تفسير المراغي/سورة الحجرات
هي مدنية آياتها ثماني عشرة، نزلت بعد سورة المجادلة.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) ذكر في هذه قتال البغاة، وفى تلك قتال الكفار.
(2) إن السابقة ختمت بالذين آمنوا، وافتتحت هذه بهم.
(3) إن كلا منهما تضمن تشريفا وتكريما للرسول ﷺ ولا سيما في مطلعيهما.
[سورة الحجرات (49): الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
تفسير المفردات
لا تقدموا: أي لا تتقدموا، من قولهم مقدمة الجيش لمن تقدم منهم، قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا تقدّم بين يدي الإمام وبين يدي الأب: أي لا تعجل بالأمر دونه، وقيل إن المراد لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة، ورجّح هذا، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي: أي إذا كلمتموه ونطق ونطقتم فلا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، يغضون أصواتهم: أي يخفضونها ويلينونها، امتحن الله قلوبهم: أي طهّرها ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة والتنقية من كل غشّ.
المعنى الجملي
ذكرت سورة الفتح بعد سورة القتال لأن الأولى كالمقدمة والثانية كالنتيجة وذكرت هذه بعد الفتح، لأن الأمة إذا جاهدت ثم فتح الله عليها والنبي ﷺ بينها، واستتبّ الأمر، وجب أن توضع القواعد التي تكون بين النبي ﷺ وأصحابه، وكيف يعاملونه؟ وكيف يعامل بعضهم بعضا؟ فطلب إليهم ألا يقطعوا أمرا دون أن يحكم الله ورسوله به ولا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي ﷺ ولا أن يجهروا له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض، لما في ذلك من الاستخفاف الذي قد يؤدى إلى الكفر المحبط للأعمال.
الإيضاح
أدب الله المؤمنين إذا قابلوا الرسول بأدبين: أحدهما فعل، وثانيهما قول، وأشار إلى أولهما بقوله:
(1) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يا أيها المؤمنون لا تعجلوا بالقضاء في أمر قبل أن يقضى الله ورسوله لكم فيه، إذ ربما تقضون بغير قضائهما، وراقبوا الله أن تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به، إن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم.
وبنحو هذا أجاب معاذ بن جبل رضي الله عنه رسول الله ﷺ حين بعثه إلى اليمن قال له « بم تحكم؟ قال بكتاب الله تعالى، قال ﷺ فإن لم تجد، قال بسنة رسوله، قال ﷺ فإن لم تجد، قال أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى رسوله » رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
فتراه قد أخر رأيه واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه لكان من المتقدمين بين يدي الله ورسوله.
والخلاصة - إنه طلب إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه، ولا يعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول الرسول أو أن يفعل، فلا يذبحوا يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح، ولا يصوم أحد يوم الشك وقد نهى عنه.
وأشار إلى ثانيهما بقوله:
(2) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) أي إذا نطق ونطقتم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، ولا تبلغوا بها وراء الحد الذي يبلغه، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام.
روى البخاري بسنده عن ابن أبي مليكة « أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أخبره أنه قدم ركب من تميم على النبي ﷺ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية. فكان أبو بكر بعدها لا يكلم رسول الله ﷺ إلا كأخي السرار، وما حدّث عمر النبي ﷺ بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته ».
ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي وإذا كلمتموه وهو صامت فإياكم أن تبلغوا به الجهر الذي يدور بينكم، أو أن تقولوا يا محمد، يا أحمد، بل خاطبوه بالنبوة مع الإجلال والتعظيم، خشية أن يؤدى ذلك إلى الاستخفاف بالمخاطب فتكفروا من حيث لا تشعرون.
ولما نزلت هذه الآية تخلف ثابت بن قيس عن مجلس رسول الله ﷺ فدعاه إليه ﷺ، فقال يا رسول الله: لقد أنزلت هذه الآية وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير، وإنك في أهل الجنة، فقال: رضيت ببشرى رسول الله ﷺ، لا أرفع صوتى على رسول الله ﷺ أبدا، فأنزل الله:
(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أيإن الذين ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة حتى طهرت وصفت بما كابدت من الصبر على المشاقّ، لهم مغفرة لذنوبهم، وأجر عظيم لغضهم أصواتهم ولسائر طاعاتهم.
روى أحمد في الزهد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر، يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهى المعصية ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهى المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه، إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).
