تاريخ طرابلس الغرب (المطبعة السلفية، 1349هـ)/مقدمة الناشر
مُقَدَّمَة النَّاشر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير داع إلى الهدى وهاد الى الحق وعلى من أرشد أمته ونصر ملته
أما بعد فهذه مقدمة أقدمها بين يدي تاريخ ابن غلبون ذكرت فيها شيئا عن طرابلس. قبل الفتح الاسلامي، وملخصا عما تداولتها من دول وما مر عليها من أطوار مختلفة من لدن الفتح الاسلامي الى زمن حكم اسرة القرمنلي
طرابلس – ويقال لها «طَرابُلُس» و «طرابُلْس» و«أَطْرَابُلُس» - مدينة قديمة أزلية كانت تسمى «أوَايات» وهو لفظ يظهر أنه بربري، وحرفه الرومان الي «أوَا» ومعناه بالاغريقية والرومية ثلاث مدن وقد تغير اسمها في زمن لا يمكن تعيينه فصارت طرابلس والثلاث مدن هي «أوا» طرابلس الآن عاصمة القطر، و «سبراتا» و «ليبدس» وسبراتا تسمى الآن: صبرة، وزوَّاغة. وليبدس، تسمى الآن: لبدة. وقد أطلق لفظ طرابلس على كل القطر من حدود مصر شرقا، الى حدود تونس غربا وسماها اليونان «ترابليطة»
وقد كانت من مستعمرات قرطاجنة ومحطا لسفنها من سنة ٨٤٦ ق م أو ٨٤٠ ق م وهو زمن تأسيس قرطاجنة – الى ان استولى الرومان على قرطاجنة سنة ١٤٦٠ م واستولت على جميع أملاك قرطاجنة فأصبحت تابعة للرومان ومحطا لسفنهم أيضا الى سنة ٤٣٥ وفي هذا التاريخ فتح جنسريك ملك الوندال قرطاجنة واستولى على كل مستعمرات الرومان وصارت طرابلس تابعة للوندال الى سنة ٥٣٣م. وفي هذا التاريخ احتل القائد الروماني بيليساريوس قرطاجنٌة واسترد جميع البلاد التي كانت تابعة للوندال وصارت طرابلس تابعة للرومان[١] إلى أن تشرفت افريقية بالفتح الاسلامي
وقد دخل جيش المسلمين افريقية فاتحا في زمن سيدنا عمر بن الخطاب وافتتح قة سنة ٢١ ومنها توجه عقبة بن نافع الى زويلة فاففتحها سنة ٢٢. وتوجه بسر بن ارطاة إلى ودان ففتحها سنة ٢٣. وسار عمرو بن العاص بعد فتح برقة الى طرابلس ففتحها سنة ٢٣ وسار الى مدينة سَبْرَتُ[٢] ففتحها عنوة - وسار الى مدينة نفوسة وهي «شروس»، ففتحها، ولما فتح عمرو بن العاص طرابلس كتب الى سيدنا عُمر يستأذنه في التوغل في افريقية كتابا نصه:
«ان الله قد فتح علينا أطرابلس وليس بينها وبين افريقية الا تسعة أيام فان رأى أمير المؤمنين أن يغزوها ويفتحها الله على يديه فعل»
فكتب اليه سيدنا عُمر:
«لا، أنها ليست بافريقية، ولكنها المفرّقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيتُ» فرجع عمرو بن العاص الى المشرق وكانت أفريقية كلما غادرها الفاتحون إلى المشرق ارتدت عن الاسلام.
وفي خلافة سيدنا عثمان بعث اليها عبد الله بن أبي سرح سنة ٢٦ في جيش يبلغ ١٠ آلاف مقاتل فاوقعوا بجيش الروم في أطرابلس ولم يقدروا على التوغل في افريقية، فاستأذن ابن أبي سرح سيدنا عثمان واستمده فاستشار سيدنا عثمان الصحابة فاذنوا بذلك، فجهز الجيوش من المدينة وفيهم جمع من الصحابة فدخلوا أفريقية وقتلوا جرجير ملك سبيطلة وكان يملك ما بين طرابلس وطنجة.
