مقامات الورغي/المقامة الباهية
المقامة الباهية
أحمد الله الذي أظهر في كل شيء آياته، وأصلي وأسلم على من البلاغة أعظم معجزاته وعلى آله عيبة الاصطفا، وصحابته إخوان الصفا، وأسترحم الله حشاشة يستهويها النسيب، ويرجعها إلى الشباب من المشيب:
يا فرسان ميادين الكلام، وأرسان أفانين المرام، باكر ربعكم مغدق السحاب فصنّف وبادر سمعكم ريق الخطاب فشنّف هذه أعزّكم الله هزّة ارتياح، ونخبة امتياح، يسفر صبحها عن عيون أعلام ويطلع في أفقها شموس أحلام، فهل تفسحون لها ذرعا، وتفتحون لها قلبا وسمعا، فلا تضجروا بشكواها، فالفنون جنون ولا تتبرموا بنجواها، فالحديث شجون ولعلكم تسمحون بالقبول، فتستمعون لما تقول: إن أبا عذرها، المطلعكم على سرها، ممن نشأ مذ شب، بين أزهار رياض الأدب يستنشق منها نفح الطيب، ويهصر من أغصانها الرطيب، ويسمع من أطيارها الأغاني، ويتعرف من أصواتها البيان والمعاني، ويتتبع مساقط افنشا، كلما تبلج صبح الأعشى فيلتقط منها قلائد العقيان، ويضرب بها المثل السائر في الاستحسان، ويهيم ببديعها ويتطنف، فيأتي منه بالغريب المصنف، حتى نظم منها سلكه، وشحن منها فلكه وساجل عمر في بني مخزوم وقال في المناجزة أقدم حيزوم ولما راجت سوق المليح وطلب، من متاجرها الصفيح، وحضر الناقد والمحك، لئلا يصدر العاقد على شك أبرز ما يترجل له الخميس. ويعترف بنباهته ابن خميس، وتتنافس في اقتنائه الملوك، وتتضاءل له الغزالة عند الدلوك، فما عرجت السماسرة إلا عليه، ولا طمحت النفوس إلا إليه، فهناك تبينت الشيم وتمايزت القيم وأبعد المقصر فكدم وندم حيث لا ينفعه. الندم، وأحل المجيد، محلّ القلادة من الجيد، ولبث على تلك الصفة العجيبة، يجلو كلّ يوم غريبه، إلى أن أظهر الدهر القطوب، وأطبق الغارة ليل الخطوب، فتمزّق ذلك السمط شذر مذر، ولم يبق من درره عينٌ ولا أثر، فإذا هو منبوذ بالعرا، محطوط إلى الحضيض من الذرى والذئاب تعبث بكسبه والكلاب تنبح بسبه، وكأنه لم ينقد له الزمان مواتيا، ولم ينزل على آل المهلب شاتيا، ونظر إلى المعاهد بعين حيران، وقام في تأبينها مقام غيلان، مستوحشا من أسماء لا تتعرف، ومنصرفا عن أفعال لا تتصرف، فبينما هو يتنفس الصعدا، ويقول: ما لي لا أرى أحدا، إذا شبح من مكان التقريب، فقال: أخوك أم الذيب، فقال: سينكشف همك، فربّ أخ لم تلده أمّك، فهذا سلوان المطاع لا يعدّ ما فيه من سقط المتاع، فاستأنس به في وحشتك، واجعله سمير ليلتك، فربما نفعت المخالطه، ونقه المريض بالمغالطه، فتلقف منه المنشور وما ردد، وصوب النظر في سطوره وصعد، فأبصر حلبة تروق، وجماعة تشوق، تناسبوا في الأقدار، وتباينوا في الأقطار، يجيلون قداح اليراعة، ويديرون أقداح البراعة، بين مقيم لمقامه، رفع بها راية قدّامه، ومعلق لشرح، كوشاح على كشح، ومنشد لقصائد، للقلوب مصائد، لا يتمسكون بالحطيط الواهي، ولا يقصدون غير الوجيه الباهي، وغير الحقيق بالتبجيل، ولده المهذب إسماعيل، معلنين بمناقبها الغرا، منوهين بدارهما الخضرا، فدخل معهم في حديث مؤنس، وقال: دونكم ما قلت في تونس:
