تفسير المراغي/سورة فصلت
هي مكية وآيها أربع وخمسون، نزلت بعد غافر.
أخرج ابن أبي سيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: « اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر بم يردّ عليه؟ فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة فقالوا ائته يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟، فسكت رسول الله ﷺ. قال عتبة فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله ﷺ: فرغت؟ قال: نعم، فقال رسول الله ﷺ: « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ » - حتى بلغ - « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا فهل أجابك؟ قال والذي نصبها بنية (يريد الكعبة) ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدرى ما قال؟ قال لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة ».
وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: « لما قرأ النبي ﷺ على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال يا قوم: أطيعونى في هذا اليوم واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذنى قط كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه ».
وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته ﷺ أول هذه السورة عليه.
ومناسبتها ما قبلها:
(1) إنهما اشتركتا في تهديد قريش وتقريعهم، فقد توعدهم في السورة السابقة بقوله: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ » إلخ وهددهم هنا بقوله: « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ».
(2) إن كلتيهما بدئت بوصف الكتاب الكريم.
[سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 5]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)
تفسير المفردات
لا يسمعون: أي لا يقبلون ولا يطيعون، من قولهم: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي: أي لم يقبله ولم يعمل به فكأنه لم يسمعه، والأكنة واحدها كنان كأغطية وغطاء: وهي خريطة السهام والمراد أنها في أغطية متكاثفة، والوقر: الثقل في السمع.
الإيضاح
(حم) تقدم الكلام في هذا في السورة قبلها.
(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي هذا القرآن منزل من الله الرّحمن الرّحيم على نبيه محمد ﷺ، وخص هذين الوصفين (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بالذكر لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين إلى الدواء، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان رحمة لهم ولطفا بهم كما قال: « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ».
ونحو الآية قوله: « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ».
(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هو كتاب بينت آياته، وميزت لفظا بفواصل ومقاطع، ومبادئ للسور وخواتم لها، وميزت معنى بكونها وعدا ووعيدا، ومواعظ ونصائح وتهذيب أخلاق ورياضة نفس، وقصص الأولين، وتواريخ الماضين.
ونحو الآية قوله: « كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ».
(قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أي أنزلناه بلغة العرب، ليسهل عليهم فهمه كما قال: « وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ».
وفي هذا امتنان من الله عليهم، ليسهل عليهم قراءته وفهمه.
(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معانيه، لكونه جاء بلسانهم، فهم أهل اللسان فيفهمونه بلا واسطة، وغيرهم لا يفهمه إلا بوساطتهم.
(بَشِيرًا وَنَذِيرًا) أي بشيرا لأوليائه بالجنة والنعيم المقيم إن داوموا على العمل بما فيه من أوامر ونواه، ونذيرا لأعدائه بالعذاب الأليم إن همأصروا على التكذيب به والجدل فيه بالباطل وترك أوامره وفعل نواهيه.
ثم بين حال المشركين حين أنزل إليهم فقال:
(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي فاستكبر أكثر المشركين عن الإصغاء إليه، ولم يقبلوه ولم يطيعوا ما فيه من أوامر ونواه، إعراضا عن الحق.
ثم صرحوا بنفرتهم منه، وتباعدهم عنه، وذكروا لذلك ثلاثة أسباب، تعللا واحتقارا لدعوته:
(1) (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) أي إن قلوبنا في أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا، فهي لا تفقه ما تقول من التوحيد، ولا يصل إليها قولك.
(2) (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي وفي آذاننا صمم يمنعها من استماع قولك.
(3) (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي ومن بيننا وبينك ستر يمنعنا عن إجابتك.
روي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.
وقصارى ما يقولون: إن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبّله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، وأسماعهم لا يدخل إليها شيء منه، كأن بها صمما، ولتباعد الدينين وتباعد الطريقين كان بينهم وبين رسول الله حجاب كثيف، وحاجز منيع.
ثم بارزوه بالخلاف وشن الغارات الجدلية بما لم يبق بعده مجال للوفاق فقالوا:
(فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) أي فاعمل في إبطال أمرنا جهد طاقتك، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك وتشتيت شمل من آمن بك حتى تبطل دعوتك.
[سورة فصلت (41): الآيات 6 الى 8]
[عدل]قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
تفسير المفردات
فاستقيموا إليه: أي فأخلصوا له العبادة، ويل: أي هلاك، لا يؤتون الزكاة: أي لا يتصدقون بجزء من مالهم للسائل والمحروم، ممنون: أي مقطوع من قولهم مننت الحبل إذا قطعته، ومنه قول ذي الإصبع:
إني لعمرك ما بابي بذي غلق على الصديق ولا خيري بممنون
المعنى الجملي
بعد أن ذكر المشركون الأسباب التي تحول بينهم وبين قبول دعوته - أمر رسوله أن يجيب عن كلامهم بأنه لا يقدر على جبرهم على الإيمان وحملهم عليه قسرا، فإنه بشر مثلهم ولا ميزة له عليهم إلا بأن الله أوحى إليه ولم يوح إليهم، ثم ذكر أن خلاصة الوحي علم وعمل، أما العلم فدعامته التوحيد، وأما العمل فأسه الاستغفار والتوبة مما فرط من الذنوب، ثم أردف ذلك التهديد لمن يشرك بالله ولا يزكى نفسه من دنس الشح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة، وينصرف إلى الدنيا ولذاتها، وبعد أن ذكر وعيد الكفار أعقبه بوعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم عند ربهم أجرا دائما غير مقطوع ولا ممنوع.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي قل أيها الرسول لقومك: ما أنا إلا بشر مثلكم في الجنس والصورة والهيئة، ولست بملك ولا جنّى لا يمكنكم التلقي مني، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول، بل أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه الدلائل الكونية، وأيده النقل عن الأنبياء جميعا، من آدم فمن بعده، فأخلصوا له العبادة، وسلوه العفو عن ذنوبكم التي سلفت منكم، بالتوبة من شرككم - يتب عليكم ويغفر لكم.
(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وخسارة وهلاك لمن أشرك بربه ولم يواس البائس الفقير بشىء من ماله، يدفع به عوزه، ويزيل خصاصته، وأنكر البعث والحساب والجزاء، وكان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
وإنما جعل منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة، لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذاك أقوى دليل على استقامته وثباته وصدق نيته، وصفاء طويته وما خدع المؤلّفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا، بها لانت شكيمتهم، وزالت عصبيتهم وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله إلا بمنعهم للزكاة، فعرّضوا أنفسهم للحرب، والطعن والضرب، إبقاء على أموالهم ولو ذهبت مهجهم وأرواحهم.
وقصارى ذلك - دمار وهلاك لمن أشرك بربه، ولم يطهر نفسه من دنس الرذائل التي من أهمها البخل بالمال ودفع غائلة الجوع عن المسكين والفقير، وأنكر البعث والجزاء.
ونحو الآية قوله: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » وقوله: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ».
وبعد أن ذكر وعيد المشركين أردفه وعد المؤمنين فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر به، وانتهوا عما نهى عنه - لهم عند ربهم جزاء غير مقطوع ولا ممنوع.
