تفسير المراغي/سورة محمد
وتسمى سورة القتال هي مدنية إلا آية 13 فقد نزلت في الطريق أثناء الهجرة.
وآيها ثمان وثلاثون آية. نزلت بعد الحديد.
ولا تخفى قوة ارتباطها بما قبلها، فإن أولها متلاحم بآخر السورة السابقة، حتى لو أسقطت البسملة من البين لكان الكلام متصلا بسابقه لا تنافر فيه، ولكان بعضه آخذا بحجز بعض.
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ كان يقرؤها في صلاة المغرب.
[سورة محمد (47): الآيات 1 الى 3]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
تفسير المفردات
صدوا عن سبيل الله: أي صرفوا الناس عن الدخول في الإسلام، وذلك يستلزم أنهم منعوا أنفسهم عن الدخول فيه، أضل أعمالهم: أي أبطلها، وهو الحق من ربهم: أي وهو الحق الثابت الذي لا مرية فيه، بالهم: أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق لصالح الأعمال، وأصل البال: الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال ما باليت به: أي ما اكترثت به، ومنه قوله ﷺ « كل أمر ذي بال » الحديث. يضرب الله للناس أمثالهم: أي يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه في معادهم.
المعنى الجملي
قسم سبحانه الناس فريقين: أهل الكفر الذين صدوا الناس عن سبيل الله، وهؤلاء يبطل أعمالهم سواء كانت حسنة كصلة الأرحام وإطعام الطعام، أو سيئة كالكيد لرسول الله والصدّ عن سبيل الله، فالأولى يبطل ثوابها، والثانية يمحو أثرها، وهكذا كل من قاوم عملا شريفا فإن مآله الخذلان.
وأهل الإيمان بالله ورسوله الذين أصلحوا أعمالهم، وأولئك يغفر الله لهم سيئات أعمالهم ويوفقهم في الدين والدنيا، كما أضاع أعمال الكافرين ولم يثب عليها.
ثم علل ما سلف بأن أعمال الفريقين جرت على ما سنه الله في الخليقة: بأن الحق منصور، وأن الباطل مخذول سواء كان في أمور الدين أم في أمور الدنيا، فالصناعات المحكمة إنما يقبل الناس عليها ويؤثرونها، لأنها جارية على الطريق القويم والنسق الحق، وهكذا الشأن في المزروعات والمصنوعات المتقنة الجيدة، والسياسات الحكيمة.
والصناعات المرذولة والسلع المزجاة لن يكون حظها إلا الكساد والبوار، لأن الباطل لا ثبات له، والحق هو الثابت، والله هو الحق فينصر الحق، والعلم الصحيح والدين الصحيح والصناعات الجيدة والآراء الصادقة نتائجها السعادة، وضدها عاقبته الشقاء والبوار.
وقصارى ذلك - إن الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق وعلى قوانين ثابتة منظمة، فكل ما قرب من الحق كان باقيا، وكل ما ابتعد عنه كان هالكا، فرجال الجدّ والنشاط مؤيدون، ورجال الكسل والتواكل مخذولون، والمحققون في كل شيء محبوبون منصورون.
الإيضاح
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي الذين جحدوا توحيد الله، وعبدوا غيره، وصدوا من أراد عبادته والإقرار بوحدانيته وتصديق نبيّه عما أراد - جعل الله أعمالهم تسير على غير هدى، لأنها عملت في سبيل الشيطان لا في سبيل الرحمن، وما عمل للشيطان فمآله الخسران.
فما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق: من صلة الأرحام وفك الأسارى وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام وإجارة المستجير وقرى الأضياف ونحو ذلك - حكم الله ببطلانه، فلا يرون له في الآخرة ثوابا، ويجزون به في الدنيا من فضله تعالى.
ونحو الآية قوله: « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا ».
قال ابن عباس: نزلت الآية في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبي، وأمية ابنا خلف، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل.
ولما ذكر سبحانه جزاء أهل الكفر، أتبعهم بثواب أهل الإيمان فقال:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي والذين صدقوا الله، وعملوا بطاعته، واتبعوا أمره ونهيه، وصدقوا بالكتاب الذي نزل على محمد، هو الحق من ربهم - محا الله بفعلهم سيىء ما عملوا فلم يؤاخذهم به، وأصلح شأنهم في الدنيا بتوفيقهم لسبل السعادة، وأصلح شأنهم في الآخرة بأن يورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جناته.
قال ابن عباس نزلت الآية في الأنصار.
ثم بين سبب الإضلال، وإصلاح البال فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وإنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شئونهم، لأن الذين كفروا اختاروا الباطل على الحق بما وسوس إليهم به الشيطان، ولأن الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من ربهم، فأنار بصائرهم وهداهم إلى سبل الرشاد.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي كما بينت لكم فعلى بفريقى الكفار والمؤمنين. كذلك نمثل للناس الأمثال، ونشبّه لهم الأشباه، فنلحق بالأشياء أمثالها وأشكالها.
والخلاصة - إنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار، وإضلال أعمالهم مثلا لخيبتهم، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، وتكفير سيئاتهم مثلا لفوزهم، وهكذا شأن القرآن يوضح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الأمثال كما ضرب المثل بالنخل والحنظل في سورة أخرى.
[سورة محمد (47): الآيات 4 الى 9]
[عدل]فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
تفسير المفردات
لقيتم من اللقاء: وهو الحرب، فضرب الرقاب: أي فالقتل، وعبر به عنه تصويرا له بأشنع صورة وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأوجه أعضائه ومجمع حواسه، وبقاء البدن ملقى على هيئة مستبشعة، وفى ذلك من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، وأثخنتموهم: أي أكثرتم القتل فيهم، فشدّوا الوثاق: أي فأسروهم، والوثاق: (بالفتح والكسر): ما يوثق به، منّا: أي إطلاقا من الأسر بالمجّان، فداء: أي إطلاقا في مقابلة مال أو غيره، والأوزار في الأصل: الأحمال ويراد بها آلات الحرب وأثقالها من السلاح والكراع، قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا
ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيرا فعيرا
انتصر: أي انتقم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق، ليبلو: أي ليختبر، يضلّ: أي يضيع، بالهم. أي شأنهم وحالهم، عرّفها. أي بينها وأعلمها، إن تنصروا الله: أي تنصروا دينه، يثبت أقدامكم: أي يوفقكم للدوام على طاعته، فتعسا لهم، من قولهم: تعس (بفتح العين) الرجل تعسا: أي سقط على وجهه، وضده انتعش: أي قام من سقوطه، ويقال تعسا ونكسا (بضم النون): أي سقوطا على الوجه وسقوطا على الرأس، أحبط أعمالهم: أي أبطلها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس فريقان: أحدهما متبع للباطل، وهو حزب الشيطان، وثانيهما متبع للحق، وهو حزب الرحمن - ذكر هنا وجوب قتال الفريق الأول حتى يفىء إلى أمر الله، ويرجع عن غيّه، وتخضد شوكته.
