الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس/عزوة قرطبة
الخبر عن غزوة أمير المسلمين أبي يوسف الخامسة
وهى غزوة قرطبة
قال المؤلف عفا الله عنه خرج أمير المسلمين أبو يوسف الى غزوة قرطبة من الجزيرة الخضراء في جيوشه المؤيدة وكتائبه المنصورة المظفرة وذلك في أول يوم من جمادى الآخرة من سنة ست وسبعين وست مائة وخرج ايضا الامير ابن الاحمر بجنوده من غرناطة قالتقى الجمعان بجنان الورد من بلاد شدونة فاقبل عليه امير المسلمين وفرح به وجمع الله تعالى كلمة الإسلام وألف بين قلوب أهله فطابت نفوس المسلمين على القتال وقويت نياتهم فاستعدوا للجهاد فنزلوا على حصن بنى بشير والفتح والنصر اليهم يشير فدخلوه في حينه عنوة بالسيف وقتل جميع رجاله وسبي نساءهم وأولادهم وغنمت أموالهم وهدمت الحصن حتى لا يبقى لها أثر واطلق أمير المسلمين الغارات في كل ناحية من بلاد الكفرة وكل من والى من المسلمين مكان دمر وغنموا من تلك الجهات من البقر والغنم والمعز والخيل والبغال والحمير والزيت والسمن والقمح والشعير ما لا يوصف فكثرت الخيرات في محلّة المسلمين وامتلات ايديهم بالغنائم ثم ارتحلوا الى قرطبة فبرز امير المسلمين عليها بالساقات والجيوش و ضربت عليها الطبول وارتفعت أصوات المسلمين بالتكبير فتحصن الروم بالاسوار والرماة وسار أمير المسلمين تحت ظلال بنوده وقدّم بين يديه ابطاله و جنوده حتى وقف على بابها ثم دار باسوارها ينظر كيف الحيلة فى قتالها ووقف ابن الاسمر بعسكر الاندلس أمام محلة المسلمين يحرسونها خوفا لما يحدث من قبل الروم فتفرقت عساكر بنى مرين والعرب في أحواز قرطبة وحصونها وقراها ومدنها فيقتلون وياسرون ويفسدون ويخربون ودخلوا حصن الزهراء بالسيف قاقام أمير المسلمين على قرطبة ثلاثة أيام حتى هتكها وخرب قراها واحرق زروعها ودوخ أرضها وارتحل عنها الى بركونة فدخل أرياضها بالسيف وخرقها وقطع ثمارها وارتحل إلى أرجونة ففعل بها كفعله في بركونة وبعث الجيوش الى مدينة جيان وبثّ السرايا فى كل جهة فانتشرت في تلك البلدان فلما رءا الفنش ما نال بلاده من الفساد والدمار وما حل برعيته من
القتل القتل والاسر والتبار جنح الى الصلح ورغب فيه وبعث الاقسة والرهبان إلى أمير المسلمين يسالمه ويعفيه فوصلوا الى بابه يرغبون في السلم صاغرين ويضرعون اليه داخلين فقال لهم انا ضيق لا أصالحكم إلا أن صالحكم ابن الاحمر فساروا إلى ابن الاحمر وقالوا له ان أمير المسلمين قد ردّ الأمر اليك وقد أتيناك لتصالحنا صلحا مديدا يدوم على توال الاعصار ويبقى ما تعاقب الليل والنهار وأقسموا له بصلبانهم إن لم برضه الفنش خلعوه من سلطانهم لانه لم ينصر الصلبان ولا حمي الثغور ولا ضبط البلدان وقد ترك رعيته نهبا للعدوان و تمادت بهم الاحوال لم يبق منهم أحد، فاتى ابن الاحمر الى أمير المسلمين فبيّن له الامور وأخبره انّ الاندلس لا تسكن الا بالصلح على قديم الدهور وقد سمّا الله تعالى الصلح خيرا فانعقد الصلح بين ابن الاحمر والرهبان وقال لهم تصلون