محلى ابن حزم - المجلد الخامس/الصفحة التاسعة
كتاب النكاح
1853 - مسألة: ولا يجوز أن تجبر المرأة على أن تتجهز إليه بشيء أصلا، لا من صداقها الذي أصدقها، ولا من غيره من سائر مالها، والصداق كله لها تفعل فيه كله ما شاءت، لا إذن للزوج في ذلك، ولا اعتراض.
وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان، وغيرهم.
وقال مالك: إن أصدقها دنانير أو دراهم أجبرت على أن تبتاع بكل ذلك شورة من ثياب ووطاء وحلي تتجمل به له، ولا يحل له أن تقضي منها دينا عليها إلا ثلاثة دنانير فأقل، فإن أصدقها نقار ذهب أو نقار فضة فهو لها، ولا تجبر على أن تبتاع بها شورة أصلا. فإن أصدقها حليا أجبرت أن تتحلى به له، فإن أصدقها ثيابا ووطاء أجبرت على أن تلبسها بحضرته، ولم تجب لها عليه كسوة حتى تمضي مدة تخلق فيها تلك الثياب. فإن أصدقها خادما أنثى أجبرت على أن تخدمها ولم يكن لها بيعها. وإن أصدقها عبدا فلها أن تفعل فيه ما شاءت من بيع أو غيره. فلو أصدقها دابة، أو ماشية، أو ضيعة، أو دارا، أو طعاما لم يكن للزوج في كل ذلك رأي، وهو لها تفعل فيه ما شاءت من بيع أو غيره وليس للزوج أن ينتفع بشيء من ذلك، ولا أن ينظر فيه إلا بإذنها إن شاءت.
قال أبو محمد: قول مالك هذا يكفي من فساده عظيم تناقضه، وفرقه بين ما فرق من ذلك بلا برهان من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا قول أحد نعلمه قبله، ولا قياس، ولا رأي له وجه. وأطرف شيء إباحته لها قضاء الثلاثة دنانير والدينارين في دينها فقط، لا أكثر من ذلك، فليت شعري إن كان صداقها ألفي دينار، أو كان صداقها دينارا واحدا كيف العمل في ذلك إن هذا العجب
قال أبو محمد: وبرهان صحة قولنا: قول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} فافترض الله عز وجل على الرجال أن يعطوا النساء صدقاتهن نحلة، ولم يبح للرجال منها شيئا إلا بطيب أنفس النساء، فأي بيان بعد هذا نرغب أم كيف تطيب نفس مسلم على مخالفة هذا الكلام لرأي فاسد متخاذل متنافر لا يعرف لقائله فيه سلف. ووجدنا الله عز وجل قد أوجب للمرأة حقوقا في مال زوجها أحب أم كره وهي الصداق، والنفقة، والكسوة، والإسكان، ما دامت في عصمته والمتعة إن طلقها ولم يجعل للزوج في مالها حقا أصلا، لا ما قل، ولا ما كثر.، ولا شيء أطرف من إسقاطهم عن الزوج الكسوة ما دام يمكنها أن تكتسي من صداقها ولم يسقط عنه النفقة ما دام يمكنها أن تنفق على نفسها من صداقها فهل سمع بأسقط من هذا الفرق الفاسد وشغب بعضهم بقول الله عز وجل: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} .
