الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الشفعة
والأصل فيها دفع الضرر عن الجيران والشركاء .
سببها الإشتراك في سيء ولو منقولاً لعموم الأحاديث الواردة في ذلك ، كحديث جابر في البخاري وغيره أن النبي (ﷺ) قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وأخرجه أيضاً بنحو هذا اللفظ أهل السنن . وحديث أبي هريرة قال قال رسول الله (ﷺ) : إذا قسمت الدار وحدت فلا شفعة فيها أخرجه أبو داود و ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات . وأخرج مسلم و أبو داود و النسائي وغيرهم من حديث جابر أن النبي (ﷺ) قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً الشفعة في كل شئ ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال . وأخرج الطحاوي له شاهداً من حديث جابر بإسناد لا بأس به .
فإذا وقعت القسمة فلا شفعة لما في هذه الأحاديث من التصريح بأنها في الشئ الذي لم يقسم . ثم فسر القسمة بقوله : فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة .
فالأحاديث الواردة في مطلق شفعة الجار كأحاديث الجار أحق بسقبه . وهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما مقيدة بعدم القسمة لأن الجار كما يصدق على الملاصق يصدق على المخالط . وأما تقييد شفعة الجار باتحاد الطريق كما في حديث جابر عند أحمد بن حنبل و أبو داود و ابن ماجه و الترمذي وحسنه قال : قال النبي (ﷺ) الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها إن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً فهذا الحديث يؤيد ما قلناه من أنه لا شفعة إلا للخليط ، لأن الطريق إذا كانت واحدة فالخلطة كائنة فيها ولم تقع القسمة الموجبة لبطلان الشفعة لعدم تصريف الطرق . فالحق أن سبب الشفعة هو واحد فقط وهو الشركة قبل القسمة . والخلطة الكائنة بين الشريكين في المشترك بينهما ، أو في طريقه ، أو في مجاريه ، أو منبعه فما قيل من أن من أسبابها الإشتراك في الطريق ، والإشتراك في قرار النهر أو مجاري الماء ، هو راجع إلى السبب الذي ذكرناه . لأن الإشتراك في طريق الشئ ، أو في سواقيه هو إشتراك في بعض ذلك الشئ .
والحاصل : أن هذه الأحاديث مخصصة لذلك العموم لأن الظاهر من قوله : فلا شفعة أن القسمة مانعة من ثبوت الشفعة سواء كانت القسمة بين المشتري والشفيع أو متقدمة كما يفيده النكرة الواقعة في سياق النفي . وقد حقق الماتن المقام في رسالة مستقلة أورد فيها جميع ما ورد في الشفعة من الأدلة وجمع بينها جمعاً نفيساً فليرجع إليها . وقد حكي في البحر عن علي وعثمان وعمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وربيعة بن مالك و الشافعي والأوزاعي و أحمد بن حنبل وإسحاق وعبيد الله بن الحسن والأمامية ، أن الشفعة لا تثبت إلا بالخلطة . وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وابن سيرين : أن الشفعة تثبت بالجوار ، واستدلوا بالأحاديث الواردة في شفعة الجار . قال في شرح السنة : اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة للشريك في الربع المنقسم إذا باع أحد الشركاء نصيبه قبل القسمة ، فللباقين أخذه بالشفعة بمثل الثمن الذي وقع عليه البيع ، وإن باع بشئ متقوم من ثوب أو عبد فيأخذ بقيمته . واختلفوا في ثبوت الشفعة للجار . قال الشافعي : لا شفعة للجار . وذهب أبو حنيفة : إلى ثبوت الشفعة للجار . وفي المنهاج : وكل ما لو قسم بطلت منفعته المقصودة كحمام ورحى لا شفعة فيه في الأصح . وفي الموطأ : عن عثمان بن عفان لا شفعة في بئر ولا نخل . قال في الحجة البالغة : أرى أن الشفعة شفعتان شفعة يجب على المالك أن يعرضها على الشفيع فيما بينه وبين الله وأن يؤثره على غيره ولا يجبر عليها في القضاء وهي للجار الذي ليس بشريك . وشفعة يجبر عليها في القضاء وهي للجار الشريك فقط وهذا وجه الجمع بين الأحاديث المختلفة في الباب انتهى . والحق ما قدمناه .
ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه لحديث جابر عند مسلم وغيره أن النبي (ﷺ) قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك . فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به .
ولا تبطل بالتراخي لما في الأحاديث الواردة في الشفعة من الإطلاق . وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل العقال ففي إسناده محمد بن عبد الرحمن البيلماني وهو ضعيف جداً . وقال ابن حبان : لا أصل للحديث . وقال أبو زرعة : منكر . وقال البيهقي : ليس بثابت ولا يصح تأييد هذا الحديث الباطل بما روي من قول شريح فإنه لاحجة في ذلك على أن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاثة أحكام : نفي شفعة الغائب ، ونفي شفعة الصغير ، وإعتبار الفور . وقد هجر ظاهره في الحكمين الأولين فكان ذلك مقيداً لترك الإحتجاج به في الحكم الثالث على فرض أنه غير باطل .
والحاصل : أنه ليس في اشتراط الفورية ما يصلح متمسكاً كما لا يخفى على عارف . وقد ثبتت الشفعة بتلك الأحاديث الصحيحة . فتقييد الثبوت بقيد لا دليل عليه مستلزم لإبطال ما يستفاد من أحاديث الثبوت من الإطلاق بدون حجة وذلك باطل . فالحق أن الشفعة لا تبطل بالتراخي لأن دفع الضرر الذي شرعت لأجله لا يختص بوقت دون وقت . وما قيل من أن إثباتها مع التراخي يستلزم الإضرار بالمشتري لأنه ملكه يكون معلقاً ممنوع ، والسند أن ملكه مستقر يتصرف به كيف يشاء غاية ما هناك أن للشفيع حقاً متى طلبه وجب وليس ذلك من التعليق في شئ ولا إضرار في ذلك بحال