العقد الفريد/الجزء الخامس/20
وكل ما قلي منه قل نفخه. وكل ما خلط به الأبزار المحللة للرياح كالكمون والذاب والأنيسون والكاشم يقل نفخه. والخل الممزوج بالعسل يلطف الرياح ويذهب بالنفخ. كتاب إسحاق بن عمران إلى بعض إخوانه كتب إسحاق بن عمران المعروف بسم ساعة إلى رجل من إخوانه: اعلم رحمك الله أن الخام والبلغم يظهران على الدم والمرة بعد الأربعين سنة فيأكلانهما وهما عدوا الجسد وهادماه. ولا ينبغي لمن خلف الأربعين سنة أن يحرك طبيعة من طبائعه غير الخام والبلغم ويقوي الدم جاهداً غير أنه ينبغي له في كل سبع سنين أن يفجر من دمه شيئاً ومن المرة مثل ذلك لقلة صبره على الطعام اللذيذ والمشروب الروي. فتعاهد أصلحك الله ذلك من نفسك واعلم أن الصحة خير من المال والأهل والولد ولا شيء بعد تقوى الله سبحانه وتعالى خير من العافية. وما تأخذ به نفسك وتحفظ به صحتك أن تلزم ما أكتب به إليك: في شهر يناير تشرب شراباً شديدياً كل غداة. وفي شهر فبرير لا تأكل السلق. وفي مارس لا تأكل الحلواء كلها وتشرب الأفسنتين في الحلاوة. وفي أبريل لا تأكل شيئاً من الأصول التي تنبت في الأرض ولا الفجل. وفي مايه لا تأكل رأس شيء من الحيوان. وفي يونيه تشرب الماء البارد بعد ما تطبخه وتبرده على الريق. وفي يوليه تجنب الوطء. وفي أغشت لا تأكل الحيتان. وفي سبتمبر تشرب اللبن البقري. وفي أكتوبر لا تأكل الكراث نيئاً ولا مطبوخاً. وفي نبنبر لا تدخل الحمام. وفي دجنبر لا تأكل الأرنب. زعم علماء الطب أن الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلاً: فللدم منها ستة أرطال وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال فإن غلب الدم الطبائع تغير منه الوجه وورم وخرج ذلك إلى الجذام وإن غلبت الثلاث الطبائع الدم أنبتت المد. قال: فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها بعضاً فليعدل جسده بالاقتصاد وينقه بالمشي فإنه إن لم يفعل اعتراه ما وصفنا: إما جذام وإما مد. نسأل الله العافية. ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان إلا أيام السموم إلا أن ينزل فيها مرض شديد لا بد من مداواته أو يظهر فيها موم أو ذات الجنب فإنه ينبغي للطبيب أن يعانيه بفصاد أو شيء خفيف فإنها أيام ثقيلة. وهي خمسة عشر يوماً من تموز إلى النصف من آب فذلك ثلاثون يوماً لا يصلح فيها علاج وكان بقراطيس يجعلها تسعة وأربعين يوماً ويقطع الغرر والخطر في أيام القيظ فإذا مضى لأيلول ثلاثة أيام طاب التداوي كله. وأمر جالينوس في الربيع بالحجامة والنورة وأكل الحلاوة وشربها ونهى عن القطاني واللبن الرائب وعتيق الجبن والمالح والفاكهة اليابسة إلا ما كان مسلوقاً. وفي القيظ وهو زمان المرة الصفراء بأكل البارد الرطب على قدر قوة الرجل في طبعه وسنه وترك الجماع وأكل الحوت الطري والفاكهة الرطبة والبقول ولحم البقر والمعز ومن القطاني العدس ومن الأشربة المربب بالورد والسكركة من الشعير والسكر بالماء المطبوخ وأكل الكزبرة الخضراء في الأطعمة وأكل الخيار والبطيخ ولزوم دهن الورد وماء الورد ورش الماء وبسط البيت بورق الشجر ومن الدواء السكر بالمصطكى يسحقهما مثلاً بمثل ويأخذ منهما على الريق قدر الدرهم أو أكثر قليلاً. وفي زمان الخريف وهو زمان السوداء وهو أثقل الأزمنة على أهل تلك الطبيعة من الطعام والشراب بالحار الرطب مثل الأحساء بالحلاوة وأكل العسل وشربه. ونهي فيه عن الجماع وأكل لحم المعز والبقر وأمر بأكل صيود البر والبحر وحسو البيض والدهن قبل الحمام وإيتان النساء على غير شبع في آخر الليل وفي أول النهار والتماس الولد على الريق من الرجل والمرأة فإن أولاد ذلك الزمان أسد وأقوى تركيباً من غيرهم كما قالت الحكماء. الخمر المحرمة في الكتاب أجمع الناس على أن الخمر المحرمة في الكتاب خمر العنب وهي ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب من غير أن تمسه نار. ولا تزال خمراً حتى تصير خلاً وذلك إذا غلبت عليها الحموضة وفارقتها النشوة لأن الخمر ليست محرمة العين كما حرمت عين الخنزير وإنما حرمت لعرض دخلها فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالاً كما كانت قبل الغليان حلالاً وعينها في كل ذلك واحدة وإنما انتقلت أعراضها من حلاوةٍ إلى مرارة ومن مرارة إلى حموضة كما ينتقل طعم الثمرة إذا أينعت من حموضة إلى حلاوة والعين قائمة وكما ينتقل طعم الماء بطول المكث فيتغير طعمه وريحه والعين قائمة. ونظير الخمر فيما يحل ويحرم بعرض: المسك الذي هو دم عبيط حرام ثم يجف وتوجد رائحته فيصير حلالاً طيباً. فهذه الخمر بعينها المجمع على تحريمها. وأصحاب النبيذ إنما يدورون حولها ويتعللون بأنهم يشربون ما دون المسكر ولا لذة لهم دون مواقعة السكر كما قال الشاعر: يدورون حول الشيخ يلتمسونه بأشربةٍ شتى هي الخمر تطلب وكقول القائل: إياك أعني فاسمعي يا جاره قيل للأحنف بن قيس: أي الشراب أطيب فقال: الخمر. قيل له: وكيف علمت ذلك وأنت لم وقال ابن شبرمة: ونبيذ الزبيب ما اشتد منه فهو للخمر والطلاء نسيب وقال عبد الله بن