فقلنا: صدق الله عز وجل، ولا يحل تحريف الكلم عن مواضعه، ولا أن نقول عليه عز وجل ما لم يقل، فهذا من أكبر الكبائر. وليس في هذه الآية ذكر لقيامه على شيء من مالها، ولا للحكم برأيه، ولا للتصرف فيه. وإنما فيها أنه قائم عليها يسكنها حيث يسكن ويمنعها من الخروج إلى غير الواجب، ويرحلها حيث يرحل. ثم لو كان في الآية لما ادعيتم لكنتم أول مخالفين لها، لأنكم خصصتم بعض الصدقات دون بعض، ودون سائر مالها، كل ذلك تحكم بالباطل بلا برهان. وشغبوا أيضا بالخبر الثابت عن رسول الله ﷺ: تنكح المرأة لأربع: لحسنها، ومالها، وجمالها، ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك. وهذا عجب جدا لا نظير له: أول ذلك: أن رسول الله ﷺ لم يأمر أن تنكح لمالها، ولا ندب إلى ذلك، ولا صوبه، بل إنما أورد ذلك إخبارا عن فعل الناس فقط، وهذه أفعال الطماعين المذموم فعلهم في ذلك بل في الخبر نفسه الإنكار لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: فاظفر بذات الدين فلم يأمر بأن تنكح بشيء من ذلك إلا للدين خاصة، لكن الواجب أن تنكح المرأة الزوج لماله، لأن الله تعالى أوجب لها الصداق عليه والنفقة والكسوة. وقد جاء عن رسول الله ﷺ بيان النهي عن أن تنكح المرأة لمالها: كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج القاضي، حدثنا محمد بن أيوب الرقي، حدثنا البزار، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعل حسنهن يرديهن، ولا تنكحوهن لأموالهن فلعل أموالهن يطغيهن، وأنكحوهن للدين، ولامة سوداء خرماء ذات دين أفضل. ثم إنهم أول مخالفين لما موهوا به؛ لأنه ليس في نكاح المرأة لمالها لو أبيح ذلك أو ندب إليه شيء مما أتوا به من التخليط في الفرق بين صداق فضة مضروبة، وذهب مضروب، وبين سبائك فضة وذهب غير مضروبة، والفرق بين إصداق ثياب، ووطاء، وجوهر، وخادم، وبين إصداق حرير، وقطن، وكتان، وصوف، ودابة، وماشية، وعبد، وطعام، والفرق بين قضاء ثلاثة دنانير من دينها فأقل، وبين قضائها أكثر من ذلك فوضح عظيم فساد تخليط هذه الأقوال وبالله تعالى التوفيق. وربما يموهون بما نذكره مما رويناه من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة عن جلال بن أبي الجلال العتكي عن أبيه أن رجلا خطب إلى رجل ابنته من امرأة عربية فأنكحها إياه فبعث إليه بابنة له أخرى أمها أعجمية، فلما دخل بها علم بعد ذلك فأتى معاوية فقص عليه فقال: معضلة، ولا أبا حسن وكان علي حربا لمعاوية فقال الرجل لمعاوية فأذن لي أن آتيه فأذن له معاوية، فأتى الرجل علي بن أبي طالب فقال: السلام عليك يا علي، فرد عليه السلام، فقص عليه القصة فقضى علي على أبي الجارية بأن يجهز ابنته التي أنكحها إياه بمثل الصداق الذي ساق منها لأختها بما أصاب من فرجها، وأمره أن لا يمس امرأته حتى تنقضي عدة أختها. قال الحجاج بن المنهال: وأخبرني هشيم قال: أخبرني المغيرة عن إبراهيم النخعي أن رجلا تزوج جارية فأدخل عليه غيرها فقال إبراهيم: للتي دخل بها الصداق الذي ساق، وعلى الذي غره أن يزف إليه امرأته بمثل صداقها.
قال أبو محمد: هذا كله عليهم لا لهم، لأنه ليس في شيء من هذين الخبرين أن للزوج في ذلك حقا، ولا أربا، إنما فيهما أن يضمن للتي زوجت منه وزف إليه غيرها صداقها الذي استهلك لها وأعطي لغيرها بغير حق وهكذا نقول. ثم هم يخالفون هذه الرواية عن علي في موضعين: أحدهما أنه جعل للتي زفت إليه الصداق الذي سمي لأختها، وهم لا يقولون بهذا، بل إنما يقضون لها بصداق مثلها. والموضوع الثاني أمر علي له أن لا يطأ التي صح نكاحه معها إلا حتى تنقضي عدة الأخرى التي زفت إليه، وهم لا يقولون بهذا. فمن المقت والعار والإثم تمويه من يوهم أنه يحتج بأثر هو أول من يخالفه ونعوذ بالله من الخذلان هذا مع أن الجلال بن أبي الجلال غير مشهور. وبما أخبرناه أحمد بن قاسم، حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، حدثنا جدي قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا الحسن بن حماد نا يحيى بن يعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أنس فذكر خطبة علي فاطمة رضي الله عنهما، وأن عليا باع درعه بأربعمائة وثمانين قال: فأتيت بها رسول الله ﷺ فوضعتها في حجره فقبض منها قبضة فقال: يا بلال أبغنا بها طيبا، وأمرهم أن يجهزوها قال: فجعل لنا سرير مشروط بالشرط ووسادة من أدم حشوها ليف وملء البيت كثيبا.