الإيضاح
(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي فإذا واجهتم المشركين في القتال فاحصدوهم حصدا بالسيوف حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقابهم وصاروا في أيديكم أسرى فشدوهم في الوثاق، كى لا يقاتلوكم أو يهربوا منكم، ثم أنتم بعد إنهاء الحرب وانتهاء المعارك - بالخيار في أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتموهم بلا عوض من مال أو غيره، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه - حتى لا يكون حرب مع المشركين ولا قتال، بزوال شوكتهم.
ونحو الآية قوله تعالى: « وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ».
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى في الأسارى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وكان عليه عمل رسول الله ﷺ والخلفاء من بعده.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « بعث النبي ﷺ خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بنى حنيفة، يقال له ثمامة ابن أثال، فربطوه في سارية من سوارى المسجد، فخرج إليه رسول الله ﷺ، فقال ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير، إن تقتلنى تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له ﷺ: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، قال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إلي وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله ﷺ وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال لا ولكن أسامت مع محمد ﷺ.
وعن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله ﷺ رجلا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي ﷺ ففداه رسول الله ﷺ بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.
واعلم أن للحرب فوائد، وللسلم أخرى، فالأمم في حال الطفولة عقولها أشبه بعقول الشاب المراهق الذي لم يبلغ الحلم، تراه يقاتل الصبيان ويشاجرهم ويوقع الأذى بهم وهم يزيدون في أذاه، وينكلون به، وهذه هي حال الأمم اليوم.
ألا إن الحرب تقوي الأبدان، وترقى الصناعات، وتجعل الأمم تنمو، وتوقظ الشعور، وتفتح المغلق، وتيسر العسير، قال أرسطو للاسكندر: إن الراحة مضرة للأمم، ومن ثم قيل: إذا أردت رقي أمة فاجعلها تخوض الحروب فذلك يفتح لها باب السعادة والأمم النائمة على فراش الراحة الوثير معرّضة للزوال فإذا كملت أخلاق الأمم ومواهبها، فإن نتائج السلم عندها ستكون كنتائج الحرب لدى من قبلها، فكما يفرح الرجل في الأمم الحاضرة بغلبة الأعداء وشفاء الغليل وجمع الرجال والسلاح والكراع، فسيكون فرح الأمم فيما بعد بمساعدة غيرها وانشراح صدورها بظهور أمم أخرى تكافح معها في ميدان الحياة، ويكون كل فرد في الأمم المقبلة أشبه بالأب يكدح لمساعدة أبنائه، وهذا الكدح والجد في العمل لفائدة الجميع بحد فيه العامل لذة وفرحا أشد من فرح المنتصر في ميادين القتال.
وإن الأمم لا تزال في الطور الأول، فهي تسعى لإسعاد نفسها بإهلاك سواها، وسيأتي حين تسعى فيه لإسعاد الجميع، ويكون فرحها بهذا المسعى أشد من فرحها بهزيمة الأعداء ويكون الناس جميعا بعضهم لبعض كالآباء والأبناء.
وإلى حال الكمال أشار سبحانه بقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وإلى حال النقص أشار سبحانه بقوله:
(ذلِكَ) أي هذا الذي أمرتكم به من قتل المشركين إن لقيتموهم في حرب، وشدّ وثاقهم في أسرهم، والمنّ والفداء حتى تضع الحرب أوزارها - هو الحق الذي أمركم به ربكم، وهو السنة التي جرى عليها لإصلاح حال عباده، وهي التي ستبقى السنة الطبيعية بين الأمم ما دامت في طور طفولتها، حتى يتم نضجها العقلي والخلقي فتضع الحرب أوزارها، إذ لا يكون هناك حاجة إليها، لأن العالم كله يكون كأسرة واحدة، سعادته بسعادة أفراده جميعا، وشقاؤه بشقائهم.
ثم بين أن هذه هي السنة التي أرادها الله من حرب المشركين، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال، فقال:
(وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولو يشاء ربكم لانتصر من هؤلاء المشركين بعقوبة عاجلة، وكفاكم أمرهم، ولكنه أراد أن يبلو بعضكم ببعض فيختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلوهم بكم، فيعاقب بأيديكم من شاء، ويتعظ منهم من شاء بمن أهلك بأيديكم حتى ينيب إلى الحق.
وفي الجهاد تقوية لأبدانكم، ورقي لعقولكم، ونفاذ لكلمتكم، وجمع لشملكم بما ترون من اتحاد عدوكم، وبه ترقى الزراعة والتجارة والصناعة وجميع العلوم إذ لا يتم حرب ولا غلبة إلا بها، وهكذا ترتقى حال الأعداء، فيتسع العمران، وتعم المدنية، ويرقى النوع الإنساني، ولا يعيش في هذا الوسط الصاحب إلا الصالح للبقاء والضعيف من الطرفين هالك، وهذه هي سنة الله في الكون.
ثم ذكر جزاء المجاهدين في سبيل الله فقال:
(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين جاهدوا أعداء الله في دين الله وفى نصرة ما بعث الله به رسوله ﷺ من الهدى، فلن يجعل أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضائعة سدى كما أذهب أعمال الكافرين وجعلها عديمة الجدوى.
روى أحمد أن رسول الله ﷺ قال: « يعطى الشهيد ستّ خصال.
عند أول قطرة من دمه تكفّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوّج من الحور العين، ويأمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلّى حلة الإيمان ».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: « ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد، ورسول الله ﷺ في الشّعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون: الله أعلى وأجلّ. وقال المشركون: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي ﷺ: قولوا لاسواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون، فقال المشركون: إن لنا العزى ولا عزّى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم ».
ثم فسر ما سلف بقوله:
(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي سيوفقهم الله للعمل بما يرضيه ويحبه، ويصونهم مما يورث الضلال، ويصلح شأنهم في العقبى، ويتقبل أعمالهم، ويجعل لكل منهم مقرّا في الجنة لا يضل في طلبه.
لا جرم أن لكل امرئ في الحياة عملا يستوجب حالا في الآخرة لا يتعداها، كما يحصل كل من نال إجازة في علم أو صناعة على عمل يشاكل إجازته في قوانين الدولة.