قال السدي: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة.
ونحو الآية قوله: « ماكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا » وقوله: « عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ »
[سورة فصلت (41): الآيات 9 الى 12]
[عدل]قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
تفسير المفردات
في يومين: أي في نوبتين، والرواسي: الجبال الثوابت، أقواتها: أي أقوات أهلها، سواء: أي كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة، للسائلين: أي لطالبى الأقوات المحتاجين إليها، استوى: أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر، دخان: أي مادة غازية أشبه بالدخان، فقضاهن: أي فرغ من تسويتهن، أمرها: أي شأنها وما هي مستعدة له واقتضت الحكمة أن يكون فيها، بمصابيح: أي بكواكب ونجوم، وحفظا: أي وحفظناها حفظا من الآفات.
المعنى الجملي
بعد أن أمر رسوله بأن يقول للمشركين: إن ما تلقيته بالوحي أن إلهكم إله واحد، فأخلصوا له العبادة - أردف هذا ما يدل على كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض على أطوار مختلفة متعاقبة وأكمل لكل منها ما هي مستعدة له، وزين السماء بالنجوم والكواكب الثوابت والسيارات، ولا عجب فذلك تقدير العزيز الغالب على أمره، العليم بكل ما فيهما لا يخفى عليه شيء منهما، فكيف يسوغ لكم أن تجعلوا الأوثان والأصنام شركاء له، وليس لها شيء في خلقهما وتقديرهما، تعالى الله عن ذلك.
الإيضاح
(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ؟) أي قل أيها الرسول لمشركي قومك توبيخا وتقريعا. كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض التي تقلّكم في نويتين؟ فتقولوا إنه لا يقدر على حشر الموتى من قبورهم، وتنسبوا إليه الأولاد وتقولوا إنه لم يبعث أنبياء - أي كيف تقولون هذا، مع أنه خلق الأرض في يومين.
(وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا) أي وتجعلون له أندادا وأمثالا من الملائكة والجن والأصنام والأوثان.
ثم شدد عليهم في الإنكار وبين أن مثل هذا لا ينبغي أن يكون فقال:
(ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلك الذي خلق الأرض في نوبتين نوبة جعلها جامدة بعد أن كانت كرة غازية، ومرة جعلها ستا وعشرين طبقة في ستة أطوار كما بين ذلك علماء طبقات الأرض (الجلوجيا) - هو رب العالمين لا ربها وحدها، فهو مربّى المخلوقات جميعا، فإن رباها في نوبتين فقد ربى غيرها في نوبات يعلم سبحانه عددها، فكيف يكون شيء منها ندّا له وضريبا؟.
ثم بين إحكام ذلك الخلق وحسن تدبيره فقال:
(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) أي وجعل فيها جبالا ثوابت مرتفعة عليها، أسسها في الأرض وهي الطبقة الصوانية، وهذه الطبقة هي التي برزت منها الجبال، فالجبال أساسها بعيدة الغور ضاربة في جميع الطبقات واصلة إلى أول طبقة، وهي الطبقة الصوانية التي لولاها لم تكن الأرض أرضا ولم نستقر عليها فأرضنا كرة من النار غطيت بطبقة صوّانية فوقها طبقات ألطف منها تكوّن فيها الحيوان والنبات على مدى الزمان، والجبال نتوءات نتأت من تلك الطبقة وارتفعت فوقها عشرات آلاف الكيلو مترات، وصارت محازن للمياه والمعادن وهداية للطرق وحافظة للهواء والسحاب.
(وَبارَكَ فِيها) أي وجعلها مباركة كثيرة الخيرات بما خلق فيها من المنافع، فجعل جبالها مبدأ لجريان الأنهار، ومخزنا للمعادن كالذهب والفضة والحديد والنحاس.
(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قدر لأهلها من الأقوات ما يناسب حال كل إقليم من مطاعم وملابس ونبات، ليكون بعض الناس محتاجا إلى بعض، فتروج المتاجر بينهم وتنتقل المحصولات من بلد إلى آخر ومن قطر إلى قطر، وفي هذا عمار للأرض وانتظام أمور العالم.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال:
(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي إن خلق الأرض وجعل الرواسي فيها في نوبتين، وإكثار خيراتها وتقدير أقواتها في نوبتين فيكون ذلك في أربع نوبات كما يقول القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما: أي في تتمة خمسة عشر يوما.
وقصارى ذلك - إن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وخلق الجبال الرواسي فيها وتقدير الأقوات في أربعة أيام.
(سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي في أربعة أيام كاملة وفق مراد طالب القوت ومن له حاجة إليه وهو كل حيوان على وجه الأرض كما قال: « يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » فالناس والحيوان جميعا كلهم سائلون ربهم ما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولباس ورداء - سؤالا طبيعيا مغروسا في جبلّتهم.
ولما كان الإنسان يهتمّ بحال ما حوله من الأرض قدّم ذكرها وبين أنها هي وما عليها قد كوّنها في أربع نوبات، فنوبة لتجمد المادة الأرضية بعد أن كانت غازا، ونوبة لتكميل بقية طبقاتها ويدخل في ذلك معادنها، ومرة للنبات وأخرى للحيوان.
ولما انتهى من الكلام في الأرض أخذ يذكر السماء، فالترتيب في الذكر فحسب فقال:
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) أي ثم دعا داعي الحكمة إلى خلق السماء وهي مادة غازية أشبه بالدخان أو بالسحاب أو بالسديم وتسمى في العلم الحديث (عالم السديم) وقد شاهدوا من تلك العوالم اليوم عوالم كثيرة في عالم السديم آخذة في البروز كما برزت شمسنا وسياراتها، وأرضها وكانت في الأصل دخانا.
وعلى الجملة فالتكوين لم يكن في لحظة واحدة، بل كان وفق الحكمة والنظام في غير نوبة، وكفى بكتاب مقدس أن يقول: إنه خلق الأرض في نوبتين، وما عليها في نوبتين، والسموات السبع كذلك.
ثم ذكر ما كان من شأنهما بعد خلقهما فقال:
(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أي فقال لتلك العوالم السماوية، وللأرض التي دارت حولها: ائتيا كيف شئتما طائعتين أو كارهتين فأجابتا قالتا أتينا طائعين، قال ابن عباس: قال الله تعالى للسموات: أطلعى شمسك وقمرك وكواكبك، وأجرى رياحك وسحابك، وقال للأرض: شقى أنهارك، وأخرجى شجرك وثمارك، طائعتين أو كارهتين: « قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ».
وفي هذا دلالة على الحركة المستمرة المعبر عن سببها بالجاذبية، فهي حركة تجرى جرى طاعة لا جرى قسر، فإنا نشاهد أنا نرمى الحجر إلى أعلى قسرا فيأبى إلا أن ينزل إلى الأرض بطريق الجاذبية إلى جسم أكبر منه وهي الأرض، وهكذا الأرض مجذوبة إلى الشمس التي هي أصلها بحركة دورية دائمة طوعا لا قسرا، لأن القسرية كرمى الحجر إلى أعلى سريعة الزوال، أما حركة الطاعة فهي دائمة ما دام المطيع متخلقا بخلقه الذي هو فيه.
