الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الديات
الأهم في الدية أنها تجب أن تكون مالاً عظيماً يغلبهم وينقص من مالهم ، ويجدون له ألماً عندهم ، ويكون بحيث يؤدونه بعد مقاساة الضيق ليحصل الزجر ، وهذا القدر يختلف باختلاف الأشخاص .
ودية الرجل المسلم مائة من الإبل أو مائتا بقرة أو ألف شاة أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم أو مائتا حلة تقدير الدية بذلك لحديث عطاء بن أبي رباح عن النبي (ﷺ) . وفي رواية عطاء عن جابر عن النبي صلى عليه وسلم قال : فرض رسول الله (ﷺ) في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داود مسنداً ومرسلاً ، وفيه عنعنة محمد بن إسحق . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قضى رسول الله (ﷺ) أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة ، ومن كان عقله في الشاء ألفي شاة وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المحكولي ، وقد تكلم فيه غير واحد ووثقة جماعة . وفي حديث عمرو بن حزم أن في النفس الدية مائة من الإبل وهو حديث صحيح قد تقدم تخريجه في قتل الرجل بالمرأة وفيه أيضاً وعلى أهل الذهب ألف دينار وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس أن رجلاً من بني عدي قتل فجعل النبي (ﷺ) ديته اثني عشر ألفاً وأخرجه الترمذي مرفوعاً ومرسلاً . وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كانت قيمة الدية على عهد رسول الله (ﷺ) ثمانمائة دينار ، أو ثمانية آلالف درهم . ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين . قال : فكان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيباً فقال : ألا أن الإبل قد غلت قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورث اثني عشر ألف درهم ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ولا يخفى أن هذا لا يعارض ما تقدم فقد وقع التصريح فيه برفع ذلك إلى النبي (ﷺ) . وقد اختلف أهل العلم في مقادير الدية ، والحق ما ثبت من تقدير الشارع كما ذكرناه . وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم قال مالك : فأهل الذهب أهل الشأم وأهل مصر ، وأهل الورق أهل العراق . قلت : عليه مالك وهو القول القديم للشافعي . إلا أنه قال يقدر بتقدير عمر بن الخطاب عند إعواز الإبل ، والإبل هي الأصل في باب الديات ثم رجع وقال : الأصل فيها الإبل فإذا اعوزت تجب قيمتها بالغة ما بلغت ، وتأول حديث عمر على أن قيمة الإبل كانت قد بلغت في زمانه اثني عشر ألف درهم ، أو ألف دينار لحديث عمرو بن شعيب المتقدم . وقال أبو حنيفة : الدية مائة من الإبل ، أو ألف دينار ، أوعشرة آلاف درهم ، وقال صاحباه : على أهل الإبل مائة من الإبل ، وعلى أهل الذهب والورق ألف دينار ، أوعشرة آلاف درهم ، وعلى أهل البقر مائتا بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفا شاة ، وعلى أهل الحلل ألف حلة .
وتغلظ دية العمد وشبهه واتفقوا على أن التغليظ لا يعتبر إلا في الإبل دون الذهب والورق .
أقول : قد اختلفت الأحاديث في الديات تغليظاً وتخفيفاً ولكل قسم . فالدية المغلظة في الخطأ الذي هو شبه العمد ، والدية المخففة في الخطأ المحض ، والأحاديث مصرحة بذلك فليرجع إليها ، والمذاهب مختلفة . وليس الحجة إلا في الدليل لا في القال والقليل .
