجملة وكذلك سائر ما يذكر من البراهين القياسية فإنما تدل على أمر مطلق كلي إذ كان البرهان المنطقي العقلي لابد فيه من قضية كلية والنتيجة موقوفة على جميع المقدمات فإذا كان المدلول عليه لم تعرف عينه قبل الاستدلال لم يدل هذا الدليل إلى على أمر مطلق كلي
وإيضاح ذلك أنه إذا استدل بحدوث المحدثات على أنه له محدثا وبإمكان الممكنات على أن هناك واجبا فإنه لم يعرف إلا وجود محدث واجب بنفسه وهذا معنى كلي مطلق لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه فلا يكون في ذلك معرفة عينه ولو وصف هذا بصفات مطلقة لم يخرجه ذلك عن أن يكون مطلقا كليا
ثم إنه ضل من ضل من الجهمية نفاة الصفات من المتفلسفة والمعتزلة والمتصوفة حيث أثبتوا وجودا واجبا قديما ثم وصفوه بصفات سلبية توجب امتناع تعينه وأنه لا يكون إلا مطلقا وقد علم أن ما لا يكون مطلقا كليا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان فيكون ما أثبتوه لا وجود له في الخارج
ومن المعلوم الفرق بين كون الدليل لم يدل على عينه وبين نفي تعينه فإن من سلك النظر الصحيح علم أنه موجود معين متميز وإن كان دليله لم يدله على عينه بخلاف من نفى تعينه وجعله مطلقا كليا أو قال ما يستلزم ذلك فإن هذا معطل له في الحقيقة
ومثال هذا من علم بالدليل وجود نبي مرسل أرسله الله إلى خلقه ولم يعلم عينه فهذا قد علمه علما مطلقا وأما من قال: إن هذا النبي إنما يوجد مطلقا لا معينا فهذا قد نفى وجوده في الخارج فإذا تبين أن القياس العقلي البرهاني لا يفيد إلا معرفة مطلقة كلية فمعلوم أن أسماءه لا تعرف إلا بالسمع فبالسمع عرفت أسماء الله وصفاته التي يوصف بها من الكلام
ولولا السمع لما سمي ولا ذكر ولا حمد ولا مدح ولا نعت ولا وصف فإن كان هذا هو الذي أراده بمعرفة عينه ومن هو فلا ريب أنه لا يحصل إلا بالسمع وإن أراد بذلك معرفة أخرى مثل المعرفة بسائر نعوته التي أخبرت بها الرسل فهذا أيضا يعلم بالسمع ومنها ما لا يعلم بمجرد القياس العقلي ومنها ما قد تنازع الناس هل يعلم بالعقل أم لا؟
وأما معرفة عين المسمى الموصوف الذي علم وجوده فهذا في المخلوقات يعرف بالإحساس ظاهرا أو باطنا: إما بالإحساس بعينه أو بالإحساس بخصائصه فمن علم اسم شخص ونعوته أو اسم أرض وحدودها فإنه يعرف عينها بالرؤية: إما بمخبر يخبره أن هذا المعنى هو الموصوف المسمى وإما بأن يرى اختصاص ذلك المعين بتلك الأسماء والصفات
قال تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فمن عرف نعوت النبي ﷺ التي نعت بها في الكتب المتقدمة ثم رآه ورأى خصائصه علم أن هذا هو ذاك لعدم الاشتراك في تلك الصفات
وهذه المعرفة قد تكون بمشاهدة عينه كالذين شاهدوه وقد لا تكون بمشاهدة عينه بل بطرق أخرى يعلم بها أنه هو كما يعلم أن القرآن تلقي عنه وأنه هاجر من مكة إلى المدينة ومات بها وأنه هو المذكور في الأذان وهو الذي يسميه المسلمون محمدا رسول الله وهو صاحب هذه الشريعة التي عليها المسلمون فهذه الأمور تعرف بها عينه من غير مشاهدة
وكذلك قد تعرف عين خلفائه وأصحابه وغيرهم من الناس وتعرف أقوالهم وأفعالهم وغير ذلك من أحوالهم معرفة معينة لااشتراك فيها مع عدم المعاينة
لكن قد شوهد آحاد الأناسي وعلم أن هؤلاء من هذا النوع ولكن لم يشهد ما يشبه النبي ﷺ وخلفاءه من كل وجه وإما شوهد ما يشبههم من بعض الوجوه
فهذا القدر المسمى يعلم بمشاهدة نظيره وأما القدر الفارق فلا بد أن يشارك غيره في وصف آخر فيعلم ما بينهما من القدر المشترك أيضا
فالأمور الغائبة لا يمكن معرفتها ولا التعريف بها إلا بما بينها وبين الأمور الشاهدة من المشابهة لكن إذا عرف أنه لا شركة في ذلك علم أنه واحد معين من علم بعض صفاته وإن جوز فيه الشركة لم يعلم عين ذاك
ففي الجملة معرفة عين من علم بعض صفاته قد يحصل بالسماع وقد يحصل بالعيان وقد يحصل بالاستدلال والعلم بالموصوف قد يعلم بطرق متعددة فمن علم نعت الملك ثم رآه فقد يعلم عينه لما استقر عنده من معرفة صفاته وقد يعلم ذلك بمن يخبره أن ذلك المسمى الموصوف هو هذا المعين
ولهذا إذا كان في كتاب الوقف ونحوه حدود عقار وصفاته فقد تعلم الحدود بالمعاينة والاستدلال بأن لا يدل ما يطابق تلك النعوت إلا هي وقد يعلم بالخبر والشهادة ما يشهد الشهود بأن الحد المسمى الموصوف هو هذا المعين وإذا شهد الشهود على مسمى منسوب وكتب بذلك حاكم إلى حاكم آخر أو شهد شهود فرع على شهود أصل فإنه يعلم عين المسمى المنسوب كمن شهد بنسبة ولا يوجد له شريك فإن وجد له شريك لم تعلم عينه بالشهادة باسمه ونسبه وصار ذلك كالحلية والنعت المشترك وهل يشهد بالتعيين بمجرد الحلية عند الحاجة؟ فيه نزاع بين الفقهاء
وكما أن معرفة عين الموصوف تحصل بطرق فنفس العلم الأول بصفته المختصة يحصل بطرق والعلم بالمعينة قد يكون بالمشاهدة الظاهرة وقد يكون بالمشاهدة الباطنة وقد لا يكون إلا لمجرد الآثار
ومما يبين الفرق بين المعين والمطبق ما ذكره الفقهاء في باب الأعيان المشاهدة الموصوفة فإن المبيع قد يكون معينا وقد لا يكون والمعين قد يكون مشاهدا فهذا يصح بيعه بالإجماع وقد يكون غائبا وفيه ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء وهي ثلاث روايات عن أحمد: أحدها: أنه لا يصح بيعه كظاهر مذهب الشافعي والثاني: يصح وصف أو لم يوصف كمذهب أبي حنيفة والثالث: وهو مذهب مالك والمشهور من مذهب أحمد: أنه يصح بالصفة ولا يصح بدونها
ولو تلف هذا المبيع قبل التمكن من قبضة بآفة سماوية انفسخ البيع فيه باتفاق العلماء ولم يكن للمشتري المطالبة ببدله لأن حقه تعين في عين معينة وأما المبيع المطلق في الذمة فمثل دين السلم فإنه أسلم في شيء موصوف مطلق ولم يعينه وهو بمنزلة الثمن المطلق الذي لم يعين وبمنزلة الديون التي ثبتت مطلقة كالصداق وبدل القرض والأجرة ونحو ذلك
ومثله في الواجبات الشرعية وجوب عين رقبة مطلقة ونحو ذلك فهنا الواجب أمر مطلق لم يتعين بل لمن هو عليه أن يأتي بأي عين من الأعيان إذا حصل به المقصود ولو أتى بمعين فتلف قبل التمكن من قبضه كان للمستحق المطالبة بعين أخرى
وهكذا قال الفقهاء في الهدي المطلق كهدي التمتع والقرآن والهدي المعين كما لو نذر هديا بعينه فإن المعين لو تلف بغير تفريط منه لم يكن عليه بدله بخلاف ما وجب في الذمة فإنه لو عينه وتلف كان عليه إبداله
وكل موجود في الخارج فهو في نفس معين لكن العلم به قد يكون مع العلم بعينه وقد لا يكون مع العلم بعينه كالمبيع إذا كان مشاهدا فقد عرف المشتري عينه وإذا كان غائبا فهو معين في نفسه والمشتري لا يعرف عينه وإنما يعرف منه أمرا مطلقا سواء كان ذلك المطلق لا يحتمل سواه أو يحتمله ويحتمل غيره فإنه قد يبيعه العبد أو الأرض التي من صفتها كذا وكذا ويصفها بصفات تميزها لا تحتمل دخول غيرها فيها وهذا بخلاف المسلم فيه فإنه لا يكون معينا ومتى كان معينا بطل السلم كما لو أسلم في ثمن بستان بعينه أو زرع أرضا بعينها قبل بدو الصلاح كما جاء في ذلك حديث مسند عن النبي ﷺ
وإذا تبين هذا فإذا عرف محدث للحوادث واجب قديم وعلم انتفاء الشركة فيه بأنه واحد لا شريك في الخلق أو غير ذلك من خصائصه التي لا يوصف بها اثنان مثل أنه رب العالمين وأنه على كل شيء قدير ونحو ذلك - فقد تعرف عينه بالعقل - عرف أنه واحد معين في نفس الأمر لا شركة فيه فيطلب القلب حينئذ معرفة عينه بخلاف ما يمكن الشركة فيه
وإذا كان كذلك فقد يعترض المعترض على قول من قال: إن عينه لا تعرف إلا بالسمع ويقول: التعيين حينئذ بما جعل الله في القلوب من ضرورة المعرفة والقصد والتوجه والإشارة إلى ما فوق السماوات فإنها مفطورة على أنه ليس فوق العالم غيره
ولهذا كان منكرو علو الله ومباينته لمخلوقاته من الجهمية الحلولية أو النفاة للحلول والمباينة ونحوهم إنما يثبتون وجودا مطلقا لا يعين ولا يشار إليه بل يقولون بلا إشارة ولا تعيين وهؤلاء يثبتون وجودا مطلقا كليا لا يعينونه لا ببواطنهم ولا بظواهرهم
ولهذا يبقون في حيرة واضطراب تارة يجعلونه حالا في المخلوقات لا يختص بشيء وتارة يسلبونه هذا وهذا ويقولون: الحق لا يقيد ولا يخصص ولا يقبل الإشارة والتعيين نحو ذلك من العبارات التي مضمونها في الحقيقة نفي ثبوته في الخارج فإن كل موجود في الخارج فإنه متعين متميز عن غيره مختص بخصائصه التي لا يشركه فيها غيره
وهذا هو المقيد في اصطلاحهم وهم يظنون أن ما ذكره ثابت في الخارج لكنهم ضالون في ذلك وضلالهم كضلال في أمور كثيرة لا توجد إلا في الأذهان ظنونا ثابتة في الأعيان ومن هنا ضل من ضل في مسألة المعدوم: هل هو شيء أم لا؟ وفي مسألة الأحوال وفي مسألة وجود الموجودات: هل هو ماهيتها الثابتة في الخارج أو غير ذلك؟ والكلي الطبيعي: هل هو ثابت في الخارج أم لا؟
وجماع أمرهم أنهم جعلوا الأمور العقلية التي لا تكون ثابتة إلا في العقل - كالمطلقات الكلية ونحوها - أمورا موجودة ثابتة في الخارج وزعموا أن هذا هو الغيب الذي أخبرت به الرسل وذلك ضلال