(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي فأتم خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن في نوبتين سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض، فوقع خلق السموات والأرض في ستة كما قال: « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » على ما اقتضته الحكمة وحسن النظام.
ومن ذلك يفهم وجه الحكمة في قوله - فقال لها وللأرض إلخ، وهي الدلالة على أن حركة الإتيان منهما كانت معا، فبينما نرى الأرض دائرة حول نفسها وحول الشمس نرى الشمس دائرة حول نفسها وحول شموس أخرى أكبر منها، فهذا هو السبب في ذكرهما معا.
وقصارى ذلك - إنه قال لهما معا وأجابتاه معا، لأن الأرض لما كانت ضمن المجموعة الشمسية كانت دائرة كبقية أجزائها.
(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي وخلق في كل منها ما استعدت له، واقتضت الحكمة أن يكون فيها من بحار وبرد وثلج إلى نحو أولئك مما لا يعلمه إلا الله، قاله السدي وقتادة.
(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح، وهي وإن تفاوتت ارتفاعا وانخفاضا فكلها ترى متلألئة.
(وَحِفْظًا) أي وحفظناها من الاضطراب في سيرها ومن اصطدام بعضها ببعض، وجعلناها تسير على نهج واحد ما دام هذا النظام باقيا حتى يأتي اليوم الموعود، فهناك تختل نظمها كما قال سبحانه: « إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ».
(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي إن ذلك الذي تقدم هو تقدير العزيز الذي قد عزّ كلّ شيء فغلبه وقهره، العليم بحركات مخلوقاته وسكناتها، سرها ونجواها، ظاهرها وباطنها.
[سورة فصلت (41): الآيات 13 الى 18]
[عدل]فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) ونَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)
تفسير المفردات
صاعقة: أي عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة. قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان، وهي في الأصل الصيحة التي يحصل بها الهلاك، أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد، من بين أيديهم ومن خلفهم: أي من كل ناحية، صرصرا: أي باردة تهلك بشدة بردها. أنشد قطرب قول الحطيئة في المديح:
المطعمون إذا هبّت بصرصرة والحاملون إذا استودوا على الناس
استودوا: أي سئلوا الدية. نحسات واحدها نحسة (بكسر الحاء) أي نكدات مشئومات، والهون: الذل.
المعنى الجملي
بعد أن أنكر عليهم عبادة الأنداد والأوثان، وطلب إليهم ألا يعبدوا إلا الله الذي خلق السموات والأرض، وزين السماء الدنيا بالمصابيح، وأوجد في الأرض جبالا رواسي أن تميد بهم، ثم أعرضوا عن كل ذلك، لم يبق حينئذ طريق للعلاج.
ومن ثم أمر رسوله أن ينذرهم بحلول شديد النقم بهم إن هم أصروا على عنادهم، كما نزل بعاد وثمود من قبلهم.
الإيضاح
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) أي قل أيها الرسول لمشركي قومك المكذبين لما جئتهم به من الحق: إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله فإني أنذركم بحلول نقمته بكم كما حلت بالأمم الماضية التي كذبت رسلها كعاد وثمود ومن على شاكلتهما ممن فعل فعلهما حين جاءتهم الرسل في القرى المجاورة لبلادكم، وأمروا أهلها بعبادة الله وحده، فكذبوهم واستكبروا عن إجابة دعوتهم، واعتذروا بشتى المعاذير كما ذكر ذلك سبحانه بقوله:
(قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا لا نصدق برسالتكم فما أرسل الله بشرا، ولو أرسل رسلا لأنزل ملائكة، وإذا فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا.
وقد تقدم في غير موضع دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها. وقوله: « بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ » ليس إقرارا منهم بكونهم رسلا، بل ذكروه استهزاء بهم كما قال فرعون: « إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ».
أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال « قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علي إن كان كذلك، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه، قال: لم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ إن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة (الميل إلى قربان النساء) زوجناك عشر نسوة تختارهن، أي بنات من شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغنى به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ قال ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم.
كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا - حتى بلغ - فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابنى بشىء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته الرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب ».
وقد ذكرنا هذا القصص قبل برواية أخرى، وهذه الرواية أتم من سابقتها فأعدناها تكميلا للفائدة.
ولما بين سبحانه كفر قوم عاد وثمود إجمالا وبين معاذيرهما - أردف ذلك ذكر ما لكل منهما من الجناية وما حل به من العذاب فقال:
(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) أي فأما عاد فبغوا وعصوا ربهم ولم يقبلوا كلام الرسول الذي جاء لهم وقالوا من أشد منا قوة حتى يستطيع قهرنا وإذلالنا، وقد كانوا قوما طوال القامة شديدى الأسر، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هو بالعذاب، وقد روى في قوّتهم روايات ليس بنا حاجة إلى تصديقها كقولهم: إن الرجل منهم كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده ويجعلها حيث يشاء.
فرد الله عليهم موبخا بقوله:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟) أي أما يفكرون فيمن يبارزون بالعداوة؟ إنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها، وإن بطشه لشديد، وإنه لقادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء، فيقول:
(كُنْ فَيَكُونُ).
(وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكانوا يعرفون أن آياتنا التي أنزلناها على رسلنا حق لا مرية فيها، ولكنهم جحدوها وعصوا رسله.
وقد يكون المراد: إنهم جحدوا الأدلة التكوينية التي نصبناها لهم، وجعلناها حجة عليهم.
ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال:
(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا) أي فأرسلنا عليهم ريحا باردة تهلك بشدة بردها، وإذا هبت سمع لها صوت قوي لتكون عقوبة لهم من جنس ما اغتروا به.
ثم بين سبحانه وقت نزول العذاب عليهم فقال:
(فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي في أيام مشئومات نكدات متتابعات كما قال في آية أخرى: « سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ».
ثم بين الغاية التي من أجلها نزل العذاب فقال:
(لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أنزلنا عليهم هذا العذاب كى نذيقهم الذل والهوان في الحياة الدنيا بسبب ذلك الاستكبار.
ثم أرشد إلى أن هذا العذاب هين يسير إذا قيس بعذاب الآخرة فقال:
(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي ولعذاب الآخرة أشد إهانة وخزيا من عذاب الدنيا، وهم لا يجدون إذ ذاك نصيرا ولا معينا يدفعه عنهم.
وبعد أن ذكر قصص عاد أتبعه بقصص ثمود فقال:
(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي وأما ثمود فبينا لهم الحق على لسان نبيهم صالح، ودللناهم على سبل النجاة بنصب الأدلة التكوينية، وإنزال الآيات التشريعية، فكذبوه واستحبوا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان.
ثم ذكر جزاءهم على ما اختاروه لأنفسهم فقال:
(فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فأرسلنا عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا، بما كانوا يكسبون من الآثام بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله.