وكانت طرابلس تابعة لعمال الخلقاء على أفريقية إلى أن تولت افريقية دولة بني الأغلب سنة ١٨٤ فأصبحت تابعة لهم إلى سنة ٢٩٦
وفي أيام حكم الأغالبة انتقض أهالي طرابلس سنة ١٨٩ واستقلوا بأنفسهم إلى سنة ١٩٦ فاستردها أبوالعباس عبد الله بن ابراهيم بن الاغلب ورجعت الى حكم الأغالبة
وفي سنة ٢٦٥ أراد العباس بن أحمد بن طولون أخذ افريقية فنهض اليها من مصر في جيش عظيم فافتك برقة من ابن موهب قائد الاغالبة ثم ملك لبده وقال الابيات التي ذكرناها في صفحة ٩ وتقدم الى طرابلس وكان بها أحمد ابن قهرب عامل الأغالبة وحاصرها ٤٣ يوماً ثم هزم شر هزيمة وعاد الى مصر سنة ٢٦٧
واستمرت طرابلس تابعة للاغالبة بتونس الى أن انقرضت دولتهم سنة ٢٩٦. وفي هذا التاريخ ظهرت دولة العبيديين (الفاطميين) فصارت تابعة لهم الى سنة ٥١٥
ولما انتقل المعز لدين الله من افريقية إلى مصر سنة ٣٩١ استخلف على افريقية يوسف بلكين بن زيري، واستعمل على طرابلس عبد الله بن يخلف الكتامي فطلب يوسف بلكين من المعز سنة ٣٦٧ أن يضم اليه طرابلس فأجابه الى ذلك
ولما اختل نظام الحكومة الصنهاجية في افريقية واجتاحت العرب جيوش ابن باديس و كثر الهرج وتغلبت النصارى على أكثر سواحل افريقية استقل أهل طرابلس بأنفسهم ومنعوا المغارم والجباية عن المهدية، وقام بأمرهم بنو مطروح خير قيام وذلك سنة ٥١٥ وفي سنة ٥٤١ استولى رجار صاحب عقلية (سيسلية)، على طرابلس عنوة وسبى النساء وأخذ الأموال وولى عليها من أهلها رافع ابن مطروح بعد أن اخذ رهائنه. وهذه أول مرة استولى عليها الافرنج بعد الفتح الاسلامي
وفي سنة ٥٥٣[٣] دار أهلها على الافرنج أهل صقلية وأخرجوهم منها واستقل بها رافع بن مطروح الى سنة ٥٥٥ فدخلت تحت دولة الموحدين وبايع رافع بن مطروح عيد المؤمن بن علي وأقره على ولايتها واحتلها قراقش سنة ٥٦٨ وکثرت فيها الفتن وتعاقبت عليها أيدي قراقش وابن غانية
ودخلت طرابلس تحت حكم الحفصيين سنة ٦٠٣. وفي أول أمرهم أغار أبن غانية على طرأبلس فانتصر عليه عبد الواحد الحفصي سنة ٦٠٤ وبقيت تحت حكم الحفصيين الى أن استقل بها يوسف بن طاهر اليربوعي سنة ٦٨٤
وفي سنة ٧٥٠ استقل بها ثابت بن محمد بن ثابت، وفي أيامه سنة ٧٥٥ احتلها الجنويون عنوة[٤] وهذه هي المرة الثانية التي احتل فيها الافرنج طرابلس بعد الفتح الإسلامي، ولم تزل في تقلبات وثورات فلا تخمد فتنة حتى تقوم أخرى إلى سنة ٨٩٣ فاستراحت البلاد واستتب الأمن وارتدى الناس ثوب السلم ونمت الثروة وكثر المال حتى وصلت الى ما ذكره المؤلف في صفحة ٩٢ واستمرت في رخاء الى سنة ٩١٦ فاحتلها الاسبانيون وهذه هي المرة الثالثة التي احتل فيها الافرنج طرابلس بعد الفتح الاسلامي. والاحتلال الرابع هو الاحتلال الايطالي الذي حصل سنة ۱۳۲۹ الموجود الآن.