[سورة الحجرات (49): الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
تفسير المفردات
من وراء الحجرات: أي من خارجها سواء كان من خلفها أو من قدامها، إذ أنها من المواراة وهي الاستتار، فما استتر عنك فهو وراء، خلفا كان أو قداما، فإذا رأيته لا يكون وراءك. ويرى بعض أهل اللغة أن وراء من الأضداد فتطلق تارة على ما أمامك، وأخرى على ما خلفك، والحجرات (بضم الجيم وفتحها وتسكينها) واحدها حجرة: وهي القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ونحوه، والمراد بها حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام، وكانت تسعة لكل منهن حجرة من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، وكانت غير مرتفعة يتناول سقفها باليد، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول الله ﷺ فبكى الناس لذلك. وقال سعيد بن المسيّب يومئذ: لوددت أنهم تركوها على حالها لينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله ﷺ في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التفاخر والتكاثر فيها.
المعنى الجملي
ذم الله تبارك وتعالى الذين ينادون رسول الله ﷺ من وراء الحجرات وهو في بيوت نسائه كما يفعل أجلاف الأعراب، ثم أرشدهم إلى ما فيه الخير والمصلحة لهم في دينهم ودنياهم، وهو أن ينتظروا حتى يخرج إليهم.
روى ابن جرير بسنده عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: « اجتمع ناس من العرب فقالوا انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا نعش بجناحه، قال: فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرة النبي ﷺ فجعلوا ينادونه وهو في حجرته يا محمد يا محمد، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قال فأخذ رسول الله ﷺ بأذنى فمدها وجعل يقول: لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد. لقد صدق الله قولك يا زيد ».
وقال قتادة: نزلت في وفد تميم وكانوا سبعين رجلا منهم الزّبرقان بن بدر وعطارد ابن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم، جاءوا إلى النبي ﷺ للمفاخرة، فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا لزين، وإن ذمنا لشين، فخرج إليهم رسول الله ﷺ وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمه شين، فقالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله: ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه، فقال ﷺ لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبي ﷺ، قم فأجبه فأجابه، وقام الزّبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
إلى أن قال:
فلا ترانا إلى حي يفاخرهم إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه فيرجع القوم والأخبار تستمع
فقال رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت أجبه فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بيّنوا سنة للناس تتّبع
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وكل الخير يَصطنع
قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوهم أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجيّة تلك منهم غير محدثة إن الخلائق فاعلمْ شرُّها البدع
في قصيدة طويلة، فلما فرغ حسان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤتّى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم دنا من رسول الله ﷺ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: ما يضرك ما كان من قبل هذا، ثم جوّزهم فأحسن جوائزهم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي إن الذين ينادونك من وراء حجرات نسائك أكثرهم جهال بما يجب لك من الإجلال والتعظيم.
والمراد بالحجرات موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ) أي ولو أن هؤلاء الذين ينادونك من وراء الحجرات صبروا ولم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم عند الله، لأنه قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب إن هو تاب من معصيته بندائك كذلك، وراجع أمر الله في ذلك وفى غيره، رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.
والخلاصة - إن الله سبحانه هجّن الصياح برسول الله ﷺ في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه إلى فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول يكون صنيع مثل هؤلاء معه من المنكر الذي يبلغ من التفاحش مبلغا لا يقدر قدره.
[سورة الحجرات (49): الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
تفسير المفردات
الفاسق: هو الخارج عن حدود الدين، من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره والتبين: طلب البيان، والنبأ: الخبر، قال الراغب: ولا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة وبه يحصل علم أو غلبة ظن بجهالة: أي جاهلين حالهم، فتصبحوا: أي فتصيروا، نادمين: أي مغتمّين غما لازما متمنين أنه لم يقع فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمنى عدم وقوعه، لعنتّم: أي لوقعتم في الجهد والهلاك، والكفر: تغطية نعم الله تعالى بالجحود لها، الفسوق: الخروج عن الحد كما علمت، والعصيان: عدم الانقياد، من قولهم: عصت النواة: أي صلبت واشتدت، والرشاد: إصابة الحق واتباع الطريق السوي.
المعنى الجملي
أدب الله عباده المؤمنين بأدب نافع لهم في دينهم ودنياهم - أنه إذا جاءهم الفاسق المجاهر بترك شعائر الدين بأيّ خبر، لا يصدقونه بادى ذي بدء حتى يتثبتوا، ويتطلبوا انكشاف الحقيقة ولا يعتمدوا على قوله، فإن من لا يبالى بالفسق لا يبالى بالكذب الذي هو من فصيلته - كراهة أن يصيبوا بأذى قوما هم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرط منكم، وتتمنوا أنه لو لم يكن قد وقع.
