الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الهدايا
جمع هدية قال في الحجة البالغة : إنما يبتغى بها إقامة الألفة فيما بين الناس . ولا يتم هذا المقصود إلا بأن يرد إليه مثله . فإن الهدية تحبب المهدي إلى المهدى له من غير عكس . وأيضاً فإن اليد العليا خير من اليد السفلى . ولمن أعطى الطول على من أخذ فإن عجز فليشكره وليظهر نعمته فإن الثناء أول اعتداد بنعمته وإضمار لمحبته وأنه يفعل في إيراث الحب ما تفعل الهدية ومن كتم فقد خالف عليه ما أراده وناقض مصلحة الإئتلاف وغمط حقه ومن أظهر ما ليس في الحقيقة فذلك كذب انتهى .
يشرع قبولها ومكافأة فاعلها لحديث أبي هريرة عند البخاري عن النبي (ﷺ) قال : لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت وأخرج أحمد بن حنبل و الترمذي وصححه نحوه من حديث أنس . وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية قالت : قلت يارسول الله : تكره رد اللطف قال : ما أقبحه لو أهدي إلي كراع لقبلته وأخرج أحمد بن حنبل برجال الصحيح من حديث خالد بن عدي أن النبي (ﷺ) قال : من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده ، فإنما هو رزق ساقه الله إليه وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة قال كان النبي (ﷺ) يقبل الهدية ويثيب عليها والأحاديث في قبول الهدية والمكافأة عليها وذلك معلوم منه (ﷺ) .
ويجوز بين المسلم والكافر لأن النبي (ﷺ) كان يقبل هدايا الكفار ويهدي لهم كما أخرجه أحمد بن حنبل و الترمذي والبزار من حديث علي قال : أهدى كسرى لرسول الله (ﷺ) فقبل منه ، وأهدى له قيصر فقبل منه ، وأهدت له الملوك فقبل منها وأخرج أبو داود من حديث بلال أنه أهدي إلى النبي (ﷺ) عظيم فدك وفي الصحيحين من حديث أنس أن أكيدر دومة أهدى لرسول الله (ﷺ) جبة سندس وأخرج أبو داود من حديثه أن ملك الروم أهدى إلى النبي (ﷺ) مستقة سندس فلبسها وفيهما أيضاً من حديث علي أن أكيدر دومة الجندل أهدى إلى النبي (ﷺ) ثوب حرير فأعطاه علياً فقال : شققه خمراً بين الفواطم وأخرج البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت : أتتني أمي راغبة في عهد قريش وهي مشركة فسألت النبي (ﷺ) أصلها قال نعم قال ابن عبينة : فأنزل الله فيها : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين وقد أخرج أحمد بن حنبل والطبراني من حديث أم سلمة أن النبي (ﷺ) قال لها : إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك ولا أرى النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة فإن ردت إلي فهي لك وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وثقه يحيى بن معين وغيره ، وضعفه جماعة . والأحاديث في قبوله (ﷺ) لهدايا الكفار كثيرة جداً . وأما ما أخرجه أحمد بن حنبل و أبو داود و الترمذي وابن خزيمة وصححاه من حديث عياض بن حمار أنه أهدي للنبي (ﷺ) هدية أو ناقة فقال النبي (ﷺ) : أسلمت قال : لا . قال : إنى قد نهيت عن زبد المشركين وأخرج موسى بن عقبة في المغازي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن عامر بن مالك الذي يقال له ملاعب الأسنة قدم على النبي (ﷺ) وأهدى له فقال : إني لا أقبل هدية مشرك قال في الفتح : رجاله ثقات إلا أنه مرسل : قال الخطابي : يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخاً . وقيل : إنما رد ذلك إليهم ، لقصد الإغاظة أو لئلا يميل إليهم ولا يجوز الميل إلى المشركين . وأما قبوله لهدية من تقدم ذكره ، فهو لكونهم قد صاروا من أهل الكتاب . وقيل : أن الرد في حق من يريد بهديته التودد والموالاة والقبول في حق من يرجي بذلك تأنيسه وتأليفه . ويمكن أن يكون النهي لمجرد الكراهة التي لا تنافي الجواز جمعاً بين الأدلة . وزبد المشركين هو بفتح الزاي وسكون الموحدة بعدها دال مهملة . قال في الفتح : هو الرفد انتهى .
ويحرم الرجوع فيها لكون الهدية هي هبة لغة وشرعاً ، وقد ورد في ذلك حديث ابن عباس عند البخاري وغيره أن النبي (ﷺ) قال : العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه وهو في مسلم أيضاً . وفي لفظ للبخاري ليس لنا مثل السوء . وأخرج أحمد بن حنبل وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر وابن عباس رفعاه إلى النبي (ﷺ) قال : لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ، ومثل الرجل يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه وقد دل قوله لا يحل على تحريم الرجوع من غير نظر إلى التمثيل الذي وقع الخلاف فيه . هل يدل على الكراهة أو التحريم . وقد ذهب إلى التحريم جمهور العلماء إلا هبة الوالد لولده كذا قال في الفتح .