فإن الغيب الذي أخبرت به الرسل هو مما يمكن الإحساس به في الجملة ليس مما لا يمكن الإحساس به لكن مشاهدته والإحساس به يكون بعد الموت وفي الدار الآخرة
وهناك الحياة وتوابعها من الإحساس والعمل أقوى وأكمل فإن الدار الآخرة لهي الحيوان
فالرسل لم تفرق بين الغيب والشهادة لأن أحدهما معقول والآخر محسوس كما ظن ذلك من ظنه من المتفلسفة والجهمية ومن شركهم في بعض ذلك وإنما فرقت بأن أحدهما مشهود الآن والآخر غائب عنا لا نشهده الآن ولهذا سماه الله تعالى غيبا
قال تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب } لم يسمه مقولا وقد بسط الكلام على هذا في موضعه
والمقصود هنا أن ما عرف وصفه تعرف عينه بوجه من وجوه الإحساس إما بذاته وإما ببعض خصائصه والله تعالى يختص بما فوق العالم فالعباد يشيرون إلى ذلك ويعلمون أن خالق العالم هو الذي فوق العالم لا يشركه في ذلك أحد وهذا العلم قد يحصل بالفطرة وقد يحصل بالاستدلال والقياس وقد يحصل بالسمع من الرسل كما أخبرت بأن الله فوق العالم
ولهذا قال فرعون: { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا }
ولهذا كان معراج نبينا ﷺ إلى السماء وكذلك سائر ما تعرفه القلوب من خصائصه
وقد يقال: هو تعيين يمكن حصوله بدون السمع وذلك أن معرفة عينه بالمشاهدة لا تحصل في الدنيا فلم يبق إلا معرفة عينه بغير هذه الطريق كما يعرف عين الرسول ﷺ من لم يشاهده بمعرفة ما يعرفه من خصائصه
وأما القائل: إن عينه لا تعرف إلا بالسمع فقد يقول: إن ما حصل للقلوب من معرفة عينه إنما حصل بالسمع
والناس متنازعون في كونه فوق العالم: هل هو من الصفات التي تعلم بالعقل؟ كما هو قول أكثر السلف والأئمة وهو قول ابن كلاب وابن كرام وآخر قولي القاضي أبي يعلى أو هو من الصفات السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع كما هو قول كثير من أصحاب الأشعري وهو أول قولي القاضي أبي يعلى وطائفة معه
فابن أبي موسى وأمثاله قد يقولون بهذا ويقولون: لم نعلم ذلك إلا بالسمع
ويقولون: لم تعلم أنه فوق السماء إلا بالسمع لكن كلامه أعم من ذلك
وكلامهم يصح إذا فسر بأنواع من التعيين التي لم تعلم إلا بالسمع كالصفات الخبرية أو فسر بأن السمع هو الذي أرشد العقول إلى ما به يعلم التعيين وأنه لولا إرشاد السمع لم يعلم ذلك أو بأنه أراد بالتعيين معرفة الأسماء والصفات القولية التي يوصف الله بها أو أراد بذلك أن كثيرا من الناس - أو أكثرهم - لا تحصل لهم معرفة شيء من التعيين إلا بالسمع
وكثير ممن يقول بوجوب النظر وأنه أول الواجبات أو أول الواجبات: المعرفة يقولون مع ذلك: إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع كما ذكر ذلك أبو فرج المقدسي وابنه عبد الوهاب وابن درباس وغيرهم كما قال من قال قبلهم: إنها لا تحصل إلا بالشرع
وهؤلاء يريدون بالعقل: الغريزة ولوازمها من العلوم التي تحصل لعامة العقلاء وأن ذلك مجردة لا يوجب المعرفة بل لا بد من أمر زائد على ذلك كما قالوا في استدلالهم: إن المعرفة لو كانت بالعقل لكان كل عاقل عارفا ولما وجد جماعة من العقلاء كفارا دل على أن المعرفة لم تثبت بالعقل
ألا ترى أن ما يدرك بالضرورة لا يختلف أرباب النظر فيه؟ وهذا إنما ينفي المعرفة الإيمانية وإلا فعامة العقلاء يقرون بالصانع
وأيضا فهذا ينفي أن تكون المعرفة الإيمانية ضرورية وهو أيضا يوجب أن الطرق العقلية لا تفصل مورد النزاع ولا يحصل عليها الإجماع وهوكما قالوا فإن الطرق القياسية العقلية النظرية وإن كان منها ما يفضى إلى العلم فهي لا تفصل النزاع بين أهل الأرض تارة لدقتها وغموضها وتارةلأن النفوس قد تنازع في المقدمات الضرورية كما ينازع أكثر النظار في كثير من المقدمات الضرورية
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع إلا بالرد إلى الكتب المنزلة
قال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فجعل الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الكتاب المنزل من السماء
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فأمر عند التنازع بالرد إلى الله والرسول
كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي
[عدل]ولهذا قال هؤلاء المقررون لكون المعرفة لاتحصل بمجرد العقل ما قاله عبد الوهاب ابن أبي الفرج وغيره: ( إنا نقول إن المعرفة لو كانت بالعقل لوجب أن يكون كل عاقل عارفا بالله تعالى مجمعا على رأي واحد في التوحيد ولما وجدنا جماعة من العقلاء كفارا مع صحة عقولهم ودقة نظرهم - دل على أن المعرفة لم تحصل بالعقل لأن العقل حاسة من جملة الحواس فالحواس لا تختلف في محسوساتها ألا ترى أن ما يدرك بالنظر من أسود وأحمر وأخضر وأصفر وحيوان وحجر لا يختلف أرباب النظر فيه؟ فدل على أن معرفة الله حصلت بمعنى غير العقل لوجود الأختلاف في المعرفة والاتفاق فيما طريقة العقل والحواس )
تعليق ابن تيمية
[عدل]وتسمية هؤلاء للعقل حاسة من الحواس هومما نازعهم فيه طوائف من أصحابهم وغيرهم كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره والنزاع في ذلك عند التحقيق يرجع إلى اللفظ ولذلك قالوا: لوكان العقل علة في معرفة الباري لوجب أن تحصل المعرفة بوجوده وتعدم بعدمه كالمنظورات تدرك بوجود البصر وتعدم معرفتها ونظرها بعدم البصر وكذلك المسموعات وسائر المحسوسات
ولما رأينا المسلم يرتد عن الإسلام مع وجود عقله الذي كان به قبل الارتداد مؤمنا علمنا أن المعرفة حصلت له بغير ذلك وكذلك نرى المؤمن بالله يذهب عقله ويحكم بجنونه وهو باق على المعرفة مقر بالتوحيد عارف بالله وعقلاء كثيرون يكفرون بالله ويشركون به فدل على أن المعرفة مستفادة بمعنى غير العقل
وهذا الكلام يقتضي أن مجرد الغريزة ولوازمها لا تستلزم المعرفة الواجبة على العباد وهذا مما لا ينازع فيه أحد فإن من يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل يقول: إن أصل الإقرار بالصانع يحصل بعلوم عقلية ولكن ليس ذلك هو جميع المعرفة الواجبة ولا بمجرد ذلك يصير مؤمنا
وهذا العقل هوالعقل الذي هو شرط في الأمر والنهي وقد يراد بالعقل ما تحصل به النجاة كما قال تعالى عن أهل النار: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }
وقال تعالى: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }
وقال تعالى: { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }
وقال: { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } وأمثال ذلك في القرآن
واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل بقوله تعالى: { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله }
وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جحده بآيات الله فتبين أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع والمعرفة المنجية من عذاب الله وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجب له
احتجوا أيضا بما ذكروه [ عن النبي ﷺ أنه قال: تعلموا العلم فإن تعليمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه به يعرف الله ويعبد وبه يمجد الله ويوحد هو إمام العمل والعمل تابعه يرفع الله بالعلم أقواما فيجعلهم للناس قادة وأئمة يقتدى بهم وينتهى إلى رأيهم ]
قالوا: فوجه الدليل قوله: ( به يعرف الله ويعبد ) وهذا الكلام معروف عن معاذ بين جبل رضي الله عنه رووه عنه بالأسانيد المعروفة وهو كلام حسن ولكن روايته مرفوعا فيه نظر وفيه: أن الله يعرف ويعبد بالعلم لا بمجرد الغريزة العقلية وهذا صحيح لا ينازع فيه من يتصور ما يقول
ومن يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل يقول: إنما تحصل بعلوم عقلية أي يمكن معرفة صحتها بنظر العقل لا يقول: إن نفس العقل - الذي هو الغريزة ولوازمها - يوجب حصول المعرفة والعبادة
وقد تنازع كثير من الناس في مسمى العلم والعقل أيهما أشرف؟ وأكثر ذلك منازعات لفظية فإن العقل قد يراد به: الغريزة وقد يراد به: علم يحصل بالغريزة وقد يراد به: عمل بالعلم
فإذا أريد به علم كان أحدهما من جنس الآخر لكن قد يراد بالعلم: الكلام المأثور عن المعصوم فإنه قد ثبت أنه علم لقوله: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } وأمثاله
ويراد بالعقل: الغريزة فهنا يكون أحدهما غير الآخر ولا ريب أن مسمى العلم بهذا الاعتبار أشرف من مسمى العقل فإن مسمى العلم هنا كلام الله تعالى وكلام الله أشرف من الغريزة التي يشترك فيها المسلم والكافر
وأيضا فقد تسمى العلوم المسموعة عقلا كما قيل :
رأيت العقل عقلين... فمطبوع ومسموع
فلا ينفع مسموع... إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع العين... وضوء الشمس ممنوع
وأما العمل لعلم وهو جلب ما ينفع الإنسان ودفع ما يضره بالنظر في العواقب فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة كالآثار المروية في فضائل العقل