الينا في اثرنا الى حضرة أمير المسلمين فيكون بها تمام الصلح والاشهاد به علينا وعليكم ان شاء الله تعالى فارتحل أمير المسلمين من ارجونة قاصدا الى الجزيرة وأخذ على طريق غرناطة فأعطا المغانم كلّها لابن الاحمر احسانا آليه وفضلا منه وايثارا عليه وقال لا يكون حظ بنى مرين من هذه الغزوات الا الاجر والثواب فسار ابن الاحمر بالغنائم الى غرناطة وسار أمير المسلمين على مالقة حتى دخل الجزيرة وذلك فى العشر الأول من شهر رجب من سنة ست وسبعين وست مائة فنزل بمحلّته خارجها وعند وصوله اليها مرض وبقى مريضا سبعين يوما وذلك عشرين يوما من رجب وشعبان باسره وعشرين يوما من رمضان حتى تحدث الناس بموته في بلاد العدوة قبعث ولده الأمير أبا يعقوب الى العدوة يهدن الناس ويسكن روعاتهم فلما وجد أمير المسلمين الراحة من مرضه أتته أرسال الروم مع الرهيان والاقسة في تمام الصلح فصالحهم وذلك في آخر شهر رمضان من السنة المذكورة، وفي شهر رمضان من السنة المذكورة بعث الرئيس ابن أشقيلولة الى أمير المسلمين يرغب منه أن ياخذ منه مالقة وقال له إنى قد عجزت عن ضبطها فإن لم تصل اليها وتقبضها من يدى أعطيتها للروم ولا يتملّكها ابدا ابن الاحمر وكان ابن الاحمر قد أعطى عليها للفنش من البلاد والحصون عددا كثيرا وكذلك أعطى عليها ابن اشقيلونة فبعث اليها أمير المسلمين ولده الأمير أبا زيان فقبضها منه ودخل في قصبتها وذلك فى العشر الآخر من شهر رمضان المذكور فاقام أمير المسلمين بعده بالجريرة حتى انقضى شهر رمضان وعيد عيد الفطر بها ثم خرج الى مالقة في ثلاث من شوال فدخل في اليوم السادس منه فتلقاه اهله ببرز عظيم وفرحوا به وتهدّنت روعاتهم وتامّنت بلادهم فاقام بقيه شوال وشهر ذي قعدة وثمانية عشر يوما من شهر ذي حجة وارتحل إلى الجزيرة برسم الجواز الى العدوة بعد أن رتب فيها إلف فارس من بنى مرين والعرب وسكن في قصبتها عمر بن على وقدّمه عليها وعلى جيشها وجاز الى العدوة وذلك في العشر الاوائل من المحرّم سنة سبع وسبعين وستّ مائة فوصل مدينة فاس فاقام بها أياما ثم خرج الى مدينة مراكش، ولمّا تحقق الفنش لعنه الله جواز امير المسلمين الى العدوة واستقراره بحضرة مراكش نقض صلحه ورفض الايمان ونكث العهود ونسي الاحسان وهذه صفة المشركين الذين وصفهم الله تعالى في كتابه المبيين فقال وقوله الحق يَنْقُضُونَ عهدعم في كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُون فبعث اللعين الأفروطة يحصر الجزيرة وقطع المجاز فلمّا رءا ذلك عمر بن على قائد امير المسلمين على مالقة غدر وقام بها وراسله ابن الاحمر في شانها فباعها منه بخمسين الف دينار وحصن سلوبانية وذلك في نصف رمضان من سنة سبع وسبعين وست مائة وأتى ابن الاحمر بجيوشه حتى دخل مالقة وملكها وحمل عمر بن على جميع ما كان أمير المسلمين تركه بها من العدد والمال برسم المرتبات والانفاق على أجفان والغزاة، واتصل بأمير المسلمين غدر ابن على وبيعه مالقة لابن الاحمر فبلغ منه كل مبلغ وخرج من فوره من