تفسير المراغي/سورة الإسراء
هي مكية كما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وقال مقاتل إلا ثماني آيات من قوله: وإن كادوا ليفتنونك إلى آخر هنّ.
وآيها عشر ومائة.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم « عن عائشة أن النبي ﷺ كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزّمر »
وأخرج البخاري وابن مردويه « عن ابن مسعود أنه قال في هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادى ».
ووجه مناسبتها لسورة النحل وذكرها بعدها أمور:
(1) إنه سبحانه ذكر في سورة النحل اختلاف اليهود في السبت، وهنا ذكر شريعة أهل السبت التي شرعها لهم في التوراة، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: « إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل ».
(2) إنه لما أمر نبيه ﷺ بالصبر ونهاه عن الحزن وضيق الصدر من مكرهم في السورة السالفة - ذكر هنا شرفه وعلو منزلته عند ربه.
(3) إنه ذكر في السورة السالفة نعما كثيرة حتى سميت لأجلها سورة النعم، ذكر هنا أيضا نعما خاصة وعامة.
(4) ذكر هناك أن النحل يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس - وهنا ذكر: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.
(5) إنه في تلك أمر بإيتاء ذي القربى، وكذلك هنا مع زيادة إيتاء المسكين وابن السبيل.
[سورة الإسراء (17): آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
تفسير المفردات
سبحان الله: أي تنزيها له من كل ما لا يليق بجلاله وكماله، والإسراء كالسري: السير بالليل خاصة، والمسجد الحرام: مسجد مكة، والمسجد الأقصى: بيت المقدس وهو أقصى وأبعد بالنظر إلى من بالحجاز.
الإيضاح
(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي تنزيها للذي أسرى بعبده محمد ﷺ، في جزء من الليل من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ورجع في ليلته، وتبرئة له مما يقوله المشركون من أن له من خلقه شريكا وأن له صاحبة وولدا.
(الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم.
(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي كى نرى عبدنا محمدا من عبرنا وأدلتنا، ما فيه البرهان الساطع والدليل القاطع، على وحدانيتنا وعظم قدرتنا.
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في سرى محمد ﷺ من مكة إلى بيت المقدس، البصير بما يفعلون، لا تخفى عليه خافية من أمرهم، ولا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو محيط به علما، ومحصيه عددا، وهو لهم بالمرصاد، وسيجزيهم بما هم له أهل.
تحقيق ما قيل في الإسراء والمعراج
اعلم أن هاهنا أمرين:
(1) إسراء النبي ﷺ من المسجد الحرام من بيت المقدس، وهذا هو الذي ذكر في هذه السورة.
(2) العروج به والصعود إلى السماء الدنيا ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام بعد وصوله إلى بيت المقدس، ولم يذكر ذلك هنا، وسيأتي بيانه في سورة النجم ونفصل فيه القول تفصيلا إن شاء الله.
آراء العلماء في الاسراء
وهاهنا أمور - مكان الإسراء - زمانه - هل كان الإسراء بالروح والجسد أو بالروح فحسب؟:
(1) يرى جمع من العلماء أن الإسراء كان من المسجد الحرام - وقيل أسري به من دار أم هانىء بنت أبى طالب.
(2) أما زمانه فقد كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وعن أنس والحسن البصري أنه كان قبل مبعثه ﷺ.
(3) أكثر العلماء على أن الإسراء كان بالروح والبدن يقظة لا مناما، ولهم على ذلك أدلة:
(ا) إن التسبيح والتعجب في قوله: سبحان الذي أسرى بعبده - إنما يكون في الأمور العظام - ولو كان ذلك مناما لم يكن فيه كبير شأن ولم يكن مستعظما.
(ب) إنه لو كان مناما ما كانت قريش تبادر إلى تكذيبه، ولما ارتد جماعة ممن كانوا قد أسلموا، ولما قالت أم هانىء لا تحدّث الناس فيكذبوك، ولما فضّل أبو بكر بالتصديق، وجاء في الحديث عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ « لقد رأيتنى في الحجر وقريش تسألني عن مسراى، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها (لم أعرفها حق المعرفة) فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، فما سألونى عن شيء إلا أنبأتهم به » الحديث.
(ج) إن قوله (بعبده) يدل على مجموع الروح والجسد.
(د) إن ابن عباس قال في قوله « وما جعلنا الرّؤيا الّتى أريناك إلا فتنة للنّاس » هي رؤيا عين أريها رسول الله ﷺ ليلة أسرى به، ويؤيده أن العرب قد تستعمل الرؤيا في المشاهدة الحسية ألا ترى إلى قول الراعي يصف صائدا:
وكبّر للرؤيا وهشّ فواده وبشّر قلبا كان جمّا بلابله
(ه) إن الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها، فقد جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، فقد قال تعالى في صفة سير سليمان عليه السلام. « غدوّها شهر ورواحها شهر » وجاء فيه أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر كما قال تعالى: « قال الّذى عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك » وإذا جاز هذا لدى طائفة من الناس جاز لدى جميعهم.
ويرى آخرون أن الإسراء كان بالروح فحسب، ولهم على ذلك حجج:
(ا) إن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن سرى رسول الله ﷺ قال: كان رؤيا من الله صادقة - وقد ضعّف هذا بأن معاوية يومئذ كان من المشركين فلا يقبل خبره في مثل هذا.
(ب) إن بعض آل أبي بكر قال: كانت عائشة تقول ما فقد جسد ورسول الله ﷺ، ولكن أسرى بروحه، ونقدوا هذا بأن عائشة يومئذ كانت صغيرة ولم تكن زوجا لرسول الله ﷺ.
(ج) إن الحسن قال في قوله (وما جعلنا الرؤيا) الآية إنها رؤيا منام رآها (والرؤيا تختص بالنوم).
قال أبو جعفر الطبري: الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله ﷺ أن الله حمله على البراق حتى أتاه به وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات، ولا معنى لقول من قال أسرى بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكرا عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بنى آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل - وبعد فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا بأنه أسرى بروح عبده، وليس جائزا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره - إلى أن الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة، عن رسول الله ﷺ أن الله أسرى به على دابة يقال لها البراق، ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد اهـ.
والخلاصة - إن الذي عليه المعوّل عند جمهرة المسلمين أنه أسرى به عليه السلام يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب، ودخله يصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم ركب البراق وعاد إلى مكة بغلس.
إلمامة في المعراج
يرى بعض العلماء أن عروج النبي ﷺ إلى السموات السبع كان بجسده وروحه يقظة لا مناما لدليلين:
(ا) آية الإسراء إذ صرح فيها بأنه أسرى بعبده، والعبد مجموع الروح والجسد، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بهما.
(ب) الحديث المروي في الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم وغيرهما، وهو يدل على أن الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات العلى ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام.
وأنكره آخرون وأثبت وا أن المعراج كان بالروح فحسب لوجوه:
(1) إن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقوله.
(2) إنه لو صح ذلك لكان أعظم المعجزات وكان يجب أن يظهر حين اجتماع الناس حتى يستدلّ به على صدقه في ادعاء النبوة، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه فيه أحد، ولا يشاهده فيه مشاهد، فإن ذلك عبث لا يليق بحكمة الحكيم.
(3) إن الصعود بالجسم إلى العالم العلوي فوق طبقات معينة مستحيل، لأن الهواء معدوم، فلا يمكن أن يعيش فيه الجسم الحي أو يتنفس فيه.
(4) إن حديث المعراج اشتمل على أشياء في غاية البعد:
(ا) شق بطنه وتطهيره بماء زمزم، والذي يغسل بالماء هو النجاسات العينية، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب من العقائد الزائفة، والأخلاق المذمومة.
(ب) ركوب البراق ولا حاجة له بذلك لأن العالم العلوي في غني عن ذلك.
(ج) إنه تعالى أوجب خمسين صلاة، ولم يزل محمد ﷺ يتردد بين الله وموسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه السلام - وهذا غير جائز كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني لأنه يقتضى نسخ الحكم قبل العمل به، وهذا بداء محال على الله.
(د) لم يقل أحد من المسلمين بأن الأنبياء أحياء بأجسادهم في العالم العلوي، وإنما الحياة هناك حياة روحية لا جسمانية، والتخاطب والكلام معهم والصلاة بهم من الأمور الروحية لا الجسمية، إذ لا يعقل غير هذا - وبهذا يثبت المعراج الروحي لا الجسماني.
ويمكن أن يجيب الأولون عن الاستبعادات العقلية بأن هذه معجزة، والله تعالى قادر على خرق سننه بسنة أخرى، ككل معجزات الأنبياء، من انقلاب العصا حية ثم عودتها في مدة قصيرة عصا صغيرة كما كانت.
ويبقى أمر الحديث، واشتماله على أمور غريبة، لا حاجة إليها في تصديق النبوة، والمحاورة في فرض الصلوات وانتقالها من خمسين إلى خمس مما يستدعى رد الحديث وعدم النظر إليه لاضطراب متنه كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني وإن صححه رواة الحديث باعتبار سنده.
عظة وذكرى
إنا لنقف قليلا لدى هذين الحادثين الجليلين لنستخلص منهما أمورا هي الغاية في العظة والاعتبار:
(1) إن هاتين الرحلتين الرحلة الأرضية (الإسراء) والرجلة السماوية (المعراج) حدثتا في ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة، ليمحّص الله المؤمنين، ويبين منهم صادق الإيمان ومن في قلبه منهم مرض، فيكون الأول خليقا بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة والانضواء تحت لوائه، وجديرا بما يحتمله من أعباء عظام، وتكاليف شاقة، من حروب دينية، وقيام بدعوة عظيمة تستتبع همة قعساء، وإنشاء دولة تبتلع المعمور في ذلك الحين شرقا وغربا.
(2) إن الله أطلع رسوله على ما في هذا الكون أرضيّه وسماويّه من العظمة والجلال، ليكون ذلك درسا عمليا لتعليم رسوله بالمشاهدة والنظر، فإن التعليم بالمشاهدة أجدى أنواع التعليم، فهو وإن لم يذهب إلى مدرسة، أو يجلس إلى معلم، أو يسح في أرجاء المعمورة، أو يصعد بالآلات العلمية إلى السماء - فقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم التي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهما إلا بضرب من التخيل والتوهم، فأنّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حبس عنا الكثير من العلم ولم نؤت إلا قليله « وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ».
(3) إن ما يجدّ كل يوم من ضروب المخترعات، والتوسل بها إلى طى المسافات، بوسائل الطيارات، وقطع المحيطات في قليل الساعات، من قارة إلى قارة، ومن قطر إلى قطر، ليجعلنا نعتقد أن ما جاء في وصف هاتين الرحلتين من الأمور الميسورة التي ليست بالعزيزة الحصول أو الأمور المستحيلة.
(4) إن روحانية الأنبياء تتغلب على كثافة أجسامهم، فما يخيّل إلينا من العوائق العملية، من صعوبة الوصول إلى الملأ الأعلى، لتخلخل الهواء، واستحالة الوصول إلى الطبقات العليا من السماء، فهو إنما يكون بالنظر إلى الأجرام والأجساد المشاهدة في عالم الحس، وإن لروحانية الأنبياء والملائكة أحكاما لم يصل العقل البشرى إلى تحديدها وإبداء الرأي فيها، وإنها لفوق مستوى إدراكه، فأجدر بنا ألا نطيل البحث فيها ولا التعمق في استقصاء آثارها.
(5) إن ما جاء في الحديث من أن الرسول ﷺ صلى إماما بالأنبياء في عالم السموات ليرشد إلى أن محمدا ﷺ جاء بشريعة ختمت الشرائع السالفة كلها، وأئمتها ومن أوتوها ألقوا الزعامة إليه، وصاروا مؤتمين به.
(6) إن في هذا مغزى جديرا بطويل التأمل والتفكير، وهو أن جميع الأنبياء كانوا في وفاق ووثام في الملكوت الأعلى بالقرب من ربهم الذي أرسلهم - أفلا يجدر بمتبعيهم أن يقتفوا سنة رسلهم، وأن يجعلوا أمرهم بينهم سلما لا حربا، وأن يجعلوا الشريعة الأخيرة، والقانون الذي جاءت، به هو الشريعة التي يقضى بها بين الناس، كما هو المتبع في القوانين الوضعية، فإن الذي يجب العمل به هو القانون الأخير، وهو يلغى جميع ما سبقه.
[سورة الإسراء (17): الآيات 2 الى 8]
وآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا (8)
تفسير المفردات
الكتاب: هو التوراة، وكيلا: أي كفيلا تكلون إليه أموركم، شكورا أي كثير الشكر، وقضينا: أي أعلمنا بالوحي، لتعلن: أي لتستكبرنّ عن طاعة الله، والوعد أي الموعد به وهو العقاب، والبؤس والبأس والبأساء: الشدة والمكروه كما قال الراغب إلا أن البؤس كثر استعماله في الفقر والحرب، والبأس والبأساء في النكاية بالعدو، جاسوا خلال الديار: توسطوها وترددوا بينها، والكرة: الدّولة والغلبة وأصل الكر العطف والرجوع، والنفير والنافر: من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، والتتبير: الهلاك وهي كلمة نبطية كما روى عن سعيد بن جبير وكل شيء كسرته وفتته فقد تبرته، ما علوا: أي ما غلبوا واستولوا عليه من بلادكم، والحصير: السجن كما قال ابن عباس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآية الأولى أنه أكرم عبده ورسوله بالإسراء من مكة إلى بيت المقدس - أردف ذلك ذكر ما أكرم به موسى قبله من إعطائه التوراة وجعلها هدى لبني إسرائيل، ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والهدى، ثم قفّى على ذلك ببيان أنهم ما عملوا بهديها، بل أفسدوا في الأرض فسلط الله عليهم البابليين أثخنوا فيهم وقصدوهم بالقتل والنهب والسلب.
ولما تابوا أزال عنهم هذه المحنة، وأعاد لهم الدّولة، وأمدهم بالأموال والبنين، وجعلهم أكثر عددا مما كانوا، ثم عادوا إلى عصيانهم وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، فسلط الله عليهم من أدال دولتهم مرة أخرى، فأعمل فيهم السيف، وسلب ونهب، وجاس خلال ديارهم، فدخل بيت المقدس كرة أخرى بالقهر والغلبة والإذلال، وأهلك ما أهلك مما قد جمعوه وكنزوه، ثم أوعدهم على عصيانهم بالعقاب في الآخرة بنار جهنم، وبئس السجن هي لمن عصى الله وخالف أوامر دينه.
الإيضاح
(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) أي وأعطينا موسى التوراة وجعلنا فيها هداية لبني إسرائيل، وقلنا لهم: لا تتخذوا من دوني وليا ولا نصيرا تكلون إليه أموركم، وهذه مقالة أوحى الله بها إلى كل نبي أرسله، أمرهم جميعا أن يعبدوه وحده لا شريك له، وألا يعوّلوا في أمر إلا عليه.
وقد جاءت هذه الآية عقب ذكر آية الإسراء بالنبي ﷺ من قبل أن موسى أوتى التوراة بمسيره إلى الطور، كما أسرى بمحمد إلى بيت المقدس.
ثم نبّه إلى عظيم شرف بني إسرائيل، وإتمام نعمته عليهم، ليكون في ذلك تهييج لهم، وبيان لعظيم المنة عليهم فقال:
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا) أي يا سلالة ذلك النبي الكريم الذي شمله الله بجميل رعايته، وأنجاه من غرق الطوفان، بما ألهمه من عمل السفينة التي حمل فيها من كل زوجين اثنين، أنتم من حفدة أبنائه، فتشبهوا بأبيكم، واقتدوا به، فإنه كان عبدا شكورا أي مبالغا في الشكر، بصرفه كل ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، فاللسان لذكر الله، والعقل للفكر فيما خلق الله، والبصر للتأمل فيما صنع الله، وهكذا بقية الحواس وأعضاء الجسم.
أخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي ﷺ قال: « إن نوحا كان إذا أمسى وأصبح قال سبحان (اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ).
وأخرج ابن جرير والبيهقي والحاكم عن سلمان الفارسي قال: « كان نوح إذا لبس ثوبا أو أطعم طعاما حمد الله تعالى فسمّى عبدا شكورا ».
وفي هذا إيماء إلى أن إنجاء من كان معه كان ببركة شكره، وفيه حث للذرية على الاقتداء به، وزجر لهم عن الشرك الذي هو أفظع مراتب الكفر.
ثم بين سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بالتوراة، وجعلها هدى لهم لكنهم لم يهتدوا بها فقال:
(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) أي وأوحينا إلى بني إسرائيل فيما أنزلناه في التوراة على موسى فأعلمهم به: لتعصنّ الله ولتخالفنّ أمره مرتين: أولا هما تغيير التوراة وقتل شعيا عليه السلام وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله. والثانية قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام ولتستكبرنّ عن طاعة الله، ولتبغنّ على الناس، ولتظلمنهم ظلما شديدا، تفرطون فيه، وتبلغون أقصى الغاية.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولًا) أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود أرسلنا عليكم لمؤاخذتكم بجنايتكم عبادا لنا أولى بطش شديد في الحروب، هم سنحاريب ملك بابل وجنوده، أوغلوا في البلاد، وترددوا بين الدور والمساكن، للقتل والسلب والنهب، وقتلوا علماءكم وكبراءكم، وأحرقوا التوراة وخرّبوا بيت المقدس، وسبوا منكم عددا كثيرا، وكان ذلك وعدا نافذا لا مردّ له.
(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) أي ثم رجعت لكم الدّولة والغلبة على الذين فعلوا بكم ما فعلوا، حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلوّ، فغزوتم البابليين واستنقذتم الأسرى والأموال، ورجع الملك إليكم، وكثرت أموالكم بعد أن نهبت، وأولادكم بعد أن سبيت، وصرتم أكثر عددا، وأعظم قوة مما كنتم من قبل، وذلك بفضل طاعته تعالى والإخبات إليه ومن ثم قال:
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي إن أحسنتم فأطعتم الله ولزمتم أمره وتركتم نهيه - أحسنتم لأنفسكم، لأنكم تنفعونها بذلك في دنياها وآخرتها أما في الدنيا فإن الله يدفع عنكم أذى من أرادكم بسوء، ويرد كيده في نحره، وينمي لكم أموالكم، ويزيدكم قوة إلى قوتكم، وأما في الآخرة فإن الله يثيبكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ويرضى عنكم (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ).
وإن عصيتم ربكم وفعلتم ما نهاكم عنه فإلى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطونه، فيسلط عليكم في الدنيا أعداءكم، ويمكّن منكم من يبغى بكم السوء، ويلحق بكم في الآخرة العذاب المهين.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا) أي فإذا جاء وقت حلول العقاب على المرة الآخرة من مرّتى إفسادكم في الأرض، بعثنا أعداءكم، ليجعلوا آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم (فإن الأعراض النفسية تظهر في الوجوه فالفرح يظهر فيها النضارة والإشراق، والحزن والخوف يظهر فيها الغبرة والقترة) وليدخلوا المسجد قاهرين فاتحين مذلّين لكم كما دخلوه أول مرة، وليهلكوا ما ادخر تموه وخزنتموه تتبيرا شديدا، فلا يبقون منه شيئا.
قال البيضاوي: سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف ويسمى بيردوس أو خردوس اهـ.
والذي أثبته اليهود في تواريخهم أن الذي أغار عليهم أولا وخرّب بيت المقدس هو بختنصّر وكان ذلك في زمن إرميا عليه السلام، وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام، فحبسوه في بئر وجرحوه - وأن الذي أغار عليهم ثانيا هو أسبيانوس قيصر الروم، وكان بين الإغارتين نحو من خمسمائة سنة.
وعلى الجملة فمعرفة من بعث إليهم بأعيانهم وتواريخ البعوث مما لا يتعلق به غرض كبير، لأن المراد أنه كلما كثرت معاصيهم سلط الله عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى.
وظاهر الآية يدل على اتحاد المبعوثين أولا وثانيا.
(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد البعث الثاني إن تبتم وازدجرتم عن المعاصي، وقد حقق الله لهم وعده، فكثر عددهم وأعزهم بعد الذلة وجعل منهم الملوك والأنبياء.
(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي وإن عدتم لمعصيتى وخلاف أمري وقتل رسلي - عدنا عليكم بالقتل والسّباء وإحلال الذل والصغار بكم، وقد عادوا فعاد الله عليهم بعقابه، فقد كذّبوا النبي ﷺ وهمّوا بقتله فسلطه الله عليهم، فقتل قريظة وأجلى بني النضير وضرب الجزية على الباقين، فهم يعطونها عن يد وهم صاغرون، ولا ملك لهم ولا سلطان.
(وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا) قال الحسن: الحصير هو الذي يبسط ويفرش والعرب تسمى البساط الصغير حصيرا، أي إنه تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا كما قال: « لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ » وقال ابن عباس وغيره: جعلناها سجنا محيطا بهم حابسا لهم، لا رجاء لهم في الخلاص منه.
وخلاصة ذلك - إن لهم في الدنيا ما تقدم وصفه من العذاب، وفى الآخرة ما يكون محيطا بهم من عذاب جهنم فلا يتخلصون منه أبدا.
[سورة الإسراء (17): الآيات 9 الى 11]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (11)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أكرم به من اصطفاه من النبيين والمرسلين، فأكرم محمدا ﷺ بالإسراء، وأكرم موسى بالتوراة، وجعلها هدى لبني إسرائيل، ثم بين أنهم لم يعملوا بها فحلّ بهم عذاب الدنيا والآخرة - قفّى على ذلك بالثناء على القرآن الكريم وبيان أنه يهدى للصراط المستقيم، ويبشر الصالحين بالأجر والثواب العظيم، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم، ثم أردف ذلك بذكر طبيعة الإنسان وأنه حلق عجولا، قد يدعو على نفسه بالشر أي بالموت والهلاك، والدمار واللعنة كما يدعو لنفسه بالخير.
الإيضاح
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا) مدح الله سبحانه كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله ﷺ ووصفه بصفات ثلاث:
(1) إنه يرشد من اهتدى به للسبيل التي هي أقوم السبل، وهي ذلك الدين القيم والملة الحنيفية السمحاء، التي أهم دعائمها الإخبات لله والإنابة إليه واعتقاد أنه واحد لا شريك له، وأنه صاحب الملك والملكوت، وهو الحي الذي لا يموت، وهو الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
(2) إنه يبشر المؤمنين بالله ورسوله الذين يعملون صالح الأعمال فيأتمرون بما أمر به، وينتهون عما نهاهم عنه، بالأجر العظيم يوم القيامة كفاء ما قدّموا لأنفسهم من عمل صالح.
(3) إنه ينذر الذين لا يصدّقون بالمعاد، ولا يقرون بالثواب والعقاب في الدنيا، فلا يتحاشون ركوب المعاصي - بالعذاب الأليم الموجع جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من.
الكفر واجتراح الآثام، ويدخل في هؤلاء أهل الكتاب، لأن بعضهم ينكر الثواب والعقاب الجسمانيين، وبعضهم يقول: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، وإطلاق البشارة على العقاب من قبيل التهكم كما في قوله: « فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ».
وبعد أن بين حال الهادي وهو الكتاب الكريم بين حال المهدي وهو لإنسان فقال:
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر حين الغضب فيقول: اللهم العنّى اللهم أهلكني، كدعائه ربه بالخير أي بأن يهب له العافية ويرزقه السلامة، ولو استجيب له في دعائه بذاك كما يستجاب له في هذا لهلك، ولكن الله بفضله ومنته لا يستجيب دعاءه كما قال « وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ »
وفي الحديث « لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها ».
وروي أن النبي ﷺ دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئنّ بالليل، فقالت له مالك تئن فشكا ألم القدّ (سير من جلد غير مدبوغ تربط به يدا الأسير ورقبته) فأرخت له من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي ﷺ دعا به فأعلم بشأنه، فقال عليه الصلاة والسلام « اللهم اقطع يدها » فرفعت سودة يدها يتوقع أن يقطع الله يدها، فقال النبي ﷺ « إني سألت الله أن يجعل دعائى على من لا يستحق عذابا من أهلي رحمة، لأني بشر أغضب كما تغضبون، فلتردّ سودة يدها ».
وقد يكون المعنى في الآية - إن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن فيه خيره، مع أن ذلك قد يكون سبب بلائه وشره لجهله بحاله، وإنما يقدم على ذلك العمل لكونه عجولا مغترّا بظواهر الأمور، غير متفحص لحقائقها وأسرارها، ومن ثم قال:
(وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضرره.
وفي الآية إيماء إلى أن القرآن يدعو للتي هي أقوم، ويأبون إلا التي هي ألوم.
[سورة الإسراء (17): آية 12]
وجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الهداية والإرشاد بالقرآن الكريم - قفّى على ذلك بالاستدلال بالآيات والدلائل التي في الآفاق، وهي برهان نير لا ريب فيه، وطريق بيّن لا يضلّ من ينتحيه.
الإيضاح
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي وجعلنا الليل والنهار دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا، أما في الدين فلأن كلا منهما مضادّ للآخر ومخالف له، مع تعاقبهما على الدوام، وهذا من أقوى الأدلة على أنه لا بد لهما من فاعل مدبر يقدّرهما بمقادير مخصوصة، وأما في الدنيا فلأن مصالحه لا تتم إلا بهما، فلولا الليل لما حصل السكون والراحة، ولولا النهار لما حصل ال كسب والتصرف في وجوه المعاش.
(فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي فمحونا آية هي الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلمة لا يستبين فيه شيء، كما لا يستبين ما في اللوح الممحوّ، روى ذلك عن مجاهد.
(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي وجعلنا الآية التي هي النهار مضيئة ومبصرة أي يبصر أهلها فيها.
(لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) أي فعلنا ذلك، لتطلبوا لأنفسكم فيه رزقا من ربكم، إذ لا يتسنى ذلك في الليل، وفى التعبير عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء، مع ذكر صفة الربوبية الدالة على الوصول إلى ذلك شيئا فشيئا - دلالة على أنه ليس للمرء في تحصيل الرزق سوى الطلب بالأسباب العادية، وفي الخبر « يطلبك رزقك، كما يطلبك أجلك »
وقيل:
ولقد علمت وما الإشراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلّبه ولو قعدت أتاني لا يعنّيني
(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي ولتعلموا بمحو آية الليل، وجعل آية النهار مبصرة، عدد السنين التي تتوقف عليها مصالحكم الدينية والدنيوية، ولتعلموا الحساب أي حساب الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من تلك المصالح، إذ لو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف شيء من هذا كما قال تعالى « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَدًا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » وقال: « هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ » ولا شك أن في ذكر منافعهما، وبيان ما فيهما من الدلالة على وجود الخالق تفصيلا لتلك الفوائد، لا جرم قال:
(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا) أي وكل شيء لكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم قد فصلناه تفصيلا بينا، ونحو الآية قوله « ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ » وقوله « وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ».
[سورة الإسراء (17): الآيات 13 الى 21]
وكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
تفسير المفردات
طائره: أي عمله، سمى به إما لأنه طار إليه من عشّ الغيب، وإما لأنه سبب الخير والشر كما قالوا: طائر الله لا طائرك، أي قدر الله الغالب الذي يأتي بالخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن إذ جرت عادتهم بأن يتفاءلوا بالطير ويسمونه زجرا، فإن مرّبهم من اليسار إلى اليمين تيمنوا به وسمّوه سانحا، وإن مرّ من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه وسموه بارحا، كتابا: هو صحيفة عمله، منشورا: أي غير مطوى، حسيبا: أي حاسبا أي عادّا له يعد عليه أعماله، والوزر: الإثم والذنب، يقال منه وزر يزر فهو وازر وهي وازرة، أي نفس وازرة، والمترفون: هم المنعّمون من الملوك والعظماء، أمرنا مترفيها، أي أمرناهم بالطاعة، ففسقوا: أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا، فحق عليها القول: أي وجب لها العذاب، والتدمير: الإهلاك مع طمس الأثر، والقرن: القوم يجمعهم زمان واحد، وقد حدد بأر بعين سنة، وبثمانين، وبمائة، والعاجلة: الدار الدنيا، يصلاها: أي يقاسى حرها، مدحورا: أي مطرودا مبعدا من رحمة الله، محظورا: أي ممنوعا عمن يريده.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف حال كتابه الذي يحوى النافع والضار من الأعمال، مما يكون به سعادة الإنسان وشقاؤه في دينه ودنياه - قفى على ذلك بذكر حال كتاب المرء وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله إلا أحصاها، وأن حسنها وقبحها تابع لأخذه بما في الكتاب الأول أو تركه لذلك، فمن أخذ به اهتدى ومنفعة ذلك عائدة إليه، ومن أعرض عنه ضل وغوى، ووبال ذلك راجع عليه ثم أكد عنايته بعباده، وأنه لا يعاقب أحدا منهم إلا إذا أرسل الرسل يبلغون رسالات ربهم رحمة بهم ورأفة، وأعقب ذلك بأن عذابه إنما يكون بكسب المرء واختياره، وأن هذا واقع بتقدير الله وعلمه، وإذا وقعت المعصية حلت العقوبة بعذاب الاستئصال، كما فعل بكثير من الأمم التي من بعد نوح كعاد وثمود، والله عليم بأفعالهم وبما يستحقون، ثم قسم العباد قسمين قسم يحب الحياة الدنيا ويعمل لها، وعاقبته دار البوار وبئس القرار، وقسم يعمل للآخرة ويسعى لها سعيها وهو مؤمن، وأولئك سعيهم مشكور مقبول عند ربهم، ولهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وهؤلاء وهؤلاء يمدهم ربهم بعطائه، إذ ليس عطاؤه بممنوع عن أحد، ولكن قد فضّل بعضهم على بعض في أرزاق الدنيا، ومراتب التفاوت في الآخرة أكثر من درجات التفاوت في الدنيا وأبعد مدى.
الإيضاح
(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا) أي وألزمنا كل امرئ عمله الذي يصدر منه باختياره بحسب ما قدر له من خير أو شر، لا ينفك عنه بحال والعرب تضرب المثل للشىء الذي يلزم بالشيء الذي يوضع في العنق، فيقولون جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به، وخصوا العنق لأنه يظهر عليه ما يزين المرء كالقلائد والأطواق، أو ما يشينه كالأغلال والأوهاق (الحبال تجرّ بها الدواب).
وخلاصة هذا - إن كل إنسان منكم معشر بنى آدم ألزمناه نحسه وسعده، وشقاءه وسعادته، بما سبق في علمنا أنه صائر إليه، ونحن نخرج له حين الحساب كتابا يراه منشورا وفيه أعماله التي كسبها في الدنيا، وقد أحصى عليه ربه فيه كل ما أسلف في تلك الحياة.
أخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: قال الله يا بن آدم بسطنا لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، قد عدل والله من جعلك حسيب نفسك.
(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) أي ونخرج له يوم القيامة حين البعث والحساب كتابا يلقاه منشورا، فيقال له اقرأ كتاب عملك الذي عملته في الدنيا وكان الملكان يكتبانه ويحصيانه عليك، وحسبك اليوم نفسك عليك حاسبا تحسب عليك أعمالك فتحصيها، لا نبتغى عليك شاهدا غيرها، ولا نطلب محصيا سواها.
وبعد أن ذكر أن القرآن هاد للتي هي أقوم وأن الأعمال لازمة لأصحابها بين أن منفعة العمل ومضرته راجعة إلى عامله فقال:
(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي من استقام على طريق الحق واتبعه، واتبع الدين الذي بعث به محمد ﷺ، فنفسه قد نفع، ومن حاد عن قصد السبيل وسار على غير هدى وكفر بالله ورسوله وبما جاء به من عند ربه من الحق فلا يضرنّ إلا نفسه، لأنه جعلها مستحقة لغضب الله وأليم عذابه ثم زاد الجملة الثانية توكيدا بقوله:
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تأثم نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس.
وفي هذا قطع لأطماعهم الفارغة، إذ كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الوليد ابن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم.
ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله: « لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ » وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ » فإن الدعاة إلى الضّلال عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم من أضلوا من غير أن ينقص أوزار أولئك ولا يرفع عنهم منها شيئا، وهذا عدل من الله ورحمة منه بعباده.
ثم ذكر عنايته ورحمته بهم فقال:
(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) أي وما كنا مهلكى قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع أعذارهم، وبمعنى الآية قوله تعالى « كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ » وقوله: « أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ » إلى نحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.
وخلاصة ذلك - إن سنتنا المبنية على الحكم العالية ألا نعذب أحدا أي نوع من العذاب الدنيوي أو الأخروي على فعل شيء أو تركه إلا إذا أرسلنا رسولا يهدى إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع وتبلغه دعوته.
قال الإمام الغزالي: الناس بعد بعثة الرسول ﷺ أصناف ثلاثة:
(ا) من لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا، وأولئك مقطوع لهم بالجنة.
(ب) من بلغتهم دعوته وظهور المعجزات على يديه، وما كان عليه ﷺ من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة، ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهر أنينا، وأولئك مقطوع لهم بالنار.
(ح) من بلغتهم دعوته ﷺ وسمعوا به ولكن كما يسمع أحدنا بالدجالين وحاشا قدره الشريف عن ذلك، وهؤلاء أرجو لهم الجنة إذا لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به اهـ.
يريد الغزالي بهذا أنهم سمعوا عنه أخبارا مكذوبة، وعن دينه أخبارا لا تنطبق على حقيقته، كما يفعل رجال الكنائس في تشويه أخبار الرسول بأنه مزواج مطلاق، وأنه كان متهالكا في حب النساء، وأن دينه دين وثنية، لأنه كان يسجد للكعبة، وأنه خالف جميع الأنبياء واتجه إليها ولم يتجه لبيت المقدس، وأن القرآن كثير المتناقضات كثير التكرار للقصص وفيه كذب، إلى نحو أولئك مما يقولون وهم لا يقولون إلا ترّهات وأباطيل.
ثم بين كيف يقع العذاب بعد بعثة الرسل فقال:
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا) أيإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك أي قرية بعذاب الاستئصال لما ظهر منها من المعاصي ودنست به أنفسها من الآثام - لم نعاجلها بالعقوبة، بل نأمر مترفيها بالطاعة فإذا فسقوا عن أمرنا وتمردوا حق عليهم العذاب جزاء وفاقا لاجتراحهم
السيئات وارتكابهم كبائر الإثم والفواحش، فدمرنا تلك القرية تدميرا ولم نبق منها ديّارا ولا نافخ نار.
وخص المترفين بالذكر لما جرت به العادة أن من سواهم يكون تبعا لهم، وأن العامة والدهماء يقلدونهم فيما يفعلون، ولأنهم أسرع إلى الفجور وأقدر على الوصول إلى سبله.
وقد يكون المراد من الأمر - أن الله يفيض عليهم نعمه التي تبطرهم وتجعلهم يقعون في المعاصي، فكأنه تعالى يأمرهم بها، إذ مهد لهم الأسباب الموصلة إليها.
وحكى بعض أئمة اللغة أن المراد (بأمرنا) أكثرنا واستدل بما أخرجه أحمد والطبراني من قوله ﷺ « خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة » أي مهرة كثر نسلها وطريق مصطفة من النخل مأبورة (كثر فيها اللقاح) لتثمر الثمر الجني.
ثم ذكر أن كثيرا من الأمم قد حق عليها العذاب بذنوبها فقال:
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) أي وقد أهلكنا أمما كثيرة قبلكم من بعد نوح حتى زمانكم حين جحدوا آيات الله وكذبوا رسله وكانوا على مثل ما أنتم عليه من الشرور والآثام، ولستم بأكرم على الله منهم، فاحذروا أن يحل بكم من العقاب مثل ما حل بهم وينزل بكم سخطه مثل ما نزل بهم.
وفي هذا من الوعيد لمكذبى رسول الله ﷺ من مشركي قريش وتهديدهم بشديد العقاب إن لم ينتهوا عما هم عليه من تكذيب رسوله - ما لا يخفى.
(وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) أي وحسبك أيها الرسول بالله خبيرا بذنوب خلقه، فلا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك ولا أفعال غيرهم، بل هو عليم بجميع أعمالهم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقون.
ثم قسم سبحانه عباده قسمين محب للعاجلة ومحب لأعمال الآخرة:
(1) (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا) أيمن كان طلبه الدنيا العاجلة، ولها يعمل ويسعى وإياها يبتغى، لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا من ربه على ما يعمل، يعجل الله له في الدنيا ما يشاء من بسط الرزق وسعة العيش ثم يصليه حين مقدمه عليه في الآخرة جهنم مذموما على قلة شكره وسوء صنيعه فيما سلف، مبعدا من رحمته مطرودا من إنعامه.
وقد اشتمل هذا العقاب على أمور ثلاثة:
(ا) الدوام والخلود وإلى ذلك الإشارة بقوله: ثم جعلنا له جهنم يصلاها أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه.
(ب) الإهانة والاحتقار وإلى ذلك أشار بقوله مذموما.
(ح) البعد والطرد من رحمة الله دائما فلا يتخلل ذلك راحة ولا يعقبه خلاص وإلى هذا أشار بقوله: مدحورا، وفى قوله: لمن نريد، إشارة إلى أن الفوز بالدنيا لا يحصل لكل من يريدها، فكثير من الكفار الضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا ثم هم يبقون محرومين من الدين والدنيا.
وفي هذا تهديد وزجر عظيم لهؤلاء الكفار، فإنهم قد يتركون الدين لطلب الدنيا، وربما فاتتهم أيضا.
(2) (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) أي ومن أراد الآخرة ولها عمل وإياها طلب، فأطاع الله وطلب ما يرضيه، وهو مصدق بثوابه وعظيم جزائه على سعيه لها - شكر الله له جزيل سعيه وآتاه حسن المثوبة كفاء ما قدم من صالح العمل، وتجاوز عن سيئاته، وأدخله فراديس جناته.
وقد اشترط لهذا الجزاء أمورا ثلاثة:
(ا) أن يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، فإن لم تحصل هذه النية لم ينتفع بذلك العمل كما قال: « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى » وجاء في الحديث: « إنما الأعمال بالنيات » - إلى أن استنارة القلب بمعرفة الله ومحبته لا تحصل إلا إذا نوى العامل بعمله طاعة ربه والإخبات والخشوع له.
(ب) أن يعمل العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة، ولا يكون ذلك إلا إذا كان من القرب والطاعات، لا من الأعمال الباطلة كعبادة الأوثان والكواكب والملائكة.
(ح) أن يكون ذلك وهو مؤمن، فإن أعمال البر لا توجب الثواب إلا إذا وجد الإيمان.
ثم بين سبحانه أن عطاءه ورزقه الدنيوي لا يحظر على كل من الفريقين فقال:
(كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) أي إن كلا من الفريقين مريدى العاجلة ومريدى الآجلة الساعي لها سعيها وهو مؤمن يمده ربه بعطائه ويوسع عليه الرزق ويكثر الأولاد وغيرهما من زينة الدنيا، فإن عطاءه ليس بالممنوع من أحد من خلقه مؤمنا كان أو كافرا، فكلهم مخلوق في دار العمل، فوجب إزالة العذر ورفع العلة وإيصال متاع الدنيا إليهم على القدر الذي يقتضيه صلاحهم، ثم تختلف أحوال الفريقين، ففريق العاجلة إلى جهنم وبئس المهاد، وفريق الآجلة إلى جنات تجرى من تحتها الأنهار، ونعم عقبى الدار.
ثم وضح مامر من الإمداد وعدم محظورية العطاء على أحد فقال:
(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي انظر إلى عطائنا للفريقين في الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض، فأوصلنا رزقنا إلى مؤمن وقبضناه عن آخر، وأوصلناه إلى كافر ومنعناه من كافر آخر، ولهذا حكم وأسباب بيّنها سبحانه بقوله: « وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ » وقوله « نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ».
(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أي ولتفاوتهم في الدار الآخرة وتفاضلهم فيها أكبر من تفاضلهم في الدار الدنيا، فإن منهم من يكون في الدركات السفلى في جهنم مصفّدا بالسلاسل والأغلال، ومنهم من يكون في الدرجات العليا في نعيم وحبور، وكل فريق يتفاوتون فيما بينهم
ففي الصحيحين « إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في السماء »
وفيهما: « إن الله تعالى أعدّ لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ».
وروى ابن عبد البر عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي (وكان أحد الأشراف في الجاهلية) وأبو سفيان ابن حرب ومشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم، فقال أبو سفيان ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم: أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، إنهم دعوا ودعينا (يعنى إلى الإسلام) فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكبر.
وعن بعضهم أنه قال: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة، وهي أكبر وأفضل؟
[سورة الإسراء (17): الآيات 22 الى 39]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا (31) ولا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) ولا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
تفسير المفردات
فتقعد: أي فتصير، مذموما: أي ممن يستحق الذم من الملائكة والمؤمنين، مخذولا: أي من الله لأنك أشركت معه مالا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وقضى: أي حكم وأمر، وأفّ: اسم صوت ينبىء عن التضجر والتألم ويقولون لا تقل لفلان أف أي لا تتعرّض له بنوع من الأذى والمكروه، والنهر: الزجر بغلظة، كريما: أي جميلا لا شراسة فيه، قال الراغب: كل شيء يشرف في جنسه يقال إنه كريم. وخفض الجناح يراد به التواضع والتذلل، من الرحمة: أي من فرط رحمتك عليهما، والأوّاب: الذي ديدنه الرجوع إلى الله والالتجاء إليه حين الشدة، والتبذير إنفاق: المال في غير موضعه، وإخوان الشياطين: أي قرناؤهم، والابتغاء: الطلب، والرحمة الرزق، والميسور: السهل اللين، والمغلولة: المقيدة بالغلّ وهو القيد يوضع في اليدين والعنق، وتبسطها: أي تتوسع في الإنفاق، والمحسور: المنقطع عن السير إعياء وكلالا، ويقدر: أي يقتر، والإملاق: الفقر قال:
وإني على الإملاق ياقوم ماجد أعدّ لأضيافى الشّواء المضهّبا
والخطء: كالإثم لفظا ومعنى، والفاحشة: الفعلة الظاهرة القبح، والسلطان: التسلط والاستيلاء، فلا يسرف: أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه، التي هي أحسن: أي الطريق التي هي أحسن، والعهد: ما تعاهدون عليه غيركم من العباد لتوثيقه وتوكيده، والقسطاس: (بكسر القاف وضمها) الميزان، والمستقيم: العدل، والتأويل: ما يئول إليه الشيء وهو عاقبته، ولا تقف من قفوت أثر فلان: أي اتبعته، والمرح: الفخر والكبر، لن تخرق الأرض: أي لن تجعل فيها طرقا بدوسك وشدة وطأتك، والحكمة: معرفة الحق سبحانه ومعرفة الخير للعمل به، والمدحور: المبعد من رحمة الله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جلت قدرته أن الناس فريقان فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والوبال، وفريق يريد بعمله طاعة الله، وهم أهل مرضاته، والمستحقون لثوابه، وقد اشترط لنيلهم ذلك أن يعملوا للآخرة وأن يكونوا مؤمنين - لا جرم فصل الله في هذه الآية حقيقة الإيمان والأعمال التي إذا عملها المؤمن كان ساعيا للآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم، وحسن حظهم، ثم أعقب ذلك بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وبعدئذ أتبع ذلك بالأمر ببر الوالدين من قبل أنهما السبب الظاهر في وجوده، وبالأمر بإيتاء ذوي القربى حقوقهم، ثم بالأمر بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل، لأن في إصلاحهما إصلاح المجتمع، والمسلمون كلهم إخوة، وهم يد على من سواهم، ثم قفى على ذلك بالنهي عن التبذير، لما فيه من إصلاح حال المرء وعدم ارتباكه في معيشته، وصلاحه إصلاح للأمة جمعاء، فما الأمم إلا مجموعة الأفراد، ففي صلاحهم صلاحها، ثم علمنا سبيل إنفاق المال على الوجه الذي يرضاه الدين، ويرشد إلى حسنه العقل، وبعدئذ نهانا عن قتل الأولاد خشية الفقر، وبين أن الكفيل بأرزاقهم وأرزاقكم هو ربكم، فلا وجه للخوف من ذلك، ثم تلا هذا بالنهي عن الزنا، لما فيه من اختلاط الأنساب، وفقدان النسل أو قلته، ووقوع الشغب والقتال بين الناس دفاعا عن العرض ثم بالنهي عن القتل لهذا السبب عينه، ثم بالنهي عن إتلاف مال اليتيم، ثم بالأمر بالوفاء بالعهد وهو العقد الذي يعمل لتوكيد الأمر وتثبيته، ثم بإيفاء الكيل والميزان، لما في حسن التعامل بين الناس من توافر المودة والمحبة بينهم، وهذا ما يرمى إليه الدين، لإصلاح شؤون الفرد والمجتمع، ثم بالنهي عن تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، فلا تتّبع ما كان يعمله الآباء اقتداء بهم من عبادة الأصنام تقليدا لهم، ولا تشهد على شيء لم تره، ولا تكذب، فتقول في شيء لم تسمعه إنك قد سمعته، ولا في شيء لم تره، إنك قد رأيته، ثم بالنهي عن مشية الخيلاء والمرح لما فيهما من الصّلف الذي لا يرضاه الله ولا الناس، ثم ختم ذلك ببيان أن تلك الأوامر والنواهي هي من وحي الله وتبليغه، لا من عند نفسه، أمر بها ونهى عنها، لأنها أسس سعادة الدارين، وعليها تبنى العلاقات بين الأفراد والأمم على نظم صحيحة لا تكون عرضة للاضطراب وفقدان الثقة في معاملاتهم.
الإيضاح
(لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا) أي لا تجعل أيها الإنسان مع الله شريكا في ألوهيته وعبادته، ولكن أخلص له العبادة وأفرد له الألوهة، فإنه لا ربّ غيره، ولا معبود سواه، وإنك إن تجعل معه إلها غيره، وتعبد معه سواه، تصر ملوما على ما ضيعت من شكر الذي أنعم عليك بنعمه، وشكر من لم يولك نعمة، مخذولا لا ينصرك ربك، بل يكلك إلى من عبدته معه، ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
وبعد أن ذكر الركن الأعظم في الإيمان أتبعه بذكر شعائره وهي الأمور الآتية فقال:
(1) (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي وأمر ربك ألا تعبدوا غيره، إذ العبادة نهاية التعظيم، ولا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده، ولا منعم إلا هو.
(2) (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا) أي وأن تحسنوا إلى الوالدين وتبرّوهما، ليكون الله معكم « إنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون ».
وقد أمر سبحانه بالإحسان إليهما للأسباب الآتية:
(ا) شفقتهما على الولد، وبذل الجهد في إيصال الخير إليه، وإبعاد الضر عنه، جهد المستطاع، فوجب مقابلة ذلك بالإحسان إليهما والشكر لهما.
(ب) إن الولد قطعة من الوالدين كما جاء في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: « فاطمة بضعة مني ».
(ج) إنهما أنعما عليه، وهو في غاية الضعف، ونهاية العجز، فوجب أن يقابل ذلك بالشكر حين كبرهما، كما قال الشاعر العربي يعدّد نعمه على ولده وقد عقّه في كبره:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعلّ بما أجنى عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائى غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضّل
فليتك إذ لم ترع حق أبوّتى فعلت كما الجار المجاور يفعل
والخلاصة - إنه لا نعمة تصل إلى الإنسان أكثر من نعمة الخالق عليه، ثم نعمة الوالدين، ومن ثم بدأ بشكر نعمته أوّلا بقوله: « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ »، ثم أردفها بشكر نعمة الوالدين بقوله: « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا ».
ثم فصل ما يجب من الإحسان إليهما بقوله:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا) أي إذا وصل الوالدان عندك أو أحدهما إلى حال الضعف والعجز وصارا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله - وجب عليك أن تشفق عليهما، وتحنو لهما.
تعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، ويتجلى ذلك بأن تتبع معهما الأمور الخمسة الآتية:
(ا) ألا تتأفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما، واحتسب الأجر عليه، كما صبرا عليك في صغرك.
(ب) ألا تنغّص عليهما بكلام تزجرهما به، وفى هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما، وفيما قبله منع من إظهار الضجر القليل أو الكثير.
(ج) أن تقول لهما قولا حسنا، وكلاما طيبا مقرونا بالاحترام والتعظيم، مما يقتضيه حسن الأدب، وترشد إليه المروءة، كأن تقول يا أبتاه ويا أماه، ولا تدعوهما بأسمائهما، ولا ترفع صوتك أمامهما، ولا تحدّق فيهما بنظرك.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي الهدّاج قال: قلت لسعيد بن المسيّب:
كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله « وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا » ما هذا القول الكريم، فقال ابن المسيّب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ (د) أن تتواضع لهما وتتذلل، وتطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن معصية لله، رحمة منك بهما وشفقة عليهما، إذ هما قد احتاجا إلى من كان أفقر الخلق إليهما، وذلك منتهى ما يكون من الضراعة والمسكنة، ولله در الخفاجي إذ يقول:
يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله
ما ذلة السلطان إلا إذا أصبح محتاجا إلى عامله
وقوله: من الرحمة، أي أن يكون ذلك التذلل رحمة بهما، لا من أجل امتثال الأمر وخوف العار فقط، فتذكّر نفسك بما تقدّم لهما من الإحسان إليك، وبما أمرت به من الشفقة والحدب عليهما.
وقد مثل حاله معهما بحال الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه لتربيته، فإنه يخفض له جناحه، فكأنه قال للولد: اكفل والديك، بأن تضمهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك حال صغرك.
(ه) أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الباقية، كفاء رحمتهما لك في صغرك وجميل شفقتهما عليك.
وعلى الجملة فقد بالغ سبحانه في التوصية بهما من وجوه كثيرة، وكفاهما أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما في سلك القضاء بهما معا.
وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها:
(1) إن رجلا جاء إلى النبي ﷺ يستأذنه في الجهاد معه فقال أحيّ والدك؟ قال نعم، قال ففيهما فجاهد ».
(2) مارواه مسلم وغيره: « لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه ويعتقه » (3) ما روى عن ابن مسعود قال: « سألت رسول الله ﷺ: أي العمل أحب إلى الله ورسوله؟ قال الصلاة على وقتها، قلت ثم أي؟ قال بر الوالدين قلت ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله ».
وبر الأم مقدم على بر الأب، لما روى الشيخان « أن رسول الله ﷺ سئل من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أبوك ».
ولا يختص برهما بحال الحياة، بل يكون بعد الموت أيضا، فقد روى ابن ماجه « أن رسول الله ﷺ سئل: هل بقي من بر أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما ».
والخلاصة - إنه سبحانه بالغ في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ منها جلود أهل العقوق، وتقف عندها شعورهم، من حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثم شفعهما بالإحسان إليهما ثم ضيّق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخّص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر، مع موجبات الضجر، ومع أحوال لا يكاد الإنسان يصبر معها، وأن يذلّ ويخضع لهما، ثم ختمها بالدعاء لهما والترحم عليهما، وهذه الخمسة الأشياء جعلها سبحانه من رحمته بهما، مقرونة بوحدانيته، وعدم الشرك به.
ولما كان بر الوالدين عسيرا حذّر من التهاون فيه فقال:
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) أي ربكم أيها الناس أعلم منكم بما في نفوسكم، من تعظيمكم أمر آبائكم وأمهاتكم والبر بهم، ومن الاستخفاف بحقوقهم والعقوق بهم، وهو مجازيكم على حسن ذلك وسيئه، فاحذروا أن تضمروا لهم سوءا، وتعقدوا لهم في نفوسكم عقوقا، فإن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم، وأطعتم ربكم فيما أمركم من البر بهم، والقيام بحقوقهم عليكم، بعد هفوة كانت منكم أو زلة في واجب لهم عليكم، فإنه تعالى يغفر لكم ما فرط منكم، فهو غفار لمن يتوب من ذنبه، ويرجع من معصيته إلى طاعته، ويعمل بما يحبه ويرضاه.
وفي هذا وعد لمن أضمر البر بهم، ووعيد لمن تهاون بحقوقهم، وعمل على عقوقهم.
وبعد أن أمر بالبر بالوالدين أمر بالبر بأصناف ثلاثة أخرى فقال:
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي وأعط أيها المكلّف القريب منك حقه، من صلة الرحم والمودة، والزيارة وحسن العشرة، وإن كان محتاجا إلى النفقة فأنفق عليه ما يسد حاجته. والمسكين ذا الحاجة. وابن السبيل وهو المسافر لغرض ديني، فيجب إعانته ومساعدته على سفره حتى يصل إلى مقصده.
ولما رغب سبحانه في البذل بيّن الطريق التي تتبع في ذلك فقال:
(وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) أي ولا تفرّق أيها الإنسان ما أعطاك الله من مال في معصيته تفريقا، بإعطائه من لا يستحقه.
ونحو الآية قوله « وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا ».
قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس (جبل بمكة) وقال لو أن رجلا أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله كان من المسرفين.
وأنفق بعضهم نفقة في خير وأكثر فقيل له: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.
وعن عبد الله بن عمر قال: « مر رسول الله بسعد وهو يتوضأ، فقال ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أو في الوضوء سرف؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار ».
وروى أحمد عن أنس بن مالك أنه قال: أتى رجل من تميم إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق، وكيف أصنع؟ فقال رسول الله ﷺ: « تخرج الزكاة من مالك إن كان، فإنها طهرة تطهّرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين » فقال: يا رسول الله أقلل لي، قال « فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا » فقال حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فقال رسول الله ﷺ: نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها، وإثمها على من بدّ لها ».
وعن علي كرم الله وجهه قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان.
ثم نبه سبحانه إلى قبح التبذير بإضافته إلى الشياطين فقال:
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) تقول العرب لكل من لازم سنة قوم واتبع أثرهم هو أخوهم، أي إن المفرّقين أموالهم في معاصى الله المنفقيها في غير طاعته قرناء الشياطين في الدنيا والآخرة كما قال « ومن يعش عن ذكر الرّحمن نقيّض له شيطانا فهو له قرين » وقال: « احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم » أي قرناءهم من الشياطين.
(وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) أي وكان الشيطان لنعمة ربه التي أنعم بها عليه جحودا لا يشكره عليها، بل يكفرها بترك طاعته، ور كوبه معصيته، وهكذا إخوانه المبذرون أموالهم في معاصى الله، لا يشكرون الله على نعمه عليهم، بل يخالفون أمره، ولا يستنون سنته، ويتركون الشكران عليها ويتلقونها بالكفران.
قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا، فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفورا لنعمة الله، لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل اهـ.
وفي ذكر وصف الشيطان بالكفران دون ذكر سائر أوصافه، بيان لأن المبذر لما صرف نعم الله عليه في غير موضعها فقد كفر بها ولم يشكرها، كما أن الشيطان كفر بهذه النعم.
وقد كان من عادة العرب أن يجمعوا أموالهم من السلب والنهب والغارة ثم ينفقونها في التفاخر وحب الشهرة. وكان المشركون من قريش ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه، فجاءت الآية تبين قبح أعمالهم.
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا) أي وإن أعرضت عن ذوي القربى والمسكين وابن السبيل وأنت تستحى أن تردّ عليهم، انتظار فرج من الله ترجو أن يأتيك، ورزق يفيض عليك، فقل لهم قولا لينا جميلا، وعدهم وعدا تطيب به قلوبهم، قال الحسن: أمر أن يقول لهم: نعم وكرامة، وليس عندنا اليوم شيء، فإن يأتنا نعرف حقكم.
وفي هذا تأديب من الله لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون وبم يردّون؟. ولقد أحسن من قال:
إلا يكن ورق يوما أجود به للسائلين فإني ليّن العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقى إما نوال وإما حسن مردود
ثم بين سبحانه الطريق المثلى في إنفاق المال فقال:
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطى أحدا شيئا، ولا تسرف في الإنفاق فتعطى فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فإنك إن بخلت كنت ملوما مذموما عند الناس كما قال زهير:
ومن يك ذا مال فيبخل بماله على قومه يستغن عنه ويذمم
ومذموما عند الله لحرمان الفقير والمسكين من فضل مالك، وقد أوجب الله عليك سد حاجتهما، بإعطاء زكاة أموالك.
وإن أسرفت في أموالك فسرعان ما تفقدها، فتصبح معسرا بعد الغنى، ذليلا بعد العزة، محتاجا إلى معونة غيرك بعد أن كنت معينا له، وحينئذ تقع في الحسرة التي تقطع نياط قلبك، ويبلغ منك الأسى كل مبلغ، ولكن أنّى يفيد ذلك؟ وقد فات ما فات، فلا ينفع الندم، ولا تجدى العظة والنصيحة.
وخلاصة ذلك - اقتصد في عيشك، وتوسط في الإنفاق، ولا تكن بخيلا ولا مسرفا.
روى أحمد وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ « ما عال من اقتصد »
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ « الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة »
وروي عن أنس مرفوعا: « التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهمّ نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين ».
وقيل: حسن التدبير مع العفاف، خير من الغنى مع الإسراف.
وإجمال المعنى - لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة عن الانبساط، ولا تتوسّع في الإنفاق فتصير نادما مغموما وعاجزا عن الإنفاق لا شيء عندك، فتكون كالدابة التي قد عجزت عن السير فوقفت ضعفا وعجزا وإعياء.
ثم سلّى رسوله والمؤمنين بأن الذي يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي إن ربك أيها الرسول يبسط الرزق لمن يشاء ويوسع عليه، ويقتر على من يشاء ويضيق عليه، بحسب السنن التي وضعها لعباده في كسب المال، وحسن تصرفهم في جمعه، بالوسائل والنظم التي وضعها في الكون.
(إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) أي إن ربك ذو خبرة بعباده، فيعلم من الذي تصلحه السعة في الرزق، ومن الذي تفسده؟ ومن الذي بصلحه الإقتار والضيق؟ ومن الذي يفسده؟ وهو البصير بتدبيرهم وسياستهم، فعليك أن تعمل بما أمرك به أو نهاك عنه، من بسط يدك فيما تبسط فيه وفيمن تبسطها له، ومن كفها عمن تكفها عنه، فهو أعلم بمصالح العباد منك ومن جميع الخلق، وأبصرهم بتدبير شؤونهم.
وقصارى ذلك - إنكم إذا علمتم أن شأنه تعالى البسط والقبض، وأنعمتم في النظر في ذلك، وجدتم أن من سننه تعالى الاقتصاد، فاقتصدوا واستنّوا بسنته.
وبعد أن بين أنه تعالى الكفيل بالأرزاق وهو الذي يبسط ويقدر، نهاهم عن قتل الأولاد خشية الفقر فقال:
(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) أي ولا تئدوا بناتكم خوف الفقر، فنحن نرزقهم لا أنتم، فلا تخافوا الفقر لعلكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم.
وقد كان العرب في جاهليتهم يقتلون البنات، لعجزهن عن الكسب، وقدرة البنين عليه، بالغارات والسلب والنهب، ولأن فقرهن ينفّر الأكفاء عن الرغبة فيهن، فيحتاجون إلى تزويجهنّ لغير الأكفاء، وفى ذلك عار أيّما عار عليهم.
والخلاصة - إن الأرزاق بيد الله، فكما يفتح خزائنه للبنين يفتحها للبنات، فليس لكم سبب يدعو إلى قتلهن، ومن ثم قال:
(إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا) أي إن قتلهم كان إثما فظيعا لما فيه من انقطاع النسل وزوال هذا النوع من الوجود. وفى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: « قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو الذي خلقك، قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك ».
والخلاصة - إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو من سوء الظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى في تخريب العالم، والأول انتهاك لحرمة أوامر الله، والثاني ضد الشفقة على خلق الله، وكلاهما مذموم غاية الذم.
ولما كان في قتل الأولاد حظ من البخل، وفى الزنا داع من دواعى الإسراف أتبعه به فقال:
(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) نهى الله عباده عن القرب من الزنا بمباشرة أسبابه ودواعيه، فضلا عن مباشرته هو، للمبالغة في النهي عنه وبيان شدة قبحه، ثم علل ذلك بقوله:
(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) أي إنه كان فعلة ظاهرة القبح مشتملة على مفاسد كثيرة أهمها:
(1) اختلاط الأنساب واشتباهها، وإذا اشتبه المرء في الولد الذي أتت به الزانية، أمنه هو أم من غيره، لا يقوم بتربيته، ولا يستمر في تعهده، وذلك مما يوجب إضاعة النسل وخراب العالم.
(2) فتح باب الهرج والمرج والاضطراب بين الناس دفاعا عن العرض، فكم سمعنا بحوادث قتل كان مبعثها الإقدام على الزنا، حتى إنه ليقال عند السماع بحادث قتل: (فتش عن المرأة).
(3) إن المرأة إذا عرفت بالزنا وشهرت به استقذرها كل ذي طبع سليم، فلا تحدث ألفة بينها وبين زوجها، ولا يتم السكن والازدواج الذي جعله الله مودة ورحمة بين الناس بقوله: « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ».
(4) إنه ليس المقصد من المرأة مجرد قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهامه من مطعوم ومشروب وملبوس، وأن تكون حافظة له، قائمة بشؤون الأولاد والخدم، وهذه المهامّ لا تتم على وجه الكمال إلا إذا كانت مختصة يرجل واحد، منقطعة له دون غيره من الناس.
وإجمال ذلك - إن الزنا فاحشة وأي فاحشة، لما فيه من اختلاط الأنساب والتقاتل والتناحر دفاعا عن العرض، وإنه سبيل سيء من قبل أنه يسوّى بين الإنسان والحيوان، في عدم اختصاص الذكران بالإناث.
وبعد أن نهى عن قتل الأولاد للسبب المتقدم نهى عن القتل مطلقا فقال:
(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا تقتلوا النفس التي حرم الإسلام قتلها إلا قتلا متلبسا بالحق، وهو أحد أمور ثلاثة: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمدا كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود: « لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ».
والسبب في هذا التحريم وجوه:
(1) إنه إفساد فوجب حرمته لقوله « وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ».
(2) إنه ضرر، والأصل في المضارّة الحرمة لقوله: « يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » وقوله ﷺ « لا ضرر ولا ضرار ».
(3) إنه إذا أبيح القتل زال هذا النوع من الوجود ففتك القوى بالضعيف، وحدث الاضطراب في المجتمع، فلا يستقيم للناس حال ولا ينتظم لهم معاش (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا) أي ومن قتل مظلوما بغير حق يوجب قتله فقد جعلنا لمن يلي أمره من وارث أو سلطان عند عدم الوارث تسلطا واستيلاء على القاتل، بمؤاخذته بأحد أمرين: إما القصاص منه، وإما الدية لقوله تعالى: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى » الآية
ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم الفتح « من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين، إن أحبّوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية ».
(فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا بإزاء واحد، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، إذ كانوا يقتلون القاتل ويقتلون معه غيره إذ كان رجلا شريفا، وأحيانا لا يرضون بقتل القاتل بل يقتلون بدله رجلا شريفا
وفي الآية إيماء إلى أن الأولى للولى ألا يقدم على استيفاء القتل، وأن يكتفى بالدية أو يعفو.
(إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا) أي إن الله نصر الولي بأن أوجب له القصاص أو الدية، وأمر الحكام أن يعينوه على استيفاء حقه، فلا يبغى ماوراءه ولا يطمع في الزيادة على ذلك.
وقد يكون المعنى: إن المقتول ظلما منصور في الدنيا بإيجاب القود له على قاتله، وفى الآخرة بتكفير خطاياه، وإيجاب النار لقاتله، وهذه الآية أول ما نزل من القرآن في شأن القتل، لأنها مكية.
وبعد أن نهى عن إتلاف الأنفس نهى عن إتلاف الأموال، لأن المال أخو الروح، وأحق الناس بالنهي عن إتلاف ماله هو اليتيم لضعفه وكمال عجزه ولذلك قال:
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالطريق التي هي أحسن الطرق، وهي طريق حفظه وتثميره بما يزيد به، حتى تستحكم قوة عقله وشبابه، وإذ ذاك يمكنه القيام على ماله بما فيه المصلحة.
ولما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ فكانوا لا يخالطون اليتامى في طعام ولا غيره، فأنزل الله تعالى: « وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ » فكانت لهم فيها رخصة.
ونظير الآية قوله تعالى: « وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافًا وَبِدارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ».
وبعد أن نهى عن الزنا والقتل وأكل مال اليتيم أتبعها بثلاثة أوامر فقال:
(1) (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) أي وأوفوا بما عاهدتم الله عليه من التزام ما كلفكم به، وما عاهدتم الناس عليه من العقود التي تتعاملون بها في البيوع والإجارة ونحوها، قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد، ويدخل في ذلك ما بين العبد وربه، وما بين العباد بعضهم وبعض.
والوفاء به القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضى.
(إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) أي إن الله سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، فيقال للناكث له على سبيل التبكيت والتوبيخ لم نكثت عهدك؟ وهلا وفيت به، كما يقال لوائد الموءودة: بأى ذنب قتلت؟ وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: « أأنت قلت للنّاس اتّخذونى وأمّى إلهين؟ » والمخاطبة لعيسى والإنكار على غيره.
(2) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) أي وأتموا الكيل للناس ولا تخسروهم إذا كلتم لهم حقوقهم قبلكم، فإن كلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم تفوا بالكيل (3) (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي وزنوا بالميزان العدل دون شيء من الجور أو الحيف، لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، ومن ثم بالغ الشارع في المنع من التطفيف والنقصان، سعيا في إبقاء الأموال لأربابها.
ثم بين عاقبة هذه الأوامر وحسن مآلها فقال:
(ذلِكَ خَيْرٌ) أي إيفاؤكم بالعهد، وإيفاؤكم من تكيلون له، ووزنكم بالعدل لمن توفون له، خير لكم في الدنيا من نكثكم وبخسكم في الكيل والوزن، لأن ذلك مما يرغّب الناس في معاملتكم، وحب الثناء عليكم.
(وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي وأجمل عاقبة، لما يترتب على ذلك من الثواب في الآخرة، والخلاص من العقاب الأليم وكثير من الفقراء الذين اشتهروا بالأمانة والبعد عن الخيانة، أقبلت عليهم الدنيا، وحصل لهم الثروة والغنى، وكان ذلك سبب سعادتهم فيها.
وبعد أن ذكر سبحانه أوامر ثلاثة نهى عن مثلها فقال:
(1) (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي ولا تتّبع أيها المرء ما لا علم لك به من قول أو فعل، وذلك دستور شامل لكثير من شؤون الحياة، ومن ثم قال المفسرون فيه أقوالا كثيرة:
(ا) قال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأت عيناك، وسمعته أذناك، ووعاه قلبك
(ب) قال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم.
(ج) وقيل المراد النهي عن القول بلا علم بل بالظن والتوهم كما قال: « اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ » وفي الحديث « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » وفي سنن أبى داود « بئس مطية الرجل زعموا » إلا ما قام الدليل على جواز العمل به إن لم يوجد دليل من كتاب أو سنة كما رخص النبي ﷺ في ذلك لمعاذ حين بعثه قاضيا في اليمن إذ قال له « بم تقضي، قال: بكتاب الله، قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله ﷺ، قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ».
(د) وقيل المراد نهى المشركين عن اعتقاداتهم تقليدا لأسلافهم واتباعا للهوى كما قال: « إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ،، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ».
ثم ذكر سبحانه تعليلا لذلك النهى فقال:
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) أي إن الله سائل هذه الأعضاء عما فعل صاحبها كما قال « يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ »
وفي الخبر عن شكل بن حميد قال: « أتيت النبي ﷺ فقلت يا نبي الله علّمنى تعويذا أتعوذ به، فأخذ بيدي ثم قال: قل أعوذ بك من شر سمعى، وشر بصري، وشر قلبي، وشر منيي » (يريد الزنا).
(2) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) أي ولا تمش متبخترا متمايلا كمشى الجبارين، فتحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها بدوسك وشدة وطئك لها، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها، فأنت محوط بنوعين من الجماد أنت أضعف منهما، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر، ولقد أحسن من قال:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة فكم مات من قوم هم منك أمنع
وخلاصة ذلك - تواضع ولا تتكبر، فإنك مخلوق ضعيف محصور بين حجارة وتراب، فلا تفعل فعل القوى المقتدر. ولا يخفى ما في الآية من التقريع والتهكم والزجر لمن اعتاد ذلك.
ثم علل هذا النهى بقوله:
(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) أي لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطأتك، ولن تبلغ الجبال التي هي بعض أجزاء الأرض في الطول حتى يمكنك أن تتكبر عليها، فالتكبر إنما يكون بالقوة وعظم الجثة وكلاهما غير موجود لديك، فما الحامل لك على ما أنت فيه وأنت أحقر من كل من الجمادين؟ وكيف يليق بك الكبر؟
(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) أي كل الذي ذكر من الخصال أثناء الأوامر والنواهي وهي الخمس والعشرون السالفة كان سيئه وهو ما نهى عنه منها، من الجعل مع الله إلها آخر وعبادة غيره، والتأفف والتبذير، وغل اليد، وقتل الأولاد خشية الإملاق - مكروها عند ربك أي مبغوضا عنده وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية كما قال ﷺ « ما شاء الله كان، وما لم يشألم يكن »
وهذه الإرادة لا تستدعى الرضا منه سبحانه.
وفي وصف هذه الأشياء بالكراهة مع أن أكثرها من الكبائر - إيماء إلى أن الكراهة عنده تعالى تكفى في وجوب الكف عن ذلك.
ثم بين وجوب امتثال تلك الأوامر، وترك تلك النواهي فقال:
(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) أي هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الحميدة، ونهيناك عنه من الرذائل، مما أوحينا إليك من فقه الدين ومعرفة أسراره، ومن الحكم في تشريعه.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ) الآية.
(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا) كرر هذا مع ما سلف، للتنبيه إلى أن التوحيد رأس الدين ورأس الحكمة، وهو مبدأ الأمر ومنتهاه، وقد رتب عليه أولا آثار الشرك في الدنيا فقال: فتقعد مذموما مخذولا، ورتب عليه هنا نتيجة في العقبى فقال: فتلقى في جهنم ملوما مدحورا: أي ملوما من جهة نفسك ومن جهة غيرك، ومبعدا من رحمة الله تعالى.
وقد علمت فيما تقدم لك أن مثل هذا الخطاب إما موجه إلى الإنسان عامة، وإما إلى الرسول خاصة والمراد أمته والكلام من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره).
[سورة الإسراء (17): الآيات 40 الى 44]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
تفسير المفردات
الإصفاء بالشيء: جعله خالصا له، وصرفنا: أي بينا، ليذكروا: أي يتدبروا ويتعظوا، والنفور: البعد من الشيء، وابتغاء الشيء: طلبه، والسبيل: الطريق، والفقه: الفهم.
المعنى الجملي
بعد أن نبه سبحانه إلى جهل من أثبتوا له شريكا واتخذوا له ندّا ونظيرا - ففي على ذلك بالتنديد والتقريع لمن أثبتوا له ولدا، وأنه قد بلغ من قحتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم مع علمهم بعجزهم ونقصهم، وأعطوا الله البنات، مع علمهم بأنه الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، والجلال الذي لا غاية له - ثم أتبعه ببيان أنه قد ضرب في القرآن الأمثال ليتدبروا ويتأملوا فيها، ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه، ثم أردفه ببيان أنه لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى، لطلبت لأنفسها قربة إلى الله وسبيلا إليه، ولكنها لم تفعل ذلك، وكيف تقرّبكم إليه وكل ما في السموات والأرض يسبح بحمده، بدلالة أحواله على توحيده، وتقديسه وكمال قدرته، ولكنكم لجهلكم وغفلتكم لا تدركون دلالة تلك الدلائل.
الإيضاح
(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا؟) أي أفخصّكم ربكم بالذكور من الأولاد، واتخذ من الملائكة إناثا وأنتم لا ترضونهنّ لأنفسكم، بل تئدونهن وتقتلونهن، فتجعلون له ما لا ترضون لأنفسكم.
وخلاصة ذلك - إنهم جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادّعوا أنهن بنات الله، ثم عبدوهن، فأخطئوا في الأمور الثلاثة خطأ عظيما، ومن ثم قال:
(إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) فتفترون على الله الكذب، وتنسبون إليه ما تستحقون عليه الإثم والعذاب، وتخرقون قضايا العقول، فتجعلون أشرف خلق الله الذين منهم من يقدر على جعل عالى الأرض سافلها، إناثا غاية في الرخاوة.
ونحو الآية قوله: « وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا ».
ولما كان هذا الكلام غاية في الوضوح والبيان، ولا يخفى فهمه على إنسان، ثم هم بعد ذلك أعرضوا عنه نبه إلى ذلك بقوله:
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا) أي ولقد بينا في هذا القرآن الآيات والحجج، وضربنا لهم الأمثال، وحذرناهم وأنذرناهم، ليتذكروا ويتعظوا فيقفوا على بطلان ما يقولون - فإن التكرار يقتضى الإذعان واطمئنان النفس - وهم مع ذلك لا يعتبرون ولا يتذكرون بما يرد عليهم من الآيات والنذر بل ما يزيدهم التذكير إلا نفورا وبعدا عن الحق وهربا منه.
ثم رد على هؤلاء الذين يشركون بربهم، ويتخذون الشفعاء والأنداد وندد عليهم وسفه أحلامهم فقال:
(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرّب إليه وتشفع لديه - لكان أولئك المعبودون يعبدونه، ويتقربون إليه، ويبتغون لديه الوسيلة، فاعبدوه وحده كما يعبد من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه.
وقد نهى عن ذلك على ألسنة رسله وأنبيائه ونزه نفسه عن ذلك فقال:
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) أي تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم من الفرية والكذب، فهو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وفي الآية إيماء إلى وجود البون الشاسع بين ذاته وصفاته سبحانه، وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد، للمنافاة التي لا غاية وراءها، بين القديم والمحدث والغنى والمحتاج.
ثم بين سبحانه عظمة ملكه، وكبير سلطانه فقال:
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي إن السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات، تنزهه وتعظمه عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته كما قال أبو نواس:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
والمكلف العاقل يسبّح ربه إما بالقول كقوله: سبحان الله، وإما بدلالة أحواله على توحيده وتقديسه، وغير العاقل لا يسبح إلا بالطريق الثاني، فهي تدل بحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدانيته، وقدرته وتنزهه عن الحدوث، فإن الأثر يدل على مؤثره.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي وما شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله أي يدل بإمكانه وحدوثه دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى، ووحدته وقدرته، وتنزهه عن لوازم الحدوث.
والخلاصة - إن كل الأكوان شاهدة بتنزهه تعالى عن مشاركته للمخلوقات في صفاتها المحدثة.
(وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي ولكن لا تفهمون أيها المشركون تلك الدلالة، لأنكم لما جعلتم مع الله آلهة، فكأنكم لم تنظروا ولم تفكروا، إذ النظر الصحيح، والتفكير الحق، يؤدى إلى غير ما أنتم فيه، فأنتم إذا لم تفقهوا التسبيح، ولم تستوضحوا الدلالة على الخالق.
(إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا) فمن حلمه أن أمهلكم، ولم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء جهلكم بهذا التسبيح بإشراككم به سواه، وعبادتكم معه غيره، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم.
أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال. « إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمر كما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء ».
[سورة الإسراء (17): الآيات 45 الى 48]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
تفسير المفردات
الحجاب والحجب: المنع من الوصول إلى الشيء والمراد الحاجب، والمستور: أي الساتر كما جاء عكسه من نحو « ماء دافق »: أي مدفوق، أن يفقهوه أي لئلا يفقهوه ويفهموه، والأكنة: الأغطية واحدها كنان، والوقر: الصمم والثقل في الآذان المانع من السماع، والنفور: الانزعاج، مسحورا: أي مخبول العقل، فهو كقولهم « إن هو إلا رجل به جنة » فضلوا أي جاروا عن قصد السبيل.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في مقام الألوهية وجدالهم بالتي هي أحسن، بضرب الأمثال لهم، وإقامة الحجة عليهم، وإيضاح السبيل لهم - والكلام هنا في مقام النبوة والنعي عليهم في عدم فهمهم للقرآن والنفور منه والهزء به، وضربهم الأمثال للنبي ﷺ وقولهم فيه تارة إنه ساحر وأخرى إنه مجنون، وحينا إنه شاعر.
روى ابن عباس أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي ﷺ ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما ما أدري ما يقول محمد، غير إني أرى شفتيه تتحركان بشىء، وقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون، وقال أبو لهب: هو كاهن، وقال حويطب بن عبد العزّى: هو شاعر فنزلت هذه الآية
الإيضاح
(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا) أي وإذا قرأت أيها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالبعث، ولا يقرون بالثواب والعقاب - جعلنا بينك وبينهم حجابا يمنع قلوبهم عن أن تفهم ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به، عقوبة منالهم على كفرهم وتدسيتهم لأنفسهم، واجتراحهم الجرائر والمعاصي التي تظلم القلوب، وتضع عليها الأغشية، وتستر عنها فهم حقائق القرآن ومراميه، وأسراره وأحكامه وحكمه، ومواعظه وعبره.
روي أنه عليه الصلاة والسلام الصلاة كان إذا قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصي يصفّقون ويصفرون ويخلّطون عليه بالأشعار.
ثم بين السبب في عدم فهمهم لمدارك القرآن فقال:
(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا) أي إنه تعالى جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفى آذانهم ما يمنع من سماع صوته.
وخلاصة ذلك - إنا منعناهم فقهه، والوقوف على كنهه، فنبت قلوبهم عن فهمه، ومجّته أسماعهم، فهم لا متناعهم عن قبول دلائله صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب ساتر.
ونسب جعل الحجاب إلى نفسه، لأنه خلّاهم وأنفسهم، فصارت تلك التخلية كأنها السبب في وقوعهم في تلك الحال ألا ترى أن السيد إذا لم يراقب أحوال مولاه حتى ساءت حاله، يقول أنا الذي أوصلك إلى هذا، إذ ألقيت حبلك على غاربك، ولم أراقبك عن كثب.
ونحو الآية قوله: « وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ».
(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا) أي وإذا ذكرت ربك وحده في القرآن وأنت تتلوه، ولم تقل واللات والعزّى انفضوا من حولك وهربوا نافرين استكبارا واستعظاما لأن يذكر الله وحده.
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزء والسخرية والتكذيب حين استماعهم، وأعلم بما يتناجون به ويتسارّون، فبعضهم يقول مجنون، وبعضهم يقول كاهن، وبعضهم يقول: ما اتبعتم إلا رجلا قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء، وهل من خير لكم في اتباع أمثاله المجانين؟
(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أي تأمل وانظر أيها الرسول، كيف مثلوا لك الأمثال وشبهوا لك الأشباه، فقالوا هو مسحور، وهو شاعر مجنون، فحادوا في كل ذلك عن سواء السبيل، ولم يهتدوا لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه.
وفي هذا من الوعيد وتسلية الرسول ﷺ ما لا يخفى.
[سورة الإسراء (17): الآيات 49 الى 52]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا (52)
تفسير المفردات
الرفات: ما تكسر وبلى من كل شيء، يكبر في صدوركم: أي يستبعد قبوله للحياة، فطركم: أي ذرأكم وأوجدكم، فسينغضون إليك رءوسهم: أي سيحركونها استهزاء، يقال نغض رأسه ينغض نغضا إذا تحرك، وأنغض رأسه: حركه كالمتعجب من الشيء، فتستجيبون: أي تجيبون الداعي.
المعنى الجملي
اعلم أن أمهات المسائل التي دار حولها البحث في الكتاب الكريم الإلهيات، والنبوات والبعث والجزاء والقضاء والقدر، وقد تكلم فيما سلف في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، وفنّدها بما لا مجال للرد عليه، ولا لدحضه وتكذيبه، ثم ذكر في هذه الآيات شكوكهم في المعاد والبعث والجزاء، ورد عليها بما لو نظر إليه المنصف لأيقن بصدق ما يدّعى، وألزم نفسه تصديق ما يقال.
الإيضاح
(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا؟) أي وقال الذين لا يؤمنون باليوم الآخر من المشركين: أئذا كنا عظاما في قبورنا، لم نتحطم ولم نتكسر بعد مماتنا، ورفاتا متكسرة مدقوقة، أئنا لمبعوثون بعد مصيرنا فيها، وقد بلينا فتكسرت عظامنا، وتقطعت أوصالنا - خلقا جديدا كما كنا قبل الممات.
ومثل الآية قوله تعالى حكاية عنهم: « يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ أَإِذا كُنَّا عِظامًا نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خاسِرَةٌ » وقوله: « وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ».
وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم، ويعرفهم قدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بلاهم خلقا جديدا، على أي حال كانوا، عظاما أو رفاتا أو حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورهم فقال:
(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا. أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي قل كونوا حجارة
او حديدا أو خلقا مما يستبعد عندكم قبوله للحياة كالسموات والأرض والجبال، فإن الله لا يعجزه إحياؤكم لتساوى الأجسام في قبولها الأعراض المختلفة، فكيف إذا كنتم عظاما بالية، وقد كانت قبل حيّة، والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد؟.
وخلاصة هذا - إنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله عن الإعادة والإحياء، وهذا كما يقول القائل للرجل: أتطمع في وأنا فلان فيقول: كن ابن من شئت، كن ابن الخليفة، فسأطلب منك حقي.
وجملة المعنى - إن في هذا مبالغة أيّما مبالغة في قدرة القادر العليم على الإعادة والإحياء، كما يقال: لو كنت عين الحياة فالله يميتك، ولو كنت عين الغنى فالله يفقرك.
وبعد أن استبعدوا الإعادة استبعدوا صدورها وهي على هذه الحال حجارة أو حديدا من أي معيد. كما حكى عنهم سبحانه بقوله:
(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي فسيقولون لك من يعيدنا ونحن على هذه الحال؟ قل لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد، وإرشادا إلى طريق الاستدلال: الذي يفعل ذلك هو القادر العظيم، الذي ذرأكم أول مرة على غير مثال يحتذى، ولا منهاج معين ينتحى، وكنتم ترابا لم يشمّ رائحة الحياة، أليس الذي يقدر على ذلك، يقدر على أن يفيض الحياة على العظام البالية، ويعيدها إلى ما كانت عليه أولا؟ بلى إنه سبحانه على كل شيء قدير.
ثم بين جلّت قدرته ما يفعلون حين سماع هذه الإجابة فقال:
(فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) قال أبو الهيثم يقال لمن أخبر بشىء فحرك رأسه إنكارا له: قد أنغض، أي إنك إذا قلت لهم ذلك يحركون رءوسهم استهزاء وتكذيبا، ثم يسألون.
(وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ؟) أي متى هذا البعث، وفى أي وقت وحال يعيدنا خلقا جديدا كما كنا أول مرة، ومقصدهم من هذا السؤال استبعاد حصوله.
وفي معنى الآية قوله « وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » وقوله: « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ».
(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) أي فاحذروا ذلك، فإنه قريب منكم سيأتيكم لا محالة، وكل آت قريب، وكل ما هو محقق الحصول قريب وإن طال زمانه، ولم يخبر به أحدا من خلقه، لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لكن الخبر قد جاء بقرب حدوثه كما قال « بعثت أنا والساعة كهاتين » وأشار بالسبابة والوسطى.
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي ذلك يوم يدعوكم، فتستجيبون له من قبوركم، بقدرته ودعائه إياكم، ولله الحمد في كل حال، وهذا كما يقول القائل فعلت هذا بحمد الله أي ولله الحمد على كل ما فعلت.
وروي عن أنس مرفوعا « ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبر ولا في الحشر، وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رءوسهم من التراب، يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ».
(وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) أي وتظنون حين تقومون من قبوركم أنكم ما أقمتم في دار الدنيا إلا زمنا قليلا.
ونحو الآية قوله: « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها » وقوله: « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ » وقوله: « كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ».
قال الحسن: المراد تقريب وقت البعث، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل.
[سورة الإسراء (17): الآيات 53 الى 55]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا (55)
تفسير المفردات
ينزغ: يفسد ويهيج الشر، والوكيل: هو المفوض إليه الأمر، والزبور: اسم الكتاب الذي أنزل على داود عليه السلام.
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجج على إبطال الشرك، فقال: قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا، وذكر الأدلة على صحة البعث والجزاء فقال: « قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ » أمر رسوله أن يأمر عباده المؤمنين بأن يحاجوا مخالفيهم، ويجادلوهم باللين، ولا يغلظوا لهم في القول، ولا يشتموهم ولا يسبوهم، فإن الكلمة الطيبة تجذب النفوس، وتميل بها إلى الاقتناع، كما يعلم ذلك الذين تولوا النصح والإرشاد، من الوعاظ والساسة والزعماء في كل أمة.
ثم ذكر من الكلمة الطيبة أن يقول لهم: ربكم العليم بكم، إن شاء عذبكم، وإن شاء رحمكم، ولا يصرّح بأنهم من أهل النار، فإن ذلك مما يهيج الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله سبحانه، ثم بين لرسوله أنه لا يقسر الناس على الإسلام، فما عليه إلا البلاغ والإنذار، والله هو العليم بمن في السموات والأرض، فيختار لنبوته من يشاء، ممن يراه أهلا لذلك، وأولئك الأنبياء ليسوا سواء في مراتب الفضل والكمال، وأفضلهم محمد ﷺ وأمته.
الإيضاح
(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي وقل لعبادي يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم مع خصومهم من المشركين وغيرهم: الكلام الأحسن للإقناع، مع البعد عن الشتم والسب والأذى.
ونظير الآية قوله « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » وقوله « وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ». روى أن الآية نزلت في عمر ابن الخطاب، ذلك أن رجلا شتمه فسبّه عمر وهمّ بقتله فكادت تثير فتنة فأنزل الله الآية.
ثم علل ذلك بقوله:
(إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي إن الشيطان يفسد بين المؤمنين والمشركين ويهيج الشر بينهم، فينتقل الحال من الكلام إلى الفعال، ويقع الشر والمخاصمة، ومن ثم نهى رسول الله ﷺ أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده فر بما أصابه بها.
روى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « ولا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدرى لعل الشيطان ينزغ في يده، فيقع في حفرة من النار »
وروى أيضا عن رجل من بنى سليط قال: أتيت النبي ﷺ وهو في رفلة (جماعة) من الناس فسمعته يقول « والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا ووضع يده على صدره ».
ثم بين سبب نزغ الشيطان للإنسان بقوله:
(إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا) أي إن بين الشيطان والإنسان عداوة قديمة مستحكمة كما قال تعالى حكاية عن الشيطان « ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم » وقال « كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إنّى بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ».
ثم فسر سبحانه التي هي أحسن بما علّمهم النّصفة بقوله:
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) أي ربكم أيها القوم هو العليم بكم، إن يشأ رحمتكم بتوفيقكم للايمان والعمل الصالح يرحمكم، وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان فتموتوا على شرككم.
وفي هذا إيماء إلى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يحتقروا المشركين ولا أن يقطعوا بأنهم من أهل النار ويعيّروهم بذلك، فإن العاقبة مجهولة، ولا يعلم الغيب إلا الله - إلى أن ذلك مما يجرّ إلى توليد الضغينة في النفوس، بلا فائدة ولا داع يدعو إليها.
ثم وجه خطابه إلى أعظم الخلق ليكون من دونه أسوة له فقال:
(وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أي وما أرسلناك أيها الرسول حفيظا ورقيبا، تقسر الناس على ما يرضى الله، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا، فدارهم ولا تغلظ عليهم، ومر أصحابك بذلك، فإن ذلك هو الذي يؤثّر في القلوب، ويستهوى الأفئدة، ثم انتقل من عامه تعالى بهم إلى علمه بجميع خلقه فقال:
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبأحوالهم الظاهرة والباطنة، فيختار منهم لنبوته والفقه في دينه من يراه أهلا لذلك، ويفضل بعضهم على بعض، لإحاطة علمه وواسع قدرته. ونحو الآية قوله « أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ».
وفي هذا رد عليهم حين قالوا: يبعد كل البعد أن يكون يتيم ابن أبي طالب نبيا، وأن يكون أولئك الجوع العراة كصهيب وبلال وخبّاب وغيرهم صحابة دون الأكابر والصناديد من قريش.
وفي ذكر من في السموات ردّ لمقالهم حين قالوا « لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ » وفى ذكر من في الأرض رد لمقالهم حين قالوا « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ».
(وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) بما لهم من الفضائل النفسية، والمزايا القدسية، وإنزال الكتب السماوية، فخصصنا كلا منهم بفضيلة ومزية، ففضلنا إبراهيم باتخاذه خليلا، وموسى بالتكليم، ومحمدا بالقرآن الذي أعجز البشر والإسراء والمعراج.
ونحو الآية قوله: « تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ » ولا خلاف في أن أولى العزم منهم وهم الخمسة الذين ذكروا في سورة الشورى في قوله « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » أفضل من بقيتهم، ولا خلاف في أن محمدا ﷺ أفضلهم، ثم إبراهيم فموسى فعيسى عليهم السلام.
(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا) أي إن تفضيل داود لم يكن بالملك، بل كان بما آتاه الله من الكتاب، وأفرده بالذكر، لأنه كتب في الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم كما قال تعالى: « وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ » وهم محمد ﷺ وأمته.
[سورة الإسراء (17): الآيات 56 الى 60]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذابًا شَدِيدًا كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي ال ْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيانًا كَبِيرًا (60)
تفسير المفردات
الزعم: (بتثليث الزاى) القول المشكوك في صدقه، وقد يستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله ورد فيه (زعم) فهو كذب، لا يملكون: أي لا يستطيعون، كشف الضر: إزالته أو تحويله عنكم إلى غيركم، يدعون: أي ينادون، الوسيلة: القرب بالطاعة والعبادة، محذورا: أي يحذره ويحترس منه كل أحد، في الكتاب: أي في اللوح المحفوظ، والآيات: هي ما اقترحته قريش من جعل الصفا ذهبا، ومبصرة: أي ذات بصيرة لمن يتأملها ويتفكر فيها، فظلموا بها: أي فكفروا بها وجحدوا، أحاط بالناس: أي أحاطت بهم قدرته فلا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا، والرؤيا هي ما عاينه ﷺ ليلة أسرى به من العجائب، والشجرة:
هي شجرة الزقوم، والطغيان: تجاوز الحد في الفجور والضلال.
المعنى الجملي
هذه الآيات عود على بدء في تسفيه آراء المشركين الذين كانوا يعبدون الملائكة والجن والمسيح وعزيرا، إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويخافون عذابه، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فادعونى وحدي، لأني أنا المالك لنفعكم وضرهم دونهم ثم بين أن قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال، وإما بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم أردف ذلك ببيان أنه ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم: « لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا » إلخ إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أولم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة، ثم قفى على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينضره ويؤيده، ثم أتبع ذلك بأن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم، كما كان ذكر شجرة الزقوم في قوله: « إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ » ثم تلا هذا بذكر تماديهم في العناد، وأنه كلما خوّفهم وأنذرهم ازدادوا تماديا وطغيانا، فلو أنزل عليهم الآيات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها، ومن ثم أجّل عذابهم إلى يوم الوقت المعلوم.
الإيضاح
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا) أي قل أيها الرسول لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه: ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه حين ينزل الضر بكم من فقر ومرض ونحوهما، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم؟ إنهم لا يقدرون على دفع شيء من ذلك ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم.
روي أنه لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ أنزل الله هذه الآية.
(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) أي هؤلاء الذين يدعوهم المشركون أربابا، وينادونهم لكشف الضر عنهم - يطلبون مجتهدين إلى ربهم ومالك أمرهم القرب إليه بالطاعة والقربة.
أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « سلوا الله لي الوسيلة، قالوا وما الوسيلة؟ قال القرب من الله؟ ثم قرأ هذه الآية ».
(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أي إن أقرب أولئك المعبودين إلى الله يدعوه يبتغى إليه الوسيلة والقرب منه، وإذا كان العجز عن كشف الضر عنكم، والافتقار إلى ربكم، شأن أعلاهم وأدناهم، فكيف تعبدونهم؟.
(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي ويرجون بفعلهم للطاعة رحمته، ويخافون بمخالفة أمره عذابه.
ثم ذكر العلة في خوفهم من العذاب فقال:
(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا) أي إن عذابه حقيق بأن يحذره كل أحد من الملائكة والأنبياء فضلا عن سواهما.
ثم ذكر مآل الدنيا وأهلها فقال:
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذابًا شَدِيدًا) أي وما من قرية من القرى التي ظلم أهلها بالكفر والمعاصي إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء ومبيدوهم بالاستئصال قبل يوم القيامة، أو معذبوها ببلاء من قتل بالسيف أو غير ذلك من صنوف العذاب، بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال سبحانه عن الأمم الماضية: « وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » وقال: « فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْرًا » وقال: « وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ » الآية.
(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا) أي كان ذلك مثبتا في علم الله أو في اللوح المحفوظ.
عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، فقال ما أكتب؟ قال اكتب المقدر وما هو كائن إلى يوم القيامة » أخرجه الترمذي.
وكان كفار قريش يقولون يا محمد: إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخّرت له الريح، ومنهم من كان يحيى الموتى، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا، فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله:
(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أي إنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم لاستحقوا عذاب الاستئصال كما هي سنتنا في الأمم السالفة، لكن هذا العذاب على هذه الأمة لا يكون، لأن الله يعلم أن فيهم من سيؤمنون أو يؤمن أولادهم، فلم يجبهم إلى ما طلبوا ولم يظهر لهم تلك المعجزات.
والخلاصة - إنه ما ما منعنا من إرسال الآية التي سألوها إلا تكذيب الأولين بمثلها، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله في عباده.
روى أحمد عن ابن عباس قال: « سأل أهل مكة النبي ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحّى الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له إن شئت أن نستاني بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم، قال بل نستاني بهم وأنزل الله (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) الآية ».
وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع بن أنس قال: قال الناس لرسول الله ﷺ « لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون، فقال رسول الله ﷺ إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم، فإن عصيتم هلكتم فقالوا لا نريدها ».
ثم بين أن الآيات التي التمسوها هي مثل آية ثمود وقد أوتوها واضحة بينة فكفروا بها فاستحقوا العذاب، فكيف يتمنى مثلها هؤلاء على سبيل الاقتراح كما قال:
(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) أي وقد سألت ثمود من قبل قومك الآيات فآتيناها ما سألت، وجعلنا لها الناقة حجة واضحة دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها، فكفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله، وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
(وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) أي إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات، لعلهم يعتبرون ويذّكّرون فيرجعوا.
ذكر المؤرخون أن الكوفة رجفت (زلزلت) في عهد ابن مسعود فقال: أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه، وروى أن المدينة زلزلت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات فقال عمر: أحدثتم والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ.
وفي الحديث الصحيح « إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره - ثم قال: يا أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ».
ثم قال سبحانه محرّضا رسوله على إبلاغ رسالته، ومخبرا له بأنه قد عصمه من الناس.
(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك هو القادر على عباده، وهم في قبضته، وتحت قهره وغلبته، فلا يقدرون على أمر إلا بقضائه وقدره، وقد عصمك من أعدائك، فلا يقدرون على إيصال الأذى إليك كما قال: « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ».
وخلاصة ذلك - إن الله ناصرك ومؤيدك حتى تبلّغ رسالته، وتظهر دينه.
قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوه، ويؤيد هذا قوله تعالى: « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ».
(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أي وما جعلنا الرؤيا التي أريتها ليلة الإسراء إلا امتحانا واختبارا للناس، فأنكرها قوم وكذبوا بها، وكفر كثير ممن كان قد آمن به، وازداد المخلصون إيمانا.
روى البخاري في التفسير عن ابن عباس إنها رؤيا عين أريها رسول الله ﷺ ليلة الإسراء، وهو قول سعيد بن جبير ومسروق وقتادة، والعرب تقول رأيته بعيني رؤية ورؤيا.
(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، فإنهم حين سمعوا: « إنّ شجرة الزّقوم، طعام الأثيم » اختلفوا، فقوم ازدادوا
إيمانا، وقوم ازدادوا كفرا كأبى جهل إذ قال: إن ابن أبي كبشة (يعنى النبي صلى الله الله عليه وسلّم) توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت شجرة وتعلمون أن النار نحرق الشجر، وقال عبد الله بن الزّبعرى: إن محمدا يخوّفنا بالزقوم، وما الزقوم إلا التمر والزبد، فتزقموا منه، وجعل يأكل من هذا بهذا.
وقد فات هؤلاء أن في الدنيا أشياء كثيرة لا تحرقها النار، فهناك نوع من الحرير يسمى بالحرير الصخرى لا تؤثر فيه النار، بل هو يزداد إذا لا مسها نظافة، ومن ثم يلبسه جال المطافى في الدول المتدينة.
وكم في الأرض من عجائب، وكم في العوالم الأخرى من مثلها، فالأرض مملوءة نارا، وما خلص من النار إلا قشرتها التي نعيش عليها، وما من شجر أو حجر إلا وفيه نار، والماء نفسه مادة نارية فنحو 8 \ 9 منه أكسوجين وهو مادة تشتعل سريعا، والتسع أدروجين، فأرضنا نار، وماؤنا نار، وأشجارنا وأحجارنا مليئة بالنار، وهذا العالم الذي نسكنه تتخلله النار.
والخلاصة - إن هؤلاء المشركين فتنوا بالرؤيا، وفتنوا بالشجرة.
وقد وصفت هذه الشجرة بكونها ملعونة ولا ذنب لها، للعن الكفار الذين يأكلونها، توسعا في الاستعمال وهو كثير في كلام العرب.
(وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيانًا كَبِيرًا) أي ونخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة، فما يزيدهم التخويف إلا تماديا في الطغيان والضلال، فلو أننا أنزلنا عليهم الآيات التي اقترحوها، لم يزدادوا بها إلا تمردا وعنادا واستكبارا في الأرض وفعل بهم ما فعل بأمثالهم من الأمم الغابرة من عذاب الاستئصال، لكن قد سبقت كلمتنا بتأخير العذاب عنهم إلى حلول الطامة الكبرى.
والكلام مسوق لتسليته ﷺ على ما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة، من الحزن لطعن الكفار، إذ ربما يقولون لو كنت رسولا حقا لأتيت بمثل هذه المعجزات التي أتى بها من قبلك من الأنبياء.
[سورة الإسراء (17): الآيات 61 الى 65]
وإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُورًا (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
تفسير المفردات
أرأيتك: أي أخبرني، هذا الذي كرّمت على: أي أهذا الذي كرمته علي قاله احتقارا واستصغارا لشأنه، لأحتنكنّ، من قولهم حنك الدابة واحتنكها: إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه، اذهب: أي امص لشأنك فقد خلّيتك وما سوّلت لك نفسك، وموفورا: أي مكملا لا يدّخر منه شيء من قولهم فر لصاحبك عرضه فرة: أي أكمله له قال:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ويقال أفزّه الخوف واستفزه: أي أزعجه واستخفه، بصوتك: أي بدعائك إلى معصية الله، وأجلب عليهم: أي صح عليهم من الجلبة وهي الصياح، ويقال أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول (والخيل هنا الفرسان) كما جاء في قوله ﷺ في بعض غزواته لأصحابه « يا خيل الله اركبي ». والرّجل: واحده راجل كركب وراكب، والغرور: تزيين الباطل بما يظن أنه حق، والوكيل: الحافظ والرقيب
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن الرسول ﷺ كان في محنة من قومه إذ كذبوه وتوعدوه حين حدثهم بالإسراء وشجرة الزقوم، وأنهم نازعوه وعاندوه واقترحوا عليه الآيات حسدا على ما آتاه الله من النبوة، وكبرا عن أن ينقادوا إلى الحق - بين أن هذا ليس ببدع من قومك، فقد لاقى كثير من الأنبياء من أهل زمانهم مثل ما لاقيت ألا ترى أن آدم عليه السلام كان في محنة شديدة من إبليس، وأن الكبر والحسد هما اللذان حملاه على الخروج من الإيمان والدخول في الكفر والحسد بليّة قديمة، ومحنة عظيمة للخلق.
الإيضاح
ذكر سبحانه قصص آدم في سبع سور: البقرة. الأعراف. الحجر. الإسراء.
الكهف، طه. ص. وقد تقدم الكلام فيها فيما سلف من تلك السور وها نحن أولاء نفسرها في هذه السورة.
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك عداوة إبليس لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخارا عليه واحتقارا له، وقال أأسجد لمن خلقته من الطين، وأنا مخلوق من النار كما جاء في الآية الأخرى: « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » فكفر بنسبة ربه إلى الجور بتخيله أنه أفضل من آدم من قبل أن الفروع ترجع إلى الأصول، وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم، وقد فاته أن الطين أنفع من النار ولئن سلم غير هذا فالأجسام كلها من جنس واحد، والله هو الذي أوجدها من العدم، ويفضّل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض.
وقال أيضا لربه جرأة وكفرا، والرب يحلم وينظر:
(أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ؟) أي أخبرني أهذا الذي كرّمته علي؟ وهل يوجد ما يدعو إلى تفضيله علي، وهذا كلام قاله على وجه التعجب والإنكار.
(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) أي لئن أنظرتنى لأضلنّ ذريته إلا قليلا منهم، وهذا القليل هم الذين عناهم الله بقوله: « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ».
ولعل إبليس حكم هذا الحكم على ذرية آدم إما بالسماع من الملائكة حين قالوا « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك » أو بالقياس على ما رأى من آدم حين وسوس إليه، فلم يجد له عزما.
ثم ذكر سبحانه أنه أجابه إلى النّظرة، وأخره إلى يوم الوقت المعلوم.
(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا) أي قال له سبحانه: امض لشأنك الذي اخترته، ولما سوّلته لك نفسك، وقد أخرتك، وهذا كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد.
فمن أطاعك من ذرية آدم وضلّ عن الحق، فإن جزاءك على دعائك إياهم، وجزاءهم على اتباعهم لك وخلافهم أمري جزاء موفور، لا ينقص لكم منه شيء، بما تستحقون من سيىء الأعمال، وما دنستم به أنفسكم من قبيح الأفعال.
ونحو الآية قوله: « فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ».
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي قال تعالى مهددا له: استخفّ وأزعج بدعائك إلى معصية الله ووسوستك من استطعت من ذرية آدم.
(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أي واجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من تجلب بالدعاء إلى طاعتك والصرف عن طاعتى، ومثل هذا الأسلوب يراد به التشمير في الأمر والجد فيه، والتسلط على من يغويه، وكأن فارسا مغوارا وقع على قوم، فصوت بهم صوتا مزعجا من أماكنهم، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى استأصلهم.
قال مجاهد: ما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل في معصية الله فهو من رجّالة إبليس. وقال آخرون: ليس للشيطان خيل ولا رجالة، وإنما يراد بهما الأتباع والأعوان من غير ملاحظة لكون بعضهم ما شيا وبعضهم راكبا.
(وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) بحثهم على كسبها من غير السبل المشروعة، وإنفاقها في غير الطرق التي أباحها الدين، ويشمل ذلك الربا والغصب والسرقة وسائر المعاملات الفاسدة.
وقال الحسن: مرهم أن يكسبوها من خبيث، وينفقوها في حرام.
(وَالْأَوْلادِ) بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضى الله.
وإجمال القول فيه - إن كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه، بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه، أو بالزنا بأمه، أو بوأده، أو بقتله، أو غير ذلك فقد شارك إبليس فيه من ولد له أو منه.
(وَعِدْهُمْ) بما يستخفهم ويغرّهم من المواعيد الباطلة، كوعدهم بأن لا جنة ولا نار، أو بأن الآلهة تشفع لهم، أو بالكرامة على الله بالأنساب الشريفة، مع ما ثبت من قوله ﷺ « يا فاطمة بنت محمد سلينى من مالى ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئا »
أو بالتسويف في التوبة، أو بإيثار العاجل على الآجل أو نحو ذلك.
وخلاصة ذلك - إنه يغويهم بأن لا ضرر من فعل هذه المعاصي، فإنه لا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، وإنها سبيل اللذة والسرور، ولا حياة للإنسان إلا بها فتفويتها غبن وخسران.
خذوا بنصيب من سرور ولذة فكلّ وإن طال المدى يتصرّم
وينفّرهم من الطاعة بأن لا فائدة فيها، إذ لا رجعة بعد هذه الحياة، فهي عبث محض، فهذه بعض تلبيسات الشيطان وهذه خدعة.
(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُورًا) لأنه لا يغني عنهم من عقاب الله شيئا إذا نزل بهم، فمواعيده خدعة يزينها لهم ويلبسها ثوب الحق، كما قال إبليس إذ حصحص الحق يوم يقضى ربك بالحق: « إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ».
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي إن عبادي الذين أطاعونى فاتبعوا أمري وعصوك، ليس لك عليهم تسلط، فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر، فإني قد وفقتهم بالتوكل علي، فكفيتهم أمرك.
(وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) فهم يتوكلون عليه، ويستمدون منه العون في الخلاص من إغوائك ووسوستك.
وفي الآية إيماء إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه من مواقع الضلال، وإنما المعصوم من عصمه الله.
[سورة الإسراء (17): الآيات 66 الى 70]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70)
تفسير المفردات
يزجى: أي يسوق حينا بعد حين والمراد أنه يجريه، وفضله: هو رزقه، والمراد بالضر: خوف الغرق بتقاذف الأمواج، وضل: غاب عن ذكركم، والخسف والخسوف: دخول الشيء في الشيء يقال عين خاسفة إذا غابت حدقتها في الرأس، وعين من الماء خاسفة: أي غائرة الماء وخسفت الشمس: أي احتجبت، وكأنها غارت في السحاب، والحاصب: الريح التي ترمى بالحصباء والحجارة، والقاصف: الريح تقصف الشجر وتكسره، والتبيع: النصير والمعين، وحملته على فرس: أي أعطيته إياها ليركبها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر في الآية السالفة أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس، وأنه لا يستطيع أن يمسه بسوء - قفى على ذلك بذكر بعض نعمه تعالى على الإنسان التي كان يجب عليه أن يقابلها بالشكران لا بالكفران، وهو الذي يرى دلائل قدرته في البر والبحر، فهو الذي يزجى له الفلك في البحر لتنقل له أرزاقه وأقواته من بعيد المسافات، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة إذا مسه الضر دعا ربه، وإذا أمن أعرض عنه وعبد الأصنام والأوثان، فهل يأمن أن يخسف به الأرض، أو يرسل عليه حاصبا من الريح في البر، أو قاصفا من الريح في البحر فيغرقه بكفره، وهل نسى أنه ضله على جميع الخلق، وبسط له الرزق، أفلا يفرده بالعبادة ويخبت له كفاء تلك النعم طاهرة عليه؟
الإيضاح
(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا) أي إن ربكم أيها القوم هو القادر الحكيم الذي يجرى لكم لنفعكم السفن في البحر بالريح اللينة أو بالآلات البخارية أو الكهربائية، لتسهيل نقل أقواتكم وحاجكم من إقليم إلى آخر من أقصى المعمورة إلى أدناها، والعكس بالعكس، ونقل أشخاصكم من قطر إلى قطر ابتغاء للرزق أو للسياحة ورؤية مظاهر الكون على اختلاف الأصقاع مما يرشد إلى باهر القدرة، ووافر النعمة عليكم، إنه كان بكم رحيما، إذ سهل ما فيه الفوائد المرجوة لكم في هذه الحياة.
ثم خاطب الكفار بقوله:
(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي وإذا نالتكم شدة جهد في البحر ذهب عن خواطركم كل من تدعونه وترجون نفعه، من صنم أو جن أو ملك أو بشر أو حجر، فلا تذكرون إلا الله، ولا يخطر على بالكم سواه لكشف ما حل بكم.
وخلاصة ذلك - إنكم إذا مسكم الضر دعوتم الله منيبين إليه مخلصين له الدين.
(فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) أي ومن عجيب أمركم أنكم حين دعوتموه وأغاثكم وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه في البحر أعرضتم عن الإخلاص ورجعتم إلى الإشراك به كفرا منكم بنعمته.
ثم علل هذا الإعراض بقوله:
(وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا) أي وكانت سجية الإنسان وطبيعته أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.
وخلاصة ما سلف - إنكم حين الشدائد تجأرون طالبين رحمته، وحين الرخاء تعرضون عنه.
ثم حذر من كفران نعمته فقال:
(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا؟) أي أفحسبتم أنكم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقام الله وعذابه، فهو إن شاء خسف بكم جانب البر وغيّبه في أعماق الأرض وأنتم عليها، وإن شاء أمطر عليكم حجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط، ثم لا تجدون من تكلون إليه أموركم، فيحفظكم من ذلك، أو يصرفه عنكم غيره، جل وعلا.
وخلاصة ذلك - إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم من فوقكم بريح يرسلها عليكم، فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشد عليكم من الغرق في البحر.
(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا) أي أم أمنتم أيها المعرضون عنا بعد ما اعترفتم بتوحيدنا في البحر حتى خرجتم إلى البر - أن يعيدكم فيه مرة أخرى فيرسل عليكم ريحا تقصف السواري، وتغرق المراكب بسبب كفركم وإعراضكم عن الله، ثم لا تجدوا لكم نصيرا يعينكم ويأخذ بثأركم.
قال قتادة: في تفسيرها أي لا نخاف أحدا يتبعنا بشىء مما فعلنا. يريد: إنكم لا تجدون ثائرا يطلبنا بما فعلنا، انتصارا منا، أو دركا للثأر من جهتنا.
وفي معنى الآية قوله: « فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها ».
وفي الآية وعيد أيما وعيد فكأنه قيل: ننتقم منكم من غير أن يكون لكم نصير يدفع عنكم شديد بأسنا.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا) أي ولقد كرمنا بنى آدم بحسن الصورة واعتدال القامة والعقل، فاهتدى إلى الصناعات ومعرفة اللغات، وحسن التفكير في وسائل المعاش، والتسلط على ما في الأرض، وتسخير ما في العالم العلوي والسفلى، وحملناهم على الدواب والقطر والطائرات والمطاود (واحدها منطاد) والسفن، ورزقناهم من الأغذية النباتية والحيوانية، وفضلناهم على كثير من الخلق بالغلبة والشرف والكرامة، فعليهم ألا يشركوا بربهم شيئا، ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره من الأصنام والأوثان.
والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام.
والخلاصة - إن في الآية حثا للإنسان على الشكر، وألا يشرك بربه أحدا، لأنه سخّر له ما في البر والبحر، وكلأه بحسن رعايته، وهداه إلى صنعة الفلك لتجرى في البحر، ورزقه من الطيبات، وفضله على كثير من المخلوقات.
[سورة الإسراء (17): الآيات 71 الى 77]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا (75) وإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (77)
تفسير المفردات
إمامهم: هو كتابهم فهو كقوله « وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ » والفتيل: الخيط المستطيل في شقّ النواة، وبه يضرب المثل في الشيء الحقير التافه، ومثله النقير والقطمير، أعمى: أي أعمى البصيرة عن حجة الله وبيناته، والركون إلى الشيء: الميل إلى ركن منه، ضعف الحياة: أي عذابا مضاعفا في الحياة الدنيا، وضعف الممات: أي عذابا مضاعفا في الممات في القبر وبعد البعث، ونصيرا: أي معينا يدفع عنك العذاب، لا يلبثون: أي لا يبقون، خلافك: أي بعدك، سنة من قد أرسلنا: أي سنتنا بك سنة الرسل قبلك، تحويلا: أي تغييرا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جل ثناؤه أحوال بنى آدم في الدنيا، وذكر أنه أكرمهم على كثير من خلقه، وفضلهم عليهم تفضيلا - فصّل في هذه الآيات تفاوت أحوالهم في الآخرة مع شرح أحوال السعداء، ثم أردفه ما يجرى مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال، والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبيس، ثم قفى على ذلك ببيان أن سنته قد جرت بأن الأمم التي تلجىء رسلها إلى الخروج من أرضها لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.
الإيضاح
(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي اذكر لهم ذلك اليوم، يوم ندعو كل أناس بكتابهم الذي فيه أعمالهم التي قدّموها، ولا ذكر للأنساب حينئذ لأنها مقطوعة، فلا يقال يا ابن فلان، وإنما يقال يا صاحب كذا كما قال تعالى « فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ».
والخلاصة: إن المعوّل عليه يومئذ الأعمال والأخلاق، والآراء والعقائد النفسية التي تغرس في النفوس لا الأنساب، لأن الأولى باقية والثانية فانية.
(فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي فمن أعطى كتاب عمله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم مبتهجين فرحين بما فيه من العمل الصالح.
ونحو الآية قوله « فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ».
(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا ينقصون شيئا من أجور أعمالهم، وقد ثبت في علم الكيمياء أن وزن الذرات التي تدخل في كل جسم بنسب معينة، فلو أن ذرة واحدة في عنصر من العناصر الداخلة في تركيب أي جسم من النبات أو الحيوان أو الجماد نقصت عن النسبة المقدرة لتكوينه لم يتكون ذلك المخلوق.
وخالق الدنيا هو خالق الآخرة، فالظلم مستحيل هناك كما استحال هنا في نظم الطبيعة، فما أجلّ قدرة الله وما أعظم حكمته في خلقه!.
(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي ومن كان في دار الدنيا أعمى القلب لا يبصر سبل الرشد، ولا يتأمل حجج الله وبيناته التي وضعها في صحيفة الكون وأمر بالتأمل فيها - فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضل سبيلا منه في الدنيا، لأن الروح الباقي بعد الموت هو الروح الذي كان في هذه الحياة الدنيا، وقد خرج من الجسم وكأنه ولد منه كما تلد المرأة الصبى، وكما يثمر النخل الثمر، والأشجار الفواكه، وما الثمر والفواكه إلا ما كان من طباع الشجرة، فهكذا الروح الباقي هو هذا الروح نفسه قد خرج بجميع صفاته وأخلاقه وأعماله، فهو ينظر إلى نفسه وينفر أو ينشرح بحسب ما يرى، وما الثمر إلا بحسب الشجر، فإذا كان هنا ساهيا لا هيا فهناك يكون أكثر سهوا ولهوا وأبعد مدى في الضلال، لأن آلات العلم والعمل قد عطّلت، وبقي فيه مناقبه ومثالبه، ولا قدرة على الزيادة في الأولى ولا النقص في الثانية.
وبعد أن ذكر سبحانه درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء، أردفه بتحذيرهم من وساوس أرباب الضلال والخديعة بمكرهم فقال:
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي وإن المشركين قاربوا بخداعهم أن يوقعوك في الفتنة بصرفك عما أوحيناه إليك من الأحكام، لتتقوّل علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك.
أخرج ابن اسحق وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس « أن أمية بن حنف وأبا جهل ورجالا من قريش أتوا رسول الله ﷺ فقالوا تعال فتمسّح بآلهتنا، وندخل معك في دينك، وكان رسول الله ﷺ يشتد عليه فراق قومه، ويجب إسلامهم، فرقّ لهم، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله نصيرا.
وعن سعيد بن جبير قال: « كان النبي ﷺ يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا فحدّث نفسه وقال: ما على أن ألمّ بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم إني لها كاره، فأبى الله ذلك، وأنزل عليه هذه الآية ».
(وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) أي ولو اتبعت ما يريدون لا تخذوك خليلا ووليّا لهم، وخرجت من ولايتي.
(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) أي ولولا تثبيتنا إياك، وعصمتك عما دعوك إليه لقاربت أن تميل إلى ما يرومون.
وخلاصة ذلك - إنك كنت على أهبة الركون إليهم، لا لضعف منك، بل لشدة مبالغتهم في التحيل والخداع، ولكن عنايتنا بك منعتك أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم.
وفي هذا تصريح بأنه ﷺ لم يهمّ بإجابتهم ولم يقرب من ذلك.
ثم توعده على ذلك أشد الوعيد فقال:
(إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي ولو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات: أي ضاعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة، فهو ﷺ لو ركن إليهم يكون عذابه ضعف عذاب غيره، لأن الذنب من العظيم يكون عقابه أعظم، ومن ثم يعاقب العلماء على زلاتهم أشد من عقاب العامة لأنهم يتبعونهم.
ونظير ذلك من وجه ما جاء في نسائه ﷺ من قوله « يا نساء النبي من يأت منكنّ بفاحشة مبينّة يضاعف لها العذاب ضعفين ».
وخلاصة ذلك - إنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك، وعقدت على الركون همّك، لا ستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة، ولصار عذابك مثلى عذاب المشرك في الدنيا ومثلى عذابه في الآخرة.
وقد ذكروا في حكمة هذا - أن الخطير إذا ارتكب جرما وخطا خطيئة يكون سببا في ارتكاب غيره مثله والاحتجاج به، فكأنه سن ذلك، وقد جاء في الأثر - « من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ».
(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا) أي ثم لا تجد من يدفع العذاب أو يرفعه عنك.
روي عن قتادة أنه قال: « لما نزل قوله: وإن كادوا ليفتنونك إلخ قال ﷺ: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين »
فينبغي للمؤمن أن يتدبّرها حين تلاوتها، ويستشعر الخشية، ويستمسك بأهداب دينه، ويقول كما قال النبي ﷺ « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ».
(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) أي ولقد كاد أهل مكة يزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم من الأرض التي أنت فيها ليخرجوك منها، بما فعلوه من حصرك والتضييق عليك وقد وقع ذلك بعد نزول الآية وصار ذلك سببا لخروجه ﷺ.
(وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولو استفزوك فخرجت لا يبقون بعدك إلا زمانا قليلا.
وفي هذا وعيد لهم بإهلاكهم بعد خروجه بقليل، وقد تحقق ذلك بإفناء صناديد قريش في وقعة بدر لثمانية عشر شهرا من ذلك التاريخ.
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم أن يأتيهم العذاب، ولو لا أنه ﷺ رسول الرحمة لجاءهم من النقم ما لا قبل لهم به، ومن ثم قال تعالى: « وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم » الآية.
(وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا) أي إن ما أجرى الله به العادة لا يتسنى لأحد سواه أن يغيّره ولا أن يحوّله.
[سورة الإسراء (17): الآيات 78 الى 84]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسارًا (82) وإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (84)
تفسير المفردات
دلوك الشمس: زوالها عن دائرة نصف النهار، والغسق: شدة الظلمة، وقرآن الفجر: أي صلاة الصبح، كان مشهودا: أي تشهده شواهد القدرة، وبدائع الحكمة، وبهجة العالم العلوي والسفلى فمن ظلام حالك، أزاله ضوء ساطع، ونور باهر، ومن نوم وخمود، إلى يقظة وحركة، وسعى إلى الأرزاق، فسبحان الواحد الخلاق، وهل هناك منظر أجمل في نظر الرائي من ظهور ذلك النور ينفلت من خلال الظلام الدامس يدفعه بقوة، ليضىء العالم بجماله، ويقظة النّوّام وحركتهم على ظهر البسيطة، وقد كانوا في سكون، فهي حياة متجددة بعد موت وغيبوبة للحواس، والتهجد: الاستيقاظ من النوم للصلاة، نافلة: أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة عليك، والمقام المحمود: مقام الشفاعة العظمى حين فصل القضاء، حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه ﷺ، والسلطان: الحجة البينة، والنصير: الناصر والمعين، زهق: أي زال واضمحل، نأى بجانبه: أي لوى عطفه عن الطاعة وولاها ظهره، وشاكلته: أي مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال، ويئوسا: أي شديد اليأس والقنوط من رحمة الله، وأهدى سبيلا: أي أسدّ طريقا، وأقوم منهجا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسوله ﷺ ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به - أمره بالإقبال على ربه بعبادته لينصره عليهم، ولا يبالى بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم ويجعل يده فوق أيديهم، ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدواء النفسية، والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرين خسارة وضلالا، لأنه كلما نزلت عليه آية ازدادوا بها كفرا وعتوّا.
الإيضاح
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي أدّ الصلاة المفروضة عليك بعد دلوك الشمس وزوالها إلى ظلمة الليل، ويشمل ذلك الصلوات الأربعة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاة الصبح، وقد بينت السنة المتواترة من أقواله وأفعاله ﷺ تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه عنه خلفا عن سلف قرنا بعد قرن.
وقد تقدم في سورة البقرة أن المراد بإقامة الصلاة أداؤها على الوجه الذي سنه الدين، والنّهج الذي شرطه، من توجيه القلب إلى مناجاة الرب، والخشية منه في السر والعلن، مع اشتمالها على الشرائط والأركان التي أوضحها الأئمة المجتهدون والصلاة لبّ العبادة، لما فيها من مناجات الخالق، والإعراض عن كل ما سواه، ودعائه وحده، وهذا هو مخّ كل عبادة، وفى الحديث « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا) أي ففي الفجر تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار وتشهده جميعا، ثم يصعد أولئك ويقيم هؤلاء، روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح، وفى صلاة العصر فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلون »
وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في قوله: « (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا) قال تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار »
وقد يكون المراد كما قال الرازي - إن الإنسان يشهد فيه آثار القدرة وبدائع الحكمة، في السموات والأرض، فهناك الظلام الحالك الذي يزيله النور الساطع، وهناك يقظة النوم بعد الخمود والغيبوبة عن الحس إلى نحو ذلك من مظاهر القدرة في الملك والملكوت، فكل العالم يقول بلسان حاله أو مقاله « سبّوح قدّوس، رب الملائكة والروح ».
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي واسهر بعض الليل وتهجد به، وهو أول أمر له ﷺ بقيام الليل زيادة على الصلوات المفروضة.
روى مسلم عن أبي هريرة « أن النبي ﷺ سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال صلاة الصبح »
وقد ثبت في صحيح الأحاديث عن عائشة وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي ﷺ كان يتهجد بعد نومه.