ومنه الحديث المأثور عن النبي ﷺ وإن كان مرسلا: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
وبهذا الاعتبار فالعقل يتضمن العلم والعلم جزء مسماه ومعلوم أن مجموع العلم والعمل به أفضل من العلم الذي لا يعمل به
وهذا كما قال غير واحد من السلف في مسمى الحكمة كما قال مالك بن أنس: ( الحكمة معرفة الدين والعمل به ) وكذلك قال الفضيل بن عياض وابن قتيبة وغير واحد من السلف قال الشاعر :
وكيف يصح أن تدعى حكيما... وأنت لكل ما تهوى ركوب
وقال آخر :
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
وهذا المعنى موجود في سائر الألسنة لكن لكل أمة حكمة بحسبها كما أن لكل أمة دينا فاليونان لهم ما يسمونه حكمة وكذلك الهند وأما حكمة أهل الملل فهي أجل من ذلك
ومما احتج به هؤلاء أنهم قالوا: لا يدرك بالعقل إلا ما يكنفه العقل ويحيط به علما والباري سبحانه وتعالى لا تدركه العقول ولا تحيط به لقوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وقوله: { ولا يحيطون به علما }
قال ذو النون المصري: العقل عاجز ولا يدل إلا على عاجز فأما الربوبية فلا سبيل إلى كيفية إدراكها بالعقول ليس هو إلا الرضا والتسليم والإيمان والتصديق ) لكن هذا الكلام وما يشبهه إنما يقتضي أن معرفة كنهه وحقيقته لا تدركه العقول وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء وإنما نازع في ذلك طوائف من متكلمي المعتزلة ومن وافقهم
ولهذا كان السلف والائمة يذكرون أنهم لا يعرفون كيفية صفاته كقولهم: ( الأستواء معلوم والكيف مجهول ) وهذا الكيف المجهول هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وهذا هو النوع الثالث من العلم الذي ذكر ابن أبي موسى أن الله انفرد به
وقد قال ابن عباس: ( التفسير أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله: من ادعى علمه فهو كاذب ) وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن لفظ التأويل لفظ مشترك بحسب الاصطلاحات: بين صرف اللفظ عن الأحتمال الراجح إلى المرجوح وبين تفسير اللفظ وبيان معناه وبين الحقيقة التي هي نفس ما هو عليه في الخارج وأن التأويل بالمعنى الثاني كان السلف يعلمونه ويتكلمون به وبالمعنى الثالث انفرد الله به وأما بالمعنى الأول فهو كتحريفات الجهمية التي أنكرها السلف وذموها
ومما احتج به هؤلاء: القدر وأن العلم والإيمان يحصل للعبد بفضل الله ورحمته
تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه
[عدل]قال عبد الوهاب: ( وأيضا فإن الله قال في حق المؤمنين: { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } فاعلم أن الإيمان من تفضله وكتبه في القلوب فأي عمل للعقل بعد ذلك؟ وإنما العقل بمنزلة القارىء للمكتوب فإن كان في القلب شيء مكتوب قرأه العقل كالمسطور يدركه النظر وإذا لم يكن في القلوب شيء مكتوب لم يفد العقل فائدة ) قال: ( ثم نقول: هل نال الأنبياء النبوة بعقولهم؟ أم باصطفاء الله لهم وإرساله إليهم الملائكة؟ فإن قال: بعقولهم فقد أكذبه الله تعالى بقوله: { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وإذا ثبت أن العقل لم يفد الرسالة والنبوة وإنما ذلك اختصاص من الله لهم كذلك معرفة الله والإيمان به ليس للعقل في ذلك شيء وإنما العقل شرط في التكليف والخطاب بالشرع كالحياة والوجود )
قال والده أبو الفرج: قال بعض أصحابنا: عرف بنور الهداية وقال غيره: عرفنا نفسه بتعرفه والجميع واحد
قال: ( وقد روي ذلك عن جماعة من السلف الصالح فسئل بعضهم: أعرفت الله بمحمد أم عرفت الله به؟ فقال: عرفت الله به وعرفت محمدا بالله ولو عرفت الله بمحمد لكانت المنة لمحمد دون الله )
قلت: هذه الطريقة تصلح أن تكون ردا على القدرية من المعتزلة ونحوهم الذين يقولون: إن ما يحصل باختيار العبد من علم وعمل فإنه هو الذي أحدثه بدون معونة من الله له وله هدى يسره له خصه به دون الكافر بل يجعلون المؤمن والكافر سواء فيما فعل الله بهما من أسباب الهداية حيث أرسل الرسول إليهما جميعا وخلق لكل منهما استطاعة يتمكن بها من الإيمان وأزاح علةكل منهما
بل يقولون: إنه يجب عليه أن يفعل بكل منهما من اللطف الذي يؤمن به اختيارا كل ما يقدر عليه فيفعل به الأصلح في دينه وأنه ليس في المقدور مما يؤمن به اختيار شيء ولكن المؤمنون - كأبي بكر وعلي آمنا بأنفسهما والكفار - كأبي لهب وأبي جهل - كفرا بأنفسهما من غير أن يختص الله المؤمن بأسباب تقتضي إيمانه ولهذا قال لهم الناس: إذا كان الأمر كذلك وهما مستويان في أسباب الإيمان فلما أختص أحدهما بوجود الإيمان منه دون الآخر؟ وإذا قالوا بمشيئته وقدرته قالوا لهم: إن كان للكافر مثل ذلك بطل الاختصاص وإن لم يكن له مثل ذلك كان المؤمن مخصوصا بأسباب من الهداية لم يحصل مثلها للكافر
وأيضا فإن الله يسأل الهدى إلى الصراط المستقيم في كل صلاة والهدى المشترك بين المؤمن والكافر قد فعله بل يجب عنده عليه فعله فما المطلوب بالدعاء بعد ذلك؟
وأيضا فإن الله تعالى قال: { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } الآية فبين أنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان
والقدرية من المعتزلة والشيعة تتأول ذلك بأنه حبب الإيمان إلى كل مكلف وزينة بما أظهره من دلائل حسنه وكره الكفر بما أظهر من دلائل قبحه
فيقال لهم: أول الآية وآخرها خطاب للمؤمنين بقوله: { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } وقال في آخرها: { أولئك هم الراشدون } فبين أن الذين حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر هم الراشدون والكفار ليسوا براشدين ولو كان قد فعل بالكفار كما فعل بهم لم يصح أن يمتن عليهم بما يشعر اختصاصهم به
كما قال في أثناء السورة: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } فلو كان المراد بالهداية الهداية التي يشترك فيها المؤمن والكافر لم يقل: إن كنتم صادقين فإن تلك حاصلة سواء كانوا صادقين في قولهم أمناء أولم يكونوا صادقين
وهذا كقوله: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } وأمثال ذلك مما يبين اختصاص المؤمنين بهدى ليس للكفار
كقوله: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا }
وقوله: { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة }
وقوله: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } ومثل هذا في القرآن كثير وليس هذا موضع بسط هذه المسألة ولكن المقصود التنبيه على المأخذ
فالمعتزلة يقولون إن ما يحصل بكسب العبد واختياره من المعرفة ليس مما جعله الله في قلبه ويقولون: إن المعرفة الواجبة لا تكون مما يقذفها الله في قلب العبد لأن الواجب لا يكون إلا مقدورا للعبد ومقدورات العباد عندهم لا يفعلها الله ولا يحدثها ولا له عليها قدرة وقد يقولون: إنه لا يستحق الثواب إلا على مقدوره
ولهذا يقول من يقول منهم: إنه يمتنع أن تكون ضرورية لأنه حينئذ لا يستحق عليها الثواب لكن هنا هم متنازعون فيه لإمكان أن يكون الثواب على ما سوى ذلك كما أن الحياة والقدرة على النظر والعلوم الضرورية هي من خلق الله عندهم ولا ثواب فيه ولا أجر لها
ولهذا جوز أهل الإثبات أن تقع المعارف النظرية ضرورية وبالعكس ولأن ذلك لا ينافي ما وعد الله به من الثواب عندهم بل يجوز عندهم أن يجعل الله في قلب العبد من معرفته ومحبته ما يحصل بغير كسبه ويثيبه عليه أعظم الثواب
فالذين احتجوا من أهل السنة على أن المعرفة والإيمان تحصل للعبد بفضل الله ورحمته وهدايته وتعريفه ونحو ذلك من العبارات يتضمن قولهم إبطال قول هؤلاء القدرية
وهذا صحيح لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن المعرفة لا يمكن أن تحصل بنظر العقل كما أنه ليس في ذلك ما يقتضي أنها لا تحصل بتعليم الرسول والعلماء والمؤمنين ودعائهم وبيانهم واستدلالهم بل من المعلوم أن العلم يحصل في قلب العبد تارة بما يسمعه من الناس من البيان والتعليم: إما إرشادا إلى الدليل العقلي وإما اخبارا بالحق الواقع
وتحصل تارة بما يقذفه في قلبه من النظر والاعتبار والاستدلال الذي ينعقد في قلبه كما يحصل تارة بكسبه واستدلاله
ويحصل تارة بما يضطره الله إليه من العلم من غير إكتساب منه وإن كان العلم الذي حصل باكتسابه ونظره هو مضطر إليه في آخر الأمر فلا يمكن العالم العارف بعد حصول المعرفة في قلبه بدليل أو غير دليل أن يدفع ذلك عن قلبه اللهم إلا بأن يسعى فيما يوجب نسيانه وغفلته عن ذلك العلم وقد لا يمكنه تحصيل الغفلة والنسيان
وذلك أن ما كتبه الله في قلوب المؤمنين من الإيمان سواء حصل بسبب من العبد كنظره واستدلاله أو بسبب من غيره أو بدون ذلك هو والأسباب التي بها حصل بقضاء الله وقدره وهي من نعمة الله على عبده فإن الله هو الذي من بالأسباب والمسببات فمن ظن أن المعرفة والإيمان يحصل بمجرد عقله ونظره واستدلاله - كما تقوله القدرية - كان ضالا وهذا هو الذي أبطله هؤلاء