مراكش قاصدا الى الاندلس وذلك في ثلاث شوال من سنة سبع وسبعين وست مانة فوصل قرية مكول من بلاد تامسنا فتوالت عليه الامطار والرياح والسيول لم تزل الانواء مصطبحة لا يقلع المطر ليلا ولا نهارا فلم يستطع الرحيل لاجل ذلك ووردت عليه الاخبار وهو بهذه المنزلة أن النصارى دمرهم الله قد نزلوا الجزيرة برّا وبحرا لفحلات في البر والاجفان في البحر وكان نزول الافروطة عليها في نصف الأول من سنة سبعة وسبعين وست مائة فنزلها الفنش بعساكره فى البر في سادس شوال من السنة بعينها فامر أمير المسلمين بالرحيل الى طنجة لينظر فى الجواز الى الاندلس واستنقاد الجزيرة فبينما الناس يرتحلون اذا تواثرت الاخبار فى المحلّة أن أمير عرب سفیان مسعود بن كانون قد نافق ببلاد نفيس من أحواز مراكش وتبعه جميع عرب سفیان فاسرع أمير المسلمين بالرجوع الى مراكش فلما وصلها فر مسعود بن كانون أمامه أن جيل السكسيوة وتمنّع منه هنالك وترك جميع أمواله وأمـتـعـتـه فاخذها أمير المسلمين ففرقها في بني مرين ونزل عليه فحاصره بجبل السكسيوة وأقام عليه وأقسم أن لا يرتحل عنه حتى ينزل على حكمه او چوت دون ذلك وكان نفاق مسعود بن كانون
المذكور المذكور يوم الاحد الخامس من ذي قعدة من سنة سبع وسبعين وست مائة فاقم محاصرا له وبعث ولده الامير زبان الى بلاد السوس فدخلها وهدئها وقمع ثوارها وجبا خراجها ورجع الى والده فوصله فى اخر يوم من ذى حجة من السنة المذكورة ولما طال مقام أمير المسلمين على حصار الثائر مسعود بن كانون توارثت عليه الاخبار بما هي عليه الجزيرة الخضراء من شدّة الحصار وتوقع القتل والاسر بالليل والنهار وكان جملة من نزلها في البرّ الفنش لعنه الله فى ثلاثين ألف فارس من الروم وثلاث مائة الف راجل فشدّ عليها الحصار ودارت محلاّتهم بالاسوار واحدقوا بها كالسوار بالمعصم ونصبوا عليها المجانيق والرعادات وضيقوا عليها ضيقا عظيما حتى لا يدخلها أحد ولا يخرج منها وكان أهلها لا يسمعون خبرا إلا ما ياتيهم به الحمام من جبل الفتح يحمل اليهم الكتاب ويرد عليهم الجواب وفني أكثر أهلها بالاسر والجوع والقتل وسهر الليل في الاسوار والحراسة والقتال بالليل والنهار حتى اشرف من بقى بها على هلاك وقطعوا أياسهم من الحياة فجمعوا صبيانهم وطووهم خوفا عليهم من التحويل وتقاء أن تدخل عليهم المدينة فيدعونهم الروم الى تبديل، فلما سمع أمير المسلمين ما ءال اليه أمر الجزيرة وقد سبق يمينه أن لا يرتحل عن ابن كانون حتى يظفر به او ينزل اليه على حكمه دعا بولده الامير الاجلّ ابى يعقوب وأمره أن يسير الى طنجة برسم النظر في استنقاد الجزيرة وعمارة الاجفان لجهاد الافروطة المحاصرة لها فخرج الامير أبو يعقوب من حضرة مراكش قاصدا الى طنجة وذلك في شهر محرم من سنة ثمان وسبعين وست مائة فوصل طنجة في غرّة صغر ثانى المحرم المذكور فامر بعمارة الاجفان بمدينة سبتة وطنجة وبادس ومدينة سلا وفرق الاموال والعدد على الغزاة والمجاهدين وكان من أهل سبتة من هذه العمارة وغزو هذه الأفروطة جهد