القعقاع: أتانا بها صفراء يزعم أنها زبيب فصدقناه وهو كذوب فهل هي إلا ساعة غاب نحسها أصلي لربي بعدها وأتوب وقال ابن شبرمة: أتانا الفرزدق فقال: اسقوني. فقلنا: وما تريد أن نسقيك قال: " أقربه إلى الثمانين " ويعني حد الخمر. وقال قيصر لقس بن ساعدة: أي الأشربة أفضل عاقبة في البدن قال: " ما صفا في العين واشتد على اللسان وطابت رائحته في الأنف من شراب الكرم ". قيل له: فما تقول في مطبوخه فقال: " مرعى ولا كالسعدان! ". قيل له: فما تقول في نبيذ الزبيب قال: ميت أحيى فيه بعض المتعة ولا يكاد يحيا من مات مرة. قيل له: فما تقول في العسل قال: نعم شراب الشيخي ذي الإبردة والمعدة الفاسدة. علي بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بابن شراعة من الكوفة فوالله ما سأله عن نفسه ولا سفره حتى قال له: يا ابن شراعة إني والله ما بعثت فيك لأسألك عن كتاب الله ولا سنة رسول. قال: والله لو سألتني عنهما لأصبتني فيهما حماراً. قال: فإنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة. قال: فأنا دهقانها الخبير وطبيبها العليم. قال: فأخبرني عن الطعام قال: ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم غير أن أنفعه أدسمه وأشهاه أمرؤه قال: فما تقول في الشراب قال: ليسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: فما تقول في الماء قال: لا بد لي منه والحمار شريكي فيه. قال: فما تقول في السويق قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فما تقول في اللبن قال: ما رأيته قط إلا استحييت من أمي من طول ما أرضعتني به. قال: فنبيذ التمر قال: سريع الامتلاء سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب قال: حاموا به على الشراب. قال: فما تقول في الخمر قال: أوه تلك صديقة روحي. قال: وأنت والله صديق روحي. قال: وأي المجالس أحسن قال: ما شرب الناس على وجه قط أحسن من النساء. قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد وهو في الفرش منغمس كما ولدته أمه فقال لي: يا أصمعي من أين طرقت اليوم قال: قلت احتجمت. قال: وأي شيء أكلت عليها قلت: سكباجة وطباهجة. قال: رميتها بحجرها. قال: هل تشرب قلت: نعم يا أمير المؤمنين: اسقني حتى تراني مائلاً وترى عمران ديني قد خرب آفات الخمر وجناياتها أول ذلك أنها تذهب العقل - وأفضل ما في الإنسان عقله - وتحسن القبيح وتقبح الحسن. قال أبو نواس: اسقني حتى تراني حسنٌ عندي القبيح وقال أيضاً: اسقني صرفاً حمياً تترك الشيخ صبيا وتريه الغي رشداً وتريه الرشد غيا وقال أيضاً: عتقت في الدن حولاً فهي في رقة ديني وقال الناطق بالحق: تركت النبيذ وشرابه وصرت خدينا لمن عابه شراب يضل سبيل الرشاد ويفتح للشر أبوابه وإنما قيل لمشارب الرجل " نديم " من الندامة لأن معاقر الكأس إذا سكر تكلم بما يندم عليه وفعل ما يندم عليه فقيل لمن شاربه نادمه لأنه فعل مثل ما فعله فهو نديم له كما يقال جالسه فهو جليس له. والمعاقر: المدمن كأنه لزم عقر الشيء أي فناءه. وقال أبو الأسود الدؤلي: دع الخمر يشربها الغواة فإنني رأيت أخاها مغنياً بمكانها فإلا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها وقد شهر أصحاب الشراب بسوء العهد وقلة الحفاظ وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر وما عوفيت حتى تنكب وما غلت ذنانك حتى تنزف وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك. قال الشاعر: أرى كل قومٍ يحفظون حريمهم وليس لأصحاب النبيذ حريم إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا وإن غبت عنهم ساعة فذميم إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم وكلهم رث الوصال سئوم فهذا ثنائي لم أقل بجهالة ولكنني بالفاسقين عليم وقال قصي بن كلاب لبنيه: اجتنبوا الخمر فإنها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان. وقيل لعدي بن حاتم: مالك لا تشرب الخمر قال: لا أشرب ما يشرب عقلي. وقيل لأعرابي: مالك لا تشرب النبيذ قال: لا أشرب ما يشرب عقلي. وقال يزيد بن الوليد: النشوة تحل الحبوة. وقيل لعثمانبن عفان رضي الله عنه: ما منعك من شرب الخمر في الجاهلية ولا حرج عليك فيها قال: إني رأيتها تذهب العقل جملة وما رأيت شيئاً يذهب جملةً ويعود جملة. وقال أيضاً: ما تغنيت ولا تفتيت ولا شربت خمراً ولا مسست فرجي بيدي بعد أن خططت بها المفصل. وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح: هل لك فيما يثمر المحادثة ثريد المنادمة قال: أصلح الله الأمير الشعر مفلفل واللون مرمد ولم أقعد إليك بكرم عنصر ولا بحسن منظر وإنما هو عقلي ولساني فإن رأيت ألا تفرق بينهما فافعل. وربما أذهبت الكأس البيان وغيرت الخلقة فيعظم أنف الرجل ويحمر ويترهل. وقال جرير في الأخطل: وشربت بعد أبي ظهير وابنه سكر الدنان كأن أنفك دمل شبه أنفه بالدمل في ورمه وحمرته. وقال آخر في حماد الراوية: هدلت مشافره الدنان فأنفه مثل القدوم يسنها الحداد وأبيض من شرب المدامة وجهه فبياضه يوم الحساب سواد ودخل أمية بن عبد الله بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه أثر فقال: ما هذا فقال: قمت بالليل فأصاب الباب وجهي. فقال عبد الملك: رأتني صريع الخمر يوماً فسؤتها وللشاربيها المدمنيها مصارع فقلت: لا واخذك الله يا أمير المؤمنين بسوء ظنك. فقال: بل واخذك الله بسوء مصرعك. وقال حسان بن ثابت. تقول شعثاء لو صحوت عن ال كأس لأصبحت مثري العدد أنسى حديث الندمان في فلق ال صبح وصوت المسامر الغرد لا أخدش الخدش بالجليس ولا يخشى نديمي إذا انتشيت يدي يأبى لي السيف واللسان وقو م لم يساموا كلبدة الأسد وقال ابن الموصلي: سلام على سير القلاص مع الركب ووصل الغواني والمدامة والشرب سلام أمئ لم تبق منه بقية سوى نظر العينين أو شهوة القلب ليالي أمشي بين بردي لاهباً أميس كغصن البانة الناعم الرطب ويروى أن الحسن بن زيد لما ولي المدينة قال لإبراهيم بن هرمة: لا تحسبني كمن باع لك دينه رجاء مدحك وخوف ذمك فقد رزقني الله بولادة نبيه الممادح وجنبني المقابح وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حقه وإني أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدين: حد الخمر وحد السكر ولأزيدنك لموضع حرمتك فليكن تركك لها لله تعن عليه ولا تدعها للناس فتوكل إليهم. فنهض ابن هرمة وهو يقول: نهاني ابن الرسول عن المدام وأدبني بآداب الكرام وقال لي اصطبر عنها ودعها لخوف الله لا خوف الأنام وكيف تصبرني عنها وحبي لها حب تمكن في العظام أرى طيب الحلال علي خبثاً وطيب النفس في خبث الحرام وذكروا أن حارثة بن بدر الغداني كان فارس بني تميم وشريفها وكان قد غلب على زياد وكان الشراب قد غلب عليه فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك وهو رجل مستهتر بالشراب. فقال لهم: كيف باطراح رجلٍ ما راكبني قط فمست ركبتي ركبته ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه ولا تأخر عني فلويت إليه عنقي ولا سألته عن شيء قط إلا وجدت علمه عنده. فلما مات زياد جفاه ولده عبيد الله بن زياد فقال له حارثة: أيها الأمير: ما هذا الجفاء مع معرفتك بحالي عند أبي المغيرة فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد برع بروعاً لم يلحقه معه عيب وأنا حدث وإنما أنسب إلى من تغلب علي وأنت رجل نديم الشراب فدع النبيذ وكن أول داخلٍ وآخر خارج. فقال حارثة: أنا لا أدعه لله أفادعه لك قال: فاختر من عملي ما شئت! قال: ولني رامهرمز فإنها عذبة وسرق فإن بها شراباً وصف لي عنه فولاه إياها فلما خرج شيعه الناس. وكتب إليه أنس بن أبي أنيس: أحار بن بدر قد وليت ولايةً فكن جرذاً فيها تخون وتسرق ولا تحقرن يا حار شيئاً تخونه فحظك من ملك العراقين سرق وبادر تميماً بالغنى إن للغنى لساناً به المرء الهيوبة ينطق فإن جميع الناس إما مكذب يقول بما تهوي وإما مصدق يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ولو قيل يوماً حققوا لم يحققوا فوقع حارثة في أسفل كتابه " لا بعد عنك الرشد ". ولما خرجت الأزارقة على أهل البصرة لاقاهم حارثة بن بدر وتولى حربهم في أصحابه في فرسانٍ من بني يربوع حتى أصيب في تلك الحروب. وقال فيه الشاعر: إذا قيل من حامي الحقيقة أو مأت إليه معد بالأكف وقحطان وقال الشاعر: شربنا من الداذي حتى كأننا ملوك لهم في كل ناحية وفر فلما علت شمس النهار رأيتنا تخلى الغنى عنا وعاودنا الفقر وكان أبو الهندي من ولد شبث بن ربعي الرياحي من بني يربوع وكان قد غلب عليه الشراب على كريم منصبه حتى كاد يبطله وكان قد ضاف إلى راعٍ يسمى سالماً فسقاه قدحاً من لبن فكرهه وقال: سيغني أبا الهندي عن وطب سالم أباريق كالغزلان بيض نحورها مفدمة قزاً كأن رقابها رقاب كراكٍ أفزعتها صقورها فما ذر قرن الشمس حتى كأنما أرى قريةً حولي تزلزل دورها ولقيه نصر بن سيار والي خراسان وهو يميد سكراً فقال له: أفسدت مروءتك وشرفك. قال: لو لم أفسد مروءتي لم تكن أنت والي خراسان. ومرض أبو الهندي فلما وجد فقد الشراب جعل يبكي ويقول: رضيع المدام فارق الراح روحه فظل عليها مستهل المدامع وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني وكان أبو الوليد ناسكاً فاستعدى عليه وعلى ابنه فهرب معه وقال فيه أبو الهندي: قل للسري أبي قيس أتوعدنا ودارنا أصبحت من داركم صددا أبا الوليد أما والله لو علمت فيك الشمول لما حرمتها أبدا ولا نسيت حمياها ولذتها ولا عدلت بها مالاً ولا ولدا وشرب أبو الهندي في غرفة مع نديمٍ له فاطلع منها فإذا بميت يزف به على شرجع فالتفت إلى صاحبه فقال: اصبب على قلبك من بردها إني أرى الناس يموتونا فكان هذا القول منه " دليلاً " على " عدم " اتعاظه بالموت. وكان أبو الهندي عجيب الجواب وجلس إليه رجل كان صلب أبوه في جناية فجعل يعرض له بالشراب فقال أبو الهندي: أحدهم يبصر القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع المعترض في أست أبيه! وقال عبد الرحمن بن أم الحكم: وكأس ترى بين الإناء وبينها قذى العين قد نازعت أم أبان فما ظن ذا الواشي بأروع ماجد وعذراء خود حين يلتقيان دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن أخاها ولم أرضع لها بلبان دعتني أخاها بعد ما كان بيننا من الأمر ما لا يفعل الأخوان وقال: لا هنيئاً بما شربت مريئاً ثم قم صاغراً وغير كريم لا أحب النديم يومض بالعي ن إذا ما انتشى لعرس النديم وقال أبو العباس المبرد: ودخل عمرو بن مسعدة على المأمون وبين يديه جام زجاج فيه سكر طبرزذ وملح جريش قال: فسلمت عليه فرد وعرض علي الأكل فقلت: ما أريد شيئاً. هنأك الله يا أمير المؤمنين فلقد باكرت الغداء. قال: بت جائعاً! ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول: اعرض طعامك وابذله لمن دخلا واعزم على من أبى واشكر لمن أكلا ولا تكن سابري العرض محتشماً من القليل فلست الدهر محتفلا ودعا برطل ودخل شيخ من جلة الفقهاء فمد يده إليه فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئاً فلا تسقينها شيخاً. فرد يده إلى عمرو بن مسعدة فأخذها منه وقال: يا أمير المؤمنين فإني عاهدت الله في الكعبة ألا أشربها أيضاً. ففكر طويلاً والكأس في يد عمرو بن مسعدة فقال: ردا علي الكأس إنكما لا تعلمان الكأس ما تجدي لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت إلا بدمعكما من الوجد خوفتماني الله ربكما وكخيفتيه رجاؤه عندي إن كنتما لا تشربان معي خوف العقاب شربتها وحدي شرب المأمون ويحيى بن أكثم القاضي وعبد الله بن طاهر فتغامز المأمون وعبد الله على سكر يحيى فغمز يد الساقي فأسكره وكان بين أيديهم رزم من ورد ورياحين فأمر المأمون فشق له لحد في الورد والرياحين وصيروه فيه وعمل بيتي شعر ودعا قينة فجلست عند رأسه وحركت العود وغنت: دعوته وهو حي لا حراك به مكفنٌ في ثياب من رياحين فقلت قم قال رجلي لا تطاوعني فقلت خذ قال كفي لا تواتيني فانتبه يحيى لرنة العود وقال مجيباً لها: يا سيدي وأمير الناس كلهم قد جار في حكمه من كان يسقيني لا أستطيع نهوضاً قد وهى جسدي ولا أجيب المنادي حين يدعوني فاختر لبغداد قاضٍ إنني رجلٌ الراح تقتلني والعود يحييني حدثنا أبو جعفر البغدادي قال: كان بالجزيرة رجل يبيع نبيذاً في ماخورٍ له وكان بيته من قصب وكان يأتيه قوم يشربون عنده فإذا عمل فيهم الشراب قال بعضهم لبعض: أما ترون بيت هذا النباذ من قصب فيقول بعضهم: علي الآجر ويقول الآخر: علي الجص ويقول الآخر: علي أجرة العامل. فإذا أصبحوا لم يعملوا شيئاً فلما طال ذلك على النباذ قال فيهم: لنا بيت يهدم كل يوم ويصبح حين يصبح جذم خص إذا ما دارت الأقداح قالوا غداً نبني بآجر وجص وكيف يشيد البنيان قومٌ يمرون الشتاء بغير قمص ودخل حارثة بن بدر على زياد وبوجهه أثر فقال: ما هذا قال: ركبت فرسي الأشقر فصرعني. قال: أما إنك لو ركبت الأشهب ما صرعك. أراد حارثة بالأشقر النبيذ وأراد زياد بالأشهب اللبن. وكان قيس بن عاصم يأتيه في الجاهلية تاجر خمر فيبتاع منه ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفذ ما عنده. فشرب قيس ذات يوم فسكر سكراً قبيحاً فجذب ابنته وتناول قرنها ورأى من تاجر فاجر جاء الإله به كأن لحيته أذناب أجمال جاء الخبيث ببيسانيةٍ تركت صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال فلما صحا أخبر بما صنع وما قال فآلى ألا يذوق خمراً أبداً. - وربما بلغت جناية الكأس إلى عقب الرجل ونجله. قال المأمون: " يا نطف الخمار ونزائع الظؤور وأشباه الخؤولة ". وقال الشاعر: لما رأيت الحظ حظ الجاهل ولم أر المغبون غير العاقل رحلت عنساً من كروم بابل فبت من عقلي على مراحل وقال آخر يصف السكر: أقبلت من عند زيادٍ كالخرف أجر رجلي بخطٍ مختلف كأنما يكتبان لام ألف وقال آخر يصف السكر: شربنا شربةً من ذات عرقٍ بأطراف الزجاج من العصير وأخرى بالمروح ثم رحنا نرى العصفور أعظم من بعير كأن الديك ديك بني تميم أمير المؤمنين على السرير فبت أرى الكواكب دانياتٍ ينلن أنامل الرجل القصير أدافعهن بالكفين مني وألثم لبة القمر المنير وقال الشاعر: دع النبيذ تكن عدلاً وإن كثرت فيك العيوب وقل ما شئت يحتمل هو المشيد بأخبار الرجال فما يخفى على الناس ما قالوا وما فعلوا كم زلةٍ من كريم ظل يسترها من دونها ستر الأبواب والكلل أضحت كنارٍ على علياء موقدةٍ ما يستسر لها سهل ولا جبل والعقل علق مصونٌ لو يباع لقد ألفيت بياعه يعطون ما سألوا فاعجب لقوم مناهم في عقولهم أن يذهبوها بعل بعده نهل قد عقدت بخمار الكأس ألسنهم عن الصواب ولم يصبح بها علل وزررت بسنات النوم أعينهم كأن أحداقها حول وما حولوا تخال رائحهم من بعد غدوته حبلى أضر بها في مشيها الحبل وحاله من أقبح الحالات في نفسه والعرس والبنات أف له أفٍ إلى أفات خمسة آلافٍ مؤلفاتٍ من حد من الأشراف في الخمر وشهر بها منهم يزيد بن معاوية وكان يقال له: يزيد الخمور وبلغه أن مسور بن مخرمة يرميه بشرب الخمر فكتب إلى عامله بالمدينة: أن يجلد مسوراً حد القذف ففعل. فقال مسور: أيشربها صرفاً بطين دنانها أبو خالدٍ ويضرب الحد مسور وممن حد في لشراب الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخو عثمان بن عفان لأمه. شهد أهل الكوفة عليه