وقولهم: إن العقل شرط في التكليف والخطاب كالوجود والحياة كلام صحيح والشرط له مدخل في حصول المشروط به كما للحياة مدخل في الأمور المشروطة بها
والعقل قد يراد به الغريزة وقد يراد به نوع من العلم ونوع من العمل وكل هذه الأمور هي من الأمور المعينة على حصول الإيمان ولهذا يتفاضل الناس في الإيمان بحسب تفاضلهم في ذلك
وأهل السنة لا ينكرون وجود ما خلقه الله من الأسباب ولا يجعلونها مستقله بالآثار بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقف على سبب آخر وله موانع تمنع حكمه كما أن الشمس سبب في الشعاع وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به وله مانع كالسحاب والسقف
والله خالق الأسباب كلها ودافع الموانع ولهذا كان النبي ﷺ يقول في خطبته: [ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ]
كما قال تعالى: ( { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } وقال تعالى: { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } وقال تعالى: { ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه }
ولهذا كان مذهب أهل السنة أن ما يحصل بالقلب من العلم وإن كان بكسب العبد ونظره واستدلاله واستماعه ونحو ذلك فإن الله تعالى هو الذي أثبت ذلك العلم في قلبه وهو حاصل في قلبه بفضل الله وإحسانه وفعله
والقدرية لا يجعلونه من فعل الله بل يقولون: هو متولد عن نظره كتولد الشبع عن الأكل والري عن الشرب والجرح عن الجرح فيجعلون هذه الأمور المتولدات عن الأسباب المباشرة من فعل العبد فقط كما يقولون في الأمور المباشرة
وقد عارضهم من ناقضهم من متكلمة الإثبات فلم يجعل للعبد فعلا ولا أثرا في هذا المتولدات بل جعلها من مخلوقات الله التي لا تدخل تحت مقدور العباد ولا فعلهم ولم يجعل للعبد فعلا إلا ما كان في محل قدرته وهو ما قام ببدنه دون ما خرج عن ذلك
والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة علىحصول الشبع
وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين اللذين أحدهما فعل العبد وهو خالق للسببين جميعا
ولهذا كان العبد مثابا على المتولدات والله تعالى يكتب له بها عملا وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة في آيتين في القرآن
قال تعالى: { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولدا فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات وكذلك غير الكافر
وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك ثم قال تعالى: { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم } فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه: { إلا كتب لهم } ولم يقل: به عمل صالح
وأما الجوع والعطش والنصب وغيظ الكفار ما ينال منهم فهو من المتولدات فقال فيه: { إلا كتب لهم به عمل صالح } فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك وإلا فلا يكتب للإنسان بدون سبب من عمله بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله
قال تعالى: { نكتب ما قدموا وآثارهم }
وقال ﷺ في الحديث الصحيح: [ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ]
وقال في الحديث الصحيح: [ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ]
ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة وينهى عنها أخرى كما قال تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }
وقال تعالى: { إن تنصروا الله ينصركم }
وقال: { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } وقال تعالى: { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين }
فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين فهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن القدرية لما كانت تزعم أن ما يحصل من الإيمان في القلب ليس من فعل الله بل هو من فعل العبد فقط وأنه خارج عن مقدور الله وعن ما من الله به على العبد - كان ما ذكر ردا عليهم
وأما من أقر بأن ذلك من فضل الله وإحسانه وجعل ما يحصل بالنظر والاستدلال من فضل الله وإحسانه فلا حجة عليه إذا قال إنه بنظر العقل واستدلاله قد يهدي الله العبد ويجعل في قلبه علما نافعا
وقد تنازع أهل الإثبات في اقتضاء النظر الصحيح للعلم: هل هو بطريق التضمن الذي يمتنع الفكاكة عنه عقلا؟ أو بطريق إجراء الله العادة التي يمكن نقضها؟ وبكل حال فالعبد مفتقر إلى الله في أن يهديه ويلهمه رشده وإذا حصل له علم بدليل عقلي فهو مفتقر إلى الله في أن يحدث في قلبه تصور مقدمات ذلك الدليل ويجمعها في قلبه ثم يحدث العلم الذي حصل بها
وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظرا ويعميه عن أظهر الأشياء وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرا ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه فلا حول ولا قوة إلا به
فمن اتكل على نظره واستدلاله أو عقله ومعرفته خذل ولهذا كان النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة كثيرا ما يقول: [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] ويقول في يمينه: [ لا ومقلب القلوب ] ويقول: [ والذي نفسي بيده ] ويقول: [ ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن وإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ]
وكان إذا قام من الليل يقول: [ اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذانك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ] وكان يقول هو وأصحابه في ارتجاجهم :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا... وثبت الأقدام إن لاقينا
وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبب إليه الإيمان ويبغض إليه الكفر وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده فيكون من المعاندين الجاحدين
قال تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا }
وقال: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فكما أن الإنسان فيما يكتسبه من الأعمال مفتقر إلى الله محتاج إلى معونته فإنه لا حول ولا قوة إلا به كذلك فيما يكتسبه من العلوم ومع هذا فليس لأحد حجة على الله في أن يدع ما أمر به من الأسباب التي يحصل بها العلم النافع والعمل الصالح ولكن الشأن في تعيين الأسباب فيذم من المعتزلة أنهم أحدثوا طرقا زعموا أن معرفة الله لا تحصل إلا بها وزعموا أن المعرفة تجب بها بفعل العبد لا بفعل الله
ومن الناس من قد يوافقهم على إحدى البدعتين دون الأخرى وكثير من الناس قد اختلف كلامه في هذا الأصل تارة يقول: إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويجعل أول الواجبات النظر أو المعرفة الحاصلة به وقد يعين طريق النظر كما فعل ذلك القاضي أبي يعلى في المعتمد موافقة للقاضي أبي بكر وأمثاله من الموافقين في هذا الأصل للمعتزلة وكما فعل ابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم
ومن توابع ذلك أن النظر المفيد للعلم لا يكون إلا نظرا في دليل والنظر الذي يوجبونه يكون نظرا فيما يعلم الناظر أنه دليل لأنه لو علم قبل النظر أنه دليل لعلم ثبوت المدلول وإذا كان عالما به لم يحتج إلى الاستدلال عليه فيوجبون سلوك طريق لا يعلم السالك أنه طريق
كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر
[عدل]ثم أن القاضي أبا يعلى في كتابه المعروف بعيون المسائل الذي صنفه في الخلاف من المعتزلة والأشعرية ذكر ما يخالف ذلك فقال: ( مسألة: مثبتو النبوات تحصل لهم المعرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول خلافا للأشعرية في قولهم: لا تحصل حتى ننظر نستدل بدلائل العقول دليلنا أن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علمنا أن هناك مرسلا أرسله إذ لا يكون هناك نبي إلى وهناك مرسل وإذا ثبت أن هناك مرسل أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته ولأنه لما لم يقف وجود المعرفة على النظر في دلائل العقول بل وجبت بالشرع كذلك طريقها جاز أن يحصل بالشرع دون دلائل العقول ولأن النبي ﷺ قال: [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ] فحكم بصحة إيمانهم بالدعاء إلى الشهادتين والإجاب إليها من غير أن يوجد منهم نظر واستدلال )
قال: ( واحتج المخالف بأن الله أمر بالنظر والاستدلال في دلائله فقال تعالى: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقال: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } وقال: { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }
وقال: { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها }
وقال: { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } وإذا أمر بذلك دل على أن النظر يثمر المعرفة )
