تفسير المراغي/سورة المسد
هي مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الفتح.
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر في السورة السابقة أن ثواب المطيع حصول النصر والاستعلاء في الدنيا، والثواب الجزيل في العقبى. وهنا ذكر أن عاقبة العاصي الخسار في الدنيا والعقاب في الآخرة.
أسباب نزول هذه السورة
روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: « خرج النبي ﷺ إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى (يا صباحاه) فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبّحكم أو ممسّيكم أكنتم تصدقونى؟ قالوا نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبّا لك!! وفى رواية: إنه قام ينفض يديه ويقول: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ».
[سورة المسد (111): الآيات 1 الى 5]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
شرح المفردات
التباب: الهلاك والخسران: قال تعالى: « وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ » وأبو لهب: أحد أعمام النبي ﷺ، واسمه عبد العزّى بن عبد المطلب، وتبّ: أي قد تبّ وخسر، يصلى نارا: أي يجد حرها ويذوقه، ولهب النار: ما يسطع منها عند اشتعالها وتوقدها، والجيد: العنق، والمسد: الليف.
الإيضاح
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) هذا دعاء عليه بالخسران والهلاك، ونسب الهلاك إلى اليدين، لأنهما آلة العمل والبطش، فإذا هلكتا وخسرتا كان الشخص كأنه معدوم هالك.
(وَتَبَّ) أي وقد تب وهلك.
والجملة الأولى دعاء عليه بالخسران والهلاك، والجملة الثانية إخبار من الله بأن هذا الدعاء قد حصل، وقد خسر الدنيا والآخرة.
ثم ذكر أن ما كان يعتزّ به في الدنيا من مال وجاه لم يغن عنه من الله شيئا يوم القيامة فقال:
(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي لم يفده حينئذ ماله ولا عمله الذي كان يأتيه في الدنيا من معاداته رسول الله طلبا للعلوّ والظهور فكما أن ذلك لم يجده شيئا في الدنيا، إذ لم يتغلب على الرسول ﷺ، ولم يقطع ما أراد الله أن يوصل لم يفده في الآخرة، بل لحقه البوار والنكال وعذاب النار.
وقد كان أبو لهب شديد العداوة للنبي ﷺ، شديد التحريض عليه شديد الصدّ عنه.
روى أحمد عن ربيعة بن عباد قال: « رأيت النبي ﷺ في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضىء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابىء كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
ومن ذلك تعلم أن أبا لهب كان يصدّ عن الحق، وينفّر عن اتباعه، وذاع عنه تكذيبه للرسول ﷺ وتحدّيه واتباع خطواته لدحض دعوته، والحط من شأن دينه وما جاء به.
(سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ) أي سيذوق حر النار ويعذب بلظاها.
وخلاصة ما سلف - خسر أبو لهب وضل عمله، وبطل سعيه الذي كان يسعاه للصد عن دين الله، ولم يغن عنه ماله الذي كان يتباهى به، ولا جدّه واجتهاده في ذلك، فإن الله أعلى كلمة رسوله، ونشر دعوته، وأذاع ذكره، وأنه سيعذب يوم القيامة بنار ذات شرر ولهيب، وإحراق شديد، أعدها الله لمثله من الكفار المعاندين، فوق تعذيبه في الدنيا بإبطال سعيه، ودحض عمله وستعذب معه امرأته التي كانت تعاونه على كفره وجحده، وكانت عضده في مشاكسة رسول الله ﷺ وإيذائه، وكانت تمشى بالنميمة للإفساد، وإيقاد نار الفتنة والعداوة كما قال:
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي وستعذب أيضا بهذه النار امرأته أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب، جزاء لها على ما كانت تجترحه من السعي بالنميمة إطفاء لدعوة رسوله ﷺ والعرب تقول لمن يسعى في الفتنة ويفسد بين الناس: هو يحمل الحطب بينهم، كأنه بعمله يحرق ما بينهم من صلات.
وقيل إنها كانت تحمل حزم الشوك والحسك والسّعدان، وتنثرها بالليل في طريق رسول الله ﷺ لإيذائه.
وقد زاد سبحانه في تبشيع عملها وتقبيح صورته فقال:
(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال أي أحكم فتله، وقد صوّرها الله بصورة من تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كبعض الحطّابات الممتهنات احتقارا لها، واحتقارا لبعلها، حين اختارت ذلك لنفسها.
وقصارى أمرها - إنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة، للإفساد بين الناس وإيقاد نيران العداوة بينهم، بمنزلة حاملة الحطب التي في عنقها حبل خشن تشدّ به ما تحمله إلى عنقها حين تستقلّ به، وهذه أبشع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب وهي على تلك الحال.
ويرى بعض العلماء أن المراد بيان حالها وهي في نار جهنم، إذ تكون على الصورة التي كانت عليها في الدنيا، حين كانت تحمل الشوك إيذاء لرسول الله ﷺ فهي لا تزال تحمل حزمة من حطب النار، ولا يزال في جيدها حبل من سلاسلها، ليكون جزاؤها من جنس عملها فقد روى عن سعيد بن المسيّب أنه قال: كانت لأم جميل قلادة فاخرة فقالت: لأنفقنّها في عداوة محمد، فأعقبها الله حبلا في جيدها من مسد النار.
نسأل الله الوقاية من النار، والبعد من الصدّ عن دينه وكتابه، إنه هو السميع العليم.