أنه صلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران. ثم التفت إليهم فقال: إن شئتم زذتكم! فجلده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان. وفيه يقول الحطيئة وكان نديمه أبو زبيد الطائي: شهدت الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر نادى وقد تمت صلاتهم ليزيدهم خيراً ولا يدري ليزيدهم خيراً ولو قبلوا لقرنت بين الشفع والوتر كبحوا عنانك إذ جريت ولو تركوا عنانك لم تزل تجري ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر فحده هناك عمرو بن العاص سراً. فلما قدم إلى عمر جلده حداً آخر علانية. ومنهم العباس بن عبد الله بن عباس كان ممن شهر بالشراب ومنادمة الأخطل الشاعر. وفيه يقول الأخطل: ولقد غدوت على التجار بمسمحٍ هرت عواذله هرير الأكلب لباس أردية الملوك تروقه من كل مرتقبٍ عيون الربرب ومنهم قدامة بن مظعون من أصحاب رسول الله )حده عمر بن الخطاب بهشادة علقمة الخصي وغيره في الشراب. ومنهم عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب المعروف بأبي شحمة حده أبوه في الشراب وفي أمر أنكره عليه. ومنهم عبد الله بن عروة بن الزبير حده هشام بن إسماعيل المخزومي في الشراب. ومنهم عاصم بن عمر بن الخطاب حده بعض ولاة المدينة في الشراب. ومنهم عبد العزيز بن مروان حده عمرو الأشدق. وممن فضح بالشراب بلال بن أبي بردة الأشعري وفيه يقول يحيى ابن نوفل الحميري: يبيت يمص عتيق الشراب كمص الوليد يخاف الفصالا ويصبح مضطرباً ناعساً تخال من السكر فيه احولالاً ويمشي ضعيفاً كمشي النزيف تخال به حين يمشي شكالا وممن شهر بالشراب عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي القاضي بالكوفة. وفضح بمنادمة سعد بن هبار. وفيه يقول حارثة بن بدر: نهاره في قضايا غير عادلة وليله في هوى سعد بن هبار ما يسمع الناس أصواتاً لهم عرضت إلا دوياً دوي النحل في الغار يدين أصحابه فيما يدينهم كأساً بكأس وتكراراً بتكرار فأصبح الناس أطلاحاً أضربهم حث المطي وما كانوا بسفار ومنهم أبو محجن الثقفي وكان مغرماً بالشراب وقد حده سعد بن أبي وقاص في الخمر مراراً. وشهد القادسية مع سعد وأبلى فيها بلاء حسناء. وهو القائل: إذا مت فادفني إلى ظل كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا مامت ألا أذوقها فقد أباكرها صهباء صافيةً طوراً وأشربها صرفاً وأمتزج وقد تقوم على رأسي مغنية فيها إذا رفعت من صوتها غنج فتخفض الصوت أحياناً وترفعه كما يطن ذباب الروضة الهزج ومنهم عبد الملك بن مروان وكان يسمى " حمامة المسجد " لاجتهاده في العبادة قبل الخلافة. فلما أفضت إليه الخلافة شرب الطلاء وقال له سعيد بن المسيب: بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت بعدي الطلاء فقال: إي والله والدماء! ومنهم الوليد بن يزيد ذهب به الشراب كل مذهب حتى خلع وقتل. وهو القائل: خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ثباتاً يساوي ما حييت عقالا دعوا لي سلمى والنبيذ وقينة وكأساً ألا حسبي بذلك مالا أبالملك أرجو أن أخلد فيكم ألا رب ملك قد أزيل فزالا وسقى قوم أعرابية مسكراً فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب قالوا: نعم. قالت: فما يدري أحدكم من أبوه! ومنهم إبراهيم بن هرمة وكان مغرماً بالشراب وحده عليه جماعة من عمال المدينة فلما ألحوا عليه وضاق ذرعه بهم دخل إلى المهدي بشعره الذي يقول فيه: لهم طينة بيضاء من آل هاشم إذا اسود من لؤم التراب القبائل إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أتى وإن قال إني فاعل فهو فاعل فأعجب المهدي بشعره وقال له: سل حاجتك. قال: تأمر لي بكتاب إلى عامل المدينة أن لا يحدني على شراب. فقال له: ويلك كيف نأمر بذلك لو سألتني عزل عامل المدينة وتوليتك مكانه لفعلت. قال: يا أمير المؤمنين: ولو عزلت عامل المدينة ووليتني مكانه أما كنت تعزلني أيضاً وتولي غيري قال: بلى. قال: فكنت أرجع إلى سيرتي الأولى. فقال المهدي لوزرائه: ما تقولون في حاجة ابن هرمة وما عندكم فيها من التلطف قالوا: يا أمير المؤمنين إنه يطلب مالا سبيل إليه: إسقاط حد من حدود الله. قال المهدي: إن عندي له حيلةً إذ أعيتكم الحيل فيه اكتبوا له إلى عامل المدينة: من أتاك بابن هرمة سكران فيضرب ابن هرمة ثمانين ويضرب الذي يأتيك به مائة. فكان ابن هرمة إذا مشى في أزقة المدينة يقول: من يشتري مائه بثمانين وكان بأمج رجل يقال له: حميد وكان مفتوناً بالخمر فهجاه ابن عم له وقال فيه: حميد الذي أمج داره أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع علاه المشيب على شربها وكان كريماً فما ينزع ودخل حميد يوماً على عمر بن عبد العزيز فقال له: من أنت قال: أنا حميد. قال: " حميد الذي " قال: والله يا أمير المؤمنين ما شربت مسكراً منذ عشرين سنة. فصدقه بعض جلسائه فقال له: إنما داعبناك. الفرق بين الخمر والنبيذ أول ذلك أن تحريم الخمر مجمع عليه لا اختلاف فيه بين اثنين من الأئمة والعلماء. وتحريم النبيذ مختلف فيه بين الأكابر