العقد الفريد/الجزء الخامس/6
قال ابن أبي عتيق: قل لها تفعل وليس عليك إن مت ضمان. فأخذه بيده عبد الله بن جعفر وأدخله منزله ثم أمر الجارية فخرجت وقال لها: هات فغنت: بهواك صيرني العذول نكالا وجد السبيل إلى المقال فقالا ونهيت نومي عن جفوني فانتهى وأمرت ليلي أن يطول فطالا قال: فرمى بنفسه ابن أبي عتيق إلى الأرض وقال: فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمغتر. أبو القاسم جعفر بن محمد قال: لما وصف عبد الله بن جعفر لعبد الملك بن مروان ابن أبي عتيق وحدثه عن إقلاله وكثرة عياله أمره عبد الملك بن مروان أن يبعث به إليه. فأعلمه ابن جعفر بما دار بينه وبين عبد الملك وبعثه إليه. فدخل ابن أبي عتيق على عبد الملك فوجده جالساً بين جاريتين قائمتين عليه يميسان كغصني بانٍ بيد كل جارية مروحة تروح بها عليه مكتوب بالذهب على المروحة الأولى: إنني أجلب الريا ح وبي يلعب الخجل وحجاب إذا الحب يب ثنى الرأس للقبل وغياث إذا الندي م تغنى أو ارتجل وفي المروحة الأخرى: أنا في الكف لطيفة مسكني قصر الخليفة أنا لا أصلح إلا لظريف أو ظريفه أو وصيف حسن القد شبيه بالوصيفه قال ابن أبي عتيق: فلما نظرت إلى الجاريتين هونتا الدنيا علي وأنستاني سوء حالي وقلت: إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم. فكلما كررت بصري فيهما تذكرت الجنة فإذا تذكرت امرأتي وكنت لها محبا تذكرت النار. قال: فبدأ عبد الملك يتوجع إلي بما حكى له ابن جعفر عني ويخبرني بما لي عنده من جميل الرأي. فأكذبت له كل ما حكاه له ابن جعفر عني ووصفت له نفسي بغاية الملاء والجدة. فامتلأ عبد الملك سروراً بما ذكرت له وغما بتكذيب ابن جعفر. فلما عاد إليه ابن جعفر عاتبه عبد الملك على ما حكاه عني وأخبره بما حليت به نفسي. فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين وإنه أحوج أهل الحجاز إلى قليل فضلك فضلاً عن كثيره. ثم خرج عبد الله فلقيني فقال: ما حملك أن كذبتني عند أمير المؤمنين قلت: أفكنت تراني تجلسني بين شمس وقمر ثم أتفاقر عنده! لا والله ما رأيت ذلك لنفسي وإن رأيته لي. فلما أعلم بذلك عبد الله بن جعفر عبد الملك بن مروان قال: فالجاريتان له. قال: فلما صارتا إلي زرت عبد الله بن جعفر فوجدته قد امتلأ فرحاً وهو يشرب وبين يديه عس فيه عسل ممزوج بمسك وكافور. فقال: مهيم. قلت: قد والله قبضت الجاريتين. قال: فاشرب. فتناولت العس فجرعت منه جرعة. فقال لي: زد. فأبيت عليه. فقال لجارية له عنده تغنيه: إن هذا قد حاز اليوم غزالتين من عند أمير المؤمنين فخذي في نعتهما فإنهما كما فلكت صدورهما. فحركت الجارية العود ثم غنت. عهدي بها في الحي قد جردت زهراء مثل القمر الضامر لو أسند ميتاً إلى صدرها قام ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس مما رأوا يا عجباً للميت الناشر قال: فلما سمعت الأبيات طربت ثم تناولت العس فشربت عللاً بعد نهل ورفعت عقيرتي أغني: سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا جبال حنين ما سقوني لغنت قال: وخرج أبو السائب وابن أبي عتيق يوماً يتنزهان في بعض نواحي مكة فنزل أبو السائب ليبول وعليه طويلته فانصرف دونها. فقال له ابن أبي عتيق: ما فعلت طويلتك قال: ذكرت قول كثير: أرى الإزار على لبنى فأحسده إن الإزار على ما ضم محسود فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لسانه. فأخذ ابن أبي عتيق طويلته فرمى بها وقال: أتسبقني أنت إلى بر الشيطان سمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره فقال: اطلبوه. فجاؤوا به. فقال: أعد علي ما تغنيت به. فغنى واحتفل. وكان سليمان أغير الناس فقال لأصحابه: وكأنها والله جرجرة الفحل في الشول. وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت. وأمر به فخصي. وقالوا: إن الفرزدق قدم المدينة على الأحول بن محمد بن عبد الله ابن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح صاحب النبي ﷺ وهو الذي حمت لحمه الدبر فقال الأحوص: ألا أسمعك غناء قال: تغن. فغناه: أتنسى إذ تودعنا سليمى بعود بشامة سقي البشام بنفسي من تجنبه عزيز علي ومن زيارته لمام ومن أمسي وأصبح لا أراه ويطرقني إذا هجع النيام فقال الفرزدق: لمن هذا الشعر قال: لجرير. ثم غناه: إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلاً بعينك ما يزال معيناً غيض من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا فقال: لمن هذا الشعر فقال لجرير ثم غناه: أسرى لخالدة الخيال ولا أرى شيئاً ألذ من الخيال الطارق إن البلية من يمل حديثه فانقع فؤادك من حديث الومق فقال: لمن هذا الشعر فقال: لجرير. فقال: ما أحوجه مع عفافه إلى خنوثة شعري وما أحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره. وقال جرير: والله لولا ما شغلت به من هذه الكلاب لشببت تشبيباً تحن منه العجوز إلى أيام شبابها حنين الجمل إلى عطنه. وقال: الأحوص يوماً لمعبد: امض بنا إلى عقيلة حتى نتحدث إليها ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا فألفيا على بابها معاذاً الأنصاري وابن صياد. فاستأذنوا عليها فأذنت لهم إلا الأحوص فإنها قالت: نحن على الأحوص غضاب. فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها وقال: شنت عقيلة عنك اليوم بالزاد وآثرت حاجة الساري على الغادي قولا لمنزلها حييت من طلل وللعقيق ألا حييت من وادي إذاً وهبت نصيبي من مودتها لمعبد ومعاذ وابن صياد وجعل رجل يترنم في مسجد المدينة ورجل من قريش يسمع فأخذه بعض القومة فقالوا: يا عدو الله أتغني في المسجد الحرام! وذهبوا به إلى صاحب الحكم. وأتبعهم القرشي فقال لصاحب الحكم: أصلحك الله إنما كان يقرأ. فأطلق سبيله. فقال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت في غنائك وأقمت دارات معبد لكنت عليك أشد من الأعوان. والصوت المنسوب إلى دارات معبد قول أعشى بكر: ويروى أن معبداً دخل على قتيبة بن مسلم والي خراسان وقد فتح خمس مدائن فجعل يفخر بها عند جلسائه. فقال له معبد: والله لقد صغت بعدك خمسة أصوات إنها لأكثر من خمس المدائن التي فتحت. والأصوات هي: الأول: ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل والثاني: هريرة ودعها وإن لام لائم غداة غد أم أنت للبين واجم والثالث: ودع لبانة قبل أن ترتحلا واسبل فإن سبيله أن يسبلا والرابع: لعمري لئن شطت بعثمة دارها لقد كدت من وشك الفراق أليح والخامس: تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها أصل