انتقل إلى المحتوى

معالم السنن/الجزء الرابع/5

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​معالم السنن​ للإمام الخطابي
 


8/10م ومن باب فيمن أعتق عبيدا له لم يبلغوا الثلث

1273- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته لم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي فقال له قولا شديدا ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأَرَقَّ أربعة.

قال الشيخ: في هذا بيان أن حكم عتق البتات في المرض الذي يموت به المعتق حكم الوصايا وإن ذلك من ثلث ماله.

وفيه إثبات القرعة في تمييز العتق الشائع في الأعيان وجمعه في بعض دون بعض.

وقوله فجزأهم ثلاثة أجزاء يريد أنه جزأهم على عبرة القيم دون عدد الرؤوس إلا أن القيم قد تساوت فيهم فخرج عدد الرؤوس على مساواة القيم وعبيد أهل الحجاز إنما هم الزنوج والحبش والقيم قد تتساوى فيها غالبا أو تتقارب.

وتفريق العتق في أجزاء العبيد يؤدي إلى الضرر في الملاك والمماليك معا وجمع العتق يرفع الضرر وينفي سوء المشاركة. وأما الاستسعاء فقد ذكرنا فيما تقدم أن الحديث فيه غير صحيح فجمع الحرية به متعذر غير متيسر.

وقد اعترض على هذا قوم فقالوا في هذا ظلم للعبيد لأن السيد إنما قصد إيقاع العتق عليهم جميعا، فلما منع حق الورثة من استغراقهم وجب أن يقع الجائز منه شائعا فيهم لينال كل واحد منهم حصته منه كما لو وهبهم ولا مال له غيرهم وكما لو كان أوصى بهم فإن الهبة والوصية قد تصح في الجزء في كل واحد منهم.

قلت هذا قياس ترده السنة، وإذا قال صاحب الشريعة قولا وحكم بحكم لم يجز الاعتراض عليه برأي ولا مقابلة بأصل آخر ويجب تقريره على حاله واتخاذه أصلا في بابه. والوصايا والهبات مخالفة للعتق لأن الورثة لا يتضررون بوقوع الهبة والوصية شائعين في العبد ويتضررون بوقوع العتق شائعا، وأمرالعتق مبني على التغليب والتكميل إذا وجد إليه السبيل وحكم الدين قد منع من إكمال في جماعتهم فأكمل لمن خرجت له القرعة منهم.

قال الشافعي وهذا الحديث أصل في جواز الوصية في المرض بالثلث للأجانب لأن عتقه إياهم في معنى الوصية لهم وهم أجانب، قال وكانت العرب لا تستعبد من بينها وبينه نسب تريد بهذا أن الوصية للأقربين منسوخة بآية الميراث.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فقال بظاهر الحديث مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقد روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز.

وقال أبو حنيفة وأصحابه يعتق من كل واحد منهم الثلث ويستسعى في ثلثيه للورثة ويتق، ويروى ذلك عن الشعبي والنخعي، وعلى هذا القياس إذا اعتق في المرض الذي مات فيه عبدا لم يكن له مال غيره فإنه يعتق منه الثلث ويكون ثلثاه رقيقا للورثة في قول مالك والشافعي، وعند أبي حنيفة وأصحابه يعتق ثلثه ويستسعى في ثلثيه للورثة ويعتق.

وتأول بعضهم الحديث على أنه إنما أراد بالتجزئة إفراز حصة الورثة من حصة العبيد دون تجزئة الأعيان وهذا تأويل فاسد.

وقد أخبر عمران بن حصين في هذا الحديث أنه أعتق اثنين منهم وأرق أربعة فصرح بوقوع القسمة في الأعيان دون الأجزاء ولو أراد الأجزاء لقال فأعتق الثلث وأرق الثلثين وما أشبه ذلك من الكلام والله أعلم.

وفي قوله فاعتق اثنين بيان صحة وقوع العتق لهما والرق لمن عداهما.