من أصحاب النبي )والتابعين بإحسان. حتى لقد اضطر محمد بن سيرين في علمه وورعه أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ. فقال له عبيدة: اختلف علينا في النبيذ. وعبيدة ممن أدرك أبا بكر وعمر. فما ظنك بشيء اختلف فيه الناس وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام متوافرون فمن بين كطلق له ومحظر عليه وكل واحدٍ منهم يقيم الحجج لمذهبه والشواهد على قوله. والنبيذ كل ما نبذ في الدباء والمزفت فاشتد حتى يسكر كثيره. وما لم يشتد فليس يسمى نبيذا كما أنه ما لم يغل من عصير العنب حتى يشتد فليس يسمى خمراً كمال قال الشاعر: نبيذ إذا مر الذباب بدنه تقطر أو خر الذباب وقيذا وقيل لسفيان الثوري وقد دعا بنبيذٍ فشرب منه ووضعه بين يديه: يا أبا عبد الله أخشى الذباب أن يقع في النبيذ. قال: قبحه الله إذا لم يذب عن نفسه. وقال حفص بن غياث: كنت عند الأعمش وبين يديه نبيذ فاستأذن عليه قومٌ من طلبة الحديث فسترته فقال لي: لم سترته فكرهت أن أقول: لئلا يراه من يدخل فقلت: كرهت أن يقع فيه الذباب. فقال لي: هيهات إنه أمنع من ذلك جانباً. ولو كان النبيذ هو الخمر التي حرمها الله في كتابه ما اختلف في تحريمه اثنان من الأمة. حدث محمد بن وضاح قال: سألت سحنون فقلت: ما تقول فيمن حلف بطلاق زوجته إن المطبوخ من عصير العنب هو الخمر التي حرمها الله في كتابه قال: بانت زوجته منه. وذكر ابن قتيبة في كتاب الأشربة: إن الله تعالى حرم علينا الخمر بالكتاب والمسكر بالسنة فكان فيه فسحة فما كان محرماً بالكتاب فلا يحل منه لا قليل ولا كثير وما كان محرماً بالسنة فإن فيه فسحةً أو في بعضه كالقليل من الديباج والحرير يكون في الثوب والحرير محرم بالسنة. وكالتفريط في صلاة الوتر وركعتي الفجر وهما سنة. فلا تقول: إن تاركهما كتارك الفرائض من الظهر والعصر. وقد استأذن عبد الرحمن بن عوف رسول الله )في لباس الحرير لبلية كانت به وأذن لعرفجة بن سعد وكان أصيب أنفه يوم الكلاب باتخاذ أنفٍ من الذهب. وقد جعل الله فيما أحل عوضاً مما حرم فحرم الربا وأحل البيع وحرم السفاح وأحل النكاح وحرم الديباج وأحل الوشي وحرم الخمر وأحل النبيذ غير المسكر. والمسكر منه ما أسكرك. قال في كتابه: فإن قال قائل: إن المنكر هو الشربة المسكرة أكذبه النظر. لأن القدح الأخير إنما أسكر بالأول وكذلك اللقمة الأخيرة إنما أشبعت بالأولى. ومن قال: السكر حرام فإنما ذلك مجازٌ من القول وإنما يريد ما يكون منه السكر حرام. وكذلك التخمة حرام. وهذا الشاهد الذي استشهد به في تحريمه " قليل ما أسكره كثيره " وتشبيهه ذلك بالتخمة شاهد عليه لا شاهد له لأن الناس مجمعون أن قليل الطعام الذي تكون منه التخمة حلال وكثيره حرام. وكذلك ينبغي أن يكون قليل النبيذ الذي يسكر كثيره حلالاً وكثيره حرام وأن الشربة الآخرة المسكرة هي المحرمة. ومثل الأربعة الأقداح التي يسكر منها القدح الرابع مثل أربعة رجال اجتمعوا على رجل فشجه أحدهم موضحة ثم شجه الثاني منقلة ثم شجه الثالث مأمومة ثم أقبل الرابع فأجهز عليه. فلا نقول: إن الأول هو قاتله ولا الثاني ولا الثالث وإنما قتله الرابع الذي أجهز عليه. وعليه القود. وذكر ابن قتيبة في كتابه بعد أن ذكر اختلاف الناس في النبيذ وما أدلى به كل قومٍ من الحجة. فقال: وأعدل القول عندي أن تحريم الخمر بالكتاب وتحريم النبيذ بالسنة وكراهية ما أفتر وأخدر من الأشربة تأديب. ثم زعم في هذا الباب بعينه أن الخمر نوعان: فنوع منهما مجتمع على تحريمه وهو خمر العنب من غير أن تمسه نار لا يحل منه لا قليل ولا كثير. ونوع آخر مختلف فيه وهو نبيذ الزبيب إذا اشتد ونبيذ التمر إذا صلب وهو يسمى السكر ولا يسمى السكر إلا نبيذ التمر خاصةً. وقال بعض الناس: ليس نبيذ التمر خمراً. ويحتجون بقول عمر: ما انتزع بالماء فهو حلال وما انتزع بغير الماء فهو حرام. وقال ابن قتيبة: وقال آخرون: هو خمر حرام كله. وهذا هو القول عندي لأن تحريم الخمر نزل وجمهور الناس مختلفة وكلها يقع عليها هذا الاسم في ذلك الوقت. وذكر أن أبا موسى قال: خمر المدينة من البسر والتمر وخمر أهل فارس من العنب وخمر أهل اليمن من البتع وهو نبيذ العسل. وخمر الحبشة السكركة وهي من الذرة وخمرة التمر يقال له: البتع والفضيخ. وذكر أن عمر قال: الخمر من خمسة أشياء: من البر والشعير والتمر والزبيب والعسل. والخمر ما خامر العقل. ولأهل اليمن أيضاً شراب من الشعير يقال له المزر. فزعم ها هنا ابن قتيبة أن هذه الأشربة كلها خمر. وقال: هذا هو القول وقد تقدم له في صدر الكتاب أن النبيذ لا يسمى نبيذاً حتى يشتد ويسكر كثيره كما أن عصير العنب لا يسمى خمراً ثم قال فيما حكم به بين الفريقين: أما الذين يذهبون إلى تحريمه كله ولم يفرقوا بين الخمر وبين نبيذ التمر وبين ما طبخ وبين ما نقع فإنهم غلوا في القول جداً ونحلوا قوماً من أصحاب رسول الله )البدريين وقوماً من خيار التابعين وأئمة من السلف المتقدمين شرب الخمر. وزينوا ذلك بأن قالوا: شربوها على التأويل. وغلطوا في ذلك فأتهموا القوم ولم يتهموا نظرهم ونحلوهم