(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي ونجينا صالحا ومن آمن معه من المؤمنين من ذلك العذاب: فلم يمسسهم سوء ولا نزل بهم مكروه، بإيمانهم وتقواهم وصالح أعمالهم.
[سورة فصلت (41): الآيات 19 الى 24]
[عدل]وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
تفسير المفردات
يوزعون: أي يحبسن أولهم ليلحق آخرهم لكثرتهم من قولهم، وزعته: أي كففته، جلودهم: أي جوارحهم، أرداكم: أي أهلككم، مثوى: أي مقام، وإن يستعتبوا: أي يطلبوا العتبى والرضا، من المعتبين: أي المجابين إلى ما يطلبون
يقال أعتبني فلان: أي أرضاني بعد إسخاطه إياي، قال الخليل: تقول استعتبته فأعتبنى: أي استرضيته فأرضانى، قال النابغة في اعتذارياته للنعمان بن المنذر:
فإن أكُ مظلوما فعبدٌ ظلمته وإن يك ذا عتبى فمثلك يعتب
المعنى الجملي
بعد أن بين كيف عاقب أولئك الجاحدين في الدنيا وأذاقهم عذاب الهون بما كانوا يكسبون - أردف ذلك بذكر عقابهم في الآخرة، ليكون ذلك أتم للزجر وأكثر في الاعتبار لمن اعتبر.
الإيضاح
قسم ناقص
(وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أيويقال لهم: أبشروا بالجنة التي وعدتم بها على ألسنة الرسل في الدنيا، فإنكم واصلون إليها، مستقرون بها، خالدون في نعيمها.
ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من هذا كله فقال:
(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أينحن أعوانكم في أمور دنياكم، نلهمكم الحق، ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم في دنياكم، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤمّنكم من الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ويوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم.
وقصارى ذلك - نحن المتولّون حفظكم وولايتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ومن كان الله وليّه فاز بكل مطلب، ونجا من كل مخافة.
(وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من صنوف اللذات وأنواع النعم.
(وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أيولكم فيها ما تتمنون وتطلبون.
ونحو الآية قوله: « وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ».
والجملة الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبون سواء أكان مشتهى لهم أم لا، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى كالفضائل العلمية ونحوها (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي أعطاكم ربكم ذلك كرامة من لدنه، وهو الغفور لذنوبكم، الرّحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم.
[سورة فصلت (41): الآيات 33 الى 36]
[عدل]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
تفسير المفردات
دعا إلى الله: أي دعا إلى توحيده، المسلمين: أي الخاضعين، الحسنة: ما ترضى الله ويتقبلها، والسيئة: ما يكرهها ويعاقب عليها، ادفع: أي ردّ، والحميم: الصديق، وما يلقاها: أي يتقبلها ويحتملها، حظّ: أي نصيب وافر من الخير، ينزعنك: أي يوسوسنّ لك، وأصل النزغ: النخس، فاستعذ بالله: أي التجئ إليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن قرناء السوء يدعون إلى المعاصي - أردف ذلك ذكر حال أضدادهم الذين يدعون الناس إلى توحيد ربهم وطاعته، ثم أعقب هذا بأن الحسنة والسيئة لا يستويان ثوابا عند الله، تم أمر رسوله بدفع سفاهات المشركين وجهالاتهم بطريق الحسنى، لما في ذلك من تآلف القلوب، وارعواء النفوس عن غيّها، وثوبها إلى رشدها، وأرشد إلى أن هذه فعلة لا يتقبلها إلى الصابرون على احتمال المكاره، ومن لهم حظ عظيم من الثواب عند الله، ثم ختم ذلك بتلك النصيحة الذهبية، وهي أنه إذا صرف الشيطان المرء عن شيء مما شرعه الله فليتعوذ من شره ولا يطعه في أمره، والله سميع لما يقول، عليم بكل ما يفعل، وهو المجازى له على ذلك.
الإيضاح
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟) أي لا أحد أحسن قولا ممن جمع بين خصال ثلاث:
(1) الدعاء إلى توحيد الله وطاعته، قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن:
والداعي هو رسول الله ﷺ، وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه.
(2) العمل الصالح بعمل الطاعات، واجتناب المحرمات.
(3) أن يتخذ الإسلام دينا ويخلص إلى ربه، من قولهم: هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده.
وقد يكون المراد أنه يتلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب.
وبعد أن ذكر محاسن الأعمال التي بين العبد وربه - ذكر محاسن الأعمال التي بين العباد بعضهم مع بعض ترغيبا لرسول الله ﷺ في الصبر على أذى المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان فقال:
(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي ولا تتساوى الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها، والسيئة التي يكرهها ويعاقب عليها.
وقد يكون المعنى - ولا تستوى دعوة الرسول إلى الدين الحق بالطرق المثلى، والصبر على سفاهة الكفار، وترك الانتقام منهم - وما أظهروه من الغلظة والفظاظة في قولهم: « قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ » وقولهم: « لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ».
والخلاصة - إن فعلك أيها الرسول حسنة، وإن فعلهم سيئة، فإذا أتيت بهذه الحسنة استحققت التعظيم في الدنيا، والمثوبة في الآخرة، وهم بضد ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على السيئة مانعا من الاشتغال بالحسنة.
ثم ذكر بعض الحسنات ووضحها بذكر بعض ضروبها فقال:
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطرق، فقابل إساءتهم بالإحسان إليهم، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر والإغضاء عن الهفوات، واحتمال المكاره، فإنك إن صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفههم بالغضب، ولا أذاهم بمثله، استحيوا من ذميم أخلاقهم، وتركوا قبيح أفعالهم.
ثم بين نتائج الدفع بالحسنى فقال:
(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي إنك إن فعلت ذلك انقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغض إلى المودة، قال عمر: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وقال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم.
وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي بن أبي طالب، فناداه علي يا قنبر دع شاتمك، واله عنه ترض الرّحمن، وتسخط الشيطان.
وقالوا: ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه، ولله در القائل:
وللكفّ عن شتم اللئيم تكرما أضرّ له من شتمه حين يشتم
وقال آخر:
وما شيء أحبّ إلى سفيه إذا سبّ الكريم من الجواب
متاركة السفيه بلا جواب أشدّ على السفيه من السبّاب
وقال محمود الوراق:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه لدي الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقى فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن إجابته عرضى وإن لام لائم
وأما الذي مثلى فإن زلّ أو هفا تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم
وقال آخر:
إن العداوة تستحيل مودة بتدارك الهفوات بالحسنات
قال مقاتل: نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب كان معاديا للنبي ﷺ فصار له وليّا في الإسلام، حميما بالمصاهرة.
ثم نبه إلى عظيم فضل هذه الطريق بقوله:
(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا الصابرون على تحمل المكاره وتجرّع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام، فإن ذلك يشق على النفوس، ويصعب احتماله في مجرى العادة إلا من عصم الله.
وقال أنس في تفسير ذلك: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقا غفر الله لي، وإن كنت كاذبا غفر الله لك.
(وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي وما يتقبلها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.