والناس في الآخرة أشبه بأنواع السمك في البحر الملح وأنواع الطير في جوّ السماء لكل منها جوّ لاتتعداه، هكذا لكل من الصالحين درجة في الآخرة لا يتعداها، بل يجد نفسه مقهورا على البقاء فيها كما أن السمك منه ما هو قريب من سطح الماء، ومنه ما يوجد تحت سطح الماء بمئات الأمتار وآلافها، وإلى ذلك يشير قوله تعالى « وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ».
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها.
وفي الخبر: « لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا ».
ثم وعدهم سبحانه بنصرهم على أعدائهم إذا نصروا دينه بقوله:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي إن تنصروا دين الله ينصركم على عدوكم، ويثبت أقدامكم في القيام بحقوق الإسلام ومجاهدة الكفار، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة المشركين هي السفلى.
وبعد أن ذكر جزاء المجاهدين أعقبه بجزاء الكافرين فقال:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين كفروا بالله وجحدوا توحيده فخزيا لهم وشقاء، وأبطل الله أعمالهم وجعلها على غير هدى واستقامة، لأنها عملت للشيطان، لا طاعة للرحمن.
ثم بين سبب ذلك الإضلال فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الذي فعلنا بهم من التعس وإضلال الأعمال، من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه على نبينا محمد ﷺ فكذبوا به وقالوا هو سحر مبين، فمن ثم أحبط أعمالهم التي عملوها في الدنيا وأصلاهم سعيرا.
وقصارى ذلك - إن كل ما عملوه في الدنيا من صالح الأعمال فهو باطل، لعدم الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال.
[سورة محمد (47): الآيات 10 الى 14]
[عدل]أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
المعنى الجملي
بعد أن نعى سبحانه على الكافرين مغبّة أعمالهم، وأن النار مثوى لهم - أردف هذا أمرهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة ورؤية آثارهم، لما للمشاهدات الحسية من آثار في النفوس، ونتائج لدى ذوي العقول، إذا تدبروها واعتبروا بها.
الإيضاح
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أفلم يسر هؤلاء المكذّبون بمحمد ﷺ، المنكرون ما أنزلنا عليه من الكتاب - في الأرض فيروا نقمة الله التي أحلها بالأمم الغابرة، والقرون الخالية، حين كذبوا رسلهم كعاد وثمود، ويتعظوا بذلك، ويحذروا أن نفعل بهم كما فعلنا بمن قبلهم.
ثم ذكر ما فعله بهم فقال:
(دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) يقال دمّره: أهلكه، ودمّر عليه: أهلك ما يختص به، أي أهلك ما يختص بهم من الأهل والولد والمال، أفلا يعتبر هؤلاء بما حل بمن قبلهم فيعلموا أن ما حاق بهم من سوء المنقلب - لا بد أن يحل بهم مثله بحسب ما وضعه سبحانه من السنن في الأمم المكذبة لرسلها، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي ولهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم أمثال هذه العاقبة التي ترون آثارها.
ثم بيّن السبب في حلول أمثال هذه العاقبة بهم فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي هذا الذي فعله بهم من التدمير والهلاك، ونصر المؤمنين وإظهارهم عليهم بسبب أن الله ولي من آمن به وأطاع رسوله، وأن الكافرين لا ناضر لهم، فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب.
ونفى المولى عنهم هنا لا يخالف إثباته في قوله: « ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ » لأن المراد به هناك المالك لأمورهم، المتصرف في شئونهم.
قال قتادة: نزلت يوم أحد والنبي ﷺ في الشّعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النبي ﷺ « قولوا الله مولانا ولا مولى لكم »
وقد تقدم هذا برواية أخرى.
وبعد أن بين حالى المؤمنين والكافرين في الدنيا، بيّن حاليهم في الآخرة فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله ذا الجلال والكمال يدخل يوم القيامة من آمنوا به وصدقوا رسوله وعملوا صالح الأعمال - بساتين تجرى من تحت قصورها الأنهار كرامة لهم على إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي والذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسوله ﷺ يتمتعون في هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية، ويأكلون فيها غير مفكرين في عواقبهم ومنتهى أمورهم، ولا معتبرين بما نصب الله لخلقه في الآفاق والأنفس من الحجج المؤدية إلى معرفة توحيده وصدق رسوله، فمثلهم مثل البهائم تأكل في معالفها ومسارحها، وهي غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح، فكذلك هؤلاء يأكلون ويتلذذون وهم ساهون لاهون عن عذاب السعير.
(وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي ونار جهنم مسكن ومأوى لهم يصيرون إليها بعد مماتهم والخلاصة - إن المؤمنين عرفوا أن نعيم الدنيا ظل زائل فتركوا الشهوات، وتفرغوا للصالحات، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم، وإن الكافرين غفلوا عن ذلك فرتعوا في الدّمن كالبهائم حتى ساقهم الخذلان، إلى مقرهم من درك النيران، أعاذنا الله منها.
وبعد أن ضرب لهم المثل بقوله: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ » ولم يعتبروا به وذكر لهم ما تقدم من الأدلة على وحدانيته - ضرب المثل لنبيّه تسلية له على ما يلاقي من عنت قومه وجحودهم فقال:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي وكثير من الأمم التي كان أهلها أشد بأسا وأكثر جمعا، وأعدّ عديدا من أهل مكة الذين أخرجوك - أهلكناهم بأنواع العذاب ولم يجدوا ناصرا ولا معينا يدفع عنهم بأسنا وعذابنا، فاصبر كما صبر قبلك أولو العزم من الرسل، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات، فالله مظهرك عليهم، ومهلكهم كما أهلك من قبلهم إن لم ينيبوا إلى ربهم، ويثوبوا إلى رشدهم.
وغير خاف ما في هذا من التهديد الشديد، والوعيد الأكيد لأهل مكة.
أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس « أنّ النبي ﷺ لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: أنت أحبّ بلاد الله إلي، وأنت أحب بلاد الله إلي. ولو لا أن أهلك أخرجونى لم أخرج منك، وأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول (ثارات) الجاهلية فأنزل الله سبحانه على نبيّه (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) » الآية.