وتجب التسوية بين الأولاد لحديث جابر عند مسلم وغيره قال : قالت إمرأة بشير انحل ابني غلاماً وأشهد لي رسول الله (ﷺ) فأتى رسول الله (ﷺ) فقال : أن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي فقال : له أخوة ؟ قال : نعم . قال : فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته ؟ قال : لا . قال : فليس يصلح هذا ، وإني لا أشهد إلا على حق وفي لفظ ل أحمد بن حنبل من حديث النعمان بن بشير لا تشهدني على جور أن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم وفي الصحيحين من حديثه أن النبي (ﷺ) قال له : أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ فقال : لا فقال فأرجعه وفي لفظ لمسلم من حديثه اتقوا الله واعدلوا في أولادكم فرجع أبي في تلك الصدقة وكذا في البخاري ولكنه بلفظ العطية . وأخرج أحمد بن حنبل و أبو داود و النسائي من حديثه قال : قال (ﷺ) : اعدلوا بين أبنائكم . اعدلوا بين أبنائكم . اعدلوا بين أبنائكم وأخرج الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور من حديث ابن عباس بلفظ سووا بين أولادكم في العطية ولو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء وفي إسناده سعيد بن يوسف وفيه ضعف ، وقد حسن في الفتح إسناده . وهذه الأحاديث تدل على وجوب التسوية ، وإن التفضيل باطل جور يجب على فاعله استرجاعه ، وبه قال طاوس والثوري و أحمد بن حنبل وإسحق وبعض المالكية . وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة فقط . وأجابوا عن الأحاديث بما لا ينبغي الإلتفات إليه .
والحاصل : أن النبي صلى الله وسلم عليه قد أمر بالتسوية بين الأولاد . وقد تولى الله سبحانه كيفية ذلك في محكم كتابه ، وسمى التفضيل جوراً ، فمن زعم أنه يجوز التفضيل لسبب من الأسباب كالبر ونحوه فعليه الدليل ، ولا ينفعه المجيء بما هو أعم من هذا الحديث المقتضي للأمر بالتسوية . والمقام محتمل للتطويل والبسط . وقد جمع الماتن رحمه الله فيه رسالة مستقلة . وذكر في شرح المنتقى ما أجاب به القائلون بعد وجوب التسوية وهي وجوه عشرة وأجاب عن كل واحد منها . وأوضحت المقام أيضاً في كتابي دليل الطالب على أرجح المطالب فليراجع . قال ابن القيم في حديث نعمان بن بشير المتقدم : هذا الحديث هو من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه وقامت به السموات والأرض وأثبتت عليه الشريعة فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الأرض وهو محكم الدلالة غاية الإحكام فرد بالمتشابه من قوله كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين فكونه أحق به يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء ، وبقياس متشابه على إعطاء الأجانب ، ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم ، والقياس لا يقاوم هذا المحكم المبين غاية البيان إنتهى . وفي شرح السنة : ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن تفضيل بعض الأولاد على بعض في النحل مكروه ولو فعل نفذ . وقد فضل أبو بكر عائشة بجداد عشرين وسقاً نحلها إياه دون سائر أولاده . وفي الحديث دليل على أن الوالد إذا وهب لولده شيئاً جاز له الرجوع فيه ، وكذلك الأمهات والأجداد . وأما غير الوالدين فلا رجوع لهم فيما وهبوا وسلموا لقول النبي (ﷺ) : العائد في هبته كالعائد في قيئه وهو قول الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا رجوع له فيما وهب لولده .
والرد لغير مانع شرعي مكروه لما قدمنا في أول البحث من الأدلة ، فإن كان ثم مانع شرعي من قبول الهدية لم يحل قبولها ، وذلك كالهدايا لأهل الولايات توصلاً إلى أن يميلوا مع المهدي ، فإن ذلك رشوة وستأتي الأدلة الدالة على تحريمها . وقد ورد في هدايا الأمراء ما يفيد أنها لا تحل ، وسيأتي الكلام على طرق حديث هدايا الأمراء في كتاب القضاء . والعلة أنها تؤل إلى الرشوة . أما في الحكم ، أو في شئ مما يجب قيام الأمراء به . ومن ذلك الهدية إلى من يعلم المهدي القرآن وقد تقدم الدليل على ذلك في الإجازات . وهكذا حلوان الكاهن ومهر البغي ونحوهما ، ومن ذلك الهدية لمن يقضي للمهدي حاجة لحديث أبي أمامة عن النبي (ﷺ) قال : من يشفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا أخرجه أبو داود من طريق القاسم بن عبد الرحمن الأموي مولاهم الشامي وفيه مقال .
وبالجملة فكل مانع شرعي قام الدليل على مانعيته من قبول الهدايا له حكم ما ذكرناه