عظيم فان الفقيه أبا حاتم العرفى رحمه الله لما وصله كتاب الامير ابى يعقوب يامره بالعمارة جمع اشياخ سبتة وقوادها ورؤساءها وغزاتها فندبهم للجباد وحضّهم على نصرة أهل الجزيرة واستنقاذها مما هي فيها من الهلاك والجلاد فبادر جميع من فيها وسارعوا خفافا وتقالا الى ركوب الاجفان فعمر اهل سبتة خمسة واربعين جفنا ما بين كبار وصغار وركب فيها تطوعا برسم الجهاد جميع من بسبتة من الفقهاء والصلحاء والطلبة والتجار والسوقه ومن لا معرفة له بالحرب كلّ قد باع نفسه من الله تعالى ولم يبق بسبتة الا النساء والزمناء والشيوخ الذين لا قوة لهم والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم وعمر ابن الاحمر فى المنكب والمرية ومالقة
ثني عشر جفنا وعمّر الأمير أبو يعقوب بطنجة وسلا وبادس وانفا خمسة عشر جفنا فنض في الجميع اثنان وسبعون قطعة واجتمعت أجفان المسلمين كلها بسبتة ثم انقلعوا منها الى طنجة ليراه الامير أبو يعقوب فوصلوها فى أحسن زي واكمل استعداد، فركب فيها هنالك جماعة من انجاد بني مرين ممن رغب في الجهاد وعقد لهم الأمير أبو يعقوب رايته السعيدة المنصورة، وقال سيروا على بركة الله تعالى ويمنه، فارتفعت اصوات المجاهدين بالشهادة، وضح الناس بالدعاء لهم والابتهال إلى الله تعالى في نصرهم وتأييدهم على عدوهم، فاقلعوا من طنجة ثامن ربيع الأول المبارك من سنة ثمان وسبعين وست مائة والناس يبكون ويتضرعون فاقام اهل سبتة وطنجة وقصر المجاز أربعة أيام بليالها لم يتم منهم أحد ولا غلق فيها باب ومن كان بقى منهم من الاشياخ والصبيان ركبوا الأسوار وأقبلوا على الدعاء والتضرع لهم بالليل والنهار فانتشرت قلوع المسلمين في البحر وقدموا المناطح وصار الموج لهم كالأباطح وسكنت بیمن الله تعالى الرباح، ليطيب لهم الحرب والكفاح، واذا سكنت البحار الزواخر، تعطلت عن جريها القراقر فقصدت أجفان المسلمين جبل الفتح فباتوا به تلك الليلة مرابطين وباتوا المجاهدون باجفانهم ما بين تال لكتاب الله تعالى وذاكر، وداع ومتجهد، فلما انفجر الصبح من يوم الاربعاء العشر من ربيع الأول المذكور صلوا صلاة الصبح دون وقتها فقام فيهم بعض الفقهاء الصلحاء خطيبا وذكره بما أعد الله تعالى للمجاهدين من الأجر العظيم والتواب الجسيم حتى ذرفت عيونهم وطابت قلوبم وقويت نفوسهم وخلصت نياتهم واشتاقوا الى الشهادة وتوادعوا وعانق بعضهم بعضا، وتعافوا فيما بينهم ثم أقلعوا قاصدين نحو اجفان المشركين، فلما أبصر الروم المسلمين قاصدة نحوهم وقد سدت المسالك قاصدة للحروب والمهالك قذف الله تعالى الرعب في قلوبهم والتحم بعضهم ببعض ليكون أمنع لهم في حروبهم وصعد قائدهم الملتد الاكبر ظهر قرقوره لیری اجفان المسلمين فعد منها الفا وظن أن الباقي اكثر وعدها قواد الروم فاجمعوا على أنها الف ونيف ليس فيها عندهم خلاف ولا ريب وسقط في أيديهم وكثرها الله تعالى في أعينهم وأيقنوا بالهلاك والدمار وعزموا على الهروب والغرار واقبلت أجفان المسلمين أنجدهم االله تعالى فاصطفت