وفي قول من يرى استسعاء كل واحد منهما في ثلثي قيمته ترك للأمرين معا لأنه لا يعتق أحدا منهم ولا يرقّه وفي ذلك مخالفة للحديث على وجهه، وقد جاء بيان ما قلناه صريحا من رواية الحسن عن عمران بن حصين.

حدثناه إبراهيم بن فراس حدثنا أحمد بن علي بن سهل حدثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب، وأيوب عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين وقتادة وحميد وسماك بن حرب عن الحسن عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته وليس له مال غيرهم فأقرع رسول الله بينهم فأعتق اثنين ورد أربعة في الرق.

قوله ورد أربعة في الرق يبطل كل تأويل يتأول بخلاف ظاهر الحديث.

قال ابن فراس قوله عن سعيد بن المسيب هو مرسل عن النبي وحديث أيوب عن ابن سيرين غريب والمشهور عن الحسن.

ومن باب من أعتق عبدا وله مال

1274- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة والليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن الأشجع عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : من أعتق عبدا وله مال فمال العبد له إلا أن يشترط السيد.

قال الشيخ: الأصل أن مال العبد لسيده كما أن رقبته له وإنما أضيف إليه المال مجازا على معنى أنه يتولى حفظه ويتصرف فيه بإذن سيده كما قيل غنم الراعي وصبيان المعلم، والعبد لا يملك في قول أكثر العلماء، وقد قال مالك إذا ملكه سيده ملك.

وحكي ذلك أيضا عن الحسن البصري ولا أعلم خلافا في أنه لا يرث، وإذا كان أصح وجوه الملك وأقواها الميراث وهو لا يملكه بلا خلاف فما عداه أولى بذلك.

وثبت عن النبي أنه قال من باع عبدا وله مال فمال للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجعل المال مردودا على البائع إلا أن يبتاعه المشتري كما يبتاع رقبته فيكون عبدا ومالا معلوما بثمن معلوم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون ما قاله في مال العبد المعتق متأولا على وجه الندب والاستحباب لأن يسمح به للعبد إذ كان العتق منه إنعاما عليه ومعروفا اصطنعه إليه فندب إلى مسامحته فيما في يده من المال ليكون إتماما للصنيعة وربا للنعمة التي أسداها إليه، وقد جرى من عادة السادة أن يحسنوا إلى مماليكهم إذا أرادوا إعتاقهم وأن يرضخوا لهم فكان أقرب ذلك أن يتجافى له عما في يده والله أعلم.

وحكى حمدان بن سهل عن إبراهيم النخعي أنه كان يرى المال للعبد إذا أعتقه السيد، وإليه كان يذهب حمدان قولا بظاهر الحديث.

10/12م ومن باب عتق ولد الزنا

1275- قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا جرير عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ولد الزنا شر الثلاثة.

قال الشيخ: اختلف الناس في تأويل هذا الكلام فذهب بعضهم إلى أن ذلك إنما جاء في رجل بعينه كان موسوما بالشر، وقال بعضهم إنما صار ولد الزنا شرا من والديه لأن الحد قد يقام عليهما فيكون العقوبة تمحيصا لهما ؛ وهذا في علم الله لا يدري ما يصنع به وما يفعل في ذنوبه.

وأنبأنا أبو هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الكريم قال كان أبو ولد الزنا يكثر أن يمر بالنبي فيقولون هو رجل سوء يا رسول الله فيقول : هو شر الثلاثة، يَعني الأب فحول الناس الولد شر الثلاثة، وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا قيل ولد الزنا شر الثلاثة قال بل هو خير الثلاث.

قلت هذا الذي تأوله عبد الكريم أمر مظنون لا يدرى صحته والذي جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة إنما هو ولد الزنا شر الثلاثة فهو على ما قاله رسول الله .

وقد قال بعض أهل العلم أنه شر الثلاثة أصلا وعنصرا ونسبا ومولودا وذلك لأنه خلق من ماء الزاني والزانية وهو ماء خبيث.