الغناء ومعدنه قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج. فأما النصب فغناء الركبان والقينات. وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات. وأما الهزج فالخفيف كله وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم. وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرا فاشياً وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة وهذه القرى مجامع أسواق العرب. وقيل إن أول من صنع العود لامك بن قابيل بن آدم وبكى به على والده. ويقال: إن صانعه بطليموس صاحب كتاب الموسيقى وهو كتاب اللحون الثمانية. وكان أول من غنى في العرب قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما: ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما وإنما غنتا بهذا حين حبس عنهما المطر. وكانت العرب تسمي القينة الكرينة والعود الكران. والمزهر أيضا هو العود وهو البربط وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو علم ابن سريج والدلال ونومة الضحى وكان يكنى أبا عبد النعيم ومن غنائه وهو أول صوت قد براني الشوق حتى كدت من شوقي أذوب أخبار المغنين أولهم: طويس وكان في أيام عثمان رضي الله عنه. حدثنا جعفر بن محمد قال: لما ولي أبان بن عثمان بن عفان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان قعد في بهوٍ له عظيم واصطف له الناس فجاءه طويس المغني وقد خضب يديه غمساً واشتمل على دف له وعليه ملاءة مصقولة فسلم ثم قال: بأبي وأمي يا أبان الحمد لله الذي أرانيك أميراً على المدينة إني نذرت لله فيك نذراً إن رأيتك أن أخضب يدي غمسا وأشتمل على دفي وآتي مجلس إمارتك وأغنيك صوتاً. قال: فقال: يا طويس ليس هذا موضع ذاك. قال: بأبي أنت وأمي يا بن الطيب أبحني. قال: هات يا طويس. فحسر عن ذراعيه وألقى رداءه ومشى بين السماطين وغنى: ما بال أهلك يا رباب خزراً كأنهم غضاب قال: فصفق أبان بيديه ثم قام عن مجلسه فاحتضنه وقبل بين عينيه وقال: يلومونني على طويس! ثم قال له: من أسن أنا وأنت قال: وعيشك لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى وعن ابن الكلبي قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الحج وهو والي المدينة وخرج الناس معه وكان فيمن خرج بكر بن إسماعيل الأنصاري وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فلما انصرفا راجعين مرا بطويس المغني فدعاهما إلى النزول عنده. فقال بكر بن إسماعيل: قد البعير إلى منزلك. فقال له سعيد بن عبد الرحمن: أتنزل على هذا المخنث فقال: إنما هو منزل ساعة ثم نذهب. فاحتمل طويس الكلام على سعيد. فأتيا منزله فإذا هو قد نظفه ونجده فأتاهما بفاكهة الشام فوضعها بين أيديهما فقال له بكر بن إسماعيل: ما بقي منك يا طويس قال: بقي كلي يا أبا عمرو. قال: أفلا تسمعنامن بقاياك قال: نعم. ثم دخل خيمته فأخرج خريطة وأخرج منها دف ثم نقر وغنى: يا خليلي نابني سهدي لم تنم عيني ولم تكد كيف تلحوني على رجل مؤنس تلتذه كبدي مثل ضوء البدر صورته ليس بالزميلة النكد من بني آل المغيرة لا خامل نكس ولا جحد نظرت عيني فلا نظرت بعده عيني إلى أحد ثم ضرب بالدف الأرض والتفت إلى سعيد بن عبد الرحمن فقال: يا أبا عثمان أتدري من