محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الخامسة والعشرون
كتاب الأشربة
وخبر : من طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - حدثني الجريري سعيد بن إياس عن أبي العلاء بن الشخير قال : انتهى أمر الأشربة أن رسول الله ﷺ قال : { اشربوا ما لا يسفه أحلامكم ولا يذهب أموالكم } وهذا مرسل ثم لو انسند لكان حجة لنا ، لأنه نهى عن النوع الذي من طبعه أن يسفه الحلم ، ويذهب المال ، لا يحتمل غير ذلك أصلا ؛ إذ ليس شيء منه ينفرد بذلك دون سائره . وخبر : من طريق علقمة { سألت ابن مسعود عن قول النبي ﷺ في المسكر ؟ قال : الشربة الآخرة } وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنه من طريق الحجاج بن أرطاة - وهو هالك - روينا عنه أنه كان لا يصلي مع المسلمين في المسجد فقيل له في ذلك ؟ فقال : أكره مزاحمة البقالين ، لا ينبل الإنسان حتى يدع الصلاة في الجماعة - وأنه أنكر السلام على المساكين ، وقال : علي مثل هؤلاء لا يسلم - : وهذه جرح ظاهرة ؛ ثم الأظهر فيه أن قوله " الشربة الآخرة " من قول ابن مسعود تأويل منه - وهو أيضا فاسد من التأويل لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى . وخبر مرسل : من طريق مجاهد فيه { أنه عليه السلام شرب من نبيذ سقاية زمزم فشد وجهه ، ثم صب عليه الماء مرة بعد مرة ، ثم شرب منه } - وهذا لا شيء ؛ لأنه عن ابن جريج عمن لم يسمه عن مجاهد فهو مقطوع ومرسل معا - ثم هو مخالف لقولهم كما ذكرنا من أن صب الماء لا ينقله عندهم من تحليل إلى تحريم ولا من تحريم إلى تحليل ولا له عندهم فيه معنى ، فإن نقله إلى أن لا يسكر فهو قولنا في أنه حلال إذا لم يسكر . هذا كل ما موهوا به عن النبي ﷺ قد تقصيناه بأجمعه وبينا أنه لا حجة لهم في شيء منه ، وأن أكثر ما أوردوا حجة عليهم لنا . وذكروا عن الصحابة رضي الله عنهم آثارا - : منها : عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن قرصافة - امرأة منهم - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : اشربوا ولا تسكروا - وسماك ضعيف ، وقرصافة مجهولة - ثم لو صح لما كان فيه إباحة ما أسكر . وروينا من طريق إسرائيل بن يونس عن سماك بن حرب عن قرصافة عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت لها : اشربي ولا تشربي مسكرا - فسماك عن قرصافة مرة [ قال ] لنا عليهم ، ومرة لا لنا ولا لهم ؟ ومن طريق سمية عن عائشة أم المؤمنين قالت : إن خشيت من نبيذك فاكسره بالماء - ولا حجة لهم في هذا لأنه إذا خشي إسكاره كسره بالماء ، والثابت عن أم المؤمنين تحريم كل ما أسكر كثيره ، وعن سعيد بن ذي حدان أو ابن ذي لعوة : أن رجلا شرب من سطيحة لعمر بن الخطاب فسكر ، فأتي به عمر ، فقال : إنما شربت من سطيحتك ؟ فقال له عمر : إنما أضربك على السكر ، ابن ذي حدان أو ابن ذي لعوة مجهولان . ومن طريق أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول : إنا نشرب من هذا النبيذ شرابا يقطع لحوم الإبل ، قال عمرو بن ميمