مقامات الورغي/المقامة الختانية
المقامة الختانية
رب يسر ولا تعسر حدثنا بعض الثقات، ممن تحيا بهم القلوب الموات، قال: كنت ممن تعلق بالأدب، وجعل اقتناءه غاية الأرب، فاستسهل في تحصيله الأوعار، واستقرب له بعيد الأسفار، واستعظم منه ما رأيت، واستثبت من بديعه ما رويت، فبينما أنا على كاهل الاغتراب، مستأنسا بالبعد عن الإقتراب، إذ أنا بجماعة في بعض الأركان، قلما يظهر مثلهم في الإمكان، وهم في مخاطبة تستعبد الأحرار، ويسلو بها الغريب عن الأوكار. وملخصها أن هناك قصيدة أنشدت من نبيه، في تهنئة سلطان زمانه بختان بنيه، وكل منهم يكيفها من الحسن بكيف، وكادوا يعلقونها برأس الشريف، وقريب منهم قيد ذراع، مخزنبق لينباع، قال لهم لما استفرغوا من استقرائها قواهم، وصدرت بأعجازها لأهل زمانهم فتواهم، لو اسمعتموني تلك الفريده، حتى أنظر في أمر هذه القصيده، أهي صحيحة فتحمدوا، أم سقيمة فترشدوا، فكأنهم نظروه بعين الاحتقار، فأسقطوه عن درجة الاعتبار، فقال: ما لكم صددتم عني رغبه، وهل عليكم من إنشادها من سبّه، فاعلموا أن الرجال لا تدخل تحت قياس، والمنح الإلاهية لا تقمع بالإياس، فقربوا محله بعد أن أبعدوا، وطمعوا في إنائه عنهم فأنشدوا:
فاستشرفها استشراف المطل، وتأملها تأمل المشمعل، ثم قال: يا قوم لو لا أن الحسد قد غلب، ومتطلب الإنصاف في تعب، لقلت لكم: إن هذه اليتيمه، لا تستحق هذه القيمة، ولكن إذا رفع المحسن إلى مقامه، ونزل بالمسيء إلى رغامه، زاد المحسن في إحسانه، وربما أناب المسيء عن نقصانه، وجرت الأمور على سداد، وإلا فالفساد الفساد، فإن تضمنتم لي بالإنصاف، أفدتكم غريب الأوصاف، فقالوا لنا شرطك وزياده، فعجل لنا هذه الإفاده، فأخذ القلم في الحال، وخط على الصحيفة فقال:
فلما وصل إلى هذا الحد، قال: دونكم تمام الوعد، فقد عورضت أبياتكم بضدّها، وإن زدت أربعا على عدها، فقالوا له: مهلا مهلا، ولا تقطع هذا المستجلى، وزينه بذكر السطان، صاحب هذا الختان، فإن التنويه به فرض، وحبه حق على أهل الأرض، فزجر قلمه لطريقه، ولم يمهله إلى ابتلاع ريقه، وقال:
فلما وقف قلمه عند هذه الغايه، وختم بالحمد لله على النهايه، قالوا له: إن هذا قول يقابل بقول، فأرنا ما تحصل به الطول، قال: أجل عليّ البيان، فاسمعوا، وغذا سمعتم فعوا، وغذا ضربت لكم مثالا فاقنعوا، فإن المثال الواحد للذكي، أنفع من الألف للغبي، فانظروا أسعدكم الله إلى المطالع كيف تباينت، وفيما بعدها من الأبيات كيف تمايزت، فإن الطالع الأول حسن الفتح بالسرور وعمّم، وغيّا عليه وتجاهل فيه وما تمّم، ثم انه أسقط عروضه عن ضربه في الغنّه، وركب بارتكاب الضرورة فيه وخز الأسنه، والثاني حسن المفتح بالوفاء بالمراد، بعد أن ضمنه عدة الأجواد، وخاطب الممدوح فتلذذ بخطابه، وأنجز الوعد ولم يؤخره إلى تطلابه، وعيّن مثار الوعد، وعمّم حسناه، ولم يقتصر على وحدته بل ثناه، مع سلامة لفظه مما غرب به الأول، وإن كان يتمحل له من يتأول، غذ الطالع ليس كغيره في التشديد، لأنه أول ما يقرع الأسماع من الأناشيد، وتأملوا ما تحت لفظ المراد من الأمور، وإلى قصور لفظ السرور المذكور، وتتبعوا بقية الكلام بهذا النمط، فلعلكم تقفون على مواقع السقط، من المعاني المتداخله، والألفاظ المتخاذله، حتى تصلوا إلى مصراع الحديد، فتجدوه في المواجهة غير سديد، فهل تروني في هذا القول تعصبت، فقالوا: كلا وحرمة الأدب لقد أصبت، فاليك يساق الحديث، لمعرفتك بالطيب والخبيث، فجوزيت بالحسنى وزياده، وختم لنا ولك بالسعاده، والسلام.
مقامات الورغي | ||
---|---|---|
| المقامة الخمرية | المقامة الباهية | المقامة الختانية |