قائل هذا الشعر قال: لا. قال: قالته خوله بنت ثابت عمتك في عمارة بن الوليد بن المغيرة ونهض. فقال له بكر: لو لم تقل ما قلته لم يسمعك ما أسمعك. وبلغت القصة عمر بن عبد العزيز فأرسل إليهما فسألهما فأخبراه فقال: واحدة بأخرى والبادي أظلم. الأصمعي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان طويس يتغنى في عرس رجل من الأنصار فدخل النعمان بن بشير العرس وطويس يتغنى: أجد بعمرة غنيانها فتهجر أم شاننا شانها وعمرة من سروات النسا ء تنفح بالمسك أردانها فقيل له: اسكت اسكت - لأن عمرة أم النعمان بن بشير - فقال النعمان: إنه لم يقل بأسا إنما قال: وعمرة من سروات النسا ء تنفح بالمسك أردانها وكان مع طويس بالمدينة ابن سريج والدلال ونومة الضحى ومنه تعلموا. ثم نجم بعد هؤلاء سلم الخاسر وكان في صحبة عبد الله بن جعفر. وعنه أخذ معبد الغناء. ثم كان ابن أبي السمح الطائي وكان يتيماً في حجر عبد الله بن جعفر وأخذ الغناء عن معبد وكان لا يضرب بعود إنما يغني مرتجلاً. فإذا غنى لمعبد صوتاً حققه ويقول: قال الشاعر فلان نام صحبي ولم أنم لخيال بنا ألم إن نام في القصر غادة كحلت مقلتي بدم وكان معبد والغريض بمكة. ولمعبد أكثر الصناعة الثقيلة. ولما قدمت سكينة بنت الحسين عليهما السلام مكة أتاها الغريض ومعبد فغنياها: عوجي علينا ربة الهودج إنك إلا تفعلي تحرجي قالت: والله ما لكما مثل إلا الجدي الحار والبارد ولا يدرى أيهما أطيب. قال إسحاق بن إبراهيم: شهد الغريض ختاناً لبعض أهله فقال له بعض القوم: غن. فقال: هو ابن الزانية إن غنى. قال له مولاه: فأنت والله ابن الزانية فغن. قال: أكذلك أبا عبدل قال: نعم: قال: أنت أعلم. فغنى: وما أنس م الأشياء لا أنس شادناً بمكة مكحولاً أسيلاً مدامعه تشرب لون الرازقي بياضه وبالزعفران خالط المسك رادعه فلوت الجن عنقه فمات. وقال غير إسحاق: بل غنى: أمن مكتومة الطلل يلوح كأنه خلل لقد نزلوا قريباً من ك لو نفعوك إذ نزلوا ثم نجم ابن طنبورة وأصله من اليمن وكان أهزج الناس وأخفهم غناء ومن غنائه: وفتيان على شرف جميعاً دلفت لهم بباطية تدور كأني لم أصد فيهم بباز ولم أطعم بعرصتهم صقوري فلا تشرب بلا لهوٍ فإني رأيت الخيل تشرب بالصفير ويقال إنه حضر مجلساً لرجل من الأشراف إلى أن دخل عليهم صاحب المدينة. فقيل له: غن فغنى: ويلي من الحية ويل ليه قد عشش الحية في بيتيه فضحك صاحب المدينة ووصله. ومنهم: حكم الوادي وكان في صحبة الوليد بن يزيد ويغني بشعره ومن غنائه: خف من دار جيرتي باين داود أنسها قد دنا الصبح أو بدا وهي لم يقض لبسها فمتى تخرج العرو س لقد طال حبسها خرجت بين نسوةٍ أكرم الجنس جنسها وكان بالشام أيام الوليد بن يزيد مغن يقال له الغزيل ويكنى أبا كامل وفيه يقول الوليد بن من مبلغ عني أبا كامل أني إذا ما غاب كالهامل ومن غنائه: أمدح الكأس ومن أعملها واهج قوماً قتلونا بالعطش إنما الكأس ربيع باكر فإذا ما لم نذقها لم نعش وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين منهم إبراهيم الموصلي وابن جامع السهمي ومخارق وطبقة أخرى دونهم منهم: زلزل وعمرو الغزال وعلوية. وكان له زامر يقال له برصوما. وكان إبراهيم أشدهم تصرفاً في الغناء. وابن جامع أحلاهم نغمة. فقال الرشيد