ثم ذكر الفارق بين حالى المؤمنين والكافرين والسبب في كون هؤلاء في أعلى عليين وأولئك في أسفل سافلين، فقال:
(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟) أي أفمن كان على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه بما أنزله في كتابه من الهدى والعلم، وبما فطره الله عليه من الفطرة السليمة، فهو على علم بأن له ربّا يجازيه على طاعته إياه بالجنة، وعلى إساءته ومعصيته إياه بالنار - كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله، وأراه إياه جميلا فهو على العمل به مقيم، وعلى السير على نهجه دائب، واتبع هواه وجمحت به شهواته فطفق يعدو في المعاصي، ويخبّ فيها ويضع، غير ملتفت إلى واعظ أو زاجر؟
والخلاصة - أيستوى الفريقان: من كان ثابتا على حجة بينة من عند ربه وهي كتابه الذي أنزله على رسوله وسائر الحجج التي أقامها في الآفاق والأنفس. ومن زين له الشيطان سيىء أعماله من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك، واتباع هواه من غير أن يكون له شبهة يركن إليها تعاضد ما يدعيه، وتطمئن إليها نفسه في الدفاع عما يدين به؟ كلا، هما لا يستويان.
ونحو الآية قوله: « أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى » وقوله: « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ».
[سورة محمد (47): آية 15]
[عدل]مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
تفسير المفردات
مثل الجنة: أي صفتها، آسن: أي متغير الطعم والريح لطول مكثه، وفعله أسن (بالفتح من بابى ضرب ونصر، وبالكسر من باب علم) لذة تأنيث لذّ، وهو اللذيذ، مصفى: أي لم يخالطه الشمع ولا فضلات النحل ولم يمت فيه بعض نحله كعسل الدنيا، حميما: أي حارّا، والأمعاء: واحدها معى (بالفتح والكسر) وهو ما في البطون من الحوايا.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه الفارق بين الفريقين في الاهتداء والضلال - ذكر الفارق بينهما في مرجعهما ومآلهما، فذكر ما للأولين من النعيم المقيم واللذات التي لا يدركها الإحصاء، وما للآخرين من العذاب اللازب في النار وشرب الماء الحارّ الذي يقطّع الأمعاء.
الإيضاح
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفة الجنة التي وعدها الله من اتقى عقابه، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه - ما ستسمعونه بعد.
ثم فسر هذه الصفة بقوله:
(1) (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي فيها أنهار جارية من مياه غير متغيرة الطعم والريح، لطول مكثها وركودها.
(2) (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي لم يحمض ولم يصر قارصا ولا حازرا كألبان الدنيا، وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم.
(3) (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي وفيها أنهار من خمر لذيذة لهم، إذ لم تدنسها الأرجل، ولم ترنّقها (تكدرها) الأيدي كخمر الدنيا، وليس فيها كراهة طعم وريح، ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا، فلا يتكرّهها الشاربون.
(4) (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي وفيها أنهار من عسل قد صفّى من القذى وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية من الشمع وفضالات النحل وغيرها.
وبدىء بالماء لأنه لا يستغنى عنه في الدنيا، ثم باللبن لأنه يجرى مجرى المطعوم لكثير من العرب في غالب أوقاتهم، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والشبع تشوفت النفس لما يستلذ به، ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم.
أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن معاوية ابن حيدة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار منها بعد ».
(5) (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ولهم فيها أنواع من الثمار المختلفة الطعوم والروائح والأشكال.
(6) (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فهو يرضى عنهم بما أسلفوا من عمل، ويتجاوز عن هفواتهم التي اقترفوها في الدنيا.
وبعد أن ذكر ما وعد به المتقين من النعيم - ذكر ما أوعد به الكافرين من العذاب الأليم فقال:
(1) (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي أم من هو خالد في الجنة بحسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به الكتاب في قوله: « وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ » أي ليس هؤلاء كأولئك فليس من هو في الدرجات العلى، كمن هو في الدركات السفلى.
(2) (وَسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي وسقوا ماء حارّا لايستساغ، وإذا دنوا منه شوى وجوههم وقطّع أمعاءهم.
[سورة محمد (47): الآيات 16 الى 19]
[عدل]وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفًا أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
تفسير المفردات
آنفا: أي قبيل هذا الوقت، مأخوذ من أنف الشيء لما تقدم منه، وأصل ذلك الأنف بمعنى الجارحة ثم سمى به طرف الشيء ومقدمه وأشرفه، آتاهم: أي ألهمهم، بغتة: أي فجأة، والأشراط: العلامات، واحدها شرط (بالسكون والفتح) ومنه أشراط الساعة، قال أبو الأسود الدؤلي:
فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا فقد جعلت أشراط أوله تبد
وفإني لهم: أي كيف لهم، ذكراهم: أي تذكرهم، متقلبكم: أي تقلبكم لأشغالكم في الدنيا، ومثواكم: أي مأواكم في الجنة أو النار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال المشركين وبين سوء مغبتهم - أردف هذا بيان أحوال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله ﷺ فيسمعون كلامه ولا يعونه تهاونا واستهزاء به، حتى إذا خرجوا من عنده قالوا للواعين من الصحابة: ما ذا قال قبل افتراقنا وخروجنا من عنده؟ - وهؤلاء قد طبع الله على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم، ومن ثم تشاغلوا عن سماع كلامه وأقبلوا على جمع حطام الدنيا، ثم أعقبه بذكر حال من اهتدوا، وألهمهم ربهم ما يتقون به النار، ثم عنّف أولئك المكذبين وذكر أن عليهم أن يرعووا قبل أن تجىء الساعة التي بدت علاماتها بمبعث محمد ﷺ والذكرى لا تنفع حينئذ، ثم أمر رسوله ﷺ بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله وإصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، والله هو العليم بمتصرفكم في الدنيا ومصيركم إلى الجنة أو إلى النار في الآخرة.
الإيضاح
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفًا؟) أي ومن الناس منافقون يستمعون فلا يعون ما تقول، ولا يفهمون ما تتلو عليهم من كتاب ربك، تغافلا عما تدعو إليه من الإيمان، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا لمن حضر مجلسك من أهل العلم بكتاب الله: ماذا قال محمد قبل أن نفارق مجلسه؟ وما مقصدهم من ذلك إلا السخرية والاستهزاء بما يقول، وأنه مما لا ينبغي أن يؤبه به، أو يلقى لمثله سمع.
روى مقاتل أن النبي ﷺ كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله ابن مسعود، استهزاء: ماذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل.
ثم بين سبب استهزائهم وتهاونهم بما سمعوا فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي هؤلاء الذين هذه صفتهم - هم الذين ختم الله على قلوبهم، فلا يهتدون للحق الذي بعث الله به رسوله ﷺ، واتبعوا شهواتهم وما دعتهم إليه أنفسهم، فلا يرجعون إلى حجة ولا برهان.