قال أبو محمد: وهذا حجة عليهم، لأنه لا تبلغ قبضة في طيب، وسرير مشروط بالشريط، ووسادة من أدم حشوها ليف: عشر أربعمائة درهم وثمانين درهما فظهر فساد قولهم والحمد لله رب العالمين.
1854 - مسألة: وعلى الزوج كسوة الزوجة مذ يعقد النكاح ونفقتها، وما تتوطاه وتتغطاه وتفترشه، وإسكانها كذلك أيضا صغيرة أو كبيرة ذات أب أو يتيمة غنية أو فقيرة دعي إلى البناء أو لم يدع نشزت أو لم تنشز حرة كانت أو أمة بوئت معه بيتا أو لم تبوأ.
برهان ذلك: ما رويناه من طريق أبي داود، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو قزعة الباهلي " عن حكيم بن معاوية القشيري قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت.
قال أبو محمد: أبو قزعة هذا هو سويد بن حجير ثقة، روى عنه شعبة، وابن جريج، وحماد بن سلمة، وابنه قزعة، وغيرهم.
ومن طريق مسلم، حدثنا الحجاج، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، هو ابن راهويه عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال في خطبته في عرفة يوم عرفة: فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. فعم رسول الله ﷺ كل النساء ولم يخص ناشزا من غيرها، ولا صغيرة، ولا كبيرة، ولا أمة مبوأة بيتا من غيرها وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وما كان ربك نسيا. حدثنا يونس بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عبيد الله بن عمر أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد: أن انظروا إلى من طالت غيبته أن يبعثوا بنفقة أو يرجعوا وذكر باقي الخبر، فلم يستثن عمر امرأة من امرأة :،
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا أحمد بن عون الله، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر غندر، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم بن عتيبة عن امرأة خرجت من بيت زوجها غاضبة هل لها نفقة قال: نعم.
قال أبو محمد: وروينا عن نحو خمسة من التابعين: لا نفقة لناشز وهذا قول خطأ ما نعلم لقائله حجة.
فإن قيل: إن النفقة بإزاء الجماع، والطاعة
قلنا: لا، بل هذا القول كذب، وأول من يبطله أنتم، أما الحنفيون، والشافعيون فيوجبون النفقة على الزوج الصغير على الكبيرة، ولا جماع هنالك، ولا طاعة. والحنفيون، والمالكيون، والشافعيون: يوجبون النفقة على " المجبوب والعنين "،
ولا خلاف في وجوب النفقة على المريضة التي لا يمكن جماعها، وقد بين الله عز وجل ما على الناشز فقال: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا}. فأخبر عز وجل أنه ليس على الناشز إلا الهجر والضرب، ولم يسقط عز وجل نفقتها، ولا كسوتها فعاقبتموهن أنتم بمنعها حقها، وهذا شرع في الدين لم يأذن به الله، فهو باطل.
فإن قالوا: إنها ظالمة بنشوزها.
قلنا: نعم، وليس كل ظالم يحل منعه من ماله إلا أن يأتي بذلك نص، وإلا فليس هو حكم الله؛ هذا حكم الشيطان، وظلمة العمال والشرط. والعجب كله أنهم لا يسقطون قرضا أقرضته إياه من أجل نشوزها فما ذنب نفقتها تسقط دون سائر حقوقها إن هذا لعجب عجيب وقال بوجوب النفقة على الصغيرة: سفيان الثوري، وأبو سليمان، وأصحابنا. وما نعلم لمن أسقطها حجة أصلا، فهو باطل بلا شك،
قال الله عز وجل: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فقوله باطل.