ثم اشرأبّ إلى صاحب الشرح، وخاطبه من قنّة ذلك الصرّح ملوّحا لصاحب المقامه، إذ لا يدرك التصريح مقامه، وقال تيسّرت لك الأسباب، يا عبد الوهاب، رفعت النقاب عن عروب أعراب طالما قذفت بخطّا بها، وصرفته عن بابها، وصدت الرئيس، ولا قالت زوج من عود، خير من قعود، بل شمخت عن العجفا، ولم ترض إلا الأكفا، حتى سمعت بغروبك عن سمت حلب، وطلوعك في أفق الروم أم الرتب، ونمّ عليك نور النيرين، وشهد لك عدول المصرين، فوافتك من الفسطاط، في الهودج الأطّاط، جاعلة يدها في خصر، قائلة: أنا من يوسف مصر، تلوح بذلك المقال، إلى مثار الصون والجمال، فلو لم تكن لها صفوا، لما قطعت لك البحر رهوا، ولما ظهر لها منك ما ظهر، وشاهدت ما ناف على الخبر، أطلعتك على خفي سرها، وألحقتك بحفي برها، فحدثت عن ليلتها، بما زاد في حليتها فأتيت بالصحيح، في اللفظ الفصيح، وعرفت الحسن، فخلعت فيه الرسن، وشمت الضعيف، من تحت النصيف. فجئت من ذلك العجاب، بما ليس في حساب، فوحقك قسما، ارفع به علما، ما هذا العيش الهي، إلا من مائدة عبد الغني، البدر اللياح، الواضح الفلاح، راسخ المفاخر، محيي الدين الآخر، أبوك في المعارف، وشقيقك في العوارف، فغير بديع، أن تسبق البديع، ولا ببعيد أن أن تكون رب الطالع السعيد، فحق على أبيها أن يزيدك تنويها، وعليك أن تدأب في مواتاته، لما هذب من أخلاق فتاته، وليس واحد منكما بخامل، فيرفعه مجزوء الكامل:
ثم قعد بالوصيد، لأصحاب القصيد، وأومأ بالرأس والأيدي، لأبي العباس أحمد هويدي، وقال: أبو كبير، خير من أبي كثير، علق نفيس، وطود جلالة رئيس، يعبق لذكره العبير، ويهتز لرؤيته ثبير، لم يطلع بدر الشعر إلا في سمائه، ولم يثمر شجر النثر إلا في فنائه، محله منتدى الأدبا، ومألف الغربا، يبرّ بهم برور الوالد، ويمرحون منه في نعيم خالد، ويفسح لهم في سوحه، ويكاد يسخو لهم بروحه، فيالك من رجل، لم يدن مذ عقل لريثبه، ولا صدرت منه نميمة ولا غيبه، ولا نطق بهجر، ولا رحل لصفقة خسر، ولا أخفر ذمة صاحب، ولا أخل من الصيانة بمسنون ولا واجب، وقد مدح الشيخ المذكور بكل مقال، مع كثرة التكاليف والأشغال، مستمر على ذلك إلى الآن، والله يحفظه بما حفظ به القرآن، ثم ختم كلامه بشقيق منشيء المقامة إذ هو المشير، بذلك الأمر الخطير، وقال هو أستاذ المعارف وإمامها، ومن في يديه زمامها، وحامل لواء الطريقه، المشرف منها على عين الحقيقه، ماذا أقول فيه، والذي ملأ الكون يكفيه:
فيا وجهة خطابي، ومفرغي وطابي، هل عرتكم من هذه النغمة هزه، وهل صادف الغريض بها محزّه، فعليكم من مديرها السلام، ولا زلتم تنشقون طيب هذا الختام، والحمد لله.
مقامات الورغي | ||
---|---|---|
| المقامة الخمرية | المقامة الباهية | المقامة الختانية |