امامهم مثل السور متوكلين على الله في جميع الأمور وكلهم قد وطن نفسه على الموت وباعها الله تعالى بالجنة قبل الغوت فبرز اليهم الملتند قائد الافروطة في قرقورة قداعدها وبرز معه جماعة من قواد الروم وغزاتها في مقاطع وقرائر هائلة وكلهم قد لبسوا الحديد وأظهروا العدة والعديد واكبر جفن من أجفان المسلمين وهو الغراب ترتفع عليه القرقورة ارتفاع الجبل الشاهق واذا نشرت شراعها صيرته لها أرضا وجرت عليه جري الجواد السابق، فالتحم الحرب بين الفريقين، وتشهد المسلمون وقالوا لا اثر بعد عين، واقبلت سهام المسلمين عليهم صائبة كانها القطر الواكف، أو الريح العاصف، في تنفذ التراس والدروع، وتفرق الكتائب والجموع، ونصر الله تعالى عباده المؤمنين، فخرجوا بثلاث قطع من اجفان الكفار، ووكثر فيما بقي من الاجفان بالقتل والجراج، وتوالى رشق السهام وطعن الرماح، فلما رءا الكفرة ما نالهم من البوار، ولوا الادبار، واخذوا فى الفرار، وقالوا هذه سفرة دائرة وكرة خاسرة، فترامى المسلمون معهم في الاجفان فقتلوا منهم عددا لا يحصى، وترامى أكثرهم في البحر يعومون كالضفادع ويتساقطلون فيه تساقط الفراش في الشهاب الساطع، فقتلهم المسلمون بالرماح الذوابل والسيوف القواطع، حتى لم تبق منهم باقية، واضحت أجفانهم خالية خاوية، فملكها المسلمون واحتووا على ما فيها من العدد والازواد، وفرح المجاهدون واستبشر المسلمون الذين بداخل الجزيرة الخضراء بفساد الافروطة وهلاكها وقتل جماعتها وأخذها، وأيقنوا بالحياة بعدما أشرفوا على الوفاة، واتاهم من الله تعالى الامان بعدالذعر، واليسر بعد العسر، والنصر بعد الصبر، والرخاء بعد الشدة، والسراء بعد الضراء، والضياء بعد الظلام، والصحو بعد الغمام، ودخلت اجفان المسلمين الجزيرةالخضراء على من بها من الروم عنوة بالسيف وقتلوا جميع من وجدوه بها واسر قائدهم الملتد وجماعة من قواد الروم منهم ولد اخت الفونسو وكبير بيوته واحتوى المسلمون على جميع ماكان بالجزيرة وفى الأجفان من العدد والسلاح والاسلاب والدخائر التي جاء بها التجار من الحلى والثياب والجواهر والعدد، فاحتملوا من ذلك ما لا يصفه لسان ولا يحويه عدد.
ولما رأى اهل المحلة التي في البر محاصرين للجزيرة الخضراء ما أصاب أهل البحر من الأسر والقتل والفساد خافوا من فجأة جواز الامير يوسف إليهم، إذ كان مقيما بساحل طنجة مستعدا للجهاد فاخذوا فى الرحيل والفرار وخلفوا جميع ما كان معهم من الاثقال والازواد فى تلك الدار، فخرج الناس من الجزيرة الخضراء رجالا ونساء فاننشروا في مضاربهم، وجالوا في منازلهم يقتلون ويغنمون، فوجدوا بها من الاسلاب والاموال والفواكه والادام والشعير والدقيق ما لا يحصى كثرة، فنهبوا ذلك كله وادخلوه المدينة فبيع الدقيق القرطبي بالجزيرة في عشي ذلك اليوم ربعا بدرهم، بعد ان كان في غدوته معدما بالكلية لا يوجد غاليا ولا رخيصا ، ومن فضل االله تعالى وتأييده لأوليائه في هذه الغزوة أن أجفان المسلمين كانت نيفا وسبعين جفنا، وافروطة الروم زادت على