وقد روي في بعض الحديث العرق دساس فلا يؤمن أن يؤثر ذلك الخبث فيه ويدب في عروقه فيحمله على الشر ويدعوه إلى الخبث، وقد قال سبحانه في قصة مريم {ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} 1 فقضوا بفساد الأصل على فساد الفرع.

وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في قوله تعالى {ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} 2 أنه قال ولد الزنا مما ذرىء لجهنم.

وعن سعيد بن جبير أنه قال ولد الزنا ذرىء لجهنم.

وكان مالك لا يجيز شهادة ولد الزنا على الزنا خاصة دون غيره من الشهادات للتهمة.

وروى بعض من احتج له في ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه قال ودت الزانية أن النساء كلهن زنين.

وحكى ابن المنذر، عن أبي حنيفة رصي الله عنه في كتاب الاختلاف أن من ابتاع غلاما فوجده ابن زنا كان له أن يرده بالعيب.

فأما قول ابن عمر أنه خير الثلاثة فإنما وجهه أنه لا إثم له في الذنب الذي باشره والده فهو خير منهما لبراءته من ذنبهما والله أعلم.

11/13م ومن باب في ثواب العتق

1276- قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد الرملي حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة عن العَريف بن الديلمي عن واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله في صاحب لنا أوجب، يَعني النار بالقتل، فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار.

قال الشيخ: كان بعض أهل العلم يستحب أن لا يكون العبد المعتق خصيا لئلا يكون ناقص العضو ليكون معتقه قد نال الموعود في عتق أعضائه كلها من النار بإعتاقه إياه من الرق في الدنيا.

18 كتاب الوصايا

1/1م ومن باب ما يؤمر به من الوصية

1277- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.

قال الشيخ: قوله ما حق امرىء مسلم معناه ما حقه من جهة الحزم والاحتياط إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه فإنه لا يدري متى توافيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك.

وفيه دليل على أن الوصية غير واجبة وهو قول عامة الفقهاء، وقد ذهب بعض التابعين إلى إيجابها وهو قول داود.

وفيه أن الوصية إنما تستحب لمن له مال يريد أن يوصي فيه دون من ليس له فضل مال، وهذا في الوصية التي هو متبرع بها من نحو صدقة وبر وصلة دون الديون والمظالم التي يلزمه الخروج عنها، فإن من عليه دينا أو قبله تبعة لأحد من الناس فالواجب عليه أن يوصي فيه وأن يتقدم إلى أوليائه فيه، لأن أداء الأمانة فرض واجب عليه.

1278- قال أبو داود: حدثنا مسدد ومحمد بن العلاء قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها، قالت ما ترك رسول الله دينارا ولا درهما ولا بعيرا ولا شاة ولا أوصى بشيء.

قال الشيخ: قولها ولا أوصى بشيء تريد وصية المال خاصة لأن الإنسان إنما يوصي في مال سبيله أن يكون موروثا وهو لم يترك شيئا يورث فيوصي فيه، وقد أوصى بأمور منها ما روي أنه كان عامة وصيته عند الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم.

وقال ابن عباس رضي الله عنه أوصى رسول الله عند موته اخرجوا اليهود عن جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.

2/2م ومن باب ما يجوز للموصي في ماله

1279- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال مرض سعد مرضا اشفى منه، قال ابن أبي خلف بمكة فعاده رسول الله فقال يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين، قال لا، قال فبالشطر قال لا، قال فبالثلث، قال الثلث والثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت فيها حتى اللقمة ترفعها إلي في امرأتك، قلت يا رسول الله أتخلّف عن هجرتي قال ان تُخلَّف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله تبارك وتعالى لا تزداد به إلا رفعة ودرجة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون، ثم قال اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله أن مات بمكة.

قال الشيخ: قوله وليس يرثني إلا ابنة لي يريد أنه ليس يرثني ذو سهم إلا ابنة دون من يرثه بالتعصيب لأن سعدا رجل من قريش من زهرة وفى عصبته كثرة.

وفي ذلك دليل على أن لمن مات وقد خلف من الورثة من يستوعب جميع ماله أن يوصي بالثلث منه.