قال: ( والجواب أنا لا نمنع حصول المعرفة به وإنما كلامنا هل تحصل بغيره أم لا؟ وقد دللنا على حصوله بغيرها من الوجه الذي ذكرنا )
تعليق ابن تيمية
[عدل]ولقائل أن يقول: أما قوله: ( إن المعرفة يجوز حصولها بالشرع ) فهذا مسلم لكن حصولها بالشرع على وجوه :
أحدهما: أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع فتكون عقلية شرعية
الثاني: أن المعرفة المنفصلة بأسماء الله وصفاته التي بها يحصل الإيمان تحصل بالشرع كقوله تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا }
وقوله: { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }
وقوله: { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه
كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع
وأما كون مجرد الوجوب بالشرع فلا يدل على إمكان الحصول بمجرد الشرع
ونظير هذا استدلال طائفة كالشيخ أبي الفرج الشيرازي على أ وجوبها وحصولها بالشرع فقالوا: ( لا يخلو إما أن تكون معرفة الباري وجبت أو حصلت بالشرع دون العقل أو بالعقل دون الشرع أو بهما جميعا لا يجوز أن يكون ذلك بالعقل دون الشرع لما بينا
ولا يجوز أن يكون ذلك بالشرع والعقل لأنه لا يخلو إما أن يكون ما يعرف بالعقل يوجد في الشرع أو لا يوجد ولا يجوز أن يقال: لا يوجد في الشرع لأن الله تعالى قال: { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وإذا كان ذلك موجودا في الشرع فلا حاجة بنا إلى ذكر العقل )
تعليق ابن تيمية
[عدل]فيقال: هذه الطريقة تفيد أن ذلك موجود في الشرع ويستدل على ذلك بقوله: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }
وقوله: { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء }
وقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } ونحو ذلك مما فيه الاستدلال بذلك أجود من الاستدلال بقوله: { ما فرطنا في الكتاب من شيء } لأن الكتاب هنا في أشهر القولين - هو اللوح المحفوظ كما يدل عليه السياق في قوله: { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء }
وإذا كان الشيء موجودا في الشرع فذلك يحصل بأن يكون في القرآن الدلالة على الطريق العقلية والتنبيه عليها والبيان لها والإرشاد إليها والقرآن ملآن من ذلك فتكون شرعية بمعنى أن الشرع هدى إليها عقلية بمعنى أنه يعرف صحتها بالعقل فقد جمعت وصفي الكمال
وأيضا فإذا كان الشرع قد دل على شيء أو أوجبه وقدر أن في العقل ما يوافق ذلك لم يضر ذلك وإن كان قد يستغنى عنه فلا يطعن في صحته للاستغناء عنه
وأما كون النبي ﷺ لم يطالب الناس بالنظر والاستدلال فهذا دليل قاطع على أن الواجب متأدى بدون الطرق التي أحدثها الناس وأبدعها
وأما الوجه الأول وهو قوله: ( إن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علم أن هناك مرسلا أرسله لكون ثبوت لارسالة يستلزم ثبوت المرسل ) فهذا لا بد فيه من تقدير وهذا الكلام الذي قاله من أن العلم بالرسول يتضمن العلم بالمرسل كلام صحيح فإن العلم بالإضافة يستلزم العلم بالمضاف والمضاف إليه لكن المعترض يقول له: المعجزة لا تدل على الرسالة إلا بعد العلم بإثبات الصانع ثم يعلم بعد ذلك صدق الرسول إما لكون المعجز يجري مجرى التصديق والعلم بذلك ضروري في العادة وإما لكون المعجز لم يدل على الصدق للزم عجز الرب عن طريق يصدق به الرسول وإما لكون تصديق الكذاب قبيحا هو منزه عن فعل القبيح ونحو ذلك من الطرق التي سلكوها من سلكها من أهل النظر القائلين بأن صدق الرسول لا يعرف إلا بالمعجزة
والطريقان الأولان هما طريقا الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأمثاله والثاني هو طريق المعتزلة ومن وافقهم كأبي الخطاب وأمثاله
وأما القائلون بأن صدق الرسول يعرف بطرق أخرى غير المعجزة فلا يحتاجون إلى هذا وقد بسط الكلام على ذلك في موضعه
والمقصود هنا أن قول القائل: إن مثبتي النبوات تحصل لهم معرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول وإنا لا نمنع صحة النظر ولا نمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا: هل يحصل بغيره؟ يحتاج إلى بيان حصول المعرفة لمثبتي النبوات
والقاضي في هذا قد سلك مسلك الخطابي كما قد كتبنا كلامه وقد قال: ( إنما يثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه: أحدها: ثبوت النبوات بالمعجزات التي أوردها نبيهم ) إلى قوله: ( فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في أنفسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله وإثبات صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن له صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته ) إلى آخر كلامه
وهذا الكلام يمكن تقريره بطرق :
أحدها: بأن يقال: الإقرار بالصانع ضروري لا يحتاج إلى نظر فإذا شوهدت المعجزات أمكن أن يعلم بها صدق الرسول
الثاني: أن يقال: نفس المعجزات يعلم بها صدق الرسول المتضمن إثبات مرسله لأنه دالة بنفسها على ثبوت الصانع المحدث لها وأنه أحدثها لتصديق الرسول وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم من العبد معرفة الإقرار بالصانع
وقد يقال: إن قصة موسى من هذا الباب قال تعالى: { كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين * وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين }
وفي سورة طه: { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى } إلى آخر القصة
ففرعون كان منكرا للصانع مستفهما عنه استفهام إنكار سواء كان في الباطن مقرا به أو لم يكن ثم طلب من موسى آية فأظهر آيته ودل بها على إثبات إلهية ربه وإثبات نبوته جميعا
كما قال: { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين }
ولهذا قال السحرة لما عارضوا معجزته بسحرهم فبطل سحرهم تبين أن تلك آية لا يقدر عليها المخلوقين: { قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون } فكان إيمانهم بالله لما شاهدوا معجزة موسى ﷺ فكانت المعجزة مبينة للعلم بالصانع وبصدق رسوله
وذلك أن الآيات التي يستدل بها على ثبوت الصانع تدل المعجزة كدلالتها وأعظم وإذا كانت دلالتها على صدق الرسول معلومة بالاضطرار كالمثل الذي ضربوه في أن رجلا لو تصدى بحضرة ملك مطاع وقال: إن كنت رسولك فانقض عادتك وقم ثم اقعد ثم قم ثم اقعد فخرق الملك عادته وفعل ما طلبه المدعي على وفق دعواه - لعلم الحاضرون بالضرورة أنه فعل ذلك تصديقا له
فمن المعلوم أنه إذا تنازع رجلان: هل داخل هذه الدار ناسخ يكتب خطا مليحا؟ فأخذ المدعى ورقا أبيض ومعه شعر قد صنعوه في تلك الحال في ورقة أخرى وقال: إن كان هناك ناسخ فلينسخ هذا الشعر في هذه الورقة البيضاء فأخرجت إليهم الورقة البيضاء وقد كتب فيها ذلك الشعر - تيقنوا أن هناك من ينسخ
فكذلك من نازع في إثبات صانع يقلب العادات ويغير العالم عن نظامه فأظهر المدعي للرسالة المعجز الدال على ذلك - علم بالضرورة ثبوت الصانع الذي يخرق العادات ويغير العالم عن نظامه المعتاد
وبالجملة فانقلاب العصا حية أمر يدل على ثبوت صانع قدير عليم حكيم أعظم من دلالة ما اعيد من خلق الإنسان من نطفة فإذا كان ذاك يدل بنفسه على إثبات الصانع فهذا أولى وليس هذا الموضع بسط هذا
وإنما المقصود التنبيه على أن المعجزات قد يعلم بها ثبوت الصانع وصدق رسوله معا وما ذكرناه من كون الإقرار بالصانع فطري ضروري هو قول أكثر الناس حتى عامة فرق أهل الكلام قال بذلك طوائف منهم من المعتزلة والشيعة وغيرهم
وكون المعرفة يمكن حصولها بالضرورة لم ينازع فيه إلا شذوذ من أهل الكلام ولكن نازع كثير منهم في الواقع وزعم أن الواقع أنها لا تحصل لأكثر الناس إلا بالنظر وجمهور الناس نازعوه في هذا وقالوا: بل هي حاصلة لأكثر الناس فطرة وضرورة
كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر
[عدل]وابن الزاغوني ممن يقول بوجوب النظر وأن المعرفة لا تحصل إلا به حتى قال: ( فصل: إذا قال القائل: أنا أعتقد حدوث العالم والتوحيد وصحة الدين وأقر بالنبوة لا بطريق النظر ولااستدلال ولا عن نظر في حجة أو دليل لكن بطريق التقليد في ذلك أو مما سوى ذلك مما لا يستدل إلى معرفة ثابتة عن نظر في حجة أو دليل بحيث ينتهي الاستدلال إلى العلم الحق فهذا ليس هو بمؤمن ولا نحكم بأنه مؤمن عند الله ولا يثاب على هذا الإيمان بل هو معاقب ملوم على ترك ما أمر به من العلم بالله وصحة الدين والنبوة والنظر فيما يقتضي به النظر فيه إلى معرفته بذلك بطريق اليقين )
قال: ( وقالت طائفة: هو مؤمن عندنا وعند الله إذا صادق اعتقاده التوحيد والنبوة وما يجب عليه اعتقاده من الحق في المعارف الدينية سواء كان ممن يتهيأ له ذلك بطريق انقطع فيه بأدلته أو ممن لا يتهيأ له ذلك )