بأن يكون المائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها لحديث عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي (ﷺ) أن النبي صلى الله وسلم عليه خطب يوم فتح مكة فقال : ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه دية مغلظه مائة من الإبل منها أربعون ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في تاريخه . وساق اختلاف الرواة فيه ، وأخرجه أيضاً الدارقطني . وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله وسلم عليه قال : عقل شبه العمد مغلظ كعقل العمد ، ولا يقتل صاحبه . وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في التاريخ ، والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله (ﷺ) قال : ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها وصححه ابن حبان وابن القطان ، وأخرج هذا الحديث من تقدم ذكره من حديث ابن عمر ، وفي الباب أحاديث . وقد ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن القتل على ثلاثة أضرب : عمد ، خطأ ، وشبه عمد . ففي العمد القصاص ، وفي الخطأ الدية ، وفي شبه العمد وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة ، كالعصا والسوط والإبرة مع كونه قاصداً للقتل دية مغلظة ، وهي مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها . وممن ذهب إلى هذا زيد بن على والشافعية والحنفية وأحمد وإسحق . وقال مالك والليث : أن القتل ضربان : عمد وخطأ ، فالخطأ ما وقع بسبب من الأسباب ، أو غير مكلف ، أو غير قاصد للمقتول ونحوه ، أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة . والعمد ما عداه . والأول لا قود فيه ، وقد حكى صاحب البحر الاجماع على هذا مع كون مذهب الجمهور على خلافه .
ودية الذمى نصف دية المسلم لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله وسلم عليه قال : عقل الكافر نصف دية المسلم أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه ، وابن الجارود وصححه . وأخرجه أيضاً ابن ماجه بنحوه . وأخرج ابن حزم من حديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال : دية المجوسي ثمانمائة درهم وأخرجه أيضاً الطحاوي والبيهقي وابن عدي وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف . وأخرج الشافعي والدارقطني والبيهقي عن سعيد بن المسبب قال : كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، ودية المجوسي ثمانمائة وقد ذهب الى كون دية الذمي نصف دية المسلم مالك . وقال الشافعي : أن دية الكافر أربعة آلاف درهم كذا روي عنه . والذي في منهاج النووي أن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ، ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم قال شارحه المحلي : أنه قال بذلك عمر وعثمان وابن مسعود . وحكي في البحر عن زيد بن علي وأبي حنيفة أن دية المجوسي كالذمي . وذهب الثوري والزهري وزيد بن علي وأبو حنيفة إلى أن دية الذمي كذية المسلم . وروي عن أحمد أن ديته مثل دية المسلم إن قتل عمداً ، وإلا فنصف الدية . احتج القائلون بتنصيف دية الذمي بالنسبة إلى دية المسلم بما تقدم . واحتج القائلون بأنها كدية المسلم بقوله تعالى : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله ويجاب بأن هذا الاطلاق مقيد بما ثبت عنه (ﷺ) من كونها على النصف من دية المسلم . وعند الترمذي عقل الكافر نصف عقل المؤمن قال ابن القيم : هذا حديث حسن يصحح مثله أكثر أهل الحديث . وعند أبي داود كانت قيمة الدية على عهد رسول الله (ﷺ) ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم ، فلما كان عمر رفع دية المسلمين وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما من الدية انتهى .
ودية المرأة نصف دية الرجل والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله وسلم عليه : عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته أخرجه النسائي والدارقطني وصححه ابن خزيمة . وأخرج البيهقي من حديث معاذ عن النبي صلى الله وسلم عليه قال : دية المرأة نصف دية الرجل قال البيهقي : إسناده لا يثبت مثله . وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علي أنه قال : دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة عن عمر . وقد أفاد الحديث المذكور أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ، وأن إرشها إلى الثلث من الدية مثل أرش الرجل ، وقد وقع الخلاف في ذلك بين السلف والخلف . وأخرج مالك في الموطأ ، والبيهقي عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه قال : سألت سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة قال : عشر من الإبل قلت : فكم في أصبعين قال : عشرون من الإبل . قلت : فكم في ثلاث أصابع قال : ثلاثون من الإبل قلت : فكم في أربع قال : عشرون من الإبل قلت : حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها . قال سعيد : أعراقي أنت ؟ قلت : بل عالم متثبت ، أو جاهل متعلم . قال : هي السنة يا ابن أخي .
