مشروع رؤية وثيقة الإنقاذ الوطني/جذر الأزمة
جذر الأزمة
[عدل]"حكم فردي مشخصن ومركز سياسي عصبوي"
عانى اليمن خلال مراحل طويلة وفترات مديدة من تاريخه، من نظام الحكم الفردي الاستبدادي، المستند إلى عصبوية سياسية سعت دوما إلى تكريس المركزية غير المؤسسية كذريعة وغطاء لتبرير احتكارها العصبوي لمصادر القوة، ومفاصل السلطة، وموارد الثروة، ليشكل ذلك كله المعضلة والأزمة التي أهدرت حق الأمة في السلطة، ومقدرات البلاد البشرية والمادية، وكرست عوامل التخلف والضياع .
ومنذ ثلاثينيات القرن المنصرم واليمنيون يناضلون ويقدمون التضحيات الجسام، وقوافل الشهداء من أجل مواجهة ومعالجة تلك المعضلة والتخلص من انعكاساتها الأليمة، عبر سعيهم لإقامة الدولة الوطنية، كإطار ناظم لعموم اليمنيين على قاعدة المواطنة المتساوية، وسيادة القانون، والنظام اللامركزي، وتجسيد إرادة مختلف قوى ومكونات الشعب عامة.
لقد مثل انتصار الثورة اليمنية [سبتمبر وأكتوبر] وإقامة النظام الجمهوري في الشطر الشمالي، وتحقيق استقلال الشطر الجنوبي وتوحيده، وإقامة النظام الجمهوري فيه، خطوة إيجابية فتحت الطريق أمام إنضاج واستكمال أهم أهداف ومبادئ الثورة اليمنية، وتطلعات الشعب اليمني لإعادة تحقيق وحدته، وإقامة دولته الوطنية الحديثة، على خطى الانعتاق من مخلفات الاستعمار، وموروثات الاستبداد، وحكم الفرد ومركزية نظام الغلبة العصبوي. وبالرغم من استمرار حالة التشطير وتعثر الخطى الوحدوية خلال ما يزيد عن عقدين، فقد ظل المشروع الوحدوي هدفا تسعى لتحقيقه كافة أطراف وقوى العمل السياسي الوطني وقدمت في سبيله الكثير من التضحيات، بل وتحت ذرائعه وقعت العديد من الحروب الداخلية والشطرية حتى أشرق صباح يوم 22/ مايو/1990م بوحدة سلمية، وفرت ـ بما حملته من مضامين وطنية وديمقراطية ـ الظروف والمناخات الملائمة لمعالجة الأزمة التاريخية، وفتح آفاق المستقبل وذلك من خلال:
1. إنهاء حالة التجزئة والتمزق الجغرافي والاجتماعي الذي أصاب الهوية الاجتماعية والوطنية الموحدة للشعب اليمني، لتضمن بذلك توجيه الموارد الوطنية لتحقيق التطور الاجتماعي والتقدم المنشود.
2. تجاوز كل أشكال التمايزات العصبوية ونزعات الاستعلاء, والاستفراد بالسلطة، والاستحواذ على الثروة، التي كانت تجد في ظروف التجزئة والتمزق مناخات مناسبة للنمو والهيمنة على ما عداها من أشكال الحكم الديمقراطي الشوروي التي حلم بها اليمنيون.
3. فتح الأبواب مشرعة للتخلص من حكم الفرد وتسلط الطغيان والاستبداد بكل أشكاله وإقامة الدولة الوطنية المؤسسية المرتكزة على مبدأ المواطنة المتساوية، وسيادة القانون سبيلا لتجاوز حالة التخلف واللحاق بركب العصر، وتكريس الاستقلال والسيادة الوطنية.
4. مثل الطابع السلمي الذي قامت عليه الوحدة بداية تاريخ يمني جديد، يرفض استخدام العنف لتحقيق الأهداف السياسية، أو في العمل الوطني، ولذلك اقترنت بالتعددية السياسية والحزبية، وتداول السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة كشروط موضوعية لابد منها لتعزيز مسار بناء الدولة الوطنية العصرية، والتي لم يكن من الممكن بناؤها في ظل حالة العنف والتمزق ونزعات التفرد والاستئثار بالسلطة والثروة والقرار ..
تلكم هي المضامين التي جسدت التسوية التاريخية للخروج من معضلة الأزمة التاريخية، وقد تطلع اليمنيون واتسعت آمالهم بتحويل هذه المضامين إلى عقد اجتماعي جديد يصوغ حاضر ومستقبل البلاد باتجاه تحقيق الازدهار والتقدم المنشود.
غير أن الأمور أخذت للأسف الشديد، مسارا آخر، فتفجرت الأزمة في نهاية 1993م، ثم اشتعلت الحرب في صيف1994م، وعقبها قاد القائمون على السلطة حركة انقضاض على مضامين الشراكة الوطنية والمشروع الديمقراطي الوليد القائم على التعددية السياسية والحزبية، فانسدت آفاق الأمل الذي كانت قد انفتحت واسعة أمام اليمنيين يوم 22مايو 1990م.