وقال مالك: لا نفقة على الزوج إلا حتى يدعى إلى البناء.
قال أبو محمد: هذا الحكم دعوى مجردة لا برهان على صحتها، لا من قرآن، ولا من سنة، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي صحيح. وقد بينا أن السنة الثابتة جاءت بخلافه فهو ساقط وبالله تعالى التوفيق.
1855 - مسألة: ولا يحل لأب البكر صغيرة كانت أو كبيرة أو الثيب، ولا لغيره من سائر القرابة أو غيرهم: حكم في شيء من صداق الأبنة، أو القريبة، ولا لأحد ممن ذكرنا أن يهبه، ولا شيئا منه، لا للزوج طلق أو أمسك، ولا لغيره، فإن فعلوا شيئا من ذلك فهو مفسوخ باطل مردود أبدا. ولها أن تهب صداقها أو بعضه لمن شاءت، ولا اعتراض لأب، ولا لزوج في ذلك هذا إذ كانت بالغة عاقلة بقي لها بعده غنى وإلا فلا.
ومعنى قوله عز وجل: {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} إنما هو أن المرأة إذا طلقها زوجها قبل أن يطأها وقد كان سمى لها صداقا رضيته فلها نصف صداقها الذي سمي لها، إلا أن تعفو هي فلا تأخذ من زوجها شيئا منه وتهب له النصف الواجب لها، أو يعفو الزوج فيعطيها الجميع، فأيهما فعل ذلك فهو أقرب للتقوى. وهذا مكان اختلف فيه السلف: فقالت طائفة: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج كما قلنا:
روينا من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا جرير بن حازم سمعت عيسى بن عاصم يقول: سمعت شريحا يقول: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح فقلت: هو الولي، فقال علي: بل هو الزوج. من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: هو الزوج.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن صالح بن كيسان: أن نافع بن جبير بن مطعم تزوج امرأة فطلقها قبل أن يبني بها فأكمل لها الصداق وتأول قول الله عز وجل: الذي بيده عقدة النكاح يعني الزوج.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن شريح قال: هو الزوج.
حدثنا أحمد بن عمر العذري، حدثنا مكي بن عيسون، حدثنا أحمد بن عبد الله بن رزيق، حدثنا أحمد بن عمرو بن جابر، حدثنا محمد بن حماد الطهراني، حدثنا عبد الرزاق عن قتادة، وابن أبي نجيح، قال قتادة: عن سعيد بن المسيب، وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد، قالا جميعا: سعيد بن المسيب، ومجاهد: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج. وقال مجاهد، وطاووس، وأهل المدينة: هو الولي، قال: فأخبرتهم بقول سعيد بن جبير فرجعوا عن قولهم.
ومن طريق ابن أبي شيبة حدثني عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي نا عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر، أنه قال: الذي بيده عقدة النكاح الزوج.
ومن طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير، قال: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمير مولى غفرة أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
ومن طريق إسماعيل نا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا معتمر بن سليمان التيمي عن ليث عن عطاء بن أبي رباح الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
ومن طريق قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
ومن طريق إسماعيل نا علي بن المديني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن شبرمة قال: هو الزوج وهو قول الأوزاعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، والشافعي، وأبي ثور، وأبي سليمان، وأصحابهم.
وقالت طائفة: هو الولي [ جملة ] صح ذلك، عن ابن عباس أنه إن عفا وليها الذي بيده عقدة النكاح وضنت جاز، وإن أبت. وصح أيضا عن جابر بن زيد كان يقول: أو يعفو أبوها أو أخوها إن كان وصولا وإن كرهت المرأة. وصح أيضا عن عطاء، وعلقمة، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن البصري، وأبي الزناد، وعكرمة مولى ابن عباس.