وقد زعم بعض أهل العلم أن الثلث إنما هو لمن ليس له وارث يستوفي تركته.

وفي قوله الثلث كثير دليل على أنه لا يجوز مجاوزته ولا أن يوصي بأكثر من الثلث سواء كان له ورثة أو لم يكن.

وقد زعم قوم أنه إذا لم يكن له ورثة وضع جميع ماله حيث شاء، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

وقد اختلف أهل العلم في جواز الوصية بالثلث فذهب بعضهم إلى أن قوله والثلث كثير منعا من الوصية به وأن الواجب أن يقصر عنه وأن لا يبلغ بوصيته تمام الثلث.

وروي عن ابن عباس أنه قال الثلث جنف والربع جنف.

وعن الحسن البصري أنه قال يوصي بالثلث أو الخمس أو الربع.

وقال إسحاق بن راهويه السنة في الربع لما قال النبي والثلث كثير إلا أن يكون رجلا يعرف في ماله شبهات فعليه استغراق الثلث.

وقال الشافعي إذا ترك ورثته أغنياء لم يكره له أن يستوعب الثلث فإذا لم يدعهم أغنياء اخترت له أن لا يستوعبه.

وقوله عالة يتكففون الناس يريد فقراء يسألون الصدقة، يقال رجل عائل أي فقير وقوم عالة والفعل منه عال يعيل إذا افتقر.

ومعنى يتكففون يسألون الصدقة بأكفهم.

وقوله أتخلف عن هجرتي معناه خوف الموت بمكة وهي دار تركوها لله عز وجل وهاجروا إلى المدينة فلم يحبوا أن تكون مناياهم فيها.

3/3م ومن باب كراهية الإضرار في الوصية

1280- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة عمرو بن جرير، عن أبي هريرة قال: قال رجل للنبي يا رسول الله أى الصدقة أفضل ؛ قال ان تصدق وأنت صحيح حريص تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان.

قال الشيخ: فيه من الفقه أن للصحيح أن يضع ماله حيث شاء من المباح وله أن يشح به على من لا يلزمه فرضه.

وفيه المنع من الإضرار في الوصية عند الموت.

وفي قوله وقد كان لفلان دليل على أنه إذا أضر في الوصية كان للورثة أن يبطلوها لأنه حينئذ مالهم، ألا تراه يقول وقد كان لفلان يريد به الوارث والله أعلم.

4/6م ومن باب الوصية للوارث

1281- قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة، قال سمعت رسول الله يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث.

قال الشيخ: قوله أعطى كل ذي حق حقه إشارة إلى آية المواريث وكانت الوصية قبل نزول الآية واجبة للأقربين وهو قوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} 3 ثم نسخت بآية الميراث.

وإنما تبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة فإذا أجازوها جازت كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث للأجنبي جاز.

وذهب بعضهم إلى أن الوصية للوارث لا تجوز بحال وإن أجازها سائر الورثة لأن المنع منها إنما لحق الشرع فلو جوزناها لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز كما أن الوصية للقاتل غير جائزة وإن أجازها الورثة.

5/8م ومن باب ما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم

1282- قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحارث حدثهم، قال: حدثنا حسين، يَعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي فقال إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم قال فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل.

قال الشيخ: قوله غير متأثل أي غير متخذ منه أصل مال واثلة الشيء أصله.

ووجه إباحته الأكل من مال اليتيم أن يكون ذلك على معنى ما يستحقه من العمل فيه والاستصلاح له وأن يأخذ منه بالمعروف على قدر مثل عمله.

وقد اختلف الناس في الأكل من مال اليتيم فروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال يأكل منه الوصي إذا كان يقوم عليه، وإليه ذهب أحمد بن حنبل.

وقال الحسن والنخعي يأكل ولا يقضي، وقال عبيدة السلماني وسعيد بن جبير ومجاهد يأكل ويؤديه إليه إذا كبر وهو قول الأوزاعي.

6/9م ومن باب متى ينقطع اليتم

1283- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى بن محمد المديني حدثنا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن أبيه عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أنه سمع شيوخا من بني عمرو بن عوف ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد قال: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حفظت عن رسول الله قال: لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل.

قال الشيخ: ظاهر هذا القول يوجب انقطاع أحكام اليتم عنه بالاحتلام وحدوث أحكام البالغين له فيكون للمحتلم أن يبيع ويشتري ويتصرف في ماله ويعقد النكاح لنفسه وإن كانت امرأة فلا تزوج إلا بإذنها.

ولكن المحتلم إذا لم يكن رشيدا لم يفك الحجر عنه وقد يحظر الشيء بشيئين فلا يرتفع بارتفاع أحدهما مع بقاء السبب الآخر وقد أمر الله تعالى بالحجر على السفيه فقال {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} 4 وقال {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا} 5 فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف، فكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسب والقلم مرفوع عن غير البالغ فالجرح والذم مرفوعان عنه ؛ وقال سبحانه {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} 6 فشرط في دفع المال إليهم شيئين الاحتلام والرشد. والحكم إذا كان وجوبه معلقا بشيئين لم يجب إلا بورودهما معا.

وقوله لا صمات يوم إلى الليل وكان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا ينطق فنهوا عن ذلك وأمروا بالذكر والنطق بالخير.

7/11م ومن باب الدليل على أن الكفن من جميع المال

1284- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش، عن أبي وائل عن خباب، قال مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجله خرج رأسه، فقال غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الاذخر.

قال الشيخ: قلت فيه دلالة على أن الكفن من رأس المال وأنه إذا استغرق الكفن جميع المال كان الميت أولى به من الورثة.

8/12م ومن باب الرجل يهب الهبة ثم يوصى له بها أو يرثها

1285- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة أن امرأة أتت رسول الله فقالت: كنت تصدقت على أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة، قال قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث. قالت وأنها ماتت وعليها صوم شهر أفيجزي أو يقضي عنها أن أصوم عنها، قال: نعم.

قال الشيخ: الوليدة الجارية المملوكة ومعنى الصدقة ههنا العطية وإنما جرى عليها اسم الصدقة لأنها بر وصلة فيها أجر فحلت محل الصدقة.

وفيه دليل على أن من تصدق على فقير بشيء فاشتراه منه بعد أن قبضه إياه فإن البيع جائز وإن كان يستحب له أن لا يرجعه إلى ملكه بعد أن أخرجه بمعنى الصدقة.

وقولها أصوم عنها يحتمل أن يكون أرادت الكفارة عنها فيحل محل الصوم ويحتمل أن يكون أرادت الصيام المعروف.

وقد ذهب إلى جواز الصوم عن الميت بعض أهل العلم، وذهب أكثر العلماء إلى أن عمل البدن لا يقع فيه النيابة كما لا يقع فيه الصلوات.

9/14م ومن باب الصدقة عن الميت

1286- قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب عن سليمان، يَعني ابن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن أراه عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.

قال الشيخ: فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الأبدان لا تجري فيها النيابة.

وقد يستدل به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة يكون للحاج دون المحجوج عنه وإنما يلحقه الدعاء ويكون له الأجر في المال الذي أعطى ان كان حج عنه بمال.

19 كتاب الفرائض

1287- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله قال: العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة ماضية أو فريضة عادلة.

قال الشيخ: في هذا حث على تعلم الفرائض وتحريض عليه وتقديم تعلمه.

والآية المحكمة هي كتاب الله واشترط فيها الاحكام لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به وإنما يعمل بناسخه.

والسنة القائمة هي الثابتة بما جاء عنه من السنن المروية، وأما قوله أو فريضة عادلة فإنه يحتمل وجهين من التأويل أحدهما أن يكون من العدل في القسمة فيكون معدله على السهام والأنصباء المذكورة في الكتاب والسنة.