قال قتادة: الحظ العظيم الجنة، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.
ثم ذكر طريقا لمنع تهييج الشر ودفع الغضب إذا بدت بوادره فقال:
(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي وإن وسوس إليك الشيطان ليحملك على مجازاة المسيء فاستعذ بالله من كيده وشره، واعتصم من خطراته، إنه هو السميع لا ستعاذتك منه، واستجارتك به من نزغاته ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك، العليم بما ألقى في روعك من نزغاته، وحدّثتك به نفسك، وما قصدت من صلاح، ونويت من إحسان.
ومن شياطين الإنس من يفعل مثل هذا، فيصرف عن الدفع بالتي هي أحسن، فيقول لك: إن فلانا عدوك الذي فعل بك كيت وكيت، فانتهز الفرصة، وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس، ولا يظننّ فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى نحو أولئك من العبارات المثيرة للغضب التي ربما لا تخطر ببال شياطين الجن - نعوذ بالله من شر كل شيطان.
والخلاصة - إن صرفك الشيطان عما شرعت فيه من الدفع بالحسنى، فاستعذ بالله من شره، وامض لشأنك. ولا تطعه.
[سورة فصلت (41): الآيات 37 الى 39]
[عدل]وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
تفسير المفردات
الآية: هي البرهان والحجة، يسأمون: أي يملّون، خاشعة: أي جامدة يابسة لا نبات فيها، اهتزت: أي تحركت، وربت: أي انتفخت.
المعنى الجملي
لما ذكر في الآيات السابقة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى - أردفه ذكر الدلائل على وجوده تعالى وقدرته وحكمته، تنبيها إلى أن الدعوة إلى الله هي تقرير الدلائل على ذاته وصفاته، ثم ذكر منها الدلائل الفلكية وهي الليل والنهار والشمس والقمر، ثم أتبعها بآية أرضية تشاهد رأي العين في كل حين وهي حال الأرض حين خلوّها من المطر والنبات، ثم حالها بعد نزول المطر، فهي تنتعش بعد أن كانت ميتة، وتهتز بعد أن كانت ساكنة، والذي أحياها هو الذي يحيى الموتى، إنه على كل شيء قدير.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالتها على وحدانيته وعظم سلطانه - الليل والنهار، ومعاقبة كل منهما صاحبه، والشمس ونورها، والقمر وضياؤه، وتقدير منازلهما في فلكيهما، واختلاف سيرهما في السماء، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار والأسابيع والشهور والأعوام، وبذلك تضبط المعاملات وأوقات العبادات.
ولما كانت الشمس والقمر من أجلّ الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلى نبه إلى أنهما مخلوقان مسخران له تعالى وهما تحت قهره وسلطانه، فلا تعظموهما وعظموا خالقهما فقال:
(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي لا تسجدوا أيها الناس للشمس والقمر، فإنهما إنما يجريان بمنافعكم بإجراء الله إياهما طائعين له في جريهما وهما لا يستطيعان لكم نفعا ولا ضرا، فله فاسجدوا، وإياه فاعبدوا دونهما، لأنهما لا فضيلة لهما في أنفسهما، فيستحقا بها العبادة من دون الله، ولو شاء الله لأعدمهما أو طمس نورهما.
وفي هذا رد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب والنجوم، وزعموا أنهم بعبادتهم إياها يعبدون الله، فنهوا عن ذلك.
(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي فإن استكبر هؤلاء المشركون الذين يعبدون هذه الكواكب وأبوا إلا أن يسجدوا لها وحدها دون الله - فالله لا يعبأ بهم، فالملائكة الذين في حضرة قدسه وهم خير منهم لا يستكبرون عن عبادته، بل يسبحون له ويصلون ليلا ونهارا، وهم لا يفترون عن ذلك ولا يمّلون.
ولما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال:
(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي ومن الدلائل على قدرته تعالى على البعث، وإحياء الموتى بعد بلاها، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها - أنك ترى الأرض يابسة غبراء لا نبات بها ولا زرع، فإذا نزل عليها الغيث من السماء تحركت بالنبات، وانتفخت، وأخرجت ألوان الزرع والثمار، كما يشاهد من ارتفاع الأرض وانتفاخها، ثم تصدّعها وتشققها إذا حان ظهور النبات منها، وتراه يسمو في الجوّ ويغطى قشرتها، ثم تتشعب عروقه، وتغلظ سوقه.
(إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة، وأخرج منها النبات، وجعلها تهتز بالزرع - قادر على أن يحيى أموات بنى آدم بعد مماتهم، وهو القدير على كل شيء، لا يعجزه شيء كائنا ما كان.
[سورة فصلت (41): الآيات 40 الى 42]
[عدل]إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
تفسير المفردات
يقال: ألحد الحافر في الأرض: إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق منها، والمراد بالملحدين المنحرفون في تأويل الآيات بحملها على المحامل الباطلة، والذكر: القرآن، من بين يديه ومن خلفه: أي من جميع جهاته، حكيم: أي في جميع أفعاله، حميد: أي محمود إلى جميع خلقه بكثرة نعمه عليهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن الدعوة إلى دين الله أسمى المقاصد، وأنها إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد وصحة البعث يوم القيامة - أعقب هذا بتهديد من ينازع في تلك الدلائل بإلقاء الشبهات، ثم هددهم بضروب من التهديد، فهددهم بقوله: « لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا » وبقوله: « اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » وبقوله: « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ » إلخ.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي إن الذين يميلون عن الحق في حججنا تكذيبا بها وجحودا لها - نحن بهم عالمون لا يخفون علينا، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا، وسنجازيهم بما يستحقون.
ولا يخفى ما في ذلك من شديد الوعيد كما يقول الملك المهيب: إن الذين ينازعوننى في ملكي أعرفهم ولا شك، فهو يريد تهديدهم وإلقاء الرعب في قلوبهم.
ثم بين كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال:
(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيامَةِ؟) أي أفمن يلقى في النار لإلحاده بالآيات، وتكذيبه للرسول خير أم من آمن بها، وجاء يوم القيامة من الآمنين حين يجمع الله الخلائق للعرض عليه والحكم بينهم بالعدل؟ لا شك أنهما لا يستويان.
وظاهر الآية العموم وتمثيل حالى المؤمن والكافر، وقيل المراد بمن يلقى في النار أبو جهل، وبمن يأتي آمنا النبي ﷺ.
وعن بشير بن تميم قال: نزلت في أبى جهل وعمار بن ياسر.
وبعد أن أبان لهم عاقبة الملحدين بالآيات والمؤمنين بها، هددهم بقوله:
(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) فقد علمتم مصير المسيء والمحسن، فمن أراد أحد الجزاءين فليعمل له فإنه ملاقيه.
(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه بأعمالكم ذو خبرة وعلم لا تخفى عليه خافية منها ولا من غيرها، وهو مجازيكم بحسب أعمالكم.
ثم بين أولئك الملحدين بقوله:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أي إن الملحدين هم الذين جحدوا هذا القرآن وكذبوا به حين جاءهم.