قال: ( وقالت طائفة: هو مؤمن في الظاهر عندنا ولا نعلم: هل هو مؤمن عند الله أم لا؟ وقالت طائفة: نحكم بأنهم مؤمنون ما لم يخطر ببالهم ما يخالف ذلك من التشبيه والحيز وإبطال النبوات وأعراض الشبه في ذلك فإذا خطر لهم شيء من ذلك وجب عليهم النظر والاستدلال لدفعه وأن لا يتمكثوا ولا يتثبطوا عن النظر حتى يصلوا إلى عين الحق الرافع للشبهة فإن لم يصلوا إلى ذلك لم يؤدوا ما فرض عليهم من الإيمان علىحقه وإن عجزوا عن ذلك لم يكن عجزهم عذرا عن الوصول إلى حقيقة الحق )
قال: ( وقالت طائفة: لا يجب عليهم ذلك ويحل لهم البقاء على ما هم عليه وأن لا يعتقدوا في ذلك شيئا مع القيام على السنة )
قال: ( والدلالة عليه أنا قد قدمنا الدليل على وجوب معرفة الله وسائر المعارف الدينية: من التوحيد وصحة النبوة والدين وبينا أن حقيقة المعرفة إنما تكون بالعلم وأبطلنا أن يكون التقليد طريقا إلىالعلم وإنما يصل إلى العلم به واليقين فيه إذا خرج عن الشبهة العارضة الموجبة للشك الناقلة عن الحق وإذا ثبت ذلك بالأدلة المتقدمة فمدعي المعرفة مع ترك النظر والاستدلال - المؤدي إلى الدليل القاطع المتوقف على حقيقة التوحيد والمعارف الدينية - مبطل وإذا كان مبطلا في معرفته لم نحكم بإيمانه لأن الإيمان ها هنا هو التصديق وإنما يصدق بما يزول معه الشك ويبرأ من عهدة الاشتباه ) وبسط الكلام في ذلك العادة المعروفة
وقد قال في كتابه الكبير الذي سماه منهاج الهدى: ( فصل في معرفة الله وسائر معارف الدين: كسبية وليست حاصلة بطريق الضطرار )
قال: ( وقال طوائف منهم الجاحظ وصالح قبة وفضل الرقاشي والصوفية وكثير من الشيعة: معارف الدين كلها حاصلة بطريق الضرورة ثم اختلفوا بعد ذلك فقال طائفة منهم صالح قبة: إن الله جعل معارف دينه ضرورة يبتديها ويخترعها في قلوب البالغين من غير سبب متقدم ولا بحث ولا نظر وهو قول طائفة من الشيعة
وقالت طائفة من الشيعة: إن الله يخترعها في قلوب البالغين لكن من المحال أن يفعلها فيهم إلا بعد فكر ونظر يتقدمها ثم يهب الله المعرف لمن أحب كما يهب الولد عند الوطء وقد يجوز أن لا يهبها مع النظر كما لا يهب الولد مع الوطء
وقالت طائفة من الشيعة: الخلق مضطرون إلى المعارف بالأسباب فإذا حصلت عن الأسباب كانوا مختارين للمعرفة مضطرين إليها في حال واحدة فيكون مضطرا للسبب مختارا للإرادة
وقال طائفة من المعتزلة القائلين بأن المعرفة ضرورة: إن الله لا يخترع شيئا من أمور الدين والدنيا وعلومهمااختراعا ولكنها تحدث من بعد الإرادة وطباعا وأن الله خلق العباد وهيأهم لاكتساب الإرادة وما يحدث بعدها من نظر وغيره فهو واقع بالطبع وليس يضاف إلى الإنسان إلى على سبيل المجاز والاتساع )
قال: ( وقالت طائفة من المعتزلة منهم غيلان بن مروان: إن معرفة الإنسان لنفسه ومعرفة صانعه وأنه غيره يضطر الإنسن إليها بالطبع فأما باقي المعارف الدينية فكلها اكتساب )
قال: ( وقالت طائفة منهم أبو الهذيل العلاف: معرفة العلم والدليل الذي يدعو إلى معرفة الصانع إضطرار فأما ما يحدث بعدها من علم فعام بالقياس فذلك علم اختيار واكتساب )
قال: ( وقالت: طائفة منهم بشر بن المعتمر: معرفة الإنسان لنفسه ليست من فعله ولا من كسبه ولا اضطرار إليها بل تخترع له وتخلق مخترعة في قلبه وما يدرك بالحواس من علوم الديانات وغيرها اضطرار وما يعلم بالقياس اكتساب ويجوز فيهما جميعا الاضطرار ويجوز فيهما جميعا أن يكونا اكتسابا )
قال: ( وقالت طائفة منالمعتزلة: الناس مضطرون إلى ذلك على كل حال وليس لهم في ذلك حيلة )
قال: ( وقالت طائفة من المعتزلة منهم الجاحظ: معرفة الله تقع ضرورة في طباع نامية عقب النظر والاستدلال )
قال: ( وقالت الجبرية ومتقدمهم جهم بن صفوان: معرفةالله تقع باختيار الله لا باختيار العبد وبنوه عل مذهبهم في الخبر )
قال ابن الزاغوني: ( وتفيد هذه المسألة فائدة حكيمة وهو أن القائل بمعرفة الله واجبة بطريق الكسب يقول: إن الله يعاقب العبد على جهله بالله وجهله بالدين واعتقاد الباطل وأمامن قال: إنها ضرورية فإنه يقول: فائدة ذلك أنه لا يجوز أن يعذب الله الجاهل على جهله وعل أنه لم يكتسب المعرفة لأن ذلك ليس من مقدوراته وإنما يعذبه على جحده وإنكاره لما عرفه إياه بطريق اضطراره له إليه )
فصل
[عدل]وما ذكرناه من أن الرسل صلوات الله عليهم بينوا للناس الطرق العقلية ونبهوهم عليها وهدوهم إليها كما أنه معلوم لنا فهو مما ذكره طوائف من أئمة الكلام والفلسفة وأعظم المتكلمين المعظمين للطرق العقلية هم المعتزلة فإنهم يقولون: كما أن المعرفة لا تحصل ابتداء إلا بالعقل فإنهم يقولون بأنها واجبة بالعقل بناء على القول بأن العقل يعرف به الإيجاب والتحريم والتحسين والتقبيح
وهذا الأصل تنازع فيه المتأخرون من عامة الطوائف فلكل طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فيه قولان وأما الحنفيه فالمعروف عنهم القول بتحسين العقول وتقبيحه ونقلوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه وأنه كان يوجب بالعقل معرفة الله تعالى
ولأصحاب الحديث والصوفية وغيرهم في هذا الأصل نزاع ومن القائلين بتحسين العقل وتقبيحه من أهل الحديث أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها وممن قال ذلك من أصحاب أحمد أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وغيرهما بل ذكروا أن هذا قول جمهور الناس وذكروا مع ذلك أن الرسل أرشدت إلى الطرق العقلية كما أمرت بالواجبات العقلية فهم مع قولهم بتحسين العقل وتقبيحه يقولون: إن الرسل بينت ذلك ووكدته وهكذا مع قولهم بأن المعرفة تحصل بالأدلة العقلية يقولون: إن الرسل بينت ذلك ووكدته فما يعلم بالعقل من الدين هو عندهم جزء من الشرع والكتاب - والسنة - يأتي على المعقولات الدينية عندهم
كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية
[عدل]قال أبو الخطاب في تمهيده: ( اختلف أصحابنا: هل في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا؟ فقال أبو الحسن التميمي: في قضايا العقل ذلك حتى لا يجوز أن يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجابا كشكر المنعم والعدل والإنصاف وأداء الأمانة ونحو ذلك ولا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظورا نحو الظلم والكذب وكفر النعمة والخيانة وما أشبه ذلك )
قال: ( وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة )
قال: ( وقل شيخنا - يعني القاضي أبي يعلى -: ( ليس قضايا العقل ذلك وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع وتعلق بقول أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار: ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول وإنما هو الاتباع )
قال أبو الخطاب: ( وهذه الرواية - إن صحت عنه - فالمراد به الأحكام الشرعية التي سنها رسول الله ﷺ وشرعها )
قلت: قول أحمد: ( لا تدركها العقول ) أي أن عقول الناس لا تدرك كل ما سنه رسول لله ﷺ فإنها لو أدركت ذلك لكان علم الناس كعلم الرسول ولم يرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئا أمر به ونهي عنه ففي هذا الكلام الرد ابتداء على من جعل عقول الناس معيارا على السنة ليس فيه رد على من يجعل القول موافقة للسنة )
قال أبو الخطاب: ( ولهذه القول قالت الأشعرية وطائفة من المجبرة وهم الجهمية )
قال: ( وعلى هذا يخرج وجوب معرفة الله: هل هي واجبة بالشرع حتى لو لم يرد ما يلزم أحدا أن يؤمن بالله وأن يعترف بوحدانيته ويوجب شكره أم لا؟ فمن قال: يجب بالشرع يقول: لا يلزم شيء من ذلك لو لم يرد الشرع ومن قال بالأول: قال: يجب على كل عاقل الإيمان بالله والشكر له
ووجه ذلك أنه لو لم يكن في العقل إيجاب وحظر لم يتمكن المفكر أن يستدل على أن الله سبحانه لا يكذب خبره ولا يؤيد الكذاب بالمعجزة إذ لا وجه في العقل لاستقباحه وخروجه عن الحكمة قبل الخبر عندهم وإذا كان كذلك لم يؤمن العاقل كون كل خبر ورد عنه أنه كذب وكل معجزة رآها أن يكون قد أيد بهذا الكذاب المتخرص وفي ذلك ما يمنع الأخذ بخبر السماء والانقياد لمعجزات النبوة الدالة على صدقها ولما وجب اطراح هذا القول والاعتقاد بأن الله جلت عظمته منزه عن الكذب متعال عن تأييد المتخرص بالمعجزة ثبت أن ذلك إنما قبح وحظر في العقل وامتنع في الحكمة )
قلت هذه طريقة معروفة للقائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ويقولون إنهم يعلمون بتلك أن الله منزه عن أن يفعل القبيح كالكذب وتصديق الكاذب المدعي للنبوة بالمعجزة الدالة على صدقه وإن كان ذلك ممكنا مقدورا له لكن لا يفعله لقبحه وخروجه عن الحكمة وهم يقولون: إنه بهذه الطريقة يعلم صدق الأنبياء
والذين ينازعونهم - كالأشعري وأصحابه وابن حامد والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم - يسلكون في المعرفة بتصديق الأنبياء غير هذه الطريق
وإما طريقة القدرة - كما سلكها الأشعري في أحد قوليه والقاضيان أبو بكر وأبو يعلى وغيرهما - وهو أنه لا طريق إلى تصديق النبي غير المعجزة فلو لم تكن دالة على التصديق للزم عجز الباري عن تصديق الرسل