(نافِلَةً لَكَ) أي إنها مخصوصة بك وحدك دون الأمة، فهي فريضة عليك ومندوبة في حق أمتك.
(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا) أي افعل هذا الذي أمرتك، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحمدك فيه كل الخلائق وخالقهم تبارك وتعالى.
قال ابن جرير: قال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي يقومه ﷺ يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة في ذلك اليوم.
أخرج النسائي والحاكم وجماعة عن حذيفة رضي الله عنه قال: « يجمع الله الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه، فينادى يا محمد، فيقول (لبّيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت) فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله » اهـ.
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: « من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلّت له شفاعتي ».
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى » الحديث.
وسر هذا - أن الهداة في الأرض، وهم الأنبياء ومن سلك نهجهم من الأئمة والعلماء، لا تشرق قلوبهم إلا بتوجههم إلى الله في أوقات الصلوات، فإذا قاموا للخلق داعين أشرقت مرايا نفوسهم الصافية على من يدعونهم من العباد، فتضىء نفوسهم، فيستجيبون لدعوتهم، ويكون لهم المقام المحمود بينهم، والثناء العظيم الذي هم له أهل: إلى أنهم يحسون في أنفسهم سرورا ولذة، وبهجة ورضا، فيحمدون مقامهم كما حمدهم الناس من حولهم، والله والملائكة من فوقهم.
لا جرم أن هذا المقام المحمود بالرشد والإرشاد يتبعه مقام الشفاعة، إذ لا شفاعة في الآخرة إلا على مقدار ما أوتى المشفوع له في الدنيا من علم وخلق، ولله في الشفاعة ما يشاء من غفران وإعلاء درجات.
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي وقل داعيا رب أدخلنى في كل مقام تريد إدخالى فيه في الدنيا وفى الآخرة مدخلا صادقا أي يستحق الداخل فيه أن يقال له أنت صادق في قولك، فعلك، وأخرجنى من كل ما تخرجنى منه مخرج صدق أي يستحق الخارج منه أن يقال له أنت صادق.
وخلاصة ذلك - أدخلنى إدخالا مرضيا كإدخالى للمدينة مهاجرا، وإدخالى مكة فاتحا، وإدخالى في القبر حين الموت، وأخرجنى إخراجا محفوظا بالكرامة والرضا، كإخراجى من مكة مهاجرا، وإخراجى من القبر للبعث.
ثم سأل الله القوة بالحجة والتسلط على الأعداء فقال:
(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا) أي واجعل لي تسلطا بالحجة والملك، فأقنع المستمعين للدعوة بالحجة، ويكون للإسلام الغلبة بالاستيلاء على أهل الكفر.
وقد أجاب الله دعاءه، وأعلمه أنه يعصمه من الناس كما قال: « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » وقال: « فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ » وقال: « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ».
ثم أمره أن يخبر بالإجابة بقوله:
(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي وقل للمشركين مهددا لهم: إنه قد جاءهم الحق الذي لا مرية فيه، ولا قبل لهم به. وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع، واضمحل باطلهم وهلك، إذ لا ثبات له مع الحق كما قال: « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ».
(إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا) أي مضمحلا لا ثبات له في كل آن.
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: « دخل النبي ﷺ مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدى الباطل وما يعيد.
وفي رواية للطبراني والبيهقي عن ابن عباس « أنه ﷺ جاء ومعه قضيب، فجعل يهوى به إلى كل صم منها فيخرّ لوجهه فيقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا - حتى مر عليها كلّها ».
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وننزل عليك أيها الرسول من القرآن ما به يستشفى من الجهل والضلالة، وتزول أمراض الشدة والنفاق، والزيغ والإلحاد، وهو أيضا رحمة للمؤمنين الذين يعملون بما فيه من الفرائض، ويحلّون حلاله، ويحرّمون حرامه، فيدخلون الجنة، وينجون من العذاب، وفي الخبر « من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله ».
(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا) لأنهم كلما سمعوا آية منه ازدادوا بعدا عن الإيمان وازدادوا كفرا بالله، لأنه قد طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون كما قال: « قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ » وقال: « وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيمانًا؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ».
قال قتادة في قوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا) أي لا ينتفعون به، ولا يحفظونه، ولا يعونه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين اهـ.
(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا أنعمنا على الإنسان بمال وعافية، وفتح ونصر وفعل ما يريد - أعرض عن طاعتنا وعبادتنا، ونأى بجانبه، وهذا كقوله « فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ » وقوله: « فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ».
(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُسًا) أي وإذا أصابته الجوائح، وانتابته النوائب، كان يئوسا قنوطا من حصول الخير بعد ذلك.
ونحو الآية قوله « وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ » وقوله: « فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ».
ولما ذكر حالى العمى والمهتدين ختم القول ببيان أن كلا يسير على مذهبه فقال:
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي قل إن كلا من الشاكر والكافر يعمل على طريقته وحاله في الهدى والضلال، وما طبع عليه من الخير والشر.
(فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا) أي فربكم أعلم من كل أحد، بمن منكم أوضح طريقا واتباعا للحق، فيؤتيه أجره موفورا، ومن هو أضل سبيلا فيعاقبه بما يستحق، لأنه يعلم ما طبع عليه الناس في أصل الخلقة وما استعدوا له، وغيره يعلم أمورهم بالتجربة، وبمعنى الآية قوله « وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ » ولا يخفى ما في الآية من تهديد شديد ووعيد للمشركين.
[سورة الإسراء (17): آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا (85)
تفسير المفردات
في المراد من الروح في هذه الآية ثلاثة آراء:
(1) القرآن وهو المناسب لما تقدمه من قوله: « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ » ولما بعده من قوله « وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ » ولأنه سمى به في مواضع متعددة من القرآن كقوله « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا » وقوله « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ » ولأن به تحصل حياة الأرواح والعقول، إذ به تحصل معرفة الله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، ولا حياة للأرواح إلا بمثل هذه المعارف.
(2) جبريل عليه السلام وهو قول الحسن وقتادة، وقد سمى جبريل في مواضع عدة من القرآن كقوله « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » وقوله « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا »
ويؤيد هذا أنه قال في هذه الآية « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » وقال جبريل « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ » فهم قد سألوا الرسول كيف جبريل في نفسه وكيف يقوم بتبليغ الوحي.
(3) الروح الذي يحيا به بدن الإنسان - وهذا قول الجمهور - ويكون ذكر الآية بين ما قبلها وما بعدها اعتراضا للدلالة على خسارة الظالمين وضلالهم، وأنهم مشتغلون عن تدّبر الكتاب والانتفاع به إلى التعنت بسؤالهم عما اقتضت الحكمة سد الطريق على معرفته، ويؤيد هذا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: « مرّ رسول الله ﷺ بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه وقالوا يا أبا القاسم حدّثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يوحى إليه، ثم قال: ويسألونك عن الروح الآية ».
الإيضاح
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الذي يحيا به البدن، أقديم هو أم حادث؟
(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الأمر واحد الأمور: أي الروح شأن من شؤونه تعالى، حدث بتكوينه وإبداعه من غير مادة، وقد استأثر بعلمه، لا يعلمه إلا هو، لأنكم لا تعملون إلا ما تراه، حواسكم وتتصرف فيه عقولكم، ولا تعلمون من المادة إلا بعض أوصافها كالألوان والحركات للبصر، والأصوات للسمع، والطعوم للذوق، والمشمومات للشم، والحرارة والبرودة للمس، فلا يتسنى لكم إدراك ما هو غير مادى كالروح.
وللعلماء في حقيقة الروح أقوال كثيرة أولاها بالاعتبار قولان:
(1) إن الروح جسم نوراني حي متحرك من العالم العلوي، مخالف بطبعه لهذا الجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، والدّهن في الزيتون، والنار في الفحم، لا يقبل التبدل والتفرق والتمزق، يفيد الجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا لقبول الفيض وعدم حدوث ما يمنع السريان، وإلا حدث الموت، واختاره الرازي وابن القيم في كتاب الروح.
(2) إنه ليس بجسم ولا جسمانى، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وإلى هذا ذهب حجة الإسلام الغزالي وأبو القاسم الراغب الأصفهاني.
ثم أكد عدم علم أحد بها بقوله:
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) أي وما أوتيتم من العلم إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحس. فعلومنا ومعارفنا النظرية طريق حصولها الحواس، ومن ثم قالوا: من فقد حسا فقد علما.
روي أنه لما نزلت الآية قالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتى التوراة فقد أوتى خيرا كثيرا، فنزل قوله « قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ».
وخلاصة ذلك - إنه ما أطلعكم من علمه إلا على القليل، والذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر بعلمه تبارك وتعالى ولم يطلعكم عليه.
[سورة الإسراء (17): الآيات 86 الى 89]
ولَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (89)
تفسير المفردات
وكيلا: أي ملتزما استرداده بعد الذهاب به، كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه، وظهيرا: أي معينا في تحقيق ما يتوخّونه من الإتيان بمثله، وصرفنا: كررنا وردّدنا، والكفور: الجحود.
المعنى الجملي
بعد أن امتن سبحانه على نبيه بما أنزل عليه من الكتاب، وذكر أنه شفاء للناس، وأنه ثبّته عليه حين كادوا يفتنونه عنه، ثم أردفه بمسألة الروح اعتراضا، لأن اليهود والمشركين اشتغلوا بها عن تدبر الكتاب والانتفاع به، وسألوا تعنتا عن شيء لم يأذن الله بالعلم به لعباده - امتن عليه ببقاء ذلك الكتاب وحذّره من فتنة الضالين، وإرجاف المرجفين، وهو المعصوم من الفتنة، فإنه لو شاء لأذهب ما بقلبه منه ولكن رحمة بالناس تركه في الصدور.
وفي هذا تحذير عظيم للهداة والعلماء وهم غير معصومين من الفتنة، بأن يباعد بينهم وبين هدى الدين بمظاهرتهم للرؤساء والعامة، وتركهم العمل به اتباعا لأهوائهم، واستبقاء لودهم، وحفظا لزعامتهم على الناس.
ثم ذكر أن القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض معينا، وقد اشتمل على الحكم والأحكام والآداب التي يحتاج إليها البشر في معاشهم ومعادهم، وكثير من الناس جحدوا فضله عتوا وكبرا.
الإيضاح
لما ذكر سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلا قليلا، بين أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل فقال:
(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي والله لئن شئنا لنمحونّ القرآن من الصدور والمصاحف ولا نترك له أثرا، وتصيرنّ كما كنت لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان. أخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي في جماعة آخرين، عن ابن مسعود قال: « إن هذا القرآن سيرفع، قيل كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في المصاحف؟ قال يسرى عليه في ليلة واحدة فلا تترك منه آية في قلب ولا مصحف إلا رفعت، فتصبحون وليس فيكم منه شيء ثم قرأ هذه الآية ».
وعنه أنه قال: ذهاب القرآن رفعه من صدور قارئيه.
(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا) أي ثم لا تجد ناصرا ينصرك، فيحول بيننا وبين ما نريد بك، ولا قيّما لك يمنعنا من فعل ذلك بك.
(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به، وفى هذا امتنان من الله ببقاء القرآن. قال الرازي إنه تعالى امتن على جميع العلماء بنوعين من المنة، أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليهم. ثانيهما: إبقاء حفظه (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) إذ أرسلك للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليك الكتاب، وأبقاه في حفظك ومصاحفك، وفى حفظ أتباعك ومصاحفهم، وصيّرك سيد ولد آدم، وختم بك النبيين، وأعطاك المقام المحمود.
ثم نبه إلى شرف القرآن العظيم وكبير خطره فقال:
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) أي قل لهم متحديا: والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله بلاغة وحسن معنى وتصرفا وأحكاما ونحو ذلك، لا يأتون بمثله وفيهم العرب الفصحاء وأرباب البيان، ولو تعاونوا وتظاهروا، فإن هذا غير ميسور لهم، فكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل؟
ثم ذكر بعض محاسن هذا القرآن فقال:
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد رددنا القول فيه بوجوه مختلفة، وكررنا الآيات والعبر، والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي، وأقاصيص الأولين، والجنة والنار، ليدبّروا آياته، ويتعظوا بها.
(فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) أي فأبى أكثر الناس إلا الجحود والإنكار، والثبات على الكفر، والإعراض عن الحق.
ولما تم الإقناع بالحجة وقطعت ألسنتهم وأفحموا ولم يجدوا وسيلة للرد، أرادوا المراوغة باقتراح الآيات وذكروا من ذلك ستة أنواع ذكرها سبحانه بقوله:
[سورة الإسراء (17): الآيات 90 الى 100]
وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا (100)
تفسير المفردات
الينبوع: العين التي لا ينضب ماؤها، جنة: أي بستان تستر أشجاره ما تحتها من الأرض، كسفا: واحدها كسفة كقطع وقطعة لفظا ومعنى، وقبيلا: أي مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر والمراد رؤيتهم عيانا، والزخرف: هنا الذهب، وأصله الزينة، وأجملها ما كان بالذهب، ترقى: أي تصعد، مطمئنين: أي ساكنين مقيمين فيها، وخبت: أي سكن لهبها، والسعير: اللهب، وكفورا أي جحودا للحق، خشية الإنفاق: أي خوف الفقر، والقتور: الشديد البخل.
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم - أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات، ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها، آمنوا به، وصدقوا برسالته.
روي عن ابن عباس « أن أشراف مكة أرسلوا إلى النبي ﷺ وهم جلوس عند الكعبة، فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيّقة، فسيّر جبالها لننتفع بأرضها، وفجرّ لنا فيها نهرا وعيونا نزرع فيها، فقال لا أقدر عليه، فقال قائل: أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، فقال لا أقدر عليه، فقيل أو يكون لك بيت من زخرف (ذهب) فيغنيك عنا، فقال لا أقدر عليه، فقيل له أما تستطيع أن تأتى قومك بما يسألونك؟ فقال لا أستطيع، قالوا إن كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر، فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا بالعذاب، فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله ﷺ: لا والذي يحلف به، لا أومن بك حتى تشدّ سلما فتصعد فيه ونحن ننظر إليك، فتأتى بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة، ثم بعد ذلك لا أدرى أنؤمن بك أم لا؟.
فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل، وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله بشرا رسولا، فأجابهم بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة، لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله ﷺ على ما يلاقى من قومه، بأن الهداية والإيمان بيد الله ولا قدرة له على شيء من ذلك، ومن يظلل الله فلا هادي له، وسيلقون جزاءهم نار جهنم بما كسبت أيديهم ودسّوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي، وإنكار البعث والحساب، وهم يعلمون أن الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة أخرى ثم بين أنه لو أجابهم إلى ما طلبوا من إجراء الأنهار والعيون وتكثير الأموال واتساع المعيشة لما كان هناك من فائدة، ولما أوصلوا النفع إلى أحد، فالإنسان بطبعه شحيح كزّ بخيل.
الإيضاح
علمت مما سلف أنهم طلبوا منه آية من ست، وها هي ذي:
(1) (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحرث قول المبهوت المحجوج المتحير: لن نصدّقك حتى تستنبط لنا عينا من أرضنا تدفق بالماء أو تفور، وذلك سهل يسير على الله لو شاء فعله وأجابهم إلى ما يطلبون، ولكن الله علم أنهم لا يهتدون كما قال: « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » وقال: « وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا » الآية.
(2) (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا) أي أو يكون لك بستان فيه نخيل وعنب تتفجر الأنهار خلاله تفجيرا لسقيه.
(3) (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا) تقول العرب: جاءنا بثريد كسف أي قطع من الخبز: أي أو تسقط علينا جرم السماء إسقاطا مماثلا لما زعمت في قولك: « أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ ».
وخلاصة ذلك - أو تسقط السماء علينا متقطعة قطعا قطعا، ونحو الآية قوله: « اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ » وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا: « فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ».
(4) (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا) أي أو تأتى بالله والملائكة نقابلهم معاينة ومواجهة قاله مجاهد وعطاء، ونحو الآية قولهم: « لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ».
(5) (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي أو يكون لك بيت من ذهب، روى ذلك عن ابن عباس وقتادة وغيرهما.
(6) (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ) أي أو تصعد في سلم إلى السماء ونحن ننظر إليك، ولن نصدّقك من أجل رقيك وحده، بل لا بد أن تنزل علينا كتابا نقرؤه بلغتنا على نهج كلامنا، وفيه تصديقك.
(قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) أي قل لهم متعجّبا من مقترحاتهم، ومنزّها ربك من أن يقترح عليه أحد أو يشاركه في القدرة: ما أنا إلا كسائر الرسل، وليس للرسل أن يأتوا إلا بما يظهره الله على أيديهم بحسب ما تقتضيه المصلحة، من غير تفويض إليهم فيه، ولا تحكم منهم عليه.
وخلاصة ذلك - سبحانه أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته بل هو الفعال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجلّ.
ثم أعقب ذلك بشبهة أخرى وهي استبعادهم أن يكون من البشر رسول فقال:
(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا؟) أي وما منع مشركي قريش وهم من حكيت أباطيلهم - من الإيمان بك حين مجىء الوحي المقرون بالمعجزات التي تستدعى الإيمان بنبوتك وبما نزل عليك من الكتاب إلا قولهم: أبعث الله بشرا رسولا، إنكارا منهم أن يكون الرسول من جنس البشر، واعتقادا منهم بأن الله لو بعث رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون من الملائكة.
ونحو الآية قوله: « أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ » وقوله: « ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ » الآية. وقال فرعون وملؤه: « أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟ » وكذلك قالت الأمم لرسلهم: « إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ».
فأجابهم الله عن هذه الشبهة ذاكرا وجه الحق منبّها إلى المصلحة بقوله:
(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا) أي لو وجد في الأرض ملائكة يمشون كما يمشى البشر، ويقيمون فيها كما يقيمون، ويسهل الاجتماع بهم، وتتلقى الشرائع منهم - لنزلنا عليهم من السماء رسلا من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم، لبعد ما بين الملك وبينهم، ومن ثم لم نبعث ملائكة إليهم، بل بعثنا خواصّ البشر، لأن الله قد وهبهم نفوسا زكية، وأيدهم بأرواح قدسية، وجعل لهم ناحية ملكية، بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة، وناحية بشرية، بها يبلغون رسالات ربهم إلى عباده.
وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة، وجليل تلك النعمة بقوله: « لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم » وقوله: « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » وقوله: « كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيّكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم مالم تكونوا تعلمون ».
وإجمال القول في ذلك - إنه لو جعل الرسل ملائكة لما استطاع الناس التخاطب معهم، ولما تمكّنوا من الفهم منهم، فلزم أن يجعلوا بشرا حتى يستطيعوا أداء الرسالة كما قال تعالى جدّه: « ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ».
وقد ثبت أن جبريل عليه السلام جاء في صورة دحية الكلبي مرارا عدة، فقد صح أن أعرابيا جاء وعليه وعثاء السفر فسأله رسول الله ﷺ عن الإسلام والإيمان، فأجابه عليه السلام بما أجابه ثم انصرف، ولم يعرفه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم فقال عليه السلام: هذا جبريل جاء يعلّمكم دينكم.
ثم أجابهم سبحانه بجواب آخر بقوله:
(قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل لهم: إن الله لما أظهر المعجزة وفق دعواى كان ذلك شهادة منه على صدقى، ومن شهد له الله فهو صادق، فادّعاؤكم أن الرسول يجب أن يكون ملكا تحكّم منكم وتعنت.
وخلاصة ذلك - إن الله شاهد علي وعليكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا عليه لا نتقم مني أشد الانتقام كما قال سبحانه: « ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين ».
ثم ذكر سبحانه ما هو كالتهديد والوعيد بقوله:
(إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) أي إنه محيط بأحوال عباده الظاهر منها والباطن، وأعلم بمن يستحق الإحسان والرعاية، ومن هو أهل للشقاء والضلال.
وفي هذا إيماء إلى أنه ما دعاهم إلى إنكار نبوته ﷺ إلا الحسد وحب الرياسة والتكبر عن قبول الحق، كما أن فيه تسلية له ﷺ على ما يلقاه من الإصرار والعناد والإمعان في إيذائه.
ثم أخبر سبحانه بأنه لا معقّب لحكمه، ولا سلطان لأحد من خلقه في شيء فقال:
(وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) أي ومن يهد الله للإيمان به وتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك، فهو المهتدى إلى الحق، المصيب سبيل الرشد، ومن يضلله لسوء اختياره وتدسيته نفسه، وركوبه رأسه في الغواية والعصيان كهؤلاء المعاندين، فلن تجد لهم أنصارا ينصرونهم من دونه يهدونهم إلى الحق، ويمنعون عنهم العذاب الذي يقتضيه ضلالهم.