والوجه الآخر أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معانيهما فتكون هذه الفريضة تعدل بما أخذ عن الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا.

وقد اختلف الصحابة في مسائل من الفرائض وتناظروا فيها وتحروا تعديلها فاعتبروها بالنصوص كمسألة الزوج والأبوين.

حدثنا إبراهيم بن فراس حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ حدثنا موسى بن محمد بن حبان البصري حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن الأصفهاني عن عكرمة قال أرسل ابن عباس رضي الله عنهما إلى زيد بن ثابت فسأله عن امرأة تركت زوجها وأبويها، قال للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي، فقال تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك، قال أقوله برأيي لا أفضل أما على أب.

قلت فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه وهو قوله تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} 7 فلما وجد نصيب الأم الثلث وكان باقي المال وهو الثلثان للأب قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذ لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم فقسمه بينهما على ثلاثة أسهم للأم سهم والباقي وهو سهمان للأب، وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال وللأب ما بقي وهو السدس فيفضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل المورث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل، وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم وبخس الأب حقه برده إلى السدس فترك قوله عليه وصار عامة الفقهاء إلى قول زيد.

1/3م ومن باب من ليس له ولد وله أخوات

1288- قال أبو داود: حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا أبو بكر، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله يستفتونك في الكلالة ما الكلالة قال تجزيك آية الصيف، قلت لأبي إسحاق هو من مات ولم يدع ولدا ولا والدا قال كذلك ظنوا أنه كذلك.

قال الشيخ: وقد روي أن الرجل الذي سأل رسول الله عن هذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويشبه أن يكون والله أعلم إنما لم يفته عن مسألته ووكل الأمر في ذلك إلى بيان الآية اعتمادا على علمه وفقهه ليتوصل إلى معرفتها بالاجتهاد الذى هو طريق التبين ولو كان السائل غيره ممن ليس له مثل علمه وفهمه لأشبه أن لا يفتصر في مسألته على الإشارة إلى ما أجمل في الآ ية من الحكم دون البيان الشافي في التسمية له والنص عليه والله أعلم.

وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ هذه الآية فإذا صار إلى قوله {يبين الله لكم أن تضلوا} 8 قال اللهم من بينت له فإن عمر لم يتبين.

واختلفوا في الكلالة من هو فقال أكثر الصحابة من لا ولد له ولا والد. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه اختلاف فروي أنه قال الكلالة من لا ولد له ولا والد مثل قول سائر الصحابة.

وروي عنه أنه قال الكلالة من لا ولد له، ويقال إن هذا آخر قوليه.

حدثنا محمد بن هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى عند موته فقال الكلالة كما قلت، قال ابن عباس وما قلت قال من لا ولد له.

وأنبأنا بن الأعرابي حدثنا سعدان حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن الحسن قال سألت ابن عباس رضي الله عنه فقال هو ما عدا الوالد والولد، قال قلت فإن الله عز وجل يقول {إن امرؤ هلك ليس له ولد} 9 قال فغضب وانتهرني.

قلت إنما أشكل هذا من قبل أن المسمى في الآية والمشروط فيها هو من لا ولد له وليس للوالد فيها ذكر. وقيل إن بيان الشرط الآخر الذي هو الوالد مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله وفيه أنزلت الآية، وكان ذلك من باب زيادة السنة على الكتاب وكان جابر يوم نزول الآية لا ولد له ولا والد، وقد ذكر أبو داود قصة جابر في هذا الباب قال:

حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا كثير بن هشام حدثنا هشام، يَعني الدستوائي، عن أبي الزبير عن جابر، قال اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل عليَّ رسول الله فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين، قال أحسن قلت الشطر، قال أحسن، ثم خرج وتركني، فقال يا جابر ألا أراك ميتا من وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين، قال وكان جابر يقول أنزل في هذه الآية {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} 10.