وتجب الدية كاملة في العينين والشفتين واليدين والرجلين والبيضتين وفي الواحدة منها نصفها ، وكذلك تجب كاملة في الأنف واللسان والذكر والصلب وأرش المأمومة والجائفة ثلث دية المجني عليه وفي المنقلة عشر الدية ونصف الدية ونصف عشرها وفي الهاشمة عشرها وفي كل سن نصف عشرها وكذا في الموضحة لحديث عمرو بن حزم الذي تقدم تخريجه وتصحيحه . وفيه أن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية ، وفي الشفتين الدية ، وفي البيضتين الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي الصلب الدية ، وفي العينين الدية ، وفي الرجل الواحدة نصف الدية ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الجائفة ثلث الدية ، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل ، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل ، وفي السن خمس من الإبل ، وفي الموضحة خمس من الإبل وأخرج أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قضى في الأنف إذا جدع كله بالعقل كاملاً ، وإذا جدعت أرنبته فنصف العقل ، وقضى في العين نصف العقل ، والرجل نصف العقل ، واليد نصف العقل ، والمأمومة ثلث العقل ، والمنقلة خمسة عشر من الإبل وقد أخرجه أبو داود وابن ماجه بدون ذكر العين والمنقلة ، وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي ، وقد تكلم فيه جماعة ووثقه جماعة وأخرج الترمذي وصححه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله وسلم عليه قال : دية أصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل لكل إصبع وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي موسى . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله وسلم عليه في كل أصبع عشر من الإبل ، وفي كل سن خمس من الإبل ، والأصابع سواء والأسنان سواء وأخرج أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن الجارود وصححاه من حديث عمرو بن شعيب أيضاً عن أبيه عن جده أن النبي (ﷺ) قال : في المواضح خمس من الإبل وفي البخاري وغيره من حديث ابن عباس أن النبي (ﷺ) قال : هذه وهذه يعني الخنصر والإبهام سواء وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله وسلم عليه قال : الأسنان سواء الثنية والضرس سواء . والمراد بالمأمومة الجناية التي بلغت أم الدماغ ، أو الجلدة الرقيقة التي عليه ، وإلى ايجاب ثلث الدية فيها ذهب علي وعمر والحنفية والشافعية . والمراد بالجائفة الجناية التي تبلغ الجوف ، وإلى ايجاب ثلث الدية فيها ذهب الجمهور . والمراد بالمنقلة الجناية التي تنقل العظام عن أماكنها ، وقد ذهب إلى ايجاب خمسة عشر ناقة فيها علي وزيد بن ثابت والشافعية والحنفية . والمراد بالهاشمة التي تهشم العظم . وقد أخرج الدارقطني والبيهقي وعبد الرزاق من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله وسلم عليه أوجب في الهاشمة عشراً من الإبل وقد قيل : إنه موقوف لكن لذلك حكم الرفع في المقادير . والمراد بالموضحة التي تبلغ العظم ولا تهشم . وقد اختلف في المنقلة والهاشمة والموضحة هل هذا الأرش هو بالنسبة إلى الرأس فقط ، أم الرأس وغيره . والظاهر أن عدم الإستفصال في مقام الإحتمال ينزل منزلة العموم في المقام كما تقرر في الأصول .