وفي سنة ٩٢٦ ذهب وفد من أعيان طرابلس ممن أنحازوا خارج السورى الى الاستانة مستغيثين بالسلطان سليمان الأولى لينقذ بلادهم من ظلم الاسبانيين. فأرسل معهم مراد أغا أحد علوجه والياً على بلادهم من قبله فلم يقدر على طرد الاسبانيين من البلد الى أن جاء طرغود باشا فافتكها من الاسبانيين، وبقي واليا بها إلى أن مات شهيداً سنة ٩٧٢ ومن بعده تولى أمر البلد اليكجرية فاختل نظامها واستبدوا بالحكم، ومدوا أيديهم الى ما في أيدي الناس، وفرضوا على الاهالي من الضرائب ما لا قبل لهم به وكثر طغيانهم حتى اضطر كثير من رؤساءالقبائل إلى الثورة عليهم في أزمان متتالية تخلصا من حكمهم الجائر
واستمرت طرابلس في اضطراب مستمر الى ان تولاها سنة ١١٢٣ أحمد باشا القرمنلى - وهو أول وال من اسرة القرمنلى - فاستطاعت هذه الأسرة أن تحدَّ من سلطة الثائرين، وان ترجع إلى البلاد شيئاً من الطمأنينة.
ولقد كان لمدينة طرابلس أيام حكم القرمنلية شأن يذكر في الاعمال البحرية مما اضطر كثير من دول اوربا - وفي مقدمتهم انكلترا - إلى أن تعقد معها معاهدات
قال في «حقائق الاخبار من دول البحار» عند الكلام عن محمد باشا بن احمد باشا القره مانلى:« وزاد في صناعة السفن وأكثر من المحاربات ومخرت سفنه في البحر بقوة وجسارة لم يسبق لها مثيل فاكتسبت طرابلس بذلك شهرة عظيمة حتى أوقعت الرعب في قلوب رجال السفن التجارية الاوروبية، واضطرت الدول للسعي وقتئذ في عقد معاهدات مع طرابلس ودفع نقود سنوية لولاتها لتأمن بذلك على تجارتها. وأول من تقدم من الدول دولة انكلترا فعقدت مع محمد باشا المذكور معاهدة بدون استشارة الدولة العثمانية سنة ١١٦٤ تحتوي على ٢٨ مادة، منها: «وعلى كل سفينة انكليزية ان تظهر ورقة الباسبور عندما تقابل سفن طرابلس» الخ اهـ
وفي سنة ۱۱۷۱ عقدت معاهدة بينها وبين جمهورية البنادقة من موادها ابطال الحرب بين الطرفين ومنع تعدي سفن طرابلس على سفن الجمهورية.
وفي زمن يوسف باشا صادف اسطول طرابلس سفنا لدولة السويد فحاربها وأسر منها سبع سفن، فتوسط «بونابرت» وهو بمصر وخلص الأسرى وترك السفن ليوسف باشا وأعاد لطرابلس المبلغ الذي كان مرتباً لها من حكومة السويد وعقدت معاهدة بين طرابلس وبين الولايات المتحدة سنة ١٢٢٠ [٥] ومعاهدة بينها وبين جمهورية طوسكانة سنة ١٢٣٦ ومعاهدة بينها وبين مملكة نابلى سنة ١٢٤٢ وغيرها من أمم جنوب أوربا وكل هذه المعاهدات لم يتجاوز غنمها جيوب الولاة وخزائنهم اما غرمهما فعلى الامة الطرابلسية
وقد استمر حكم الترك في طرابلس ٤٠٣ سنوات لم ينشئوا فيها من المدارس ما يكفي لحاجة أهلها، ولم ينشئوا فيها سككا حديدية ولا بريداً منظما. وقد كان عهد الترك في طرابلس على طوله لا يمتُّ إلى العلم بصلة ولا إلى العمران بسبب. وقد خرجوا من بلادنا كما دخلوا، وتركونا نحصد ما زرعوا لنا. ولهم عند الله جزاء ما كانوا يصنعون