الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الطهارة/باب التيمم
قال الله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وقد كثر الاختباط في تفسير هذه الآية ، والحق أن قيد عدم الوجود راجع إلى قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فتكون الأعذار ثلاثة السفر والمرض وعدم الوجود في الحضر وهذا ظاهر على قول من قال : إن القيد إذا وقع بعد جمل متصلة كان قيداً لآخرها ، وأما من قال : أنه يكون قيداً للجميع إلا أن يمنع مانع فكذلك أيضاً ، لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض بعدم الوجود للماء ، وهو : أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الباب كالصوم ، ويؤيد هذا أحاديث التيمم الواردة مطلقة ومقيدة بالحضر ، فإن قلت : ما المعتبر في تسويغ التيمم للمقيم ؟ هل هو عدم الوجود عند إرادة الصلاة كما هو الظاهر من الآية ، أم عدم الوجود مع طلب مخصوص كما قيل أنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل ، أو ينتطر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم ؟ قلت : الحق أن المعتبر هو ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة ، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به ، أو يغتسل في منزله ومسجده وما يقرب منهما ، كان ذلك عذراً مسوغاً للتيمم . وليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإخفاء السؤال ، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شئ منه هنالك ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه ، فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة ، والواجب حمل كلام الله على ذلك مع عدم وجود عرف شرعي ، وقد وقع منه صلى الله وسلم عليه ما يشعر بما ذكرناه ، فإنه تيمم في المدنية من جدار كما ثبت ذلك في الصحيحين من دون أن يسأل ويطلب ولم يصح عنه في الطلب شئ تقوم به الحجة ، فهذا كما يدل على عدم وجوب الطلب يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت ، ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر ، فقال صلى الله وسلم عليه للذي لم يعد : أصبت السنة أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد ، فإنه يرد قول من قال بوجوب الإنتظار إلى آخر الوقت على المتيمم سواء كان مسافراً أو مقيماً ، إذا تقرر لك هذا استرحت عن الإشتغال بكثير من التفاريع المحررة في كتب الفقه ، فإن هذه هي ثمرة الإجتهاد ، فأي فرق بين من لا يفرق بين الغث والسمين من المجتهدين وبين من هو في عداد المقلدين ، قال في القاموس : والصعيد التراب أو وجه الأرض انتهى . والثاني هو الظاهر من لفظ الصعيد لأنه ما صعد أي علا وارتفع على وجه الأرض وهذه الصفة لا تختص بالتراب ، ويؤيد ذلك حديث جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره وما ثبت في رواية بلفظ وتربتها طهوراً . كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة ، فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء ، لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية ، وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة ، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول ، فيكون ذكر التراب في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام ، وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث ، ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة ، ويؤيد هذا ما تقدم من تيممه صلى الله وسلم عليه من جدار . وأما الإستدلال بوصف الصعيد بالطيب ودعوى أن الطيب لا يكون إلا تراباً طاهراً منبتاً لقوله تعالى : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذكر والضرورة تدفعه ، فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجاً للنبات . قال الماتن في شرح المنتقى : ومن الأدلة الدالة على أن المراد خصوص التراب ما ورد في القرآن والسنة من ذكر الصعيد ، فالأمر بالتيمم منه وهو التراب لكنه قال في القاموس : والصعيد التراب أو وجه الأرض ، وفي المصباح : الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره . قال الزجاج لا أعلم اختلافاً بين أهل اللغة في ذلك . قال الأزهري : ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله تعالى : صعيداً طيبا هو التراب ، وفي كتاب فقه اللغة للثعالبي : الصعيد تراب وجه الأرض ، ولم يذكر غيره ، وفي المصباح أيضاً ويقال الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه على التراب الذي على وجه الأرض وعلى وجه الأرض وعلى الطريق ، ويؤيد حمل الصعيد على العموم تيممه صلى الله وسلم عليه من الحائط فلا يتم الإستدلال ، وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب الشافعي وأحمد وداود ، وذهب مالك وأبو حنيفة وعطاء والاوزاعي والثوري إلى أنه يجزئ بالأرض وما عليها ، قال : واستدل القائل بتخصيص التراب بما عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعاً بلفظ وجعلت تربتها لنا طهوراً وهذا خاص فينبغي أن يحمل عليه العام ، وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره فلا يتم الإستدلال ، ورد بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ التراب أخرجه ابن خزيمة وغيره ، وفي حديث علي جعل التراب لي طهوراً أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن ، وأجيب أيضاً عن ذلك الإستدلال بأن تعليق الحكم بالتربة مفهوم لقب ، ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الأصول ، ولم يقل به إلا الدقاق ، فلا ينتهض لتخصيص المنطوق ، ورد بأن الحديث سيق لإظهار التشريف ، فلو كان جائزاً بغير التراب لما اقتصر عليه ، وأنت خبير بأنه لم يقتصر على التراب إلا في هذه الرواية . نعم الإفتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر كما سيأتي في حديث مسلم يدل على الإفتراق في الحكم ، وأحسن من هذا أن قوله تعالى في آية المائدة : منه يدل على أن المراد التراب ، وذلك لأن كلمة من للتبعيض كما قال في الكشاف أنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسه من الدهن والتراب إلا معنى التبعيض انتهى . فإن قلت سلمنا التبعيض فما الدليل على أن ذلك البعض هو التراب ؟ قلت : التنصيص عليه في الحديث المذكور انتهى .
يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء لأن حكم التيمم مع العذر المسوغ له حكم الوضوء لمن لم يكن جنباً وحكم الغسل لمن كان جنباً يصلي به ما يصلي المتوضئ بوضوئه ويستبيح المغتسل بغسله ، فيصلي به الصلوات المتعددة ولا ينتقض بفراغ من صلاة ولا بالإشتغال بغيره ولا بخروج وقت على ما هو الحق ، والخلاف في ذلك معروف والأدلة الواردة لمشروعية التيمم عند عدم الماء ثابتة كتاباً وسنة . قال في الحجة : ولم أجد في حديث صحيح تصريحاً بأنه يجب أن يتيمم لكل فريضة ، أو لا يجوز التيمم للآبق ونحوه ، وإنما ذلك من التخريجات ، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والضوء ، ولم يشرع التمرغ لأن من حق ما لا يعقل بادي الرأي أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار ، فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب ولأن التمرغ فيه بعض الحرج ، فلا يصلح رافعاً للحرج بالكلية وفي معنى المرض البرد الضار لحديث عمرو بن العاص رض والسفر ليس بقيد إنما هو صورة لعدم وجدان الماء تتبادر إلى الذهن وإنما لم يؤمر بمسح الرجل بالتراب لأن الرجل محل الأوساخ وإنما يؤمر بما ليس حاصلاً ليحصل التنبيه به انتهى .
أو خشي الضرر من استعماله لما أخرجه داود وابن ماجه والدارقطني رحمهم الله من حديث جابر رض قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون له رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله وسلم عليه أخبرناه بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده وقد تفرد به الزبير بن خريق رحمه الله وليس بالقوي وقد صححه ابن السكن رحمه الله وروي من طريق أخرى عن ابن عباس ، رضى الله عنهما ، وقد ذهب إلى مشروعية التيمم بالعذر الجمهور ، وذهب أحمد بن حنبل رحمه الله وروي عن الشافعي رحمه الله في قول له : إنه لا يجوز التيمم لخشية الضرر ولا أدري كيف صحة ذلك عنهما فإن هذا الحديث يؤيده قوله تعالى : وإن كنتم مرضى الآية . وكذلك حديث المسح على الجبائر المروي عن على رض وكذلك حديث عمرو بن العاص لما بعثه رسول الله صلى الله وسلم عليه في غزوة ذات السلاسل فاحتلم في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه فلما قدموا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله وسلم عليه فقال : يا عمرو أصليت مع أصحابك وأنت جنب ؟ فقال : ذكرت قول الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله وسلم عليه ولم يقل شيئاص رواه أحمد والدارقطني وابن حبان والحاكم وأخرجه البخاري تعليقاً ، قال في الحجة : وكان عمر وابن مسعود رض لا يريان التيمم عن الجنارة وحملا الآية على اللمس وأنه ينقض الوضوء لكن حديث عمران وعمار يشهد بخلاف ذلك .