وما عدا هذه المسماة فيكون أرشه بمقدار نسبته إلى أحدها تقريباً لأن الجناية قد لزم أرشها بلا شك إذ لا يهدر دم المجني عليه بدون سبب ، ومع عدم ورود الشرع بتقدير الأرش لم يبق إلا التقدير بالقياس على تقدير الشارع . وبيان ذلك أن الموضحة إذا كان أرشها نصف عشر الدية كما ثبت عن الشارع . نظرنا إلى ما هو دون الموضحة من الجنايات ، فإن أخذت الجناية نصف اللحم وبقي نصفه إلى العظم كان أرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة ، وإن أخذت ثلثه كان الأرش ثلث أرش الموضحة ، ثم هكذا . وكذلك إذا كان المأخوذ بعض الأصبع كان أرشه بنسبة ما أخذ من الأصبع إلى جميعها ، فأرش نصف الأصبع نصف عشر الدية ثم كذلك . وهكذا الأسنان إذا ذهب نصف السن كان أرشه نصف أرش السن . ويسلك هذا في الأمور التي تلزم فيها الدية كاملة كالأنف ، فإذا كان الذاهب نصفه ففيه نصف الدية ، والذكر ونحو ذلك . فهذا أقرب المسالك إلى الحق ومطابقة العدل وموافقة الشرع
أقول : اعلم أن كل جناية فيها أرش مقدر من الشارع ، كالجنايات التي في حديث عمرو بن حزم الطويل وفي غيره مما ورد في معناه ، فالواجب الإقتصار في المقدار على الوارد في النص ، وكل جناية ليس فيها أرش من الشارع بل ورد تقدير أرشها عن صحابي أو تابعي أو من بعدهما فليس في ذلك حجة على أحد . بل المرجع في ذلك نظر المجتهد ، وعليه أن ينظر في مقدار نسبتها من نسبة الجناية التي ورد فيها أرش مقدر من الشارع ، فإذا غلب في طنه مقدار النسبة جعل لها من الأرش مقدار نسبتها . مثلاً الموضحة ورد في الشرع تقدير أرشها . فإذا كانت الجناية دون الموضحة كالسمحاق والمتلاحمة والباضعة والدامية ، فعليه أن ينظر مثلاً مقدار ما بقي من اللحم إلى العظم ، فإن وجده مقدار الخمس والجناية قد قطعت من اللحم أربعة أخماس جعل في الجناية أربعاً من الإبل ، أو أربعين مثقالاً . لأن مجموع أرش الموضحة خمس من الإبل ، أو خمسون مثقالاً . وإن وجد الباقي من اللحم ثلثاً جعل أرش الجناية بمقدار الثلثين من أرش الموضحة ، ثم كذلك إذا بقي النصف أو الربع أو الخمس أو العشر ، وهكذا في سائر الجنايات التي لم يرد تقدير أرشها ، فإنه ينبغي النسبة بينها وبين ما ورد تقدير أرشه من جنسها ، وحينئذ لا يحتاج الحاكم العالم إلى تقليد غيره من المجتهد كائناً من كان . ولا يبقى تقسيم للجناية إلى ما يجب فيه أرش مقدر وما تجب فيه حكومة .
وفي الجنين إذا خرج ميتا الغرة لحديث أبي هريرة في الصحيحين أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة وهو ثابت في الصحيحين بنحو هذا من حديث المغيرة ومحمد بن مسلمة . والغرة بضم المعجمة وتشديد الراء أصلها البياض في وجه الفرس ، وهنا هي العبد أو الأمة ، كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله . وأما إذا خرج الجنين حياً ثم مات من الجناية ففيه الدية أو القود . وهذا إنما هو في الجنين الحر . والخلاف في الغرة طويل قد استوفاه الماتن في شرح المنتقى .
وفي العبد قميته وأرشه بحسبها لاخلاف في ذلك . وإنما اختلفوا إذا جاوزت قيمته دية الحر هل تلزم الزيادة أم لا ؟ والأولى اللزوم . وارش الجناية عليه منسوب من قيمته ، فما كان فيه في الحر نصف الدية أو ثلثها أو عشرها أو نحو ذلك ، ففيه في العبد نصف القيمة أو ثلثها أو عشرها أو نحو ذلك .