ثم ذكر سبحانه أضداد هؤلاء بقوله:
(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ) أي والذين اهتدوا بالإيمان واستماع القرآن زادهم الله بصيرة وعلما وشرح صدورهم وألهمهم رشدهم وأعانهم على تقواه.
ثم بيّن أنهم في غفلة عن النظر والتأمل في عاقبة أمرهم فقال:
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي إنه بعد أن قامت الأدلة على وحدانية الله وصدق نبوّة رسوله وأن البعث حق، وأن الله يهلك من كذب رسله ويحل بهم الوبال والنكال كما شاهدوا ذلك فيمن حولهم من الأمم التي أهلكها الله لتكذيبها رسلها، ولم يبق منها إلا آثارها، ولم يفدهم كل ذلك شيئا ولم يتعظوا ولم يؤمنوا - فماذا ينتظرون للعظة والاعتبار؟ لا ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتة إذ جاءت علامتها، ولم يبق من الأمور الموجبة للتذكر والعظة للإيمان بالله سوى ذلك.
والخلاصة - إن البراهين قد نصبت، والأدلة قد وضحت على وجوب الإيمان بالله، وصدق رسوله، والبعث والنشور، وهم لم يؤمنوا - فلا يتوقع منهم إيمان بعدئذ إلا حين مجىء الساعة بغتة، وهاهى ذي أشراطها قد ظهرت، ومقدماتها قد بدأت، ولم يأبهوا بها، ولا فكروا في أمرها، والمراد بيان أنهم بلغوا الغاية في العناد، والنهاية في الاستكبار.
ثم أظهر خطأهم، وحكم بأن رأيهم آفن في تأخيرهم التذكر إلى قيام الساعة، ببيان أن التذكر لا يجدى نفعا حينئذ فقال:
(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ؟) أي فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟ فإن الذكرى لا تنفع حينئذ، ولا تقبل التوبة، ولا ينفع الإيمان.
ونحو الآية قوله: « يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ».
وبعد أن أبان أن الذكرى لا تنفع إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل - أمر رسوله بالثبات على ما هو عليه، والاستغفار لأتباعه، فقال:
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي إذا علمت سعادة المؤمنين وعذاب الكافرين، فاستمسك بما أنت عليه من موجبات السعادة، واستكمل حظوظ نفسك بالاستغفار من ذنبك (وذنوب الأنبياء أن يتركوا ما هو الأولى بمنصبهم الجليل) وتوجّه بالدعاء والاستغفار لأتباعك من المؤمنين والمؤمنات.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ كان يقول: « اللهم اغفر لي خطيئتى وجهلى وإسرافى في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلى وجدّى، وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندي ».
وثبت أنه كان يقول في آخر الصلاة: « اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت ».
وجاء أيضا أنه قال « أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ».
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: « عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال: إنما أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكونى بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون ».
وفي الأثر المروي « قال إبليس وعزّتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ».
ثم رغبهم سبحانه في امتثال ما يأمرهم به، ورهّبهم مما ينهاهم عنه فقال:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي والله يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم، فاتقوه واستغفروه، فهو جدير بأن يتقى ويخشى، وأن يستغفر ويسترحم.
ونحو الآية قوله: « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ » وقوله: « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ».
[سورة محمد (47): الآيات 20 الى 23]
[عدل]وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)
تفسير المفردات
لو لا: كلمة تفيد الحثّ على حصول ما بعدها، أي هلا أنزلت سورة في أمر الجهاد، محكمة: أي بيّنة واضحة لا احتمال فيها لشيء آخر، مرض: أي ضعف ونفاق، نظر المغشي عليه من الموت: أي كما ينظر المصروع الذي لا يطرف بصره جبنا منه وهلعا، أولى لهم: أي فويل لهم، وهو من الولي بمعنى القرب، والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه ويقرب منهم، عزم الأمر: أي جدّ أولو الأمر، عسى كلمة تدل على توقع حصول ما بعدها، توليتم أي توليتم أمور الناس. وتأمرتم عليهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه حال المنافقين والكافرين والمؤمنين حين استماع آيات التوحيد والحشر والبعث وغيرها من الأمور التي أوجب الدين علينا اعتقادها بقوله فيما سلف « وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ » وقوله: « وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً » - أردف هذا فذكر حالهم في الآيات العملية كآيات الجهاد والصلاة والزكاة ونحوها، فأبان أن المؤمنين كانوا ينتظرون مجيئها ويرجون نزولها، وإذا تأخرت كانوا يقولون: هلا أمرنا بشىء من ذلك، لينالوا ما يقرّبهم من ربهم ويحصلوا على رضوانه والزلفى إليه، وأن المنافقين كانوا إذا نزل شيء من تلك التكاليف شق عليهم ونظروا نظرة المصروع الذي يشخص بصره خوفا وهلعا. ثم ذكر نتيجة لما سلف، وفذلكة لما تقدم، فأعقب هذا بأن الله طرد المنافقين وأبعدهم من الخير، ومن قبل هذا أصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين، وأعمى أبصارهم فلا يسيرون على الصراط المستقيم، أما المؤمنون فقد رضى عنهم وأرضاهم، ونالوا محبته، ودخلوا جنته، فضلا منه ورحمة، والله ذو الفضل العظيم.
الإيضاح
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي إن المؤمنين المخلصين في إيمانهم يشتاقون للوحى، ونزول آيات الجهاد حرصا على ثوابه ويقولون: هلا أنزلت سورة تأمرنا به، فإذا أنزلت سورة واضحة الدلالة في الأمر به فرحوا بها، وشق ذلك على المنافقين، وشخصت أبصارهم هلعا وجبنا من لقاء العدو ونظروا مغتاظين بتحديد وتحديق كمن يشخص بصره حين الموت.
ونحو الآية قوله « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ».
ثم هددهم وتوعدهم فقال:
(فَأَوْلى لَهُمْ) أي فالموت أولى لمثل هؤلاء المنافقين، إذ حياتهم ليست في طاعة الله، فالموت خير منها، وقد يكون المعنى على التهديد والوعيد والدعاء عليهم بالهلاك، فكأنه قيل: أهلكهم الله هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، فهو نحو قولهم في الدعاء بعدا له وسحقا. قال الأصمعي معناه: قاربه ما يهلكه أي نزل به، وأنشد:
فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث
أي قارب أن يزيد.
(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعة لله وقول معروف أمثل لهم وأحسن مما هم فيه من الهلع والجزع والجبن من لقاء العدو، فمتاع الحياة الدنيا متاع قليل، وظل زائل، والآخرة خير لمن اتقى.