قال الشيخ: روي أن عبد الله بن حرام أبا جابر قتل يوم أحد ونزلت آية الكلالة في آخر عمر النبي ويقال أنه آخر ما نزل من القرآن فكان جابر يوم نزول الآية لا ولد له ولا والد فصار شأنه بيانا لمراد الآية فهذا قول بعض العلماء في بيان معنى الكلالة.

قلت وفيه وجه آخر وهو أشبه بمعنى الحديث وذلك أن النبي قال السائل عن الكلالة تجزيك آية الصيف فوقعت الإحالة منه على الآية في بيان معنى الكلالة فوجب أن يكون ذلك مستنبطا من نفس الآية دون غيرها.

ووجه ذلك وتحريره أن الولد والوالد اسمان مشتقان من الولادة فكل واحد منهما يتعلق بالآخر ويتعدى إليه من طريق الدلالة فكل من انتظمه اسم الولادة من أعلى وأسفل فإنه قد يحتمل أن يدعى ولدا فالوالد يسمى ولدا لأنه قد وَلَد والمولود يسمى ولدا لأنه قد وُلِد.

وهذا كالذرية وهو اسم مشتق من ذرأ الله الخلق فالولد ذرية لأنهم ذرئوا أي خلقوا والأب ذرية لأن الولد ذرىء منه ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه وتعالى {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} 11 يريد والله أعلم نوحا ومن معه فجعل الآباء ذرية كالأولاد لصدور الاسمين معا عن الذرء، وفي لغة العرب توسع وانبساط ويقع ذلك فيها من وجوه منها الاشتقاق والتركيب ومنها المجاز والتشبيه ومنها الاستعارة والتقريب إلى وجوه غيرها وكل ذلك بيان وأدلتها مستعملة حيثما وجدت. فعلى هذا قد يصح أن يكون المراد بقوله {إن امرؤ هلك ليس لم ولد} 12 أي ولادة في الطرفين من أعلى وأسفل، وهو معنى قول الصحابة وعامة الفقهاء أن الكلالة من ليس له ولد ولا والد.

واسم الكلالة في اللغة مشتقة من تكلل النسب وذلك أن الإخوة إنما يتكللون الميت من جوانبه ويلقونه من نواحيه والولد والوالد إنما يأتيانه من تلقاء النسب ويجتمعان معه في نصابه وعموده.

وأما قوله تجزيك آية الصيف فإن الله سبحانه أنزل في الكلالة آيتين احداهما في الشتاء وهي الآية التي نزلت في سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين هذا المعنى من ظاهرها ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف وهي في آخر سورة النساء وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء فأحال السائل عليها ليستبين المراد بالكلالة المذكورة فيها والله أعلم.

وقد أفردت مسألة في الكلالة وتفسيره وأودعتها من الشرح والبيان أكثر من هذا وهو من غريب العلم ونادره وفيما أوردناه ههنا كفاية إن شاء الله عز وجل.


هامش

  1. [مريم: 28]
  2. [الأعراف: 179]
  3. [البقرة: 18]
  4. [النساء: 5]
  5. [البقرة: 282]
  6. [النساء: 6]
  7. [النساء: 11]
  8. [النساء: 176]
  9. [النساء: 176]
  10. [النساء: 176]
  11. [ يّس: 41]
  12. [النساء: 176]


معالم السنن - الجزء الرابع للإمام الخطابي
معالم السنن/الجزء الرابع/1 | معالم السنن/الجزء الرابع/2 | معالم السنن/الجزء الرابع/3 | معالم السنن/الجزء الرابع/4 | معالم السنن/الجزء الرابع/5 | معالم السنن/الجزء الرابع/6 | معالم السنن/الجزء الرابع/7 | معالم السنن/الجزء الرابع/8 | معالم السنن/الجزء الرابع/9 | معالم السنن/الجزء الرابع/10 | معالم السنن/الجزء الرابع/11 | معالم السنن/الجزء الرابع/12 | معالم السنن/الجزء الرابع/13 | معالم السنن/الجزء الرابع/14 | معالم السنن/الجزء الرابع/15 | معالم السنن/الجزء الرابع/16 | معالم السنن/الجزء الرابع/17