أقول : وجه قول من قال انها تجب قيمة العبد وإن جاوزت دية الحر ، أن العبد عين من الأعيان التي يصح تملكها ، فكما يجب على متلف العين قيمتها وإن جاوزت دية الحر ، كذلك يجب على متلف العبد . ووجه قول من قال أنه لا يلزم ما زاد على دية الحر أن العبد من نوع الإنسان وهو دون الحر في جميع الصفات المعتبرة ، فغاية ما ينتهي إليه أن يكون إنساناً حراً في الكمال ، فتجب فيه الدية . وأما الزيادة على ذلك فلا لأن دية الحر هي نهاية ما يجب في الفرد من هذا النوع الإنساني . والأول أرجح من حيث الرأي ، وأما من طريق الرواية فلم يصح عن النبي (ﷺ) في ذلك شئ . وقد روي عن على مثل القول الأول ، وروي عنه مثل القول الثاني . وأما الدابة إذا قتلها قاتل ففيها قيمتها ، وإذا جنى عليها كان الأرش مقدار نقص قيمتها بالجناية . وهذا وإن لم يقم عليه دليل بخصوصه فهو معلوم من الأدلة الكلية . لأن العبد وسائر الدواب من جملة ما يملكه الناس ، فمن أتلفه كان الواجب عليه قيمته ، ومن جنى عليه جناية تنقصه كان الواجب عليه أرش النقص . كما لو جني على عين مملوكة من غير الحيوانات ، وكان الأولى أن يكون المملوك كسائر الدواب يجب في الجناية عليه نقص القيمة
باب القسامة
صورة القسامة أن يوجد قتيل وادعى وليه على رجل ، أو على جماعة وعليهم لوث ظاهر . واللوث ما يغلب على القلب صدق المدعي بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم ، كقتيل خيبر وجد بينهم والعداوة بين الأنصار وبين أهل خيبر ظاهرة أو اجتمع جماعة في بيت ، أو صحراء وتفرقوا عن قتيل ، أو وجد في ناحية قتيل وثم رجل مختضب بدمه ، أو يشهد عدل واحد على أن فلاناً قتله ، أو قاله جماعة من العبيد والنسوان جاؤا متفرقين بحيث يؤمن تواطؤهم ، ونحو ذلك من أنواع الموت ، فيبدأ بيمين المدعي فيحلف خمسين يميناً ويستحق دعواه ، فإن نكل المدعي عن اليمين ردت إلى المدعي عليه فيحلف خمسين يميناً على نفي القتل . ويجب بها الدية المغلظة ، فإن لم يكن لوث فالقول قول المدعي عليه مع يمينه كما في سائر الدعاوي . ثم يحلف يميناً واحداً أو خمسين يميناً . قولان : أصحهما الأول ، فإن كان المدعون جماعة توزع الأيمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح القولين ، ويجبر الكسر ، والقول الثاني كل واحد منهم خمسين يميناً ، وإن كان المدعى عليهم جماعة ووزع على عدد رؤسهم على أصح القولين إن كان الدعوى في الأطراف سواء كان اللوث أو لم يكن ، فالقول قول المدعي عليه مع يمينه . هذا كله بيان مذهب الشافعي . وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعي بل يحلف المدعي عليه ، وقال إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلاً من صلحاء أهلها ويحلفهم على أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلاً . ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة ، فإن لم يعرفوا فمن سكانها .
أقول : إعلم أن هذا الباب قد وقع فيه لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة عن الدلائل ، ولم يثبت في حديث صحيح . ولا حسن قط ما يقتضي الجمع بين الأيمان والدية بل بعض الأحاديث مصرح بوجوب الإيمان فقط ، وبعضها مصرح بوجوب الدية فقط .
والحاصل : أنه قد كثر الخبط والخلط في هذا الباب إلى غاية ، ولم يتعبدنا الله بإثبات الأحكام العاطلة عن الدلائل ، ولا سيما إذا خالفت ما هو شرع ثابت وكانت تستلزم أخذ المال الذي هو معصوم إلا بحقه ، ولهذا ذهب جماعة من السلف منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد وعمر بن عبد العزيز إلى أن القسامة غير ثابتة لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه قد ذكرها الماتن رحمه الله في شرح المنتقى ، وذكر ما أجيب به عنها من طريق الجمهور فليراجع .
إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت وهي خمسون يميناً لقوله (ﷺ) فتبرئكم اليهود بخمسين يميناً وهو في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة .
يختارهم ولي القتيل والدية إن نكلوا عليهم وإن حلفوا سقطت لما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبي (ﷺ) أن النبي (ﷺ) أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقد ثبت أنهم في الجاهلية كانوا يخيرون المدعى عليهم بين أن يحلفوا خمسين يميناً ، أو يسلموا الدية ، كما في القسامة التي كانت في بني هاشم . كما أخرجه البخاري والنسائي من حديث ابن عباس وهي قصة طويلة وفيها أن القاتل كان معيناً وأن أبا طالب قال له اختر منا إحدى ثلاث : إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا ، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله ، فإن أبيت قتلناك به . فأتى قومه فأخبرهم فقالوا : نحلف فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت يا أبا طالب : أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل ، فأتاه رجل منهم فقال يا أبا طالب : أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران ، هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما ، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف .
وإن التبس الأمر كانت من بيت المال لحديث سهل بن أبي حثمة قال : انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا ، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه ثم قدم المدينة . فانطلق عبدالرحمن بن سهل وحيصة وحويصة أبناء مسعود إلى النبي (ﷺ) ، فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال كبر كبر وهو أحدث القوم فسكت ، فتكلما فقال : أتحلفون وتستحقون قاتلكم ، أو صاحبكم . فقالوا : كيف نحلف ولم نشهد ولم نر قال : فتبرئكم اليهود بخمسين يميناً فقالوا : كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله وسلم عليه من عنده وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ فكره رسول الله صلى الله وسلم عليه أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة وقد اختلف أهل العلم في كيفية القسامة اختلافاً كثيراً ، وما ذكره الماتن هو أقرب إلى الحق وأوفق لقواعد الشريعة المطهرة . وقد وقع في رواية من حديث سهل المذكور أن النبي صلى الله وسلم عليه قال : تقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته . فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف وقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي سعيد قال : وجد رسول الله (ﷺ) قتيلاً بين قريتين فأمر رسول الله صلى الله وسلم عليه فذرع ما بينهما فوجد أقرب إلى أحد الجانبين بشبر فألقى ديته عليهم قال البيهقي تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما . وقال العقيلي هذا الحديث ليس له أصل . وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن الشعبي أن قتيلاً وجد بين وداعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم خمسين يميناً كل رجل ما قتلته ولا علمت قاتلاً ثم أغرمهم الدية فقالوا : يا أمير المؤمنين لا إيماننا دفعت دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا فقال عمر : كذلك الحق وأخرج نحوه الدارقطني والبيهقي عند سعيد بن المسيب وفيه أن عمر قال : إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم (ﷺ) قال البيهقي : رفعه إلى النبي صلى الله وسلم عليه منكر وفيه عمر بن صبيح أجمعوا على تركه . وقال الشافعي : ليس بثابت إنما رواه الشعبي عن الحرث الأعور وهذا لا تقوم به حجة لضعف إسناده على فرض رفعه ، وأما مع عدم الرفع فليس في ذلك حجة سواء ورد بإسناد صحيح أو غير صحيح ، والرجوع إلى قسامة الجاهلية التي قررها النبي صلى الله وسلم عليه هو الصواب وقد تقدم ذكرها . وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله وسلم عليه قال لليهود وبدأ بهم يحلف منكم خمسون رجلاً فأبوا ، فقال للأنصار : استحقوا فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله ، فجعلها رسول الله صلى الله وسلم عليه دية على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم وهذا إذا صح لا يخالف ما ذكرناه من وجوب الدية على المتهمين إذا لم يحلفوا ، ولكنه مخالف لما ثبت في الصحيحين إن كانت هذه القصة هي تلك القصة . وقد قال بعض أهل العلم أن هذا الحديث ضعيف لا يلتفت إليه