وإما طريقة الضرورة - كما سلكها الأشعري في قوله الآخر وأبو المعالي وطوائف أخر - وإما غير ذلك من الطرق التي بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع
وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذه المسائل بل المقصود أن جميع الطوائف - حتى أئمة الكلام والفلسفة - معترفون باشتمال ما جاءت به الرسل على الأدلة الدالة على معرفة الله وتصديق رسله كما سيأتي ذكره في كلام القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين والفلاسفة وغيرهم
قال أبوالخطاب: ( دليل آخر: أنه غير ممتنع أن يخطر للعاقل أنه لم يخلق نفسه ولا خلقه من هو مثله من أبيه وأمه إذ لو كانا قادرين على ذلك لكان هو أيضا قادرا وكانا يقدران على خلق غيره وهو يعلم أنهما لا يقدران فيعلم أن له خالقا من غير جنسه خلقه وخلق أبويه ثم يرى إنعامه عليه بإكماله وتسخير ما سخر له من المأكول والمشروب والأنعام وغير ذلك كإقداره عليهم ويخطر له أنه لم يعترف له بذلك ويشكره أنه يعاقبه وإذا جوز ذلك وجب عليه في عقله دفع الضرر والعقاب بالتزام الشكر
فإن قيل: كما يجوز أن يخطر له ما ذكرتم يجوز أن يخطر له أن له خالقا أنعم عليه وأنه غني عن شكره وجميع ما يتقرب به إليه ويخاف من تكلف له ذلك أن يسخط عليه ويقول: من أنت حتى تقابلني بالشكر وتعتقد أنه جزاء نعمتي؟ وما أصنع بشكر مثلك؟ ونحو ذلك وفي هذا ما يمنعه من التزام شيء من جهة عقله )
قال: ( والجواب: أن العاقل مع اعترافه بحكمة خالقه لا يتوهم أنه يسخط على من شكره وتذلل له وتضرع إليه وإن كان غنيا عن ذلك لأن الذي بعثه على الشكر ليس هو اعتقاد حاجة خالقه إلى الشكر ولا أن شكره يقومن بإزاء النعمة عليه فيمتنع لعلمه بغناه عن ذلك وإنما الباعث له حسن الشكر والتذلل والتعظيم للمنعم من بدائه العقول والحكيم لايسخط ما هذا سبيله فإذا قد أمن عاقبة الإقدام على الشكر ولم يأمن عاقبة العقاب على تركه فيجب في عقله توخي ذلك وصار مثال ذلك أن يقال للعاقل: في الطريق مفسدون يأخذون المال ويقتلون النفس أو سباع تفترس الآدمي ويقال له: أنت ما معك قليل نذر والمفسدون قد استغنوا بما قد أخذوا فلعلهم لا يعرضن لك أنفة من قلة مالك والسباع قد افترست جماعة فقد شبعوا فلعلهم لا يعرضون لك فإن في العقل يجب عليه التوقف عن سلوك ذلك الطريق لا الإقدام عليه كذلك ها هنا )
قلت: مضمون ذلك أن العقل يوجب سلوك الأمن دون طريق الخوف
قال: ( دليل ثالث: أنه لو لم يكن في قضاء العقول: إلزام وحظر لأمكن العاقل أن لا يلزمه شيء أصلا لأنه متى قصد بالخطاب سد سمعه فلم يسمع الخطاب
كما أخبر الله عن قوم نوح: { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا } فلما علمنا أنه يجوز بعقله أن يكون في الخبر الذي خوطب به نجاته وسلامته من الهلاك وفي الإعراض عنه بسد أذنه هلاكه ودماره ثبت أن في عقله وجوب الإصغاء إلى الخبر وحظر الإعراض عنه وذلك وصية العقل لا السمع )
قال: ( دليل رابع: أن العقلاء أجمعوا على قبح الكذب والظلم والخيانة وكفران النعمة وحسن العدل والإنصاف والصدق وشكر المنعم: من أقر منهم بالنبوة ومن جحدها ولهذا يرى الدهرية وأهل الطبائع في ذلك كأهل الأديان بل أكثر فدل على أنهم استفادوا ذلك من العقل لا من الأنبياء وإذا ثبت أن فيها تحسينا وتقبيحا ثبت أن فيها حظرا وإباحة وقد صرح عليه السلام بذلك لما عرض نفسه على القبائل
دليل خامس: أنا نجد الحمد على الجميل والذم على القبيح يلزمان مع وجود العقل ويسقطان مع عدمه فلولا أنه مقتض للحسن والقبح لم يكن لتخصيص العاقل بالذم على القبيح والمدح على الحسن معنى وإذا قد وجدنا ذلك دل على أن في العقل حظرا أو إلزاما
دليل سادس: أن التكليف محال إلا مع العقل ولهذا لا يكلف الشرع شيئا إلا بعد كمال عقولنا فدل على أن السمع يعلم بالعقول وإذا كان معلوما به والعقل متقدم عليه ولا تقف معرفته على الشرع - استحال أن يقال: طريق معرفة الله السمع وكيف يتصور ذلك ونحن لا نعلم وجوب النظر بقول الرسول حتى نعلم أنه رسول؟ ولا نعلم أنه رسول حتى نعلم أنه مؤيد بالمعجزة؟ ولا نعلم أنه مؤيد بالمعجزة حتى نعلم أن التأييد من الله سبحانه؟ ولا نعرف التأييد من الله حتى نعرفه ونعلم أنه لا يؤيد الكذاب بالمعجزة؟ ولا نعرف ذلك إلا بفهم العقل الذي هو نوع من العلوم الضرورية؟ فدل على أن معرفته سبحانه بالعقل
دليل سابع: لو لم تجب معرفته بالعقل لوجب أن يجوز على الله أن ينهي عن معرفته وأن يأمر بكفره وعصيانه والجور والكذب كما يجوز أن ينسخ ما شاء من السمعيات ويوجب ما كان قد نهى عنه فلما لم يكن ذلك دل على أن ذلك غير ثابت بالسمع وإنما يثبت بالعقل الذي لا يتغير ولا يجوز نكثه ونسخه
دليل آخر: أن الله وهب العقل وجعله كمالا للآدمي وإذا أغفل النظر وضيع العقل إذا لم يقتبس منه خيرا وإذا كان لا يقبح شيئا ولا يحسنه فوجوده وعدمه سيان وهذا لا يقوله عاقل
وأيضا يدل على ذلك عبارة ملخصة: أن من وجد نفسه مؤثرا بآثار الصنعة مستغرقا في أنواع النعمة لم يستبعد أن يكون له صانع صنعه وتولى تدبيره وأنعم عليه وأنه إن لم ينظر في حقيقة ذلك ليتوصل إلى الاعتراف له وإلتزام شكره عوقب على ما أغفل من النظر وضيع من الاعتراف والشكر فإن العقل سيلزمه النظر لا محاله إذ لا شيء أقرب إلى الإنسان من النظر فدل على وجوبه بالعقل )
قلت: هذه الأدلة فيها للمنازعين كلام يحتاج معه إلى فصل الخطاب كما ذكر في موضعه وهذه الطريقة التي سلكها أبو الخطاب وغيره من أهل النظر: من المعتزلة وغيرهم بنوها على أن معرفة الله تحصل بالاستدلال بنفس الإنسان ولا يحتاج مع ذلك إلى إثبات حدوث الإجسام كما سلك الأشعري أيضا هذه الطريقة
قال أبو الخطاب: ( احتج الخصم بظواهر الآية كقوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولم يقل: حتى نجعل عقولا
وقوله تعالى: { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ولم يقل: بعد العقل
وقوله: { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } وغير ذلك من الآيات فجعل الحجة والعذاب يتعلق بالرسل
فثبت أنه لا بالمعقول حجة ولا عذاب )
وقال: ( والجواب أن الله بعث الرسل يأمرون بالشرائع والأحكام وينذرونهم قرب الساعة ووقوع الجزاء على الأعمال ويبشرونهم على الطاعة وشكر النعمة بدوام النعمة ومزيدها في دار الخلود ويخوفونهم على المعصية بالعذاب الشديد ويكونوا شهودا على أعمالهم
وقد قال تعالى: { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا }
وقال: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }
وهذا بعد أن يعرفوا الله بعقولهم ويردون الشبهات المؤدية إلى التعطيل والتشبه بالحكمة التي جعلها الله فيهم والنور العقلي المفرق بين الحق والباطل وإلا فنحن نعلم أن المفكر إذا خطر بباله أن الكتاب لعله مخترع مختلق من جهة مخلوق والرسول لعله متخرص متمترق لم يخرج ذلك من قلبه الرجوع إلى الآيات والسنة وهو يتوهم فيها ما ذكرنا إنما يرجع إليه بعد ما ثبت عنده حقيقة التوحيد وصدق الرسول وأن القرآن كلام الله الذي لا يجوز عليه الكذب وعرف محكم الكتاب من متشابه وعرف طرق الأخبار وما يجب فيها فإنه يستغني حينئذ عن النظر بعقله )
قال: ( فإن قيل: هذا توهين لأمر الرسل وجعلهم لا يغنون في التوحيد شيئا وإنما يفيد بعثهم في الفروع وأنه لا فائدة من الآيات التي ذكر فيها التوحيد والدعوة إليه )
ثم قال: ( والجواب: أنا نقول: بل لهم في الأصول أعظم فائدة لأنهم ينبهون العقول الغافلة ويدلون على المواضع المحتاج إليها في النظر ليسهل سبيل الوقوف عليها كما يسهل من يقرأ عليه الكتاب على المتعلم بأن يدله على الرموز ويبين له مواضع الحجة والفائدة وإن كان ذلك لا يغنيه عن النظر في الكتاب وقراءته
وأيضا فإنه بعثهم لتأكيد الحجة فيؤكدون الحجة على العباد كيلا يقولوا: خلقت لنا الشهوات وشغلتنا بالملاذ عن التفكر والتدبر فغفلنا فقطع الله سبحانه حجتهم ألا ترى أنه تعالى قال: { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } فجعل الحجة عليهم طول العمر للتفكر والتذكر ثم التدبر للتنبيه )
قلت: فهؤلاء الذين يقولون بوجوب المعرفة بالعقل وأنها لا تحصل إلا بالعقل ذكروا أن الرسل بينوا الأدلة العقلية التي يستدل بها الناظر كما نبهوا الغافل ووكدوا الحجة إذ كانوا ليسوا بدون من يتعلم الحساب والطب والنجوم والفقه من كتب المصنفين لا تقليدا لهم فيما ذكروه لكن لأنهم يذكرون من الكلام ما يدله على الأدلة التي يستدل بها بعقله فهداية الله لعباده بما أنزله من الكتب وإرشاده لهم إلى الأدلة المرشدة والطرق الموصلة التي يعمل الناظر فيها بعقله ما يؤدي إليه من المعرفة أعظم من كلام كل متكلم فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ
وأبو الخطاب يختار ما يختاره كثير من الحنفية - أو أكثرهم - مع من يقول ذلك من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم - من أن الواجبات العقلية لا يشترط فيها البلوغ بل تجب قبل البلوغ بخلاف الواجبات الشرعية