الخطأ وبرءوا أنفسهم منه. فعجبت منه كيف يعيب هذا المذهب ثم يتقلده ويطعن على قائله ثم يقول به. إلا أني نظرت في كتابه فرأيته قد طال جداً فأحسبه أنسي في آخره ما ذهب إليه في أوله. والقول الأول من قوله هو المذهب الصحيح الذي تأنس إليه القلوب وتقبله العقول لا قوله الآخر الذي غلط فيه. احتجاج المحرمين لقليل النبيذ وكثيره ذهبوا أجمعوا أن جميع ما أسكر كثيره من الشراب فقليله حرام كتحريم الخمر. وقال بعضهم: بل هو الخمر بعينها ولم يفرقوا بين ما طبخ وبين ما نقع. وقضوا عليه كله أنه حرام. وذهبوا من الأثر إلى حديثٍ رواه عبد الله ابن قتيبة عن محمد بن خالد بن خداش عن أبيه عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ قال: " كل مسكر حرام وكل مسكر خمر ". وحديثٍ رواه ابن قتيبة عن إسحاق بن راهويه عن المعتمر بن سليمان عن ميمون بن مهدي عن أبي عثمان الأنصاري عن القاسم عن عائشة أن النبي ﷺ قال: " كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حرام ". والفرق: ستة عشر رطلاً. وللعرب أربعة مكاييل مشهورة: فأصغرها المد وهو رطل وثلث في قول الحجازيين ورطلان في قول العراقيين. وكان رسول الله ﷺ يتوضأ بالمد. والصاع: أربعة أمداد خمسة أرطال وثلث في قول الحجازيين وثمانية أرطال في قول العراقيين. وكان رسول الله ﷺ يغتسل بالصاع. والقسط وهو رطلان وثلثان في قول الناس جميعاً. والفرق وهو ستة عشر رطلاً ستة أقساط في قول الناس جميعاً. وذهبوا إلى حديثٍ رواه ابن قتيبة عن محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة عن اعائشة أن رسول الله ﷺ قال: " كل شراب أسكر فهو حرام " مع أشباهٍ لهذا من الحديث يطول الكتاب باستقصائها إلا أن هذه أغلظها في التحريم وأبعدها من حيلة المتأول. قالوا: والشاهد على ذلك من النظر: أن الخمر إنما حرمت لإسكارها وجنايتها على شاربها ولأنها رجس كما قال الله. ثم ذكروا من جنايات الخمر ما قد ذكرناه في صدر كتابنا هذا في باب آفات الخمر وجناياتها. ثم قالوا: فالعلة التي لها حرمت الخمر من الإسكار ومن الصداع والصد عن ذكر الله وعن الصلاة قائمة بعينها في النبيذ كله المسكر. فسبيله الخمر لا فرق بينهما في الدليل الواضح والقياس الصحيح. كما أن حديث النبي ﷺ في الفأرة إذا وقعت في السمن إنه كان جامداً ألقيت وألقي ما حولها وإن كان ذائباً أريق السمن. فحملت العلماء الزيت وغيره محمل السمن بالدليل الواضح. وعلمت أن النبي ﷺ لم يقصد إلى السمن خاصة بنجس الفأرة وإنما سئل عن الفأرة تقع في السمن فأفتى به فقاس العلماء الزيت وغيره بالسمن. وكما أمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار فعلم أهل العلم أنه إنما أراد ﷺ بالثلاثة الأحجار للتنقية من الأذى فأجازوا كل ما أنقى: من الخزف والخرق وغير ذلك وحملوه محمل ثلاثة الأحجار. ولما حرمت الخمر لعلةٍ قائمة في النبيذ المسكر حمل النبيذ محمل الخمر في التحريم. قالوا: ووجدناهم يقولون لمن غلب عليه غنث النفس وصداع الرأس من الخمر: مخمور وبه خمار. ويقولون مثل ذلك في شارب النبيذ ولا يقولون: منبوذ ولا به نباذ. والخمار مأخود من الخمر كما يقال: الكباد في وجع الكبد والصدار في وجع الصدر. وذهبوا في تحريم النبيذ إلى حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ " أنه نهى عن أن ينبذ في الدباء والمزفت " وقالوا: لمن أجاز قليل ما أسكر كثيره: إنه ليس بين شارب المسكر وموافقته السكر حد ينتهى إليه ولا يوقف عنده ولا يعلم شارب من شاربي المسكر متى يسكر حتى يسكر كما لا يعلم الناعس متى يرقد حتى يرقد. وقد يشرب الرجل من الشراب المسكر قدحين وثلاثة أقداح ولا يسكر. ويشرب من غيره قدحاً واحداً فيسكر لا بل قد يختلف طبع الرجل في نفسه فيسكر مرة من القدحين ويشرب مرة أخرى ثلاثة أقداح فلا يسكر. " أما بعد فإن الناس كان منهم في هذا الشراب المحرم أمر ساءت فيه رغبة كثير منهم حتى سفه أحلامهم وأذهب عقولهم فاستحل به الدم الحرام والفرج الحرام وإن رجالاً منهم ممن يصيب ذلك الشراب يقولون: شربنا طلاء فلا بأس علينا في شربه. ولعمري إن فيما قرب مما حرم الله بأساً وإن في الأشربة التي أحل الله: من العسل والسويق والنيذ من الزبيب والتمر لمندوحةً عن الأشربة الحرام غير أن كل ما كان من نبيذ العسل والتمر والزبيب فلا ينبذ إلا في أسقية الأدم التي لا زفت فيها ولا يشرب منها ما يسكر فإنه بلغنا أن رسول الله ﷺ نهى عن شرب ما جعل في الجرار والدباء والظروف المزفتة. وقال: " كل مسكر حرام ". فاستغنوا بما أحل الله لكم عما حرم عليكم. وقد أردت بالذي نهيت عنه من شرب الخمر وما ضارع الخمر من الطلاء وما جعل في الدباء والجرار والظروف المزفتة وكل مسكر - اتخاذ الحجة عليكم. فمن يطع منكم فهو خير له. ومن يخالف إلى ما نهي عنه نعاقبه على العلانية ويكفنا الله ما أسر. فإنه على كل شيء رقيب. ومن استخفى بذلك عنا فإن الله أشد بأساً وأشد تنكيلاً ". احتجاج المحللين للنبيذ قال المحللون لكل ما أسكر كثيره من النبيذ: إنما حرمت الخمر بعينها خمر العنب خاصةً