روي عن ابن عباس « أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان قد بعثه رسول الله ﷺ إلى بنى المصطلق ليأخذ الصدقات، فلما أتاهم الخبر فرحوا به وخرجوا يستقبلونه، فلما حدّث بذلك الوليد حسب أنهم جاءوا لقتاله.
فرجع قبل أن يدركوه وأخبر رسول الله ﷺ أنهم منعوا الزكاة، فغضب رسول الله ﷺ غضبا شديدا، وبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا يا رسول الله: إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أنه إنما رده كتاب جاء منك لغصب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم في الكتاب فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية ». أخرجه أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
وقال ابن كثير: وهذا من أحسن ما روى في سبب نزول الآية.
وقال الرازي: هذه الرواية ضعيفة لأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق في أكثر المواضع يراد به من خرج من ربقة الإيمان لقوله: « إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ » اهـ.
ثم بين أن صحبه كانوا يريدون أن يتبع رأيهم في الحوادث، ولو فعل ذلك لوقعوا في العنت والهلاك، ولكن الله حبب إلى بعضهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وهؤلاء أهل الرشاد والسالكون الطريق السوي.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي يا أيها المؤمنون إن جاءكم الفاسق بأى نبإ فتوقفوا فيه وتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا على قوله، فإن من لا يبالى بالفسق فهو أجدر ألا يبالى بالكذب ولا يتحاماه - خشية إصابتكم بالأذى قوما أنتم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرط منكم وتتمنّوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك.
ثم وعظهم سبحانه بعظة هم أحرى الناس باتباعها فقال:
(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) أي واعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم كما قال تعالى: « النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ».
ثم بين أن رأيه أنفع لهم وأجدر بالرعاية فقال:
(لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لو سارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر وأجاب ما أشرتم به عليه من الآراء لوقعتم في الجهد والإثم، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه.
عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية وقال: هذا نبيكم يوحى إليه، وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا، فكيف بكم اليوم، أخرجه الترمذي.
ثم استدرك على ما سلف لبيان براءة بعضهم من أوصاف الأولين فقال:
(وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) أي ولكنّ جمعا منكم براء مما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريء وإرادة أن يتبع الحق أهواءهم، لأن الله تعالى جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع في الأخبار، وكرّه إليهم هذه الأمور الثلاثة: الكفر والفسوق والعصيان.
والخلاصة - إن الإيمان الكامل إقرار باللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، فكراهة الكفر في مقابلة محبة الإيمان، وتزيينه في القلوب هو التصديق بالجنان، والفسوق وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان، والعصيان في مقابلة العمل بالأركان.
(أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم السالكون طريق السعادة ولم يميلوا عن الاستقامة.
(فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) أي هذا العطاء الذي منحكموه تفضل منه عليكم وإنعام من لدنه.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بمن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية، حكيم في تدبير شئون خلقه وصرفهم فيما شاء من قضائه.
والخلاصة - إن رسول الله بين أظهركم وهو أعلم بمصالحكم، لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدّى ذلك إلى عنتكم ووقوعكم في مهاوى الردى، ولكنّ بعضا منكم حبّب إليهم الإيمان في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأولئك هم الذين أصابوا الحق، وسلكوا سبيل الرشاد.
[سورة الحجرات (49): الآيات 9 الى 10]
وإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
تفسير المفردات
الطائفة: الجماعة أقل من الفرقة بدليل قوله: « فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ » فأصلحوا بينهما: أي فكفوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب، بغت: أي تعدّت وجارت، تفيء: أي ترجع، وأمر الله: هو الصلح، لأنه مأمور به في قوله: « وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ » فأصلحوا بينهما بالعدل: أي بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات بحيث يكون الحكم عادلا حتى لا يؤدى النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى، وأقسطوا: أي واعدلوا في كل شأن من شئونكم وأصل الإقساط: إزالة القسط (بالفتح) وهو الجور، والقاسط: الجائز كما قال: « وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا »
والإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، واحدهم أخ، وقد جعلت الأخوّة في الدين كالأخوّة في النسب وكأن الإسلام أب لهم قال قائلهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
المعنى الجملي
بعد أن حذر سبحانه المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق - بين هنا ما ربما ترتب على خبره من النزاع بين فئتين وقد يئول الأمر إلى الاقتتال، فطلب من المؤمنين أن يزيلوا ما نتج من كلامه، وأن يصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى ترجع إلى الصلح بدفعها عن الظلم مباشرة إن أمكن، أو باستعداء الحاكم عليها، وإن كان الباغي هو الحاكم فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها بشرط ألا تثير فتنة أشدّ من الأولى.
ثم تمم الإرشاد وأبان أن الصلح كما يلزم بين الفئتين - يجب بين الأخوين، ثم أمرهم بتقوى الله ووجوب اتباع حكمه وعدم الإهمال فيه رجاء أن يرحمهم إذا هم أطاعوه ولم يخالفوا أمره.
روى قتادة أن الآية نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق، فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقى منك عنوة، لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى النبي ﷺ فأبى أن يتّبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
الإيضاح
(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي وإن اقتتلت طائفتان من أهل الإيمان، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم الله والرضا بما فيه، سواء كان لهما أو عليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.
(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم الله وتعدت ما جعله الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى فقاتلوا التي تعتدى وتأبى الإجابة إلى حكمه حتى ترجع إليه وتخضع طائعة له.
(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياها إلى الرضا بحكم الله - فأصلحوا بينهما بالإنصاف والعدل حتى لا يتجدد بينهما القتال في وقت آخر.
ثم أمرهم سبحانه بالعدل في كل أمورهم فقال:
(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي واعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون، إن الله يحب العادلين في جميع أعمالهم ويجازيهم أحسن الجزاء.
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: « انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قلت يا رسول الله: هذا نصرته ظالما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه ».
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للسعادة الأبدية، وفي الحديث: « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه ولا يخذله ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها، ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل ». وفي الصحيح أيضا: « إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله ».
ولما كانت الأخوة داعية إلى الإصلاح ولا بد - تسبب عن ذلك قوله:
(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) في الدين كما تصلحون بين أخويكم في النسب.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) في كل ما تأتون وما تذرون، ومن ذلك ما أمرتم به من إصلاح ذات البين.
(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي رجاء أن يرحمكم ربكم ويصفح عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه واتبعتم أمره ونهيه.
[سورة الحجرات (49): آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
تفسير المفردات
السخرية: الاحتقار وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، يقال سخر به وسخر منه، وضحك به ومنه، وهزىء به ومنه والاسم السخرية والسخرى (بالضم والكسر) وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه إذا غلظ فيه، أو على صنعته، أو على قبح صورته.
والقوم: شاع إطلاقه على الرجال دون النساء كما في الآية وكما قال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
ولا تلمزوا أنفسكم: أي لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما، والمؤمنون كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه، والتنابز: التعاير والتداعي بما يكرهه الشخص من الألقاب، والاسم: الذكر والصيت، من قولهم:
طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ومع النبي ﷺ ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن، فذكر أنه لا ينبغي أن يسخر منه ولا أن يعيبه بالهمز واللمز، ولا أن يلقبه باللقب الذي يتأذى منه، فبئس العمل هذا، ومن لم يتب بعد ارتكابه فقد أساء إلى نفسه وارتكب جرما كبيرا.
روي أن الآية نزلت في وفد تميم إذ كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي ﷺ كعمار وصهيب وبلال وخبّاب وابن فهيرة وسلمان الفارسي وسالم مولى أبى حذيفة في آخرين غيرهم لما رأوا من رثاثة حالهم.
وروي أنها نزلت في صفيّة بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها: أتت رسول الله ﷺ فقالت: « إن النساء يقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: هلّا قلت: أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد ».
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) أي لا يهزأ ناس من المؤمنين بآخرين.
ثم ذكر العلة في ذلك فقال:
(عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) أي فقد يكون المسخور منهم خيرا عند الله من الساخرين كما جاء في الأثر « فربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله تعالى لأبرّه ».
فينبغي ألا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تتقحمه عينه لرثاثة حاله، أو لكونه ذا عاهة في بدنه، أو لكونه غير لبق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله تعالى.
(وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) أي ولا يسخر نساء من نساء عسى أن يكون المسخور منهن خيرا من الساخرات، وأتى بالجمع في الموضعين، من قبل أن الأغلب في السخرية أن تكون في مجامع الناس، وكم من متلذذ بها، وكم من متألم منها.
روى الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبي ﷺ رجلا فقال: « ما يسرنى إني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا، قالت فقلت يا رسول الله إن صفية امرأة وقالت 1 بيدها هكذا تعني أنها قصيرة، فقال: لقد مزحت بكلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ».
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »
وفي هذا إيماء إلى أن المرء لا يقطع بمدح أحد أو عيبه كما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا منه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه، فالأعمال أمارات ظنية، لا أدلة قطعية.
(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة على وجه الخفية.
وفي قوله: « أنفسكم » تنبيه إلى أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه، ومن ثم قال النبي ﷺ: « المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى »
وقال عليه الصلاة والسلام: « يبصر أحدكم القذاة 2 في عين أخيه ويدع الجذع في عينه ».
وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر:
لا تكشفن من مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب الذي يسوءه ويكرهه كأن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي، أو يا نصراني.
قال قتادة وعكرمة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: في بنى سلمة نزلت (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قدم رسول الله ﷺ المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا واحدا باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكرهه فنزلت. أخرجه البخاري في الأدب وأهل السنن وغيرهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب وراجع الحق، فنهى الله تعالى أن يعيّر بما سلف من عمله.
أما الألقاب التي تكسب حمدا أو مدحا وتكون حقّا وصدقا فلا تكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلى: أبو تراب، ولخالد سيف الله.
(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم في الإيمان واشتهارهم به.
وفي هذا إيماء إلى استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول بئس الصبوة بعد الشيخوخة أي معها.
(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها عقاب الله بعصيانهم إياه.
[سورة الحجرات (49): آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
تفسير المفردات
اجتنبوا: أي تباعدوا، وأصل اجتنبته: كنت منه على جانب، ثم شاع استعماله في التباعد اللازم له، والإثم: الذنب، والتجسس: البحث عن العورات والمعايب والكشف عما ستره الناس، والغيبة: ذكر الإنسان بما يكره في غيبته، فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي « أن النبي ﷺ قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت لو كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه ».
المعنى الجملي
أدب الله عباده المؤمنين بآداب إن تمسكوا بها دامت المودة والوئام بينهم: منها ما تقدم قبل هذا، ومنها ما ذكره هنا من الأمور العظام التي تزيد توثيق رباط المجتمع الإسلامي قوة وهي:
(1) البعد عن سوء الظن بالناس وتخوّنهم في كل ما يقولون وما يفعلون، لأن بعض ذلك قد يكون إثما محضا فليجتنب كثير منه، وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا.
(2) البحث عن عورات الناس ومعايبهم.
(3) عدم ذكر بعضهم بعضا بما يكرهون في غيبتهم، وقد مثل الشارع المغتاب بآكل لحم الميتة استفظاعا له.
قال قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة ممدودة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) أي يا أيها الذين آمنوا ابتعدوا عن كثير من الظن بالمؤمنين، بأن تظنوا بهم السوء ما وجدتم إلى ذلك سبيلا، ففي الحديث « إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه، وأن يظن به ظن السوء ».
ولا يحرم سوء الظن إلا ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة، أما من يجاهر بالفجور كمن يدخل إلى الخانات أو يصاحب الغواني الفواجر فلا يحرم سوء الظن به.
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيّب قال: كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول ﷺ. أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظننّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرّض نفسه للتهم فلا يلومنّ إلا نفسه، ومن كتم سرّه كانت الخيرة في يده، وما كافأت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدّة عند عظيم البلاء، ولا تتهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون، ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه، وعليك بالصدق وإن قتلك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشى الله، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.
ثم علل الأمر باجتناب كثير من الظن بقوله:
(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي إن ظن المؤمن بالمؤمن الشرّ إثم، لأن الله قد نهاه عنه ففعله إثم. ونحو الآية قوله: « وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ».
قال ابن عباس في الآية: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءا اهـ.
ثم لما أمرهم سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال:
(وَلا تَجَسَّسُوا) أي ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره يبتغى بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما تعلمون من الخفايا.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام »
التجسس: البحث عما يكتم عنك، والتحسس: طلب الأخبار والبحث عنها، والتناجش: البيع على بيع غيرك (الزيادة عليه) والتدابر: الهجر والقطيعة.
وعن أبي برزة الأسلمى قال: قال رسول الله ﷺ « يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في عقر بيته ».
وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ « ثلاث لازمات لأمتي: الطّيرة والحسد وسوء الظن، فقال رجل وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال ﷺ: إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت فامض ».
وقال عبد الرحمن بن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة، إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب، فما ترى؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى: « وَلا تَجَسَّسُوا » وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم.
وقال أبو قلابة: حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس. فخرج عمر وتركه.
(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) أي ولا يذكر بعضكم بعضا بما يكره في غيبته، والمراد بالذكر الذكر صريحا أو إشارة أو نحو ذلك مما يؤدى مؤدى النطق، لما في ذلك من أذى المغتاب، وإيغار الصدور وتفريق شمل الجماعات، فهي النار تشتعل فلا تبقى ولا تذر، والمراد بما يكره ما يكره في دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو ملبسه أو غير ذلك مما يتعلق به.
قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله: الغيبة، والإفك، والبهتان.
(1) فأما الغيبة: فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه.
(2) وأما الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه.
(3) وأما البهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه.
ولا خلاف بين العلماء في أن الغيبة من الكبائر وأن على من اغتاب أحدا التوبة إلى الله أو الاستغفار لمن اغتابه أو الاستحلال منه.
وعن شعبة قال: قال لي معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت هذا أقطع كان غيبة، قال شعبة فذكرته لأبى إسحاق فقال صدق.
ثم ضرب سبحانه مثلا للغيبة للتنفير والتحذير منها فقال:
(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) أي أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته؟ فإذا كنتم لا تحبون ذلك بل تكرهونه لأن النفس تعافه، فكذلك فاكرهوا أن تغتابوه في حياته.
والخلاصة - إنكم كما تكرهون ذلك طبعا فاكرهوا ذلك شرعا لما فيه من شديد العقوبة.
وقد شبهت بأكل اللحم لما فيها من تمزيق الأعراض المشابه لأكل اللحم وتمزيقه، وقد جاء هذا على نهج العرب في كلامهم. قال المقنّع الكندي:
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وقد زادت الآية فجعلت اللحم لحم أخ ميت تصويرا له بصورة بشعة تستقذرها النفوس جميعا.
سمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس، وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا.
وقال رجل للحسن البصري: بلغني أنك تغتابني، فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
وقد ثبت في الصحيح من غير وجه أن النبي ﷺ قال حين خطب في حجة الوداع: « إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ».
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي فاكرهوا الغيبة، واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وراقبوه واخشوه.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي إن الله يتوب على من تاب إليه عما فرط منه من الذنب، رحيم به أن يعذبه بعد توبته.
ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه، بأن يقلع عنها ويندم على ما فرط منه، ويعزم عزما مؤكدا على ألا يعود إلى مثل ما فرط منه.
ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا بها، وينحصر ذلك في ستة أمور:
(1) التظلم، فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه.
(2) الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته.
(3) الاستفتاء، فيجوز للمستفتى أن يقول للمفتى: ظلمنى فلان بكذا فهل يجوز له ذلك.
(4) تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمتصدّين للافتاء مع عدم أهليتهم لذلك، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد التزوج أو مخالطة غيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفى، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين ذكر ذلك.
(5) أن يجاهروا بالفسق كالمدمنين على شرب الخمور وارتياد محالّ الفجور، ويتباهوا بما يفعلون.
(6) التعريف بلقب أو نحوه، كالأعور والأعمش ونحو ذلك إذا لم تمكن المعرفة بغيره.
والأمة مجمعة على قبح الغيبة وعظم آثامها مع ولوع الناس بها حتى إن بعضهم ليقولون: هي صابون القلوب، وإن لها حلاوة كحلاوة التمر، وضراوة كضراوة الخمر.
[سورة الحجرات (49): آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
تفسير المفردات
من ذكر وأنثى: أي من آدم وحواء، قال إسحاق الموصلي:
الناس في عالم التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حوّاء
فإن يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء
والشعوب: واحدهم شعب (بفتح الشين وسكون العين) وهو الحي العظيم المنتسب إلى أصل واحد كربيعة ومضر، والقبيلة دونه كبكر من ربيعة، وتميم من مضر.
وحكى أبو عبيدة أن طبقات النسل التي عليها العرب سبع: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، وكل واحد منها يدخل فيما قبله، فالقبائل تحت الشعوب، والعمائر تحت القبائل، والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة (بفتح العين وكسرها) وقصي بطن، وعبد مناف فخذ، وهاشم فصيلة، والعباس عشيرة، وسمى الشعب شعبا لتشعب القبائل منه كتشعب أغصان الشجرة.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن السخرية بالناس والازدراء بهم، وعن اللمز والتنابز بالألقاب - ذكر هنا ما يؤكد النهى ويؤيد ذلك المنع، فبين أن الناس جميعا من أب واحد وأمّ واحدة، فكيف يسخر الأخ من أخيه؟ إلى أنه تعالى جعلهم شعوبا وقبائل مختلفة، ليحصل بينهم التعارف والتعاون في مصالحهم المختلفة، ولا فضل لواحد على آخر إلا بالتقوى والصلاح وكمال النفس، لا بالأمور الدنيوية الزائلة.
ذكر أبو داود أن الآية نزلت في أبى هند وكان حجام النبي ﷺ قال: إن رسول الله ﷺ أمر بنى بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول الله ﷺ: نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله عز وجل: « إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ » الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي إنا أنشأناكم جميعا من آدم وحواء، فكيف يسخر بعضكم من بعض، ويلمز بعضكم بعضا وأنتم إخوة في النسب، وبعيد أن يعيب الأخ أخاه أو يلمزه أو ينبزه.