ثم وصف الذكر بقوله:
(1) (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي وإنه لكتاب عزيز عن أن يعارض أو يطعن فيه الطاعنون، منيع عن كل عيب، محمي بحماية الله.
(2) (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي ليس للبطلان إليه سبيل، فلا تكذبه الكتب السابقة عليه كالتوراة والإنجيل، ولا يجىء من بعده كتاب يكذبه، قاله سعيد بن جبير والكلبي.
وقال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وبه قال قتادة والسدي.
وقصارى ذلك - إن الباطل لا يتطرّق إليه، ولا يجد لديه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه، فكل ما فيه حق وصدق، وليس فيه ما لا يطابق الواقع.
(3) (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي وهو تنزيل من عند ذي الحكمة بتدبير شئون عباده، المحمود على ما أسدى إليهم من النعم التي منها تنزيل هذا الكتاب، بل هي أجلّها.
[سورة فصلت (41): الآيات 43 الى 46]
[عدل]ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)
المعنى الجملي
بعد أن هدد الملحدين في آياته - سلّى رسوله على ما يصيبه من أذى المشركين وطعنهم في كتابه، وحثه على الصبر، وألا يضيق صدره بما حكاه عنهم من نحو قولهم: « وقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. وقولهم: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ » فما قاله أولئك الكفار في شأنه وشأن ما أنزل إليه من القرآن لا يعدو شأن ما قاله أمثالهم من الأمم السابقة، ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي هلا نزل القرآن بلغة العجم - بأنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضا، وقالوا ما لنا ولهذا؟. ثم ذكر أن القرآن هداية وشفاء للمؤمنين، والذين لا يؤمنون به في آذانهم صمم عن سماعه، ثم ذكر أن الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم، فقومك ليسوا ببدع فيها بين الأمم، ثم أبان أن المرء وما عمل، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، ولا يظلم ربك أحدا.
الإيضاح
(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذبون ما جئتهم به من عند ربك إلا مثل ما قالته الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم، فاصبر على ما نالك منهم من أذى كما صبر أولو العزم من الرسل، وقد يكون المعنى - ما يقال لك من التوحيد وإخلاص العبادة لله إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك وإن اختلفت في غير هذا، تبعا للزمان والمكان.
ونحو الآية على المعنى الأول قوله: « كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ».
وعلى المعنى الثاني قوله: « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ».
ثم ذكر علة أمره بالصبر فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي إن ربك لذو مغفرة للتائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم، وذو عقاب مؤلم لمن أصرّ علىكفره ومات على ذلك قبل التوبة.
ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي: هلا نزل القرآن بلغة العجم فقال:
(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) أي ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزل إليك بلغة العجم - لقال قومك من قريش: هلا بينت أدلته وما فيه من حكم وأحكام بلغة العرب حتى نفقهه ونعلم ما هو وما فيه، وكانوا يقولون منكرين: أقرآن أعجمي ولسان المرسل إليهم عربي؟
وخلاصة ذلك - لو نزل بلسان أعجمي لقالوا هلا بينت آياته باللسان الذي نفهمه، ولقالوا: أكلام أعجمي والمرسل إليهم عرب خلّص؟
ثم بين حال القرآن لدى المؤمنين والكافرين فقال:
(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي قل لهم ردّا على قولهم « وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ »: إن هذا القرآن للذين صدقوا بما جاءهم به من عند ربهم - هاد إلى الحق، شاف لما في الصدور من ريبة وشك، ومن ثم جاء بلسانهم معجزا بيّنا في نفسه مبينا لغيره.
ونحو الآية قوله: « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ».
(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي والذين لا يؤمنون بالله ورسوله وبما جاءهم به من عنده في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن فلا يستمعون له بل يعرضون عنه، وهو عليهم عمى فلا يبصرون حججه ومواعظه.
ونحو الآية قوله في وصفه « وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا ».
ثم مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم له بحال من ينادى من مكان بعيد لا يسمع من يناديه فقال:
(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال الفراء تقول العرب للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تنادى من مكان بعيد، ولثاقب الرأي: إنك لتأخذ الأمور من مكان قريب، شبّهت حال هؤلاء المكذبين في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا إليه، بحال من ينادى من مسافة نائية لا يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه.
ثم بين أن هؤلاء المكذبين ليسوا بدعا بين الأمم في تكذيبهم بالقرآن، فقد اختلف من قبلهم في التوراة فقال:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي ولقد أرسلنا موسى وآتيناه التوراة فاختلفوا فيها، فمن مصدّق بها ومن مكذب، وهكذا شأن قومك معك، فمن مصدق بكتابك ومن مكذّب به، فلا تأس على ما فعلوا معك، واسلك سبيل أولى العزم من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين فقد أوذوا فصبروا وكان النصر حليفهم، والتوفيق أليفهم وكتب الله لهم الفلج والفوز على أعدائهم المشركين، وأهلك الله القوم الظالمين.
ثم أخبر سبحانه أنه أخر عذابهم إلى حين ولم يعاجلهم بالعقاب على ما اجترحوا من تكذيب الرسول وجحدهم بكتابه فقال:
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم من تأخير عذابهم إلى يوم القيامة بنحو قوله: « بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ » وقوله: « وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » لعجّل الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه بإهلاك المكذبين كما فعل بمكذبى الأمم السالفة.
ثم بين ما يقتضى إهلاكهم فقال:
(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن قومك لفى شك من أمر القرآن موجب لقلقهم واضطرابهم، فما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم حين قالوا ما قالوا، بل كانوا شاكين غير محققين لشيء مما كانوا فيه من عنادك ومقاومة دعوتك.
ثم بين أن الجزاء من جنس العمل وأنه لا يظلم ربك أحدا فقال:
(مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي من عمل بطاعة الله في هذه الحياة فأتمر بأمره وانتهى عما نهى عنه فلنفسه عمل، لأنه يجازى عليه الجزاء الذي هو له أهل، فينجو من النار ويدخل جنة النعيم.
ومن عصى الله فعلى نفسه جنى، لأنه أكسبها سخطه وأليم عقابه، وقد قالوا في أمثالهم (إنك لا تجنى من الشوك العنب) وما ربك أيها الرسول بحامل عقوبة ذنب على غير مكتسبه، بمعاقب أحدا إلا على جرم اكتسبه.
ونحو الآية قوله: « أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ».
اللهم وفقنا لعمل الصالحات، وأبعدنا عن ارتكاب الآثام والموبقات، وألهمنا التوفيق لما يرضيك، والبعد عما يسخطك.
وقد كان الفراغ من تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم قبيل فجر الليلة السادسة عشرة من ذي الحجة سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة النبي الكريم بمدينة حلوان من أرباض القاهرة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّ ربنا على محمد وآله.