وروينا، عن ابن عباس قولا لم يصح عنه لأنه من طريق الكلبي أنه ولي البكر جملة وصح عن الزهري قول آخر وهو أنه الأب جملة. وقول خامس: رويناه من طريق مالك عن ربيعة، وزيد بن أسلم أنه السيد يعفو عن صداق أمته، والأب خاصة في ابنته البكر خاصة: يجوز عقده عن صداقها وهو قول مالك.
قال أبو محمد: فنظرنا في هذه الأقوال: فوجدنا قول ربيعة، وزيد بن أسلم، ومالك أظهرها فسادا وأبعدها عن مقتضى الآية جملة ونحن نشهد بشهادة الله عز وجل أن الله تعالى لو أراد بقوله: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} سيد الأمة ووالد البكر خاصة لما ستره، ولا كتمه فلم يبينه في كتابه، ولا على لسان رسوله ﷺ .
فإن قيل: هذان لا يصح نكاح الأمة والبكر إلا بعقدهما.
قلنا: نعم، ولا يصح أيضا إلا برضا الزوج وإلا فلا، فله في ذلك كالذي للسيد، وللأب سواء سواء، فمن جعلهما أولى بأن يكون بأيديهما عقدة النكاح من الزوج مع تخصيص الآية بلا برهان من قرآن، ولا سنة صحيحة، ولا رواية سقيمة ;، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي له وجه فسقط هذا القول جملة وسقط بسقوطه قول الزهري: إنه الأب أيضا جملة وكذلك سقط أيضا القول الذي صح عنه أنه ولي البكر جملة. ثم نظرنا في قول من قال: إنه الولي: فوجدنا الأولياء قسمين:
أحدهما: من ذكرنا من أب البكر، وسيد الأمة، فكان حظ هذين في كون عقدة النكاح بأيديهما كحظ الزوج في كون عقدة النكاح بيده سواء سواء، وقد يسقط حكم الأب في البكر بأن يكون كافرا وهي مؤمنة أو هو مؤمن وهي كافرة أو بأن يكون مجنونا ويسقط أيضا حكم السيد في أمته بأن يكون صغيرا أو مجنونا. والقسم الثاني: سائر الأولياء الذين لا يلتفت إليهم، لكن إن أبوا أخرج الأمر عن أيديهم وعقد السلطان نكاحها، فهؤلاء حظ الزوج في كون عقدة النكاح بيده أكمل من حظ الأولياء المذكورين. فوجدنا أمد الأولياء مضطربا كما ترى، ثم إنما هو العقد فقط، ثم لا شيء بأيديهم جملة من عقدة النكاح، بل هي إلى الزوج إن شاء أمضاها وإن شاء حلها بالطلاق. ووجدنا أمر الزوج ثابتا في أن عقدة كل نكاح بيده، ولا تصح إلا بإرادته بكل حال، ولا تحل إلا بإرادته، فكان أحق بإطلاق هذه الصفة عليه بلا شك. ثم البرهان القاطع قول الله عز وجل: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}. وقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فكان عفو الولي عن مال وليه كسبا على غيره فهو باطل، وحكما في مال غيره فهو حرام فصح أنه الزوج الذي يفعل في مال نفسه ما أحب من عفو أو يقضي بحقه وبالله تعالى التوفيق.
1856 - مسألة: ولا يحل نكاح الشغار: وهو أن يتزوج هذا ولية هذا على أن يزوجه الآخر وليته أيضا، سواء ذكرا في كل ذلك صداقا لكل واحدة منهما أو لأحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا في شيء من ذلك صداقا، كل ذلك سواء يفسخ أبدا، ولا نفقة فيه ;، ولا ميراث، ولا صداق، ولا شيء من أحكام الزوجية، ولا عدة. فإن كان عالما فعليه الحد كاملا، ولا يلحق به الولد، وإن كان جاهلا فلا حد عليه، والولد له لاحق، وإن كانت هي عالمة بتحريم ذلك فعليها الحد، وإن كانت جاهلة فلا شيء عليها.