قال: ( واحتج بأنه لو كان في العقل إلزام وحظر لوجب أن يكون لمعرفة الحسن والقبح أصل في أوائل العقول يترتب عليه ما سواه ألا ترى أن للقدم والحدث فيها أصلا؟ ولو كان ذلك كذلك لكان من أنكر الحسن والقبح مكابرا لعقله مغالطا لنفسه لأن جاحد ما يثبت في البدائه مكابر )
قال: ( والجواب أن للحسن والقبح أصلا في بدائه العقول وهو علمنا بحسن شكر المنعم والإنصاف والعدل وقبح الكذب والجور والظلم ومنكر ذلك مكابر لكافة العقلاء إلا أن من العقلاء من قال: لا أعرف ذلك بضرورة العقل وإنما أعرفه بالنظر والخبر فذلك مقر بالحسن والقبح ومدع غير طريق الجماعة فيه فنتكلم في ذلك ونبين له أن الجاهلية وعبدة الأصنام ومن لم تبلغه الدعوة يعلم ذلك كما يعلمه أهل الأديان فسقط أن يكون طريقه إلا العقل وعلى أن القدم والحدوث لهما أصل في بدائه العقول ثم الخلف في ذلك واقع
ولا يقال: إن مخالفنا مكابر عقله واحتج بأنه أجمع القائلون بأن في العقل إلزاما وحظرا على أنه لا يلزم ولا يحظر إلا بتنبيه يرد عليه فإذا ثبت هذا قلنا: يجب أن يكون ذلك التنبيه بخبر الشرع لا الخواطر لأن الخواطر يجوز أن تكون من الملك ومن الشيطان ومن ثوران المرة وما أشبه ذلك وإذا جاز ذلك فيها لم نلتفت إلى تنبيهها والتفتنا إلى ما تؤثر به وهو خبر الشرع فإذا عدم خبر الشرع ثبت أنه لا إلزام ولا حظر في ذلك )
وقال: ( والجواب أنه لا بد أن ينبه على معرفة حسن الشكر بخطور النعمة بباله من منعم قصد الإحسان إليه فإنه إذا خطر له نعمه عليه - على ما ذكرنا - ألزمه عقله الشكر لا محالة سواء نبه على ذلك وسوسة إو إلهام ولذلك مهما خطر بباله كفران النعمة عرف قبحة ومهما خطر بباله أن القبيح لا يبعد أن يكون سببا لهلاكه وعقابه وأن يكون ضده سببا لنجاته فإنه يلزمه النظر في ذلك سواء كانت الخطرة من الملك أو من الشيطان فثبت أن التنبيه لا يقف على خبر السماء ثم يلزم أن الحدوث والقدم لا يكون إلا بتنبيه ثم ذلك خاطر عقلي ولا يقال: يقف على تنبيه الشرع )
قال: ( واحتج بأن الأمة أجمعت أن التكليف يقف على البلوغ وليس العقل موصوفا بذلك من قبل أن الغلام إذا احتلم فليس يستحدث عقلا وإنما ذلك عقل قبل بلوغه فبان أن العقل لا يوجب شيئا ولا يحظره
وقال: ( الجواب: أن الموقوف من التكليف على البلوغ هو تكليف الشرعيات خاصة فأما الأحكام المتستفادة بالعقل فإنها تلزم الإنسان إذا استفاد من العقل ما يمكنه أن يفعل به بين الحسن والقبيح فلا نسلم ما ذكروه )
قلت: هذا الذي قاله هو قول كثير من الحنفية وأهل الكلام - المعتزلة وغيرهم - من القائلين بتحسين العقل وتقبيحه فإن هؤلاء لهم في الوجوب قبل البلوغ قولان: وكثير ممن يقول بتحسين العقل وتقبيحه هم ونفاة ذلك من الطوائف الأربعة ينفون الوجوب قبل البلوغ
وقد ذكر طائفة من مصنفي الحنفية في كتبهم قالوا: وجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة وقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السماوات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه
قالوا: ويروى عنه أنه قال: لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم قالوا: وعليه مشايخنا من أهل السنة والجماعة حتى قال أبو منصور الماتريدي في صبي عاقل: إنه يجب عليه معرفة الله وإن لم يبلغ الحنث قالوا: وهو قول كثير من مشايخ العراق ومنهم من قال: لا يجب على الصبي شيء من قبل البلوغ كما لا تجب عليه العبادات البدنية بالاتفاق )
قلت: هذا الثاني قول أكثر العلماء وإن كان القول بالتحسين والتقبيح يقول به طوائف كثيرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كما يقول به هؤلاء الحنفية وتنازع هولاء الطوائف في مسألة الحظر والإباحة وأن الأعيان قبل ورود الشرع هل هي على الحظر أو الإباحة؟ لا يصح إلا على قول من يقول: إنه بالعقل يعلم الحظر إو الإباحة وأما من قال: إن العقل لا يعلم به ذلك ثم قال بأن هذه الأعيان قبل ورود الشرع حظرا أوإباحة فقد تناقض في ذلك وقد رام منهم من تفطن لتناقضه أن يجمع بي قوليه فلم يتأت كقول طائفة: إنه بعد الشرع علمنا به أن الأعيان كانت محظورة أومباحة ونحو ذلك من الأقوال الضعيفة وليس هذا موضع بسط ذلك
لكن المقصود هنا أن الأكثرين على انتفاء التكليف قبل البلوغ لقوله ﷺ: [ رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق ] وهو معروف في السنن وغيرها متلقى عند الفقهاء بالقبول من حديث عائشة وغيرهما
وأيضا فإن قتل الصبي من أهل الحرب لا يجوز - باتفاق العلماء
وأيضا فالناس مع تنازعهم في أولاد الكفار: هل يدخلون الجنة أو النار أو يتوقف فيهم؟ لم يفرق أحد - علمناه - بين المميز وغيره بل المنصوص عن أحمد ويغره من أئمة السنة - وهو المشهور عنهم - الوقف فيهم
وذهب طائفة إلى أنهم في النار كما اختاره القاضي أبو يعلى وغيره وذكروا أن أحمد نص على ذلك وهو غلط عن أحمد فإن المنصوص عنه أنه أجاب فيهم بجواب النبي ﷺ: [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي الصحيح أيضا من حديث ابن عباس
لكن هذا الحديث روي أيضا في حديث يروى [ أن خديجة سألته عن أولادها من غيره فقال: هم في النار فقالت: بلا عمل؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين ] فظن هؤلاء أن أحمد أفتى بما في حديث خديجة كم ذكر ذلك القاضي في المعتمد وهذا غلط على أحمد فإن هذا الحديث ضعيف بل موضوع وأحمد أجل من أن يعتمد على مثل هذا الحديث والحديث متناقض ينقض آخره أوله
وذهبت طائفة إلى أنهم في الجنة كأبي الفرج بن الجوزي وغيره والذين قالوا بالوقف فسره بعضهم بأنه يدخل فريق منهم الجنة وفريق النار بحسب تكليفهم يوم القيامة كما جاء في ذلك عدة آثار وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث وقد بسطنا هذا فيما تقدم
والمقصود هنا أنا لم نعلم من السلف من قال إنه فرق فيمن لم يبلغ بين صنف وصنف في القتل أو في عقاب الآخرة بل الفقهاء متفقون على أن العقوبات التي فيها إتلاف كالقتل والقطع لا تكون إلا لبالغ لكن قد يجمع بين هذا وهذا بأن يقال: الإثم الموجب لعقاب الآخرة مرفوع عمن لم يبلغ وكذلك العقوبات الدنيوية التي فيها إتلاف فأما التعزير بالضرب ونحوه فلم يرفع عن المميز من الصبيان
بل قد قال النبي ﷺ: [ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ] فأمر بضربهم على ترك الواجب الشرعي الذي هو الصلاة فضربهم على الكذب والظلم أولى وهذا مما لا يعلم بين العلماء فيه نزاع: أن الصبي يؤذى على ما يفعله من القبائح وما يتركه من الأمور التي يحتاج إليها في مصلحته
وهذا النزاع من لوازم الواجبات العقلية للميزين عند من يقول بالإيجاب العقلي نظير النزاع في الواجبات الشرعية فإن أحد القولين في مذهب أحمد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز: أن الصلاة تجب على ابن عشر وكذلك الصوم يجب عليه إذا أطاقه
وحينئذ فإيجاب أبي الخطاب وموافقيه للتوحيد أولى من هذا بل يقال: لولم يقل بالوجوب العقلي فإنه يجب أن يقال: إن الصبي يجب عليه الإقرار بالشهادتين قبل وجوب الصلاة عليه فإن وجوبهما متقدم على وجوب الصلاة بالاتفاق وأما ما يجب في مال الصبي من النفقات وقضاء الديون وغيره والعشور والزكوات عند الجمهور الذين يوجبون الزكاة في ماله فذلك لا يشترط فيه التمييز باتفاق المسلمين بل يجب ذلك في مال المجنون أيضا وفي مال الطفل
وللفقهاء في إسلام الصبي وردته وإحرامه وغير ذلك من أقواله وأفعاله كلام معروف ليس هذاموضع بسطه وفي ذلك من تناقض أقوال بعضهم ورجحان بعض الأقوال على بعض ما ليس هذا موضعه وإنما المقصود هنا أن أعظم الناس تعظيما للعقل هم القائلون بأنه يوجب ويحظر ويحسن ويقبح كالمعتزلة والكرامية والشيعة القائلين بذلك ومن وافقهم من طوائف الفقهاء والعلماء
وأما الفلاسفة فالنقل عنهم مختلف لتناقض كلامهم فالمشهور عنهم أن العقل يحسن ويقبح كما نقله أبو الخطاب عنهم
ولكن كلامهم في مبادىء المنطق وقولهم: إن هذه القضايا من المشهورات لا من البرهانيات لما رأى الناس أنه يناقض ذلك صاروا يحكون عنهم أنهم لا يقولون بتحسين العقل وتقبيحه كما نقله الرازي وغيره فإذا كان المتكلمون القائلون بتحسين العقل وتقبيحه وأنه لا طريق إلى المعرفة إلا به وأنه يوجبها يعني على المميزين يقولون مع ذلك: إن الشرع بين هذه الطرق العقلية وأرشد إليها ودل الناس عليها ووكدها وقررها حتى تمت الحجة به على الخلق فجعلوا ما جاء به الشرع متضمنا للمقصود بالعقل من غير عكس حتى صارت العقليات النافعة جزءا من الشرع فكيف غيرهم من طوائف أهل النظر؟ وكذلك الفلاسفة ذكروا ذلك كما ذكره أبو الوليد بن رشد الحفيد لما قسم الناس إلى أربعة أصناف كما سيأتي
درء تعارض العقل والنقل | |
---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 |