[تتمة سورة فصلت]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة فصلت (41): الآيات 47 الى 48]
[عدل]إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
تفسير المفردات
الساعة: يوم القيامة، الأكمام: واحدها كمّ (بالكسر): وعاء الثمرة وقد يطلق على كل ظرف لمال أو غيره، آذناك: أي أعلمناك يقال آذنه يؤاذنه أي أعلمه كما قال:
آذنتنا بينها أسماء رب ثاو يملّ منه الثّواء
ضل عنهم: أي غاب وزال، ظنوا: أي أيقنوا وعلموا، محيص: أي مهرب يقال حاص يحيص حيصا: إذا هرب.
المعنى الجملي
بعد أن هدد الكافرين بأن جزاء كل عامل سيصل إليه يوم القيامة كاملا غير منقوص، إن خيرا فخير وإن شرا فشر - أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا سبيل للخلق إلى معرفته، فلا يعلمه إلا هو، وأن علم الحوادث المقبلة في أوقاتها المعينة مما استأثر الله به، فلا يعلم أحد متى تخرج الثمر من الأكمام، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع. ثم ذكر أنه سبحانه يوم القيامة ينادى المشركين تهكما وتقريعا لهم: أين شركائى الذين كنتم تزعمون؟ فيجيبون: الآن لا نشهد لأحد منهم بالشركة في الألوهية، وقد غابوا عنهم فلا يرجون منهم نفعا، ولا يفيدونهم خيرا، وأيقنوا حينئذ أن لا مهرب لهم من العذاب.
روي أن المشركين قالوا يا محمد إن كنت نبيا فخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت الآية.
الإيضاح
(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي إذا سئل عنها أحد ردّ علمها إليه تعالى، فإنه لا يعلم متى قيامها سواه، وقد جاء في الحديث « أن جبريل عليه السّلام سأل رسول الله ﷺ عن الساعة فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ».
ونحو الآية قوله تعالى: « إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها » وقوله: « لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ».
وبعد أن ذكر أنه استأثر بعلم الساعة بين أنه اختص أيضا بعلم الغيب ومعرفة ما سيحدث في مستأنف الأزمنة فقال:
(وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي وما تبرز الثمرة من وعائها الذي هي مغلّفة به، وما تحمل أنثى ولا تضع ولدها إلا يعلم من الله، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ونحو الآية قوله: « يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ».
وفي هذا دليل على أن المنجمين لا يمكنهم الجزم بشىء مما يقولون البتة، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد يصيب وربما لا يصيب، وعلم الله هو المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد.
ثم ذكر بعض ما يحدث في هذا اليوم فقال:
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادى سبحانه عباده المشركين على رءوس الأشهاد تهكما بهم واستهزاء بأمرهم - أين شركائى الذين عبدتموهم معى؟ فيجيبون ويقولون: أعلمناك أنه ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكا، ونفى الشهادة يراد به التبرؤ منهم، لأن الكفار يوم القيامة ينكرون عبادة غير الله كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ».
والخلاصة - إن قوله آذناك إخبار بإعلام سابق علمه الله من أحوالهم يوم القيامة، وأنهم لم يبقوا على الشرك، وعلى تلك الشهادة، كأنهم يقولون أنت أعلم به، ثم يأخذون في الجواب.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي وغابت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، فأخذ بها طريق غير طريقهم فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئا من عذاب الله الذي حل بهم.
(وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وأيقنوا حينئذ أنه لا ملجأ لهم من عذاب الله.
[سورة فصلت (41): الآيات 49 الى 51]
[عدل]لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)
تفسير المفردات
لا يسأم: أي لا يملّ، والخير: المال والصحة والعزة والسلطان ونحوهما، والشر: الفقر والمرض ونحوهما، واليأس: انقطاع الرجاء من حصول الخير، والقنوط: (بالفتح) من اتصف بالقنوط (بالضم) وهو ظهور أثر اليأس على الإنسان من المذلة والانكسار، والرحمة هنا: الصحة وسعة العيش، والضراء: المرض وضيق العيش ونحوهما، هذا لي: أي هذا ما استحقه لما لي من الفضل والعمل، والحسنى: الكرامة، والغليظ هنا: الكثير، نأى بجانبه: أي تكبر واختال، وعريض: أي كثير مستمر يقولون أطال في الكلام، وأعرض في الدعاء: إذا أكثر.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه حال الكافرين في الآخرة، وذكر أنهم حينئذ يتبرءون من الشركاء بعد أن كانوا معترفين بهم في الدنيا - أردف ذلك بيان أن الإنسان متبدّل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحسّ بخير وقدرة انتفخت أوداجه وصعّر خديه ومشى الخيلاء، وإن أصابته محنة وبلاء تطامن واستكان ويئس من الفرج، وهذا دليل على شدة حرصه على الجمع، وشدة جزعه من الفقد، إلى ما فيه من طيش يتولد عنه إعجابه واستكباره حين النعمة، وتطامنه حين زوالها، وذلك مما يومىء بشغله بالنعمة عن
المنعم في حالى وجودها وفقدها، أما في حال وجودها فواضح، وأما في حال فقدها فلأن التضرع جزعا إنما كان على الفقد الدالّ على الشغل عن المنعم بالنعمة.
الإيضاح
(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل الإنسان من دعائه ربه ومسألته إياه أن يؤتيه صحة وعافية وسعة في الرزق، فهو مهما أوتى من المال فهو لا يقنع، وقد جاء في الأثر « منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال »
وجاء أيضا « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا ».
(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) أي وإن أصابه بؤس وضيق في المال أو ابتلى بمرض أنهك قواه واضمحلّ به جسمه - يئس من فضل الله ورحمته، وظهر عليه سيمى الذل والانكسار، والخنوع والخضوع.
وخلاصة ذلك - إن الإنسان متبدل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحس بخير بطر وتعظم، وإن شعر ببؤس ذل وخضع، فهو شديد الحرص على الجمع، شديد الجزع على الفقد.
ثم ذكر حال هذا اليئوس القنوط فقال:
(1) (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي ولئن كشفنا ما أصابه من سقم في نفسه أو شدة وجهد في معيشته، فوهبنا له العافية بعد السقم، والغنى بعد الفقر - ليقولن هذا حقى قد وصل إلي، لأني أستوجبه بما حصل لي من ضروب الفضائل وأعمال البر والقرب من الله، لا تفضل منه علي - أو لا يعلم أن هذه الفضائل لو وجدت فإنما هي بفضل الله وإحسانه، وهو لا يستحق على الله شيئا؟
(2) (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي وما أظن الساعة ستقوم، فلا رجعة ولا حساب ولا عقاب على شيء من الآثام التي يقترفها الإنسان في دنياه، ويجترمها مدى حياته الدنيوية.
وما نتج هذا إلا من شدة رغبته في الدنيا، وعظيم نفرته من الآخرة، فهو حين ينظر إلى أحوال الدنيا يقول: إنها لي وأنا جدير بها، لما لي من فضل به استحققتها، وحين ينظر إلى أحوال الآخرة يقول: وما أظن الساعة قائمة.
(3) (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي وإن الغالب على ظنى أن لا رجعة ولا بعث ولا قيامة، ولئن كان البعث حقا فإن لي عنده لكرامة في الآخرة، فإن حالها كحال الدنيا، فما استحققته من النعيم فيها سيكون لي مثله في الآخرة.