وأعضاوه الوجه ثم الكفان يمسحها أي الوجه والكفين لما ورد من الأحاديث الصحيحة قولاً وفعلاً وقد أشار بالعطف بثم إلى الترتيب بين الوجه والكفين ، وأما الاقتصار على الكفين فلكون الأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك ، منها حديث عمار بن ياسر : أن النبي صلى الله وسلم عليه أمره بالتيمم للوجه والكفين أخرجه الترمذي وغيره وصححه ومنها ما في الصحيحين من حديث عمار أيضاً أن النبي صلى الله وسلم عليه قال له : إنما كان يكفيك هكذا وضرب النبي صلى الله وسلم عليه لكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه وفي لفظ للدارقطني إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين وقد ذهب إلى أنه يقتصر من اليدين على الكفين عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد واسحق وابن المنذر وعامة أصحاب الحديث هكذا في شرح مسلم . وذهب الجمهور إلى أن المسح في التيمم إلى المرفقين ، وذهب الزهري إلى أنه يجب المسح إلى الإبطين وقال الخطابي : إنه لم يختلف أحد من أهل العلم في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين . والحق ما ذهب إليه الأولون لأن الأدلة التي استدل بها الجمهور منها ما لا ينتهض للاحتجاج به كحديث ابن عمر عند الدارقطني والحاكم والبيهقي مرفوعاً بلفظ التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربه لليدين إلى المرفقين وفي إسناده على بن ظبيان . قال الدارقطني وثقه يحيى بن القطان وهشيم وغيرهما ، وقال الحافظ : هو ضعيف ضعفه ابن القطان وابن معين وغير واحد ، وأما ما ورد فيه لفظ اليدين كما وقع في بعض روايات من حديث عمار فالمطلق يحمل على المقيد بالكفين . واحتج الزهري بما ورد في رواية من حديث عمار أيضاً بلفظ إلى الآباط وقد نسخ ذلك كما قال الشافعي .
مرة بضربة واحدة لأن ذلك هو الثابت في الأحاديث الصحيحة ولم يثبت ما يخالف ذلك من وجه صحيح ، وقد ذهب إلى كون التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين الجمهور ، وذهب جماعة من الأئمة والفقهاء إلى أن الواجب ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين ، وذهب ابن المسيب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات ضربة للوجه وضربة للكفين وضربة للذراعين .
ناوياً مسمياً لما تقدم في الوضوء لأنه بدل عنه وأدلة النية شاملة لكل عمل .
ونواقضه نواقض الوضوء لما ذكرنا من البدلية ، ومن أثبت للتيم شيئاً من النواقض لم يثبت في الوضوء لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ولم نجد دليلاً تقوم به الحجة يصلح لذلك فالواجب الاقتصار على نواقض الوضوء ، وأما وجود الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة بالتيمم فقد صرح النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن لم يعد الصلاة من الرجلين اللذين سألاه بعد أن صلياها بالتيمم ثم وجدا الماء أن الذي لم يعد أصاب السنة والحديث معروف ، وأما قوله للذي أعاد لك من الأجر مرتين فلكونه قد كرر العبادة معتقداً وجوب ذلك فكان له الأجر الآخر لذلك ، وليس المراد ههنا إلا الأجزاء وسقوط الوجوب وقد أفاد ذلك قوله صلى الله وسلم عليه أصبت السنة مع ما في إصابة السنة من الخير والبركة والتعريض بأن ما عدا ذلك مخالف للسنة كما لا يخفى ، وأما القول بأن من أسباب التيمم تعذر استعمال الماء وخوف سبيله ونحو ذلك فلا يخفى أن هذه داخلة تحت ما ذكرناه من عدم الماء أو خشية الضرر من استعماله ، فإن من تعذر عليه استعمال الماء ، هو عادم للماء إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع ، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه فهو عادم ، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء ، وهكذا من كان ينجسه ولا محالة إذا استعمله ، وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له بالنسبة إلى الوضوء ، وأما ما قيل من أن فوات الصلاة باستعمال الماء وادراكها بالتيمم سبب من أسباب التيمم ، فليس على ذلك دليل ، بل الواجب استعمال الماء وهو إن كان تراخيه عن تأدية الصلاة إلى ذلك الوقت لعذر مسوغ للتأخير كالنوم والسهو ونحوهما ، فلم يوجب الله تعالى عليه إلا تأدية الصلاة في ذلك الوقت بالطهور الذي أوجبه الله تعالى ، وإن كان التراخي لا لعذر إلى وقت لو استعمل الوضوء فيه لخرج الوقت فعليه الوضوء وقد باء بإثم المعصية . وأما ما قيل من الطلب إلى مقادير محدودة فليس على ذلك حجة نيرة .