أربع مائة قطعة فغلبتها وسار البشير إلى الامير أبي يعقوب فاعلمه بما سناه الله تعالى لعباده المسلمين من الفتح الجليل والصنع الجميل فحمد الله تعالى واثنى عليه وكتب في الحين الى والده بالفتح وكانت هذه المنّة العظيمة الجسيمة في اليوم الثاني من شهر ربيع الاول المبارك يوم مولد سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم من سنة ثمان وسبعين وست مائة فورد كتاب الفتح على أمير المسلمين وهو محاصر لمسعود بن كانون بجبل سكسيوة فخر لله تعالى ساجدا ولم يزل له شاكرا وحامدا ثم أمر بإخراج الصدقات وتسريح المسجونين والمفرحات وضرب الطبول في جميع بلاده وكان رحمه الله من حين اتصل به حصار الجزيرة الخضراء لم يلتذ بمنام ولم يستطب طعاما ولم يقرب أمرأة ولا غير زيا ولم يطب له عيش الى أن وصله خبر الفتح وفساد الافروطة وفرار المحلة واقلاعها عن الجزيرة الخضراء وجاز الأمير أبو يعقوب بائر هذا الفتح الى الجزيرة الخضراء وذلك في غرة ربيع الثاني فخافت الروم في جميع الاقطار وعملوا على الحصار في جميع الامصار، فعاقه عن غزو بلادهم تنافسه مع أبن الأحمر في أخذ مالقة، فصائح الامير أبو يعقوب الفونسو على أن يترك غرناطة وجاز الى العدوة وجوز معه زعماء الروم وسار بهم الى ابيه ليتم لهم الصلح بين يديه وظن أن فعله ذلك مما يرضي أباه فلما سمع أمير المسلمين بذلك غضب له ولم يرضه وسار إلى بلاد السوس واقسم الا يرا احدا من الزعماء الذين أتى بهم ولده إلى أن يراهم في بلادهم فانصرف الزعماء خائبين ورجع أمير المسلمين من بلاد السوس فدخل حضرة مراكش وأقام بها أياما وخرج الى مدينة فاس فوصلها واستقر بحضرته من المدينة البيضاء منها وانفذ الكتاب الى قبائل بنى مرين والعرب يستنفرهم للجهاد ثم خرج من حضرة المدينة البيضاء قاصدا الى الاندلس برسم اصلاح احوالها وتسكين فتنها وجهاد عدوها وذلك في غرة رجب من سنة ثمان وسبعين المذكورة فوصل طنجة فى نصف رجب المذكور فنزل بقصبتها واستشرف على أحوالها منها فوجدها قد أضرمت نارا وعظم النفاق في جميع أقطارها بين المسلمين والروم واغتنم العدو فرصته فيها لغيبة امير المسلمين عنها وتغيره عن ابن الاحمر بسبب مالقة، فبعث رسوله الى ابن الاحمر ليرد عليه مالقة ويصالحه، فامتنع ابن الاحمر عن صلحه واغلط له في القول، وكان ابن الاحمر قد صالح يغمراسن بن زیان وبعث اليه أموالا جليلة وهدية عظيمة على أن يشغل عنه أمير المسلمين ويشعل عليه الحرب ويشن الغارات على بلاده حتى يمنعه من الجواز الى الاندلس فاخبر امیر المسلمين بخبرها فبعث رسله على يغمراسن يسأله عن الذى بلغه ويطلب منه تجديد الصلح، فقال للرسول لا صلح بين وبينه أبدا وليس له عندى ما عشت الا لحرب وكلما وصله عن صلحى مع ابن الاحمر فهو حق فقل له يتاهب للقائى ويستعد لقتالي ونزالي، فأبلغه الرسول المقالة فاسترجع أمير المسلمين فقال اللهم انصرني عليهم يا خير الناصرين ثم خرج من طنجة راجعا الى مدينة فاس فدخلها في آخر شوال من سنة ثمان وسبعين وست مائة فكانت مدة اقامته بطنجة ثلاثة أشهر وسبعة أيام فاقام بمدينة فاس وبعث رسوله ثانية إلى يغمراسن ليقيم عليه الحجة ويبين له المحجة، ويقول له يا مغرور الى متى هذا الضلال والغرور أماأان أن تنشرح الصدور، وتنقصي هذه الشرور؟ أما علمت أن السن قد انتها وذهب الشباب وجاوزت معترك المنايا، فهلم الى الصلح الذي جعله الله تعالى خيرا للعباد، واسلك منهاج التقوى والرشاد وبادر الى التعاون على البر والتقوا والجهاد:
فوصلته الرسل وأبلغوه الرسالة وأدوا اليه الموعظة والمقالة فلما سمع ذكر تاشفين في اثناء اللفظ أقام منزعجا وقعد وكاد يتميز من الغيظ وقال والله لا كففت من تجين ولو رأيت الفنش فى سجين فليصنع ما بدا له وليتاهب للحرب فهوأولى به، فلما قطع المنصور من صلحه الاباس خرج إلى قناله من حضرة فاس وذلك في شهر ذي الحجة سنة تسع وسبعين وست مائة فسار حتى وصل فج عبد الله فاجتمع هنالك بولده الأمير أبي يعقوب ثم ارتحل إلى رباط تازا فاقام به اياما ثم خرج فنزل وادي ملوية وليس في جيشه خمس مائة فارس فاقام عليه أياما فتلاحقت به الجيوش والابطال وتوافدت عليه قبائل مرين اقبالا وقدمت عليه العساكر كالسيول حتى ملات محلته الرُبا والسهول فارتحل حتى نزل تامت فتوفى هنالك ولده ابراهيم ثم سار حتى نزل وادى تافتت وأما يغمراسن فنزل أمامه بالمال والاعيال والنفير والقطمير وقدمت معه قبائل الاعراب بالشاة والبعير فمنع أمير المسلمين الناس من القتال. فاشتاقت بنوا مرين للحرب والنزال فخرجت جماعة منهم متصيدين وعلى محلة يغمراسن متشوّقين فاذا بهم لذة الميدان وصلوا إلى أطراف محلة يغمراسن فخرجت اليهم بنوا عبد الوادي وبادرت اليهم الاعراب كالجراد فكسروهم حتى وصلوا شفير الوادى فلما رءا أمير المسلمين بني عبد الوادى فى عاثر خيله وكان كما سلم من صلاة الظهر ركب جواده وركبت جيوش مرين والعرب وسائر الاجناد واقبلوا نحوهم كالاسد ومرت الخيل على قسمين نصف قصد محلة يغمراسن ونصف سار الى محلة العرب الذين اقبلوا معه وتأخر أمير المسلمين هو وولده الامير أبو يعقوب في نحو الفي فارس من انجاد بني مرين فالتحم القتال وحمى الوطيس واشتد الحرب بين الفريقين وصرخ ابليس ولم يزل القتال يشتد بينهم إلى صلاة العصر فقبل الامير أبو يعقوب في نحو من الف فارس من بني مرين وأقبل ولده الأمير أبو يعقوب كذلك في ناحية أخرى وكل واحد منهما بطبوله وبنوده فاحدقوا بهم من جانب وأحاطوا بهم كالعذاب الواصب وأسبلوا فيهم القنى والقواضب فرءا يغمراسن ما لا يقدر عليه فولى هاربا مهزوما وخلف القباب والاموال والمضارب والعيال وفر في البيداء كعوائده ولم يفكر فى أمواله ولا في نواهده/ قواعده فقتلت جنوده و خمدت بنوده ودخل الى حضرته ونحسه باد على غرته وانتهب الناس جميع محله ولم يزل الناس طول ليلتهم الى الصباح ينهبون سائر البلاد والنواحي وباتت طبول امير المسلمين في محلّته تضرب في الخيام طول ليلته وأخذ أموال العرب باسرها وامتلأت ايدي مرين من شاتها و بعيرها ووصل ابو زبان بن عبد