وبعد أن حكى عنهم هذه الأقوال ذكر أنه سيظهر لهم أن الأمر بعكس ما يظنون، وبضد ما يعتقدون فقال:
(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي فلنخبرن هؤلاء الكافرين يوم يرجعون إلينا بما عملوا من المعاصي، واجترحوا من الآثام، وما دسّوا به أنفسهم من الخطايا، ثم لنجازينّهم عليها، فيستبين لهم أنهم جديرون بالإهانة والاحتقار لا بالكرامة والإحسان، ولنذيقنهم عذابا غليظا لا يمكنهم الفكاك منه وهو عذاب جهنم التي لا موت فيها ولا يجدون عنها حولا.
وبعد أن حكى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الجهد الجهيد - حكى أفعاله فقال:
(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا نحن أنعمنا عليه فكشفنا عنه المرض ووهبنا له الصحة والعافية ورزقناه سعة العيش - أعرض عما دعوناه إليه من طاعتنا، واستكبر عن الانقياد لأمرنا.
ثم ذكر أنه حين الضراء يكون على عكس هذا فيتضرع ويبتهل إلى ربه فقال:
(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي وإذا أصابته شدة من فقر ومرض ونحوهما أطال الدعاء والتضرع إلى الله، لعله يكشف عنه تلك الغمة، ويزيل عنه برحمته هاتيك الملمّة.
ونحو الآية قوله « وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِدًا أَوْ قائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ » الآية.
[سورة فصلت (41): الآيات 52 الى 54]
[عدل]قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
تفسير المفردات
أرأيتم: أي أخبروني، أضل: أي أكثر ضلالا وبعدا عن الحق، والشقاق: الخلاف، والآفاق: النواحي من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها واحدها أفق (بضمتين وبضم فسكون) وشهيد: أي شاهد على كل ما يفعله خلقه، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ومرية: أي شك، من لقاء ربهم: أي من البعث بعد الممات، محيط: أي عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد سبحانه على الشرك وهدد، وحذر وأنذر، وذكر أن المشركين ينكرون الشرك يوم القيامة ويتبرءون من الشركاء، ويظهرون الذل والخضوع، لاستيلاء الخوف عليهم لما يرون من شديد الأهوال، وأردف هذا ذكر طبيعة الإنسان وأنه
متبدل لا يثبت على حال واحدة، فإن أحس القوة تكبر وتعظم، وإن شعر بالضعف أظهر المسكنة والمذلة - أعقب ذلك بلفت أنظار الطاعنين في ثبوة محمد ﷺ إلى التأمل والتفكر فيما بين أيديهم من الدلائل، ليرعووا عما هم فيه من الغي والضلال، ويقروا بها لتظاهر الأدلة عليها، وعلى أن القرآن منزل من عند الله حقا، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالقرآن الذي جئتهم به من عند ربك: أخبروني أيها القوم إن كان هذا الذي أنتم به تكذبون - من عند ربي ثم كفرتم به، أفلا تكونون مفارقين للحق بعيدين من الصواب؟.
وقد كانوا كلما سمعوا القرآن أعرضوا عنه وبالغوا في النفرة منه، حتى قالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر، فلفت أنظارهم إلى أنه يجب عليهم النظر والتأمل فيه، فإن دل الدليل على صحته قبلوه، وإن أرشد إلى فساده تركوه، أما قبل ذلك فالإصرار على الإعراض والإنكار بعيدان عو الصواب وعما يحكم به العقل.
فما أضلكم وأكثر عنادكم ومشاقتكم للحق واتباعكم للهوى.
وخلاصة ذلك - قل لهم: من أشد ذهابا عن قصد السبيل، وأسلك لغير طريق الصواب، ممن هو في فراق لأمر الله وخلاف له، وبعد عنه؟
وبعد أن ذكر أدلة التوحيد والنبوة أجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال:
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) أي سنرى هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد المحيطة بمكة وبمكة بما أجريناه على يدي نبينا وعلى يدي خلفائه وأصحابه من الفتوح الدالة على قوة الإسلام وأهله، ووهن الباطل وحزبه حتى
يعلموا حقيقة ما أوحينا به إليك وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن وعده صادق وأنه مظهر دينك على الأديان كلها.
والخلاصة - سنيسر لهم من الفتوح ما لم يتيسر لأحد ممن قبلهم، ونظهرهم على الجبابرة والأكاسرة، ونجرى على أيديهم من الأمور الخارجة عن المعهود، الخارقة للعادة، فيستبين لهم أن هذا القرآن هو الحق، ومن ثمّ نصر حامليه، وأظهرهم على أعدائهم في قليل من الزمان.
ثم وبخهم على إنكارهم تحقق هذه الإراءة وحصولها فقال:
(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟) أي كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد بأن محمدا صادق فيما أخبر به عنه كما قال: « لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ » الآية، وقوله: « قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ ».
وقصارى ذلك - ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها سبحانه في هذه السورة وفى كل سور القرآن، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانية الله وتنزيهه عن كل نقص، وإثبات النبوة والبعث.
وبعد أن أقام الأدلة، وأوضح الحجج حتى لم يبق بعدها مقال لمتنعت ولا جاحد - بين سبب عنادهم واستكبارهم فقال:
(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي إنهم في شك من البعث والجزاء، واستبعادهم إحياء الموتى بعد تفرق أجزائهم، وتبدد أعضائهم، ومن ثم لا يلتفتون إلى النظر فيما ينفعهم عند لقائه كالتفكر في صدق نبوة محمد ﷺ وأن القرآن حق لا شك فيه.
ثم دفع مريتهم وشكهم في البعث وإعادة ما تفرق واختلط، مما يتوهم منه عدم إمكان تمييزه فقال:
(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عليم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها لا يفوته شيء منها، فهو يعلم ما تفرق من أجزاء الأجسام، ويقدر على إعادتها إلى مكنتها، ثم بعثها وحسابها، لتستوفى جزاءها على ما قدمت من عمل.
مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
[عدل](1) وصف الكتاب الكريم.
(2) إعراض المشركين عن تدبره.
(3) جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين.
(4) إقامة الأدلة على الوحدانية.
(5) إنذار المشركين بأنه سيحل بهم ما حل بالأمم قبلهم.
(6) شهادة الأعضاء عند الحشر على أربابها.
(7) ما يفعله قرناء السوء من التصليل والصد عن سبيل الله.
(8) ما كان يفعله المشركون حين سماع القرآن.
(9) طلب المشركين إهانة من أضلوهم انتقاما منهم.
(10) ما يلقاه المؤمنون من الكرامة يوم العرض والحساب.
(11) إعادة الأدلة على الوحدانية.
(12) القرآن هداية ورحمة.
(13) إحاطة علم الله وعظيم قدرته.
(14) من طبع الإنسان التكبر عند الرخاء والتضرع وقت الشدة.
(15) آيات الله في الآفاق والأنفس الدالة على وحدانيته وقدرته.
(16) شك المشركين في البعث والنشور ثم الرد عليهم.