(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ) أي فإذا حضر القتال كرهوه وتخلّفوا عنه خوفا وفرقا، ولو صدقوا في إيمانهم واتباعهم للرسول، وأخلصوا النية في القتال لكان خيرا لهم عند ربهم، إذ ينالون به الثواب والزلفى عنده ويعطيهم ما تقرّ به أعينهم، ويدخلهم جنات النعيم.
ثم خاطب أولئك المنافقين خطاب توبيخ وتأنيب فقال:
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي فلعلّكم لما عهد فيكم من الحرص على الدنيا وزخرفها إذ قد أمرتم بالجهاد الذي هو الوسيلة إلى الثواب فكرهتموه، وظهر عليكم ما ظهر من الخوف والهلع والتشبث بالبقاء في هذه الحياة والتكالب على زينتها إن أنتم توليتم أمور الناس وصرتم عليهم أمراء أن تفسدوا في الأرض بالبغي وسفك الدماء، وتقطعوا أرحامكم فتعودوا إلى تباغض الجاهلية من إغارة بعضكم على بعض ونهب الأموال وسفك الدماء.
والخلاصة - إنه لاعجب بعد أن صدر منكم ما صدر من كراهة الدفاع عن حوزة الإسلام - أن تعيدوا أحوال الجاهلية جزعة إذا صرتم أمراء الناس وولاتهم.
وبعد أن ذكر هناتهم بين سببها فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي فهؤلاء هم الذين أبعدهم الله من رحمته، فأصمهم عن الانتفاع بما سمعوا، وأعمى أبصارهم عن الاستفادة مما شاهدوا من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق، فلم يكن سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال مه، قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله ﷺ اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وقد وردت أحاديث كثيرة في صلة الرحم.
[سورة محمد (47): الآيات 24 الى 31]
[عدل]أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)
تفسير المفردات
يتدبرون القرآن: أي يتصفحون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى يقلعوا عن الوقوع في الموبقات، ارتدوا على أدبارهم: أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، سوّل لهم: أي سهّل لهم وزين، وأملى لهم: أي مدّ لهم في الأماني والآمال، يضربون وجوههم وأدبارهم: أي يتوفونهم وهم على أهوال الأحوال وأفظعها، والأضغان: واحدها ضغن، وهو الحقد الشديد، وتضاغن القوم واضطغنوا إذا أبطنوا الأحقاد، قال:
قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصديق وشيّد الأضغانا؟
لأريناكهم: أي لعرّفناكهم، والسيمى: العلامة، ولحن القول: أسلوبه بإمالته عن وجهه من التصريح إلى التعريض والتورية، ولنبلونّكم: أي لنختبرنّكم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن أولئك المنافقين أبعدهم الله عن الخير، فأصمهم فلم ينتفعوا بما سمعوا وأعمى أبصارهم فلم يستفيدوا بما أبصروا - بين أن حالهم دائرة بين أمرين: إما أنهم لا يتدبرون القرآن إذا وصل إلى قلوبهم، أو أنهم يتدبرون ولكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة ثم ذكر أنهم رجعوا إلى الكفر بعد أن تبين لهم الهدى بالدلائل الواضحة، والمعجزات الباهرة، وقد زين لهم الشيطان ذلك وخدعهم بباطل الأماني، ثم بين سبب ارتدادهم وهو قولهم لبنى قريظة والنّضير من اليهود: سنطيعكم في بعض أحوالكم وهو ما حكى عنهم في قوله: « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ » والله يعلم ما يصدر عنهم من كل قبيح.
ثم أردف هذا ذكر ما يصادفونه من الأهوال إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم بسبب اتباعهم أهواءهم وعمل ما يغضب ربّهم، ومن ثم أحبط أعمالهم، وهل يعتقد هؤلاء المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل إنه سيوضح ذلك لذوي البصائر، ولو نشاء لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا، ولكن لم نفعل ذلك، سترا منا على عبادنا، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، وردّا للسرائر إلى عالمها، وإنك لتعرفنّهم فيما يبدو من كلامهم الدالّ على مقاصدهم، بمغامز يضعونها أثناء حديثهم، وقد كان يفهمها رسول الله ﷺ ويفهم مراميها فلا تخفى عليه.
ثم ذكر أنه يبتلى عباده بالجهاد وغيره، ليعلم الصادق في إيمانه، الصابر على مشاقّ التكاليف، من غيره، ويختبر أعمالهم حسناتهم وسيئاتهم فيجازيهم بما قدموا « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ».
الإيضاح
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي وعظ بها في آي كتابه، ويتفكرون في حججه التي بيّنها في تنزيله فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون، أم هم قد أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل في كتابه من العبر والمواعظ؟
والخلاصة - إنهم بين أمرين كلاهما شر، وكلاهما فيه الدمار، والمصير إلى النار، فإما أنهم يعقلون ولا يتدبرون، أو أنهم سلبوا العقول فهم لا يعون شيئا.
ولما أخبر بإقفال قلوبهم بيّن منشأ ذلك فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أي إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا من بعد ما تبين لهم الهدى وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجج، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله - الشيطان زين لهم ذلك وخدعهم بالآمال، وحسّن لهم ما في الدنيا من لذة يتمتعون بها إلى حين، ثم يعودون كما كانوا مؤمنين، إلى نحو ذلك من وساوسه التي لا تدخل تحت الحصر، ولا يبلغها العدّ.
ثم ذكر كيف إنهم ضلوا فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي ذلك الضلال من قبل أنهم مالئوا اليهود من بنى قريظة والنضير وناصحوهم سرا على المؤمنين كما هو شأن المنافقين في كل زمان، والله يعلم ما يسرون وما يخفون، وهو مطلع عليهم وعالم بهم.
ولا يخفى ما في ذلك من الوعيد وشديد التهديد.
ونحو الآية قوله: « وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ».
ثم ذكر أن هذه الحيل إن أجدت في حياتهم فماذا هم فاعلون حين وفاتهم فقال:
(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي فكيف يفعلون إذا جاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم على أقبح الوجوه وأفظعها، وقد مثل ذلك بحال يخافونها في الدنيا، ويجبنون عن القتال من أجلها، وهو الضرب على الوجوه والأدبار، إذ في يوم الوفاة لا نصرة لهم ولا مفرّ، فكيف يحترزون من الأذى، ويبتعدون من العذاب؟.