وشيئا فشيئا استعادت السلطة الفرديةـ وبصورة ممنهجةـ هيمنتها الاستبدادية، مستدعية موروث الأزمة التاريخية بكل مكوناتها العصبوية، ونزعاتها الاستعلائِية الإقصائية، فجرى إعادة تفصيل الدستور لتكريس سلطة الفرد، ومنحه صلاحيات واسعة مع تحصينه من المسؤولية والمساءلة، على حساب دور مؤسسات الدولة التي جرى تحويلها إلى واجهات شكلية خالية من المحتوى، فصارت رغبات وأمزجة الفرد هي المحور الذي تدور حوله مختلف السياسات والتوجهات، كما وضعت ثروات وموارد البلاد كلها في خدمة تعزيز تسلطه وتملكه للسلطة والدولة، وهو ما أفضى إلى حالة من الشخصنة للدولة والسلطة والنظام، حيث سيطر القائم على رأس السلطة بذاته على مفاتيح السلطة والثروة، وحل الولاء لشخص الحاكم محل الولاء للوطن والدولة فيما حلت العلاقة الشخصية داخل جهاز الدولة محل علاقات العمل الموضوعية.
ومنذئذ فرضت السلطة المشخصنة نفسها ليس كحاكمة للبلاد فحسب, بل وكمستملكة لها, تتصرف بشؤونها السياسية والاقتصادية والإدارية كما تشاء متحللة تماما من شروط العقد الاجتماعي, الأمر الذي رهن بيدها أرزاق الناس، والمصالح الحيوية لمختلف فئات وشرائح المجتمع، واستطاعت جراء ذلك تحويل منافع الناس واحتياجاتهم إلى أدوات تجبرهم على طاعة مشيئة ذوي القوة والنفوذ.
وهكذا جرت عملية تحويل الدولة من مشروع سياسي وطني إلى مشروع عائلي ضيق يقوم على إهدار نضالات وتضحيات أبناء اليمن، والقفز على مكتسبات وأهداف الثورة اليمنية، للاستحواذ الكامل على السلطة، والاستئثار بالثروة.
واتساقا مع ذلك عمد الممسكون بهذه السلطة القائمة على أنقاض المشروع الوطني الوحدوي إلى :ـ
1. سد أفق التغيير عبر انتخابات حرة ونزيهة وعادلة، وتعطيل مبدأ التداول السلمي للسلطة، برفض تنفيذ أية إجراءات من شانها تطوير النظام والإدارة الانتخابية، وتحسين شروط العملية الانتخابية، بما يجعلها حرة ونزيهة في مجرياتها، معبرة في نتائجها عن الإرادة الشعبية الحرة، وتحويل العملية الانتخابية، إلى عملية شكلية عاجزة عن تلبية متطلبات تنمية النهج الديمقراطي وبناء الدولة اليمنية، وإلى مظاهر احتفالية لإضفاء شرعية شكلية على نظام يدير البلد بواسطة دورات انتخابية تم تكييفها لإعادة إنتاج نفسه.
2. اتخاذ خطوات متواصلة لإيجاد أوضاع وطنية مأزومة تهيئ لتمديد البقاء في السلطة، وتوريثها لجيل الأبناء عبر الاستحواذ على الوظائف والمناصب العامة، والمزيد من الثروة والنفوذ، الأمر الذي وسع من دائرة المصالح الفاسدة وغير المشروعة من جهة، وحصر دائرة شركاء الحكم في نطاق عائلي ضيق من جهة أخرى.
3. جعل الولاء لشخص الحاكم وورثته هو معيار الولاء الوطني ومصدره، وإطلاق يد الفساد والعبث والنهب الواسع المنظم للمال العام، وكل مقدرات الدولة والمجتمع، حتى تردت وساءت أوضاع الناس الحياتية والمعيشية، وفقد المواطن الإحساس بأي انتماء للوطن والدولة، وصار كالغريب في وطنه.
4. السعي ودون ما هوادة إلى تحجيم وتفكيك وضرب البنى والتكوينات السياسية والاجتماعية الحديثة، التي تقوم على أساس الروابط الوطنية برحابتها واتساعها، حيث أضحى الحاكم لا يرى في تلك البنى والتكوينات سوى مصدر قلق وإزعاج.
5. إذكاء وإحياء كل أشكال وأسباب وعصبيات التمزق والتشتت [جهوية، عنصرية، قبلية... الخ] ذلك لأن الطغيان لا يعلو ولا يقوى على البقاء إلا بقدر نجاحه في تفريق الجمع الموحد شيعاً وأوزاعاً [إِن'َ فِر'عَو'نَ عَلَا فِي ال'أَر'ضِ وَجَعَلَ أَه'لَهَا شِيَعًا].
6. تكريس الثقافة التفكيكية لمواجهة المشروع الوطني، وتهيئة الظروف لإعادة تجميع وحث العوامل المحبطة للنهوض الوطني، وإضعاف الروابط الوطنية لصالح ثقافة تعزز من الانتماء لبنى ما دون الدولة [جهوية وقبلية وطائفية وعرقية] على نحو أقوى من الانتماء إلى الدولة.