بالكتاب وهي معقولة مفهومة لا يمتري فيها أحدٌ من المسلمين وإنما حرمها الله تعبداً لا لعلة الإسكار كما ذكرتم ولا لأنها رجس كما زعمتم. ولو كان ذلك كذلك لما أحلها الله للأنبياء المتقدمين والأمم السالفين ولا شربها نوحٌ بعد خروجه من السفينة ولا عيسى ليلة رفع ولا شربها أصحاب محمد ﷺ في صدر الإسلام. وأما قولكم: إنها رجس فقد صدقتم في اللفظ وغلطتم في المعنى إذ كنتم أردتم أنه منتنة فإن الخمر ليست بمنتنة ولا قذرة ولا وصفها أحد بنتن ولا قذر وإنما جعلها الله رجساً بالتحريم كما جعل الزنا فاحشة ومقتاً أي معصية وإثماً بالتحريم وإنما هو جماع كجماع النكاح وهو عن تراضٍ وبذل كما أن النكاح عن تراضٍ وبذل. وقد يبذل في السفاح ما يبذل في النكاح ولذلك سمى الله تبارك وتعالى المحرمات كلها خباثث. فقال تعالى: " ويحرم عليهم الخبائث ". وسمى المحللات كلها طيبات فقال: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " وسمى كل ما جاوز أمره أو قصر عنه سرفاً وإن اقتصد فيه. وقد ذكر الخمر فيما امتن به على عباده قبل تحريمها فقال تعالى: " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ". ولو أنها رجس على ما تأولتم ما جعلها الله في جنته وسماها لذة للشاربين. وإن قلتم: إن خمر الجنة ليست كخمر الدنيا لأن الله نفى عنها عيوب خمر الدنيا فقال تعالى: " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " وكذلك قوله في فاكهة الجنة: " لا مقطوعةٍ ولا ممنوعة " فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا لأنها تأتي في وقتٍ وتنقطع في وقت ولأنها ممنوعة إلا بالثمن ولها آفات كثيرة وليس في فواكه الجنة آفة. وما سمعنا أحداً وصف الخمر إلا بضد ما ذكرتم من طيب النسيم وذكاء الرائحة. قال الأخطل: كأنما المسك نهبى بين أرحلنا وقد تضوع من ناجودها الجاري وقال آخر: فتنفست في البيت إذ مزجت كتنفس الريحان في الأنف وقال أبو نواس: نحن نخفيها ويأبى طيب ريحٍ فتفوح وإنما قوله فيها " رجس " كقوله تعالى: " وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ". أي كفراً إلى كفرهم. وأما منافعها التي ذكرها الله تعالى في قوله: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " فإنها كثيرةٌ لا تحصى: فمنها أنها تدر الدم وتقوي المنة وتصفي اللون وتبعث النشاط وتفتق اللسان ما أخذ منها بقدر الحاجة ولم يحاوز المقدار. فإذا جاوز ذلك عاد نفعها ضراً. وقال ابن قتيبة في كتاب الأشربة: كانت الأوائل تقول: الخمر حبيبة الروح ولذلك اشتق لها اسم من الروح فسميت راحاً وربما سميت روحاً. وقال إبراهيم النظام: ما زلت آخذ روح الزق في لطفٍ وأستبيح دماً من غير مذبوح حتى انثنيت ولي روحان في جسدي والزق مطرح جسم بلا روح وقد تسمى دماً لأنها تزيد في الدم. قال مسلم بن الوليد الأنصاري: مزجنا دماً من كرمة بدمائنا فأظهر في الألوان منا الدم الدم وسلافةٍ مما تعتق بابل كدم الذبيح سلبتها جريالها فقال: " شربتها حمراء وبلتها بيضاء ". يريد أن حمرتها صارت دماً. ومن منافع الخمر أنها تزيد في الهمة وتولد الجرأة وتهيج الأنفة وتسخي البخيل وتشجع الجبان. قال حسان بن ثابت: ونشر بها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء وقال طرفة: فإذا ما شربوها وانتشوا وهبوا كل أمون وطمر ثم راحوا عبق المسك بهم يلحفون الأرض هداب الأزر وقال مسلم بن الوليد: تصد بنفس المرء عماً يغمه وتنطق بالمعروف ألسنة البخل وقال الحسن بن هانئ: إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى دعا همه من صدره برحيل ومن تسخيتها للبخيل على البذل قول بعض المحدثين: كساني قميصاً مرتين إذا انتشى وينزعه مني إذا كان صاحيا فياليت حظي من سروري وترحتي ومن جوده ألا علي ولا ليا قالوا: ولولا أن الله تعالى حرم الخمر في كتابه لكانت سيدة الأشربة. وما ظنك بشراب الشربة الثانية منه أطيب من الأولى والثالثة أطيب من الثانية حتى يؤديك إلى أرفق الأشياء وهو النوم. وكل شراب سواها فالشربة الأولى أطيب من الثانية والثانية أطيب من الثالثة حتى تمله وتكرهه. وسقى قومٌ أعرابياً كؤوساً ثم قالوا: كيف تجدك قال أجدني أبشر وأجدكم تحببون إلي. وقالوا: ما حرم الله شيئاً إلا عوضنا ما هو خير منه أو مثله وقد جعل الله النبيذ عوضاً عن الخمر نأخذ منه ما يطيب النفس ويصفي اللون ويهضم الطعام ولا نبلغ منه إلى ما يذهب العقل ويصدع الرأس ويغثي النفس ويشرك الخمر في آفاتها وعظيم جناياتها. قالوا: وأما قولكم: إن الخمر كل ما خمر والنبيذ كله يخمر فهو خمر - فإن الأسماء قد تتشاكل في بعض المعاني فتسمى ببعضها لعلةٍ فيها وهي في آخر ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر. ألا ترى أن اللبن قد يخمرونه بروبةٍ تلقى فيه ولا يسمى خمراً وأن العجين قد يخمر فيسمى خميراً ولا يسمى خمراً وأن نقيع التمر يسمى سكراً لإسكاره ولا يسمى غيره من النبيذ سكراً وإن كان مسكراً. وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحاط به. ورائب اللبن يسكر إسكاراً كسكر النبيذ.