ثم بين سبب التوفي على تلك الحال الشنيعة فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الهول الذي يرونه من أجل أنهم انهمكوا في المعاصي، وزينت لهم الشهوات، وكرهوا ما يرضى الله من الإيمان به والعمل على طاعته والإخلاص له في السر والعلن، فأحبط ما عملوه من البر والخير، كالصدقات، والأخذ بيد الضعيف، ومساعدة البائس الفقير، وإغاثة الملهوف إلى نحو أولئك، إذ هم فعلوه وهم مشركون فلم تكن لله ولا بأمره، بل بأمر الشيطان للفخر وحسن الأحدوثة بين الناس.
ثم بالغ في توبيخ المنافقين، وإظهار خباياهم، وإعلان نواياهم فقال:
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ) أي بل أحسب أولئك المنافقون الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أن الله لا يكشف أستارهم ويبرز أحقادهم، بلى سيبرزها للرسول ﷺ وللمؤمنين فلا تبقى مستورة، وقد أنزل الله في فضائحهم وما يبطنون من الأفعال سورة براءة، ولذا تسمى الفاضحة كقوله فيهم: « وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » وقوله: « فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ».
ثم أكد ما فهم من سالف الكلام وأنه سيظهرها فقال:
(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي ولو نشاء أيها الرسول لعرّفناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا بعلامات هي غالبة عليهم، ولكنه لم يفعل ذلك في جميع المنافقين للستر على خلقه، وردّا للسرائر إلى عالمها، وحرصا على ألا يؤذي ذوي قرباهم من المخلصين.
(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي ولتعرفنهم فيما يداورونه من القول، فيعدلون عن التصريح بمقاصدهم إلى التعريض والإشارة، وإياه عنى القائل في مدح محبوبته فقال:
منطق صائب وتلحن أحيا نا وخير الحديث ما كان لحنا
يريد أنها تتكلم بشىء وتريد غيره وتعرّض في حديثها فتزيله عن جهته، لفطنتها وذكائها.
وقد كانوا يخاطبون الرسول ﷺ بألفاظ ظاهرها الحسن وهم يعنون بها القبيح. قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي ﷺ منافق إلا عرفه، وقال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله ﷺ، عرّفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه.
وفي الحديث: « ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ».
وروي أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
وقد ثبت في الحديث تعيين جماعة من المنافقين، فقد روى أحمد عن عقبة بن عامر قال: « خطبنا رسول الله ﷺ خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن فيكم منافقين فمن سميت فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين رجلا، ثم قال: إن فيكم منافقين فاتقوا الله، قال فمرّ عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنّع قد كان يعرفه، فقال ما لك؟ فحدّثه بما قال رسول الله ﷺ، فقال بعدا لك سائر الدهر ».
ثم وعد سبحانه وأوعد، وبشر وأنذر فقال:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم بما قدمتم من خير أو شر، إذ لا يضيع عمل عامل عدلا منه ورحمة.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي ولنختبرنكم بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة حتى يتميز المجاهد الصابر من غيره، ويعرف ذو البصيرة في دينه من ذي الشك والحيرة فيه، والمؤمن من المنافق، ونبلو أخباركم فنعرف الصادق منكم في إيمانه من الكاذب.
قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال:
اللهم لا تبتلنا، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
[سورة محمد (47): الآيات 32 الى 35]
[عدل]إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)
تفسير المفردات
شاقوا الرسول: أي عادوه وخالفوه، وأصله صاروا في شقّ غير شقه، فلا تهنوا: أي فلا تضعفوا عن القتال، من الوهن وهو الضعف، وقد وهن الإنسان ووهّنه غيره، وتدعوا إلى السلم: أي تدعوا الكفار إلى الصلح خوفا وإظهارا للعجز، الأعلون: أي الغالبون، والله معكم: أي ناصركم، لن يتركم أعمالكم: أي لن ينقصكموها من وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو سلبت ماله وذهبت به، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو إضاعة شيء معتد به من الأنفس والأموال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المنافقين ستفضح أسرارهم، وأنهم سيلقون شديد الأهوال حين وفاتهم - أردف ذلك ذكر حال جماعة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة والنّضير كفروا بالله وصدوا الناس عن سبيل الله وعادوا الرسول بعد أن شاهدوا نعته في التوراة، وما ظهر على يديه من المعجزات، فهؤلاء لن يضروا الله شيئا بكفرهم، بل يضرون أنفسهم وسيحبط الله مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه، ثم ذكر قصص بني سعد وقد أسلموا وجاءوا إلى رسول الله ﷺ وقالوا: قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلينا، منّا بذلك عليه، فنهاهم عن ذلك وبين لهم أن هذا مما يبطل أعمالهم، ثم أعقب هذا ببيان أن من كفروا وصدوا عن السبيل القويم ثم ماتوا وهم على هذه الحال فلن يغفر الله لهم، ثم أرشد إلى أن عمل الكافرين الذي له صورة الحسنات محبط وأن ذنبهم غير مغفور، وبعدئذ أردف هذا أن الله خاذلهم في الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم، ولا تظهروا ضعفا أمامهم، فإن الله ناصركم، ولن يضيع أعمالكم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله، وصدوا الناس عن دينه الذي بعث به رسوله، وخالفوا هذا الرسول وحاربوه وآذوه من بعد أن استبان لهم بالأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة أنه مرسل من عند ربه - لن يضروا الله شيئا، لأن الله بالغ أمره، وناصر رسوله، ومظهره على من عاداه وخالفه، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها، لإبطال دينه ومشاقة رسوله، ولا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون له من الغوائل، وستكون ثمرتها إما قتلهم أو جلاءهم عن أوطانهم.
والمراد بصد الناس عن سبيل الله، منعهم إياهم عن الإسلام بشتى الوسائل، وعن متابعة الرسول ﷺ والانضواء تحت لوائه.
ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ﷺ فقال:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي يا أيها الذين صدقوا بوحدانية الله وقدرته وسائر صفات كماله، وصدقوا رسوله فيما جاء على لسانه من الشرائع - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في اتباع أوامرهما والانتهاء عن نواهيهما.
ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطل الكفار أعمالهم فقال:
(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) أي ولا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي قاله الحسن، وقال الزهري بالكبائر. وقال مقاتل بالمنّ والأذى وقال عطاء بالنفاق والشرك والأولى أن يراد به النهي عن كل سبب من الأسباب التي تكون سببا في إبطال الأعمال كائنا ما كان بلا تخصيص بنوع معين.
وعن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت هذه الآية، فخافوا أن يبطل الذنب العمل وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا معشر أصحاب رسول الله ﷺ نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها، قلنا قد هلك حتى نزل « إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » فكففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه، وإن لم يصب منها رجونا له.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال في الآية: من استطاع منكم ألا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى.
ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصرّين على الكفر والصدّ عن سبيل الله فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله وصدوا من أراد الإيمان بالله ورسوله عن ذلك، وحالوا بينهم وبين ما أرادوه، ثم ماتوا وهم على كفرهم فلن يعفو الله سبحانه عما صنعوا، بل يعاقبهم ويفضحهم به على رءوس الأشهاد.
وقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر، لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حيا.
ثم ذكر سبحانه أن لا حرمة للكافر في الدنيا والآخرة، فأمر بقتالهم وأرشد إلى أن النصر حليف المؤمنين فقال:
(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي فلا تضعفوا أيها المؤمنون عن جهاد المشركين وتجبنوا عن قتالهم، وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة خورا وإظهارا للعجز، وأنتم العالون عليهم والله معكم بالنصر لكم عليهم، ولا يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها.
[سورة محمد (47): الآيات 36 الى 38]
[عدل]إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
تفسير المفردات
كل ما اشتغلت به مما ليس فيه ضرر في الحال ولا منفعة في المآل ولم يمنعك عن مهامّ أمورك فهو لعب، فإن شغلك عنها فهو لهو، ومن ثم يقال آلات الملاهي، لأنها مشغلة عن غيرها، ويقال لما دون ذلك لعب كاللعب بالشّطرنج والنّرد والحمام، فيحفكم أي فيجهدكم بطلبها جميعا، والإلحاف والإحفاء بلوغ الغاية في كل شيء يقال أحفاه في المسألة: إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، أضغانكم: أي أحقادكم.
المعنى الجملي
بعد أن أمر المؤمنين بترك المعاصي لأنها محبطة لثواب الأعمال الصالحة، وأمرهم بالتشمير عن ساعد الجد للجهاد ومقاتلة الأعداء نصرة لدينه، ووعدهم بأن الله ناصرهم وهم الأعلون، فلا ينبغي لهم أن يطلبوا المهادنة من العدو خورا وجبنا خوفا على الحياة ولذاتها - أكد هذا المعنى فأبان أنه لا ينبغي لكم أيها المؤمنون الحرص على الدنيا، فإنها ظل زائل، وعرض غير باق، وما هي إلا لذات مؤقتة لا تلبث أن تزول، وهي مشغلة عن صالح الأعمال، فلا يليق بكم أن تعضّوا عليها بالنواجذ، بل اعملوا لما يرضى ربكم يؤتكم أجوركم وهو لا يسألكم من أموالكم إلا القليل النزر الذي فيه صلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة، دنيوية كانت أو دينية، وهو عليم بأنكم أشحة على أموالكم، فلو طلبها لبخلتم بها وظهرت أحقادكم على طالبيها، والله قد طلب إليكم الإنفاق في سبيله، والقيام بما تحتاج إليه الدعوة، فإن بخلتم فضرر ذلك عائد إليكم، والله غني عن معونتكم، وإن أعرضتم عن الإيمان والتقوى يأت الله بخلق غيركم يقيمون دينه، وينصرون الدعوة.
الإيضاح
(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) يقول سبحانه حاضّا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به: قاتلوا أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو لا يلبث أن يضمحل ويذهب إلا ما كان منها من عمل في سبيل الله وطلب رضاه.
ثم رغبهم في العمل للآخرة فقال:
(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي وإن تؤمنوا بربكم وتتقوه حق تقاته، فتؤدوا فرائضه وتجتنبوا نواهيه - يؤتكم ثواب أعمالكم فيعوضكم عنها ما هو خير لكم يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم، وهو لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل يأمركم بإخراج القليل منها وهو ربع العشر للزكاة مواساة لإخوانكم الفقراء، ونفع ذلك عائد إليكم.
ثم بين شح الإنسان على ماله وشدة حرصه عليه فقال:
(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي إن يسألكم ربكم أموالكم فيجهدكم بالمسألة ويلحف عليكم بطلبها - تبخلوا بها وتمنعوها إياه ضنا منكم بها، لكنه علم ذلك منكم فلم يسألكموها فيخرج ذلك السؤال أحقادكم لمزيد حبكم للمال.
قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان للاسلام من حيث محبة المال بالجبلّة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرّها.
والخلاصة - قد علم الله شح الإنسان على المال فلم يطلب منه إلا النزر اليسير في الصدقات، وبذل المال في المرافق العامة لإصلاح شئون المجتمع الإسلامي كسدّ الثغور، وبناء القناطر والجسور.
ثم أكد ما سلف وقرره بقوله:
(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي هأنتم أيها المؤمنون تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونصرة دينه.
(فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي فمنكم من يبخل عن النفقة في هذا السبيل، ومن يبخل فإنما ضرر ذلك عائد إلى نفسه، لأنه ينقصها أجرها من الثواب، ويبعدها من رضا الله والقرب منه في جنات النعيم، والله لا حاجة إليه في أموالكم ولا نفقاتكم، فهو الغنى عن خلقه، وخلقه فقراء إليه، وإنما حضكم على النفقة في سبيله، لتنالوا بذلك الأجر والثواب.
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي وإن تعرضوا عن طاعة الله واتباع شرائعه، وترتدوا راجعين عنها، يهلككم ثم يجىء بقوم آخرين غيركم يصدقون بها، ويعملون بالشرائع التي أنزلها على رسوله، ويقومون بذلك كله على ما يؤمرون به، والمراد بهم على ما صح في الحديث أهل فارس.
أخرج عبد الرازق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي والترمذي عن أبي هريرة قال: « تلا رسول الله ﷺ هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) إلخ فقالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونون أمثالنا؟ فضرب رسول الله ﷺ على منكب سلمان، ثم قال هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو أن هذا الدين تعلق بالثريا لتناوله رجال من فارس ».
وقد طعن بعض رواة الحديث فيه وجرّحوا بعض رواته، قال ابن كثير وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم.
قال الكلبي: شرط في الاستبدال توّليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم بهم.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله، ونصر دينه بأتباعه المؤمنين، وجعلهم للعمل بنشره دائبين.
اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد
[عدل](1) وصف الكافرين والمؤمنين من أول السورة إلى قوله: « كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ».
(2) جزاء الفريقين في الدنيا والآخرة من خذلان ونصر ونار وجنة من قوله: « فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ - إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ ».
(3) الوعد والتهديد للمنافقين والمرتدين من قوله: « وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ » إلى آخر السورة.