القوى الى أمير المسلمين الى يوسف وبايعه وأقام معه في بلاد يغمراسن هو وقبيلته من بني تجين يومرون ويفسدون ويخربون فلما استاصل جميع بلاده وأكل زرعها ونهبها وخرب ربوعها امر بني تجين بالرجوع الى بلادهم وأعطاهم أموالا جليلة في حياتهم واقام هو على تلمسان حتى وصلت تجين بلادهم ثم ارتحل راجعا الى المغرب فوصل مدينة فاس فدخلها في شهر رمضان من سنة ثمانين وست مائة فاقام بها الى اخر شوال وارتحل إلى مدينة مراكش في اول شهر ذى قعدة من سنة ثمانين المذكورة فدخلها في غرة محرم من سنة احدى وثمانين وست مائة فبنا بها بإمرأة مسعود بن فانون وبعث ولده الأمير أبا يعقوب الى بلاد السوس واقام هو بمراكش فوصله بها رسول الفونسو وكتب يدعوه فيها الى نصرته ويقول له أيها الملك المنصور أن النصارى نقضوا عهدي وذروا علي مع ولدي وقالوا شيخ كبير قد ذهب رأيه وفنا عقله وأعني عليهم ويكون سيري معك اليهم واغتنم المنصور هذا الحال وجعل جوابه اليه ارحل فارتحل عن مراكش مرّاكش في ربيع الأول فلم يدخل بلدا ولا تلبث ولا أمهل حتى وصل الى قصر المجاز فجاز منه إلى الخضراء وذلك في ربيع الثاني من سنة احدى وثمانين وست مائة فوجد النصارى فى غاية الضعف والشتات فاتته خصص بلاد الاندلس فسلموا عليه فارتحل ونزل بصخرة عباد فأتاه الفونسو بها خاضعا ذليلا فاكرمه أمير المسلمين وعظم قدره وشكى اليه بقلة ذات يده وقال له ما فى غياث سواك ولا نصرى الا اليك ولم يبق لي الا التاج وانا في هذه الحركة محتاج وهو تاج ابى واجدادي فخذه رهنا في المال واعطنى ما أنفقه في الحال فاعطاه أمير المسلمين مائة الف دينار وسار معه يغزوا في بلاد الروم حتى وصلوا الى قرطبة فنزل عليها وقاتلها أياما وولد الفونسو محصور بها وبعث سراياه الى جيان فافسد زرعها ثم ارتحل أمير المسلمين الى احواز طليطلة يقتل ويسبى ويغنم الغنائم ويخرب القرى والحصون حتى وصل الى مجريط من أحواز طليطلة وقد امتلات ايدى المسلمين بالسبى والغنائم فرجع لاجل ذلك الى الجزيرة فكانت غزوة عظيمة لم يكن مثلها في سالف الدهر فدخل الجزيرة في شعبان من السنة المذكورة وفى الغزوة السادسة، فاقام بالجزيرة الى آخر ذي الحجة من العام المذكور وخرج أول محرم من سنة اثنتين وثمانين وست مائة فنزل مالقة وفتح باحوازها حصونا كثيرة منها حصن قرطبة ونكوان وسهيل، وفي هذه السنة اصطلح ولد الفونسو مع أبن الاحمر لاجل صلح والده مع أمير المسلمين ابى يوسف رحمه الله فاشتعلت الاندلس نارا واصل ذلك مالقة وضاقت الدنيا على ابن الاحمر فبعث رسله إلى الامير ابى يعقوب ببلاد العدوة ويسأله الجواز ليصلح هذه الخطوب فجاز الامير أبو يعقوب الى الاندلس في شهر صفر من سنة اثنتين وثمانين وست مائة بعد ان دام النفاق بينهما مدة فاصلح الله تعالى على يديه بين المسلمين ورفع ببركته أعلام الدين واجتمعت كلمة الاسلام ورجع الغزو لعبدة الاصنام وبث أمير المسلمين سراياه في بلاد الكفرة فغنموا وسبوا ثم خرج من الخضراء غازيا الى قرطبة وفي غزوة السبرة *