وعن أبي مليكة قال: لما كان يوم فتح مكة رقى بلال فأذّن على ظهر الكعبة فقال عتّاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبى حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره، فأتى جبريل النبي ﷺ وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله الآية زجرا لهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء، وبين أن الفضل بالتقوى.
وروى الطبري قال: « خطب رسول الله بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمى، ولا لعجمى على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب ».
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: « إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم ».
(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) أي للتعارف لا للتناكر، واللمز والسخرية والغيبة تفضى إلى ذلك.
ثم ذكر سبب النهي عن التفاخر بالأنساب بقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) أي إن الأكرم عند الله الأرفع منزلة لديه عز وجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى، فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى، فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها.
روى ابن عمر رضي الله عنهما « أن النبي ﷺ خطب الناس يوم فتح مكة وهو على راحلته فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقى كريم على الله، ورجل فاجر شقى هيّن على الله تعالى، إن الله عز وجل يقول: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) ثم قال: أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن الله عليم بكم وبأعمالكم، خبير بباطن أحوالكم، فاجعلوا التقوى زادكم لدى معادكم.
[سورة الحجرات (49): الآيات 14 الى 18]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
تفسير المفردات
الأعراب: سكان البادية، آمنّا: أي صدقنا بما جئت به من الشرائع، وامتثلنا ما أمرنا به، فالإيمان هو التصديق بالقلب. أسلمنا: أي انقدنا لك، ودخلنا في السّلم وهو ضد الحرب: أي فلسنا حربا للمؤمنين، ولا عونا للمشركين، لا يلتكم: أي لا ينقصكم، يقال: لاته يليته إذا نقصه، حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية « الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمّه الأصوات » يمنون عليك: أي يذكرون ذلك ذكر من اصطنع لك صنيعة، وأسدى إليك نعمة.
المعنى الجملي
بعد أن حثّ الناس على التقوى - وبّخ من في إيمانه ضعف من الأعراب الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم وغلة، لأنهم كانوا يريدون المغانم وعرض الدنيا، إذ جاءوا في سنة مجدبة، وكانوا يقولون لرسوله ﷺ: جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون بذكر ذلك الصدقة والمنّ على النبي ﷺ، فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم، وأنهم لم يؤمنوا إيمانا حقيقيا، وهو الذي وافق القلب فيه اللسان، وأمرهم أن يقولوا: استسلمنا وخضعنا، ثم أخبرهم بأنهم إن اتقوا الله حق تقاته وفّاهم أجورهم كاملة غير منقوصة، ثم بين أن من علامة الإيمان الكامل التضحية بالنفس والمال في سبيل الله ببذلهما في تقوية دعائم الدين وإعلاء شأنه وخضد شوكة العدو بكل السبل الممكنة، ثم أعقب هذا بأن الله يعلم ما هم عليه من إيمان ضعيف
أو قوى إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يمتنّ على الرسول بإيمانه، بل من حق الرسول أن يمتنّ عليه بأن وفّق للهداية على يديه إن كان صادق الإيمان. ثم ختم الآيات بالإخبار عن واسع علمه، وإحاطته بمكنون سرّ خلقه في السموات والأرض لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما، وهو البصير بما يعمل عباده من خير أو شر، قال مجاهد: نزلت في أعراب من بنى أسد بن خزيمة (وكانوا يجاورون المدينة) قدموا على رسول الله ﷺ وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين حقّا.
وقال السّدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا.
الإيضاح
(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) أي قالت الأعراب: صدقنا بالله ورسوله ونحن له مؤمنون فردّ الله عليهم مكذبا لهم مع عدم التصريح بذلك فقال:
(قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي قل لهم: إن الإيمان هو التصديق مع طمأنينة القلب والوثوق بالله ولم يحصل لكم بعد، بدليل أنكم مننتم على الرسول بترك مقاتلته، ولكن قولوا: انقدنا لك واستسلمنا، ولا ندخل معك في حرب، ولا نكون عونا لعدوك عليك.
وجاءت الآية على هذا الأسلوب، ولم يقل لهم كذبتم، ولكن قولوا أسلمنا، حملا له عليه السلام على الأدب في التخاطب ليتأسّى به أتباعه، فيلينوا لمن يخاطبونهم في القول.
(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي قولوا أسلمنا فحسب، لأنه لم يدخل الإيمان في قلوبكم بعد، إذ لم يوافق القلب ما جرى به اللسان، ولم يكن لشرائع الدين ولا آدابه أثر في أعمالكم، فلم تتغذّ بها أرواحكم، ولم تصطبغ بهديها نفوسكم.
قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي ﷺ وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك هو الإيمان وصاحبه المؤمن اهـ.
(وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئًا) أي وإن تطيعوا الله ورسوله وتخلصوا له في العمل وتتركوا النفاق لا ينقص سبحانه من أجوركم شيئا، بل يضاعف ذلك أضعافا كثيرة.
ولما كان الإنسان كثير الهفوات مهما اجتهد - ذكر أنه غفور لزلاته فقال:
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه ستار للهفوات، غفار لزلات من تاب وأناب وأخلص لربه، رحيم به أن يعذبه بعد التوبة، بل يزيد في إكرامه، ويصفح عن آثامه.
ثم بين سبحانه حقيقة الإيمان بقوله:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي إنما المؤمنون حق الإيمان الذين صدقوا الله ورسوله، ثم لم يشكوا ولم يتزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه - أولئك هم الصادقون في قولهم: آمنا، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة، وقد دخلوا الملة خوفا من السيف، ليحقنوا دماءهم ويحفظوا أموالهم.
ثم أكد ما سبق من قوله: لم تؤمنوا بقوله:
(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟) أي قل لهم: أتخبرون الله بما في ضمائركم، وما تنطوى عليه جوانحكم من صادق الإيمان بقولكم: آمنا حقا.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يخفى عليه مثقال ذرة فيهما.
وفي هذا تجهيل وتوبيخ لهم لا يخفى أمره (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم فتنالكم عقوبته، إذ لا يخفى عليه شيء.
(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعدّون إسلامهم ومتابعتهم لك ونصرتهم إياك منّة يطلبون منك أجرها، فقد قالوا جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان.
ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بما يقوله لهم عند المنّ عليه بما يدّعونه من الإسلام فقال:
(قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي لا تعدوا إسلامكم الذي سميتموه إيمانا منة علي، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطلب موليها ثوابا لمن أنعم بها عليه، ومن ثم قال:
(بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل الله هو الذي يمن عليكم، إذ أمدكم بتوفيقه وهدايته للإيمان إن كنتم صادقين في إيمانكم.
وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان.
روي أن النبي ﷺ قال للأنصار يوم حنين « يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل ».
والخلاصة - إن الله تعالى سمى ما كان منهم إسلاما وخضوعا لا إيمانا إظهارا لكذبهم في قولهم آمنا، ثم لما منّوا على رسول الله بما كان منهم قال سبحانه لرسوله:
أيعتدّون عليك بما ليس جديرا أن يعتد به من إسلامهم الذي سموه إيمانا وليس بذاك؟
بل الله هو الذي يعتد عليهم إيمانهم إن صدقوا، فهو قد أمدّهم بهديه وتوفيقه. ثم أعاد الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إن الله يعلم ما غاب فيهما، وهو بصير بسركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه ما في ضمائركم.
وفي ذلك رمز إلى أنهم كاذبون في إيمانهم، وإعلان للنبي ﷺ وأتباعه من المؤمنين بما في أنفسهم.
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة
مباحث هذه السورة قسمان: قسم بين النبي ﷺ وأمته، وقسم يخص أمته وهو إما ترك للرذائل وإما تحلية بالفضائل. والقسم الأول هو:
(1) ألا يقضى المؤمنون في أمر قبل أن يقضى الله ورسوله فيه.
(2) الهيبة والإجلال لرسول الله ﷺ، وألا تتجاوز أصواتهم صوته.
(3) ألا يخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضهم بعضا، بل يخاطبونه بالنبي والرسول.
(4) إن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله أولئك هم المتقون.
(5) إن من نادوه من وراء الحجرات كعيينة بن حصن ومن معه أكثرهم لا يعقلون.
(6) ذمّ المنّ على الله ورسوله ﷺ بالإيمان.
والقسم الثاني هو:
(1) ألا نسمع كلام الفاسق حتى نتثبّت منه وتظهر الحقيقة.
(2) إذا بغت إحدى طائفتين من المؤمنين على أخرى وجب قتال الباغية حتى تفيء إلى أمر الله.
(3) حبب الله الصلح بين المؤمنين.
(4) النهي عن السخرية واللمز والتنابز.
(5) النهي عن سوء الظن بالمسلم وعن تتبع العورات المستورة وعن الغيبة والنميمة.
(6) الناس جميعا سواسية مخلوقون من ذكر وأنثى، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
هامش
- ↑ تطلق العرب القول على جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان توسعا في الاستعمال.
- ↑ ما يقع في العين والماء والتراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.