يوماً لبرصوما: ما تقول في ابن جامع فقال: يا أمير المؤمنين وما أقول في العسل الذي حيثما ذقته فهو طيب قال: فإبراهيم الموصلي قال: هو بستان فيه جميع الثمار والرياحين. قال: فعمرو الغزال قال: هو حسن الوجه يا أمير المؤمنين. قال إسحاق: قلت ليوسف: من أحسن الناس غناء قال: ابن محرز. قلت: وكيف ذلك قال: إن شئت أجملت وإن شئت فصلت. قلت: أجمل قال: كان يغني كل إنسان بما يشتهي كأنه خلق من قلب كل إنسان. وكان إبراهيم أول من وقع بالقضيب. وحديث يحيى بن محمد قال: بينا نحن على باب الرشيد ننتظر الإذن إذ خرج الآذن فقال لنا: أمير المؤمنين يقرئكم السلام. قال: فانصرفنا. فقال لنا إبراهيم: تصيرون إلى منزلي قال: فانصرفنا معه. قال: فدخلت دارا لم أر أشرف منها ولا أوسع وإذا أنا بأفرشة خز مظهرة بالسنجاب. قال: فقعدنا ثم دعا بقدح كبير فيه نبيذ وقال: اسقني بالكبير إني كبير إنما يشرب الصغير صغير ثم قال: اسقني قهوة بكوب كبير ودع الماء كله للحمير ثم شرب به وأمر به فملئ وقال لنا: إن الخيل لا تشرب إلا بالصفير. ثم أمر بجوارٍ فأحطن بالدار. فما شبهت أصواتهن إلا بأصوات طير من أجمة يتجاوبن. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لما أفضت الخلافة إلى المأمون أقام عشرين شهراً لم يسمع حرفاً من الغناء ثم كان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى. ثم واظب على السماع وسأل عني فجرحني عنده بعض من حسدني فقال: ذلك رجل يتيه على الخلافة. فقال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئاً وأمسك عن ذكري. وجفاني كل من كان يصلني لما ظهر من سوء رأيه. فأضر ذلك بي حتى جاءني يوماً علوية فقال لي: أتأذن لي اليوم في ذكرك فإني اليوم عنده. فقلت: لا ولكن غنه بهذا الشعر فإنه سيبعثه على أن يسألك: من أين هذا فينفتح لك ما تريد ويكون الجواب أسهل عليك من الابتداء. فمضى علوية. فلما استقر به المجلس غناه الشعر الذي أمرته به وهو: يا مشرع الماء قد سدت مسالكه أما إليك سبيلٌ غير مسدود لحائمٍ حار حتى لا حياة به مشرد عن طريق الماء مطرود فلما سمعه المأمون قال: ويلك! لمن هذا قال: يا سيدي لعبد من عبيدك جفوته واطرحته قال: إسحاق قلت: نعم. قال: ليحضر الساعة. قال إسحاق: فجاءني الرسول فسرت إليه. فلما دخلت قال: ادن فدنوت. فرفع يديه مادهما فاتكأت عليه فاحتضنني بيديه وأظهر من إكرامي وبري ما لو أظهره صديقٌ لي مواس لسرني. قال: وحدثني يوسف بن عمر المدني قال: حدثني الحارث بن عبيد الله قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: حضرت مسامرة الرشيد ليلةً عبثراً المغنى وكان فصيحاً متأدباً وكان مع ذلك يغني الشعر بصوت حسن. فتذاكروا رقة شعر المدنيين فأنشد بعض جلسائه أبياتاً لابن الدمينة حيث يقول: وأذكر أيام الحمى ثم أنثني على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا فأعجب الرشيد برقة الأبيات. فقال له عبثر: يا أمير المؤمنين إن هذا الشعر مدني رقيق قد غذي بماء العقيق حتى رق وصفا فصار أصفى من الهوا ولكن إن شاء أمير المؤمنين أنشدته ما هو أرق من هذا وأحلى وأصلب وأقوى لرجل من أهل البادية. قال: فإني أشاء. قال: وأترنم به يا أمير المؤمنين قال: وذلك لك. فغنى لجرير: إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك لا يزال معينا غيضن من عبراتهم وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا روحوا العشية روحة ًمذكورة إن حرن حرنا أو هدينا هدينا فرموا بهن سواهماً عرض الفلا إن متن متنا أو حيين حيينا قال: صدقت يا عبثر وخلع عليه وأجازه. وكان لإبراهيم الموصلي عبدٌ أسود يقال له زرياب وكان مطبوعا على الغناء علمه إبراهيم فدخل على زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب فغناه بأبيات عنترة الفوارس حيث يقول: فإن تك أمي غرابيةً من أبناء حامٍ بها عبتني فإني لطيفٌ ببيض الظبا وسمر العوالي إذا جئتني فغضب زيادة الله فأمر بصفع قفاه وإخراجه وقال له: إن وجدتك في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك. فجاز البحر إلى الأندلس فكان عند الأمير عبد الرحمن بن الحكم. وكان في المدينة في الصدر الأول مغن يقال له: قند وهو مولى سعد بن أبي وقاص. وكانت أم المؤمنين رضي الله عنها تستظرفه فضربه سعد فحلفت عائشة لا تكلمه حتى يرضى عنه قند فدخل عليه سعد وهو وجع من ضربه فاسترضاه فرضي عنه وكلمته عائشة. وكان معاوية يعقب بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص على المدينة يستعمل هذا سنةً وهذا سنة وكانت في مروان شدة وغلظة وفي سعد لين عريكة وحلم وصفح. فلقي مروان بن الحكم قنداً المغنى وهو معزول عن المدينة وبيده عكازة فلما رآه قال: قل لقند يشيع الأظعانا ربما سر عيننا وكفانا قال له قند: لا إله إلا الله ما أسمجك والياً ومعزولاً. وروى ابن الكلي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه وأضيقهم خلقاً إذا قيل له عن يقول: أو لمثلي يقال هذا علي عتق رقبة إت غنيت يومي هذا. فإن غنى وقيل له: أحسنت. قال: لمثلي يقال أحسنت علي عتق رقبة إن غنيت سائر يومي هذا. فلما كان في بعض الأيان سال وادي العقيق فجاء بالعجب فلم يبق بالمدينة مخبأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني وهو معتجر بفضل ردائه فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وكان فيمن خرج إلى العقيق وبين يديه أسودان كأنهما ساريتان يمشيان بين يديه أمام دابته فقال لهما: أنتما حران لوجه الله. إن تفعلا ما آمركما به وإلا أقطعكما إربا إرباً اذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه فخذا بضبعيه فإن فعل ما آمره به وإلا فاقذفا به في العقيق. قال: فمضيا والحسن يقفوهما. فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بضبعيه. فقال: من هذا فقال له الحسن: أنا هذا يا بن عائشة. قال: لبيك وسعديك وبأبي أنت وأمي. قال: اسمع مني ما أقول واعلم أنك مأسور في أيديهما هما حران أن لم تغن مائة صوت أن يطرحاك في العقيق ولئن لم يفعلا ذلك لأقطعن أيديهما. فصاح ابن عائشة: يا ويلاه! واعظيم مصيبتاه! قال: دع من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي وأقبل يغني. فترك الناس العقيق وأقبلوا عليه. فلما تمت أصواته مائة كبر الناس بلسان واحد تكبيرة واحدة ارتجت لها أقطار المدينة وقالوا للحسن: صلى الله على روحك حيا وميتاً فما اجتمع لأهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت. فقال له الحسن: إنما فعلت هذا