قال أبو محمد: واختلف الناس في هذا: فقال مالك: لا يجوز هذا النكاح ويفسخ دخل بها أو لم يدخل، وكذلك لو قال: أزوجك ابنتي على أن تزوجني ابنتك بمائة دينار، فلا خير في ذلك. وقال ابن القاسم: لا يفسخ، هذا إن دخل بها.
وقال الشافعي: يفسخ هذا النكاح إذا لم يسم في ذلك مهر، فإن سميا لكل واحدة منهما مهرا، أو لأحداهما دون الأخرى ثبت النكاحان معا، وبطل المهر الذي سميا، وكان لكل واحدة منهما مهر مثلها إن مات، أو وطئها، أو نصف مهر مثلها إن طلق قبل الدخول. وقال الليث، وأبو حنيفة، وأصحابه: هو نكاح صحيح ذكرا لكل واحدة صداقا، أو لأحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا صداقا أصلا، أو اشتراطا وبينا أنه لا صداق في ذلك، قالوا: ولكل واحدة في هذا مهر مثلها. والظاهر من قولهم: أنهما إن سميا صداقا أنه ليس لهما إلا المسمى.
قال أبو محمد: والذي قلنا به هو قول أصحابنا، فوجب النظر فيما اختلفوا فيه، فوجدنا في ذلك: ما رويناه من طريق مسلم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله ﷺ عن الشغار، والشغار: أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي وقد رويناه أيضا مسندا صحيحا من طريق جابر، وابن عمر، وأنس، وغيرهم، فكان هذا تحريما من رسول الله ﷺ فبطل قول من سواه.
فنظرنا في أقوال من خالف:
فأما قول ابن القاسم إنه يصح بعد الدخول، فقول قد تقدم تبييننا لفساده وتعريه من البرهان جملة.
وأما أبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهما، فإنهم قالوا: إنما فسد هذا النكاح لفساد صداقه فقط ثم اختلفوا: فقال الشافعي: والصداق الفاسد يفسخ، فكان نكاح كل واحدة منهما صداقا للأخرى، فهما مفسوخان قال: فإن سميا لأحداهما صداقا صح ذلك النكاح، وصح نكاح الأخرى لصحة صداقه.
قال أبو محمد: فكان هذا قولا فاسدا، لأنه إن كان هذا العقد الذي سمي فيه الصداق صحيحا فهو صداق صحيح، فلا معنى لفسخه وإصلاحه بصداق آخر إذا.
فإن قال قائل: بل هو فاسد.
قلنا: فقل بقول أبي حنيفة الذي يجيز كل ذلك ويصلح الصداق، وإلا فهي مناقضة ظاهرة. ثم نظرنا في قول أبي حنيفة، فوجدناه ظاهر الفساد لمخالفة حكم رسول الله ﷺ جهارا.
قال أبو محمد: ودعوى الشافعي أنه إنما نهى عن الشغار لفساد الصداق في كليهما دعوى كاذبة؛ لأنها تقويل لرسول الله ﷺ ما لم يقل وهذا لا يجوز.
فإن ذكروا ما رويناه من طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر قال: إن رسول الله ﷺ نهى عن الشغار والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته ليس بينهما صداق. وما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ثابت البناني وآخر معه هو يزيد الرقاشي عن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: لا شغار في الإسلام والشغار أن يبدل الرجل الرجل أخته بأخته بغير ذكر صداق وذكر باقي الحديث.
قلنا: أما هذان الخبران فهما خلاف قول أبي حنيفة، وأصحابه، كالذي قدمنا، ولا فرق.
وأما الشافعي فلا حجة له في هذين الخبرين لوجهين: أحدهما أنه وإن ذكر فيهما صداق أو لأحداهما فإنه يبطل ذلك الصداق جملة بكل حال، وليس هذا في هذين الخبرين فقد خالف ما فيهما. والوجه الآخر وهو الذي نعتمد عليه وهو أن هذين الخبرين إنما فيهما تحريم الشغار الذي لم يذكر فيها الصداق فقط، وليس فيه ذكر الشغار الذي ذكر فيه الصداق لا بتحريم، ولا بإجازة ومن ادعى ذلك فقد ادعى الكذب وقول رسول الله ﷺ ما لم يقله قط، فوجب أن نطلب حكم الشغار الذي ذكر فيه الصداق في غير هذين الخبرين: فوجدنا خبر أبي هريرة، وجابر قد وردا بعموم الشغار، وبيان أنه الزواج بالزواج، ولم يشترط عليه الصلاة والسلام فيهما ذكر صداق، ولا السكوت عنه، فكان خبر أبي هريرة زائدا على خبر ابن عمر، وخبر أنس زيادة عموم لا يحل تركها.