(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) أي ونجمعهم في موقف الحساب بعد تفرقهم في القبور - عميا وبكما وصما كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامون عن استماعه، فهم في الآخرة لا يبصرون ما تقر به أعينهم، ولا يسمعون ما يلذّ لمسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم كما قال: « ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ».
روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: « قيل يا رسول الله، كيف يمشى الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ».
وروى الترمذي: « إن الناس يكونون ثلاثة أصناف في الحشر: مشاة، وركبانا، وعلى وجوههم ».
وإنا نرى في الدنيا من الحيوان ما هو طائر، ومنه ما هو ماش، ومنه ما هو زاحف كالحيات وهوامّ الأرض.
والقسم الأخير من الأقسام الثلاثة في الحديث أقرب إلى هيئة الزواحف بحيث يبقى الوجه في الأرض وتحيط به زوائد كالأرجل الصغيرة الحيوانية، وهو يهيم على وجهه.
والخلاصة - إنهم يبعثون في أقبح صورة، وأشنع منظر، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه، ويؤيده قوله تعالى: « يوم يسبحون في النّار على وجوههم ».
(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا) أي ثم بعد أن يتم حسابهم يكون منقلبهم ومصيرهم جهنم، كلما سكن لهيبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به وتحرقه، زدناها لهبا وتوقدا بأن نعيدهم إلى ما كانوا عليه فتستعر وتتوقد.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الكفار وقود النار، فإذا أحرقتهم ولم يبق شيء صارت جمرا تتوهّج، فذلك خبوها، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم اهـ.
وكأن هذا عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء بتكرارها مرة بعد أخرى، ليروها عيانا، حيث أنكروها برهانا.
ثم بين علة تعذيبهم، لعله يرجع منهم من قضى بسعادته فقال:
(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) أي ذلك العذاب الذي جاز يناهم به من البعث على العمى والبكم والصّمم هو جزاؤهم الذي يستحقونه على تكذيبهم بالبينات والحجج التي جاءتهم، وعلى استبعادهم وقوع البعث، وقولهم: أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق في أرجاء الأرض نعاد مرة أخرى - استنكارا منهم وتعجبا من أن يحصل ذلك.
ثم استدل على البعث فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي ألم يعلموا ويتدبروا أن الذي خلق السموات والأرض ابتداعا على غير مثال سابق وأقامهما بقدرته - قادر على أن يخلق أمثالهم من الخلق بعد فنائهم، وكيف لا يقدر على إعادتهم، والإعادة أهون من الابتداء؟.
وبعد أن أثبت أن البعث أمر ممكن الوجود في نفسه، أردف ذلك أن لحصوله وقتا معلوما عنده فقال.
(وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ) أي وجعل لإعادتهم وقيامهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها، لا يعلمها إلا هو كما قال: « وما نؤخّره إلا لأجل معدود ».
وخلاصة ذلك - إنهم قد علموا بالبرهان العقلي أن الله قادر على إعادتهم، وقد جعل لميقات إعادتهم أجلا وهو يوم القيامة الذي لا شك فيه، فلا وجه لإنكاره.
(فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا) أي وبعد إقامة الحجة عليهم أبوا إلا تماديا في ضلالهم وكفرهم مع وضوح الحجة وظهور المحجّة.
ثم بين السبب في عدم إجابتهم إلى ما طلبوا من الجنات والعيون بأنهم لو ملكوا خزائن الدنيا لبقوا على شحّهم فقال:
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) المراد من الإنفاق هنا الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، وروى نحوه عن قتادة وإليه ذهب الراغب فقال: يقال أنفق فلان إذا افتقر، وقال أبو عبيدة: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى، أي قل لهم أيها الرسول: لو أنكم تملكون التصرّف في خزائن الله لأمسكتم خشية الفقر: أي خشية أن تزول وتذهب مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا.
وقصارى ذلك - إنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على والشح والبخل، وفى هذا إيماء إلى أن الله لا يجيبكم إلى ما طلبتم من نبيه ﷺ من بساتين وعيون تنبع، لا بخلا منه، ولكن اقتضت الحكمة أن يكون نظام الدنيا هكذا، ولا رقي للإنسان إلا على هذا المنوال، فهو يوسّع الرزق على قوم ويضيّقه على آخرين على مقتضى الحكمة والمصلحة، ومن ثم لم ينزل ما اقترحتموه.
(وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا) أي وكان الإنسان بخيلا منوعا بطبعه كما قال « أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون النّاس نقيرا » أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير.
وقد روى البخاري ومسلم « يد الله ملأي لا يغيضها نفقة سحاء (أخذ) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه ».
وإجمال المعنى - إن الله لم يجب محمدا إلى ما طلبتم، لا هوانا لنبيه، ولا لأنه ليس بنبي، ولا بخلا منه (حاشاه) بل لحكمة منه، فر بما كانت وفرة العطاء إذا نزلت على غير وجهها مصايب على الناس، فأما أنتم فمنعكم يجرى على طريق البخل، فلو سلم لكم السموات والأرض وادّارستموها لم تفهموا إلا الإمساك، ومن ثم لا يسلمكم مفاتيح خزائنه، لئلا تمسكوا المال لأنفسكم ولا تنفعوا خلقه.
[سورة الإسراء (17): الآيات 101 الى 104]
ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
تفسير المفردات
مسحورا: أي مخبول العقل، بصائر: أي حججا وبينات واحدها بصيرة أي مبصرة بينة، مثبورا: أي هالكا كما روى عن الحسن ومجاهد، قال الزجاج: يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك، ويقال فلان يدعو بالويل والثبور حين تصيبه المصيبة، كما قال تعالى: « دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا » أن يستفزهم: أي أن يخرجهم بالقتل أو أن يزيلهم عنها، واللفيف: الجمع العظيم من أخلاط شتى، من شريف ودنىء، ومطيع وعاص، وقوى وضعيف، وكل شيء خلطته بغيره فقد لففته.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف ما اقترحوه من الآيات وأبان لهم أن الرسل ليس من شأنهم أن يقترحوا على الله شيئا - ذكر هنا أنه قد أنزل على موسى مثل ما اقترحتم وأعظم منه، ولم تجد فرعون وقومه شيئا، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا فائدة لكم فيما اقترحتموه من الآيات، وكفاكم الآيات العلمية التي أنزلها على عبده ورسوله محمد ﷺ، فإن لم تؤمنوا بعد ظهور تلك الحجج أهلككم كما أهلك فرعون بالغرق، وفى ذلك تسلية لرسوله بذكر ما جرى لموسى مع فرعون، وما جوزي به فرعون وقومه.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي ولقد أعطينا موسى تسع آيات واضحات الدلالة على صحة نبوته وصدقه حين أرسل إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها كما قال تعالى (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) وقال (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).
وقد ذكر سبحانه في كتابه العزيز ست عشرة معجزة لموسى عليه السلام.
(1) إنه أزال العقدة من لسانه، أي أذهب العجمة عن لسانه وصار فضيحا.
(2) انقلاب العصا حية.
(3) تلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها.
(4) اليد البيضاء.
(5، 6، 7، 8، 9) الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم.
(10) شق البحر.
(11) انفلاق الحجر في قوله (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ).
(12) إظلال الجبل في قوله (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ).
(13) إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه.
(14، 15) الجدب ونقص الثمرات في قوله (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ).
(16) الطمس على أموالهم من الحنطة والدقيق والأطعمة.
وقد اختلفوا في المراد من هذه التسع. أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر من طرق عدة عن ابن عباس إنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنون ونقص الثمرات.
وقيل المراد بالآيات الأحكام.
فقد أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه « أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله، فأتياه ﷺ فسألاه عن قول الله تعالى « ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات » فقال عليه الصلاة والسلام: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا مخصنة، وأنتم يا يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت، فقبّلا يده ورجله وقالا نشهد إنك نبي، قال فما يمنعكا أن تسلما؟ قالا إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود ».
قال الشهاب الخفاجي: وهذا هو التفسير الذي عليه المعوّل في الآية.
ثم خاطب نبيه فقال:
(فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فاسأل بني إسرائيل الذين كانوا في عصرك وآمنوا بك كعبد الله بن سلام وأصحابه سؤال استشهاد، لتزيد طمأنينتك ويقينك، ولتعلم أن ذلك محقق ثابت عندهم في كتابهم.
(إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا) أي فاسألهم يخبروك، لأنه جاءهم أي جاء آباءهم بهذه الآيات وأبلغها فرعون، فقال له فرعون: إني لأظنك يا موسى مخلّط العقل، ومن ثم ادّعيت ما ادعيت، مما لا يقول مثله كامل العقل، حصيف الرأي.
(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أي قال موسى لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل الله هذه الآيات التسع التي أريتكها إلا حجة لي على حقيقة ما أدعوك إليه، وشاهدة لي على صدقى وصحة قولي إني رسول الله، بعثني بها رب السموات والأرض، لأنه هو الذي يقدر عليها وعلى أمثالها، وهي بصائر لمن استبصر بها، وهدى لمن اهتدى بها، يعرف من رآها أن من جاء بها فهو محق، وأنها من عند الله لا من عند غيره، إذ كانت معجزة لا يقدر عليها إلا رب السموات والأرض (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) أي وإني لأظنك يا فرعون مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر.
(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) أي فأراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بقتلهم واستئصالهم بحيث لا يبقى منهم أحدا، فعكسنا عليه مكره وأغرقناه في البحر ومن معه من جنده جميعا، فأخرجناه من أرضه أفظع إخراج.
(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي ونجينا موسى وبني إسرائيل وقلنا لهم من بعد هلاك فرعون: اسكنوا أرض الشام وهي الأرض المقدسة التي وعدتهم بها.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا) أي فإذا جاءت الساعة الآخرة حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم، ونميز سعداءكم من أشقيائكم.
[سورة الإسراء (17): الآيات 105 الى 111]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إ ِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
تفسير المفردات
الحق: هو الثابت الذي لا يزول، والقرآن مشتمل على كثير من ذلك كدلائل التوحيد وتعظيم الملائكة ونبوة الأنبياء وإثبات البعث والقيامة، وفرقناه: أي أنزلناه مفرقا منجما، والمكث (بالضم والفتح): التؤدة والتأنى، والخرور: السقوط بسرعة، والأذقان واحدها ذقن: وهو مجتمع اللحيين، ادعوا الله أو ادعوا الرحمن: أي سموه بهذين الاسمين، خفت الرجل بقراءته: إذا لم يبينها برفع الصوت، وتخافت: القوم تسارّوا فيما بينهم.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن القرآن معجز دالّ على صدق الرسول بقوله « قل لئن اجتمعت الإنس والجن » الآية، ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز، بل طلبوا معجزات أخرى، وأجابهم ربهم بأنه لا حاجة إلى شيء سواه، وبأن موسى أتى فرعون وقومه بتسع آيات فجحدوا بها فأهلكوا، فلو أتاكم محمد ﷺ بتلك المعجزات التي اقترحتموها ثم كفرتم بها أنزل عليكم عذاب الاستئصال ولم يكن ذلك من الحكمة التي أرادها، لعلمه أن منكم من يؤمن ومنكم من لا يؤمن، ولكن سيظهر من نسله من يكون مؤمنا - عاد هنا إلى تعظيم حال القرآن وجلالة قدره، وبيان أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه أنزله على نبيه مفرّقا ليسهل حفظه وتعرف دقائق أسراره، وأنكم سيان آمنتم به أولم تؤمنوا، فإن من قبلكم من أهل الكتاب إذا تلى عليهم خروا له سجّدا وبكيّا ثم أردف ذلك ببيان أنكم إن ناديتم الله أو ناديتم الرحمن فالأمران سواء ثم قفّى على ذلك بطلب التوسط في القراءة في الصلاة بين الجهر والخفوت، ثم أمر نبيه أن يقول حين الدعاء: الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: « صلى صلوات الله عليه بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى فقال في دعائه: يا الله يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابىء، ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزل (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية.
وعن الضحاك أنه قال: قال أهل الكتاب لرسول الله ﷺ إنك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت.
الإيضاح
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي وأنزلنا عليك القرآن متضمنا للحق، ففيه أمر بالعدل والإنصاف ومكارم الأخلاق، ونهى عن الظلم والأفعال الذميمة، وذكر براهين الوحدانية وحاجة الناس إلى الرسل، لتبشيرهم وإنذارهم وحثهم على صالح الأعمال، انتظار ليوم الحساب والجزاء.
(وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي ونزل إليك محفوظا محروسا لم يشب بغيره، فلم يزد فيه ولم ينقص، وقد يكون المراد ونزل إليك مع الحق وهو شديد القوى الأمين المطاع في الملأ الأعلى جبريل عليه السلام.
وبعد أن مدح الكتاب مدح من أنزل عليه فقال:
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) أي وما أرسلناك أيها الرسول إلى من أرسلناك إليهم من عبادنا إلا مبشرا بالجنة من أطاعنا فانتهى إلى أمرنا، ومنذرا لمن عصانا فخالف ذلك.
(وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) أي وآتيناك قرآنا فرقناه أي نزلناه مفرّقا منجّما، وقد بدىء بإنزاله ليلة القدر في رمضان، ثم أنزل نجوما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع.
وسر نزوله هكذا بعضه إثر بعض أن تقرأه على الناس بتؤدة وتأنّ ليسهل عليهم حفظه ويكون ذلك أعون على تفهم معناه.
أخرج البيهقي في الشّعب عن عمر رضي الله عنه أنه قال: تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا، وكذلك أخرج ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري، والمراد أن الغالب كذلك، فقد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه.
وفائدة قوله: ونزلناه تنزيلا بعد قوله فرقناه - بيان أن ذلك التنزيل لمقتض وهو التنزيل بحسب الحوادث.
ثم هددهم سبحانه على لسان نبيه ﷺ بقوله:
(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي قل لهؤلاء الضالين القائلين لك: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا - آمنوا بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لم يأتوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا - أو لا تؤمنوا به، فإن إيمانكم به لن يزيد في خزائن رحمة الله، ولا ترككم للايمان به ينقص ذلك.
ثم علل عدم المبالاة بهم، واحتقار شأنهم، بقوله:
(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا. وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا) أي وإن تكفروا به فإن العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من قبل نزول القرآن، وعرفوا أن الله سيبعث نبيا - يخرون لله سجّدا، شكرا له على إنجاز وعده بإرسالك، حين يتلى عليهم هذا القرآن، ويقولون في سجودهم، تنزه ربنا عن خلف الوعد إنه كان وعده آتيا لا محالة.
والخلاصة - إنكم إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم، وفيه تسلية لرسوله ﷺ وازدراء لشأنهم.
(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) أي ويخرّون للأذقان باكين من خشية الله إذا يتلى عليهم، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعظ خشوعا وخضوعا لأمره وطاعته.
وقد جاء في مدح البكاء من خشية الله أخبار كثيرة
فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « عبنان لا تمسّنهما النار، عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى ».
وأخرج مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم ».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التميمي أنه قال إن من أوتى من العلم مالم يبكه لخليق أن قد أوتى من العلم مالا ينفعه، لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال (ويخرون للأذقان يبكون).
ثم رد على المشركين المنكرين إطلاق اسم الرحمن عليه عز وجلّ فقال:
(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي قل أيها الرسول لمشركي قومك الذين أنكروا اسم الرحمن سمّوا الله أيها القوم أو سموا الرحمن، فبأي أسمائه جل جلاله تسمونه فهو حسن، لأن كل أسمائه حسنى، إذ فيها التعظيم والتقديس لأعظم موجود، وهو خالق السموات والأرض وهذان الاسمان منها.
روى مكحول « أن رجلا من المشركين سمع النبي ﷺ وهو يقول في سجوده: يا رحمن يا رحيم، فقال إنه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو اثنين فأنزل الله الآية ».
ثم أمر رسوله ﷺ بالتوسط في القراءة، فلا يجهر بصوته ولا يخافت به فقال:
(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) أي ولا تجهر بقراءتك فيسمع المشركون فيسبّوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، بل ابتغ طريقا بين الجهر والمخافتة.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: « نزلت هذه الآية ورسول الله ﷺ مختف بمكة (يصلى خفية) فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به ».
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت في قراءته ويقول أناجى ربى وقد علم حاجتي، وعمر كان يجهر بها ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت الآية أمر رسول الله ﷺ أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض قليلا.
ولما أمر سبحانه رسوله ألا يناديه إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد بقوله:
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) أي وقل لله ذي الجلال والكمال: لك الحمد والشكر على ما أنعمت على عبادك من واسع النعم.
وقد وصف سبحانه نفسه بثلاث صفات:
(1) إنه لم يتخذ ولدا، فإن من يتخذ الولد يمسك جميع النعم لولده، ولأن الولد يقوم مقام الوالد بعد انقضاء أجله وفنائه - تنزه ربنا عن ذلك - ومن كان كذلك لم يستطع الإنعام في كل الحالات، فلا يستحق الحمد على الإطلاق.
وفي هذا رد على اليهود الذين قالوا عزيز ابن الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولونه علوا كبيرا.
(2) إنه ليس له شريك في الملك، إذ لو كان له ذلك لم يعرف أيهما المستحق للحمد والشكر، ولكان عاجزا ذا حاجة إلى معونة غيره، ولم يكن منفردا بالملك والسلطان.
(3) إنه لم يكن له ولي من الذل أي لم يوال أحدا من أجل مذلة به يدفعها بموالاته.
والخلاصة - إنه ليس له ولد يحبس نعمه عليه، وليس له شريك يقف أعماله في الملك، ولا ناصر يدفع العدو المذلّ له، وإذا تنزه ربنا عن ذلك فقد أمن الناس نضوب موارده، وأصبحت أبوابه مفتّحة لكل قاصد، فلتغترف أيها العبد من مناهله، ولتعلم أنه لا يحابيك لأجل أهلك ولا نسلك ولا دينك، ولو كنت ابن نبي من الأنبياء أو عظيم من العظماء.
(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) أي وعظّم ربك أيها الرسول بما أمرناك أن تعظمه به من قول أو فعل، وأطعه فيما أمرك به ونهاك عنه.
وتكبيره تعالى وتنزيهه يكون:
(1) بتكبيره في ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غني عن كل موجود.
(2) بتكبيره في صفاته باعتقاد أنه مستحق لكل صفات الكمال منزه عن صفات النقص.
(3) بتكبيره في أفعاله، فتعتقد أنه لا يجرى شيء في ملكه إلا وفق حكمته وإرادته.
(4) بتكبيره في أحكامه، بأن تعتقد أنه ملك مطاع، له الأمر والنهي، والرفع والخفض، وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه، يعزّ من يشاء، ويذل من يشاء.
(5) تكبيره في أسمائه، فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى، ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة.
روى أحمد في مسنده عن معاذ الجهني أن رسول الله ﷺ كان يقول « آية العز (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) الآية »
وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله ﷺ « أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء ».
وأخرج عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أبي أمية قال: « كان رسول الله ﷺ يعلم الغلام من بنى هاشم إذا أفصح، الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات ».
مجمل ما حوته السورة من الأغراض
(1) الإسراء من مكة إلى بيت المقدس.
(2) تاريخ بني إسرائيل في حالى الارتقاء والانحطاط.
(3) حكم وعظات للأمة الإسلامية يجب أن تراعيها حتى لا تذهب دولها كما ذهبت دولة بني إسرائيل.
(4) بيان أن كل ما في السموات والأرض مسبّح لله.
(5) الكلام في البعث مع إقامة الأدلة على إمكانه.
(6) الرد على المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة من الأوثان والأصنام.
(7) الحكمة في عدم إنزال الآيات التي التي اقترحوها على محمد ﷺ.
(8) قصص سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس من ذلك.
(9) تعداد بعض نعم الله على عباده.
(10) طلب المشركين من الرسول ﷺ أن يوافقهم في بعض معتقداتهم وإلحافهم في ذلك.
(11) أمر النبي ﷺ بإقامة الصلاة والتهجد في الليل.
(12) بيان إعجاز القرآن وأن البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله.
(13) قصص موسى مع فرعون.
(14) الحكمة في إنزال القرآن منجما.
(15) تنزيه الله عن الولد والشريك والناصر والمعين.