بك يا بن عائشة لأخلاقك الشكسة. قال له ابن عائشة: والله ما مرت علي مصيبة أعظم منها. لقد بلغت أطراف أعضائي. فكان بعد ذلك إذا قيل له: وكان إبراهيم بن المهدي وهو الذي يقال به ابن شكلة داهياً عاقلاً عالماً بأيام الناس شاعراً مفلقاً وكان يصوغ فيجيد. ويروى عن إبراهيم أنه قد كان خالف على المأمون ودعا إلى نفسه فظفر به المأمون فعفا عنه وقال لما ظفر به المأمون: ذهبت من الدنيا كما ذهبت مني هوى الدهر بي عنها وأهوى بها عني فإن أبك نفسي أبك نفساً عزيزةً وإن أحتسبها أحتسبها على ضن فلما فتحت له أبواب الرضا من المأمون غنى بهما بين يديه. فقال له المأمون: أحسنت والله يا أمير المؤمنين. فقام إبراهيم رهبةً من ذلك وقال: قتلتني والله يا أمير المؤمنين لا والله لا أجلس حتى تسميني باسمي. قال: اجلس بإبراهيم. فكان بعد ذلك آثر الناس عند المأمون ينادمه ويسامره ويغنيه فحدثه يوما فقال: بينا أنا مع أبيك يوماً يا أمير المؤمنين بطريق مكة إذ تخلفت عن الرفقة وانفردت وحدي وعطشت وجعلت أطلب الرفقة فأتيت إلى بئر فإذا حبشي نائم عندها فقلت له: يا نائم قم فاسقني. فقال: إن كنت عطشان فانزل واستق لنفسك. فخطر صوتٌ ببالي فترنمت به وهو: كفناني إن مت في درع أروى واسقياني من بئر عروة مائي فلما سمعني قام نشيطاً مسروراً وقال: والله هذه بئر عروة وهذا قبره. فعجبت يا أمير المؤمنين لما خطر ببالي في ذلك الموضع. ثم قال: أسقيك على أن تغنيني قلت: نعم. فلم أزل أغنيه وهو يجبذ الحبل حتى سقاني وأروى دابتي ثم قال: أدلك على موضع العسكر على أن تغنيني قلت: نم. فلم يزل يعدو بين يدي وأنا أغنيه حتى أشرفنا على العسكر فانصرف. وأتيت الرشيد فحدثته بذلك فضحك. ثم رجعنا من حجنا فإذا هو قد تلقاني وأنا عديل الرشيد فلما رآني قال: مغن والله! قيل له: أتقول هذا لأخي أمير المؤمنين قال: إي لعمر الله لقد غناني وأهدى إلي أقطاً وتمراً. فأمرت له بصلة وكسوة وأمر له الرشيد بكسوة أيضاً. فضحك المأمون وقال: غنني الصوت فغنيته فافتتن به. فكان لا يقترح علي غيره. وكان مخارق وعلوية قد حرفا القديم كله وصيرا فيه نغماً فارسية فإذا أتاهما الحجازي بالغناء الأول الثقيل قالا: يحتاج غناؤك إلى قصار. واسم علوية علي بن عبد الله بن سيف بن يوسف مولى لبني أمية. وكان زلزل أضرب الناس بوتر لم يكن قبله ولا بعده مثله. ولم يكن يغني وإنما كان يضرب على إبراهيم وابن جامع وبرصوما. ومن غنائه في المأمون: رأى الله عبد الله خير عباده فملكه والله أعلم بالعبد حدث سعيد بن محمد العجلي عن الأصمعي قال: كان أبو الطمحان القيني حنظلة بن الشرقي شاعراً مجيداً وكان مع ذلك فاسقاً وكان قد انتجع يزيد بن عبد الملك فطلب الإذن عليه أياماً فلم يصل فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من شعري تغني بهما أمير المؤمنين فإن سألك من قائلهما فأخبره أني بالباب وما رزقني الله منه فهو بيني وبينك. قال: هات. فأعطاه هذين البيتين: يكاد الغمام الغر يرعد إن رأى محيا ابن مروان وينهل بارقه يظل فتيت المسك في رونق الضحى تسيل به أصداغه ومفارقه قال: فغني بهما في وقت أريحية فطرب لهما طرباً شديداً وقال: لله در قائلهما من هو قال: أبو الطمحان القيني وهو بالباب يا أمير المؤمنين.