قال أبو محمد: وقد صح عن رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. ووجدنا الشغار ذكر فيه صداق أو لم يذكر قد اشترطا فيه شرطا ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل بكل حال.
وروينا من طريق أبي داود السجستاني، حدثنا محمد بن فارس، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج قال: إن العباس بن العباس بن عبد المطلب أنكح ابنته عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وأنكحه عبد الرحمن ابنته: وكانا جعلا صداقا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال معاوية في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: فهذا معاوية بحضرة الصحابة لا يعرف له منهم مخالف يفسخ هذا النكاح وإن ذكرا فيه الصداق ويقول: إنه الذي نهى عنه رسول الله ﷺ فارتفع الإشكال جملة والحمد لله رب العالمين. والعجب كله من تشنيع الحنفيين بخلاف الصاحب الذي يدعون أنه لا يعرف له مخالف من الصحابة، رضي الله عنهم، كدعواهم ذلك في نزح زمزم من زنجي مات فيها فنزحها ابن الزبير، وغير ذلك. ثم لم يلتفتوا هاهنا إلى ما عظموه وحرموه هنالك. وهذا خبر صحيح، لأن عبد الرحمن بن هرمز ممن أدرك أيام معاوية وروى عن أبي هريرة وغيره، وشاهد هذا الحكم بالمدينة وبالله تعالى التوفيق. لا سيما في مثل هذه القصة المشهورة بين رجلين عظيمين من عظماء بني هاشم، وبني أمية يأتي به البريد من الشام إلى المدينة، هذا ما لا يخفى على أحد من علماء أهلها والصحابة يومئذ بالشام والمدينة أكثر عددا من الذين كانوا أحياء أيام ابن الزبير بلا شك.
وروينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: سئل عطاء عن رجلين أنكح كل واحد منهما أخته بأن يجهز كل واحد منهما بجهاز يسير لو شاء أخذ لها أكثر من ذلك فقال: لا، نهي عن الشغار: فقلت له: إنه قد أصدقها كلاهما قال: لا، قد أرخص كل واحد منهما على صاحبه من أجل نفسه فقلت لعطاء: ينكح هذا ابنته بكذا وهذا ابنته بكذا بصداق كلاهما يسمي صداقه، وكلاهما أرخص على أخيه من أجل نفسه قال: إذا سميا صداقا فلا بأس، فإن قال: جهز وأجهز فلا ذلك الشغار، قلت: فإن فرض هذا وفرض هذا قال: لا.
قال أبو محمد: ففرق عطاء بين النكاحين يعقد أحدهما بالآخر ذكرا صداقا أو لم يذكرا فأبطله، وبين النكاحين لا يعقد أحدهما بالآخر، فأجازه، وهذا قولنا، وما نعلم عن أحد من الصحابة والتابعين خلافا لما ذكرنا.
قال أبو محمد: فإن خطب أحدهما إلى الآخر فزوجه، ثم خطب الآخر إليه فزوجه، فذلك جائز ما لم يشترط أن يزوج أحدهما الآخر فهذا هو الحرام الباطل. والعجب أن بعضهم احتج بأن قال: إن هذا بمنزلة النكاح يعقد على أن يكون صداقه خمرا أو خنزيرا .
فقلنا: نعم، وكل مفسوخ باطل أبدا، لأنه عقد على أن لا صحة لذلك العقد إلا بذلك المهر، وذلك المهر باطل، فالذي لا يصح إلا بصحة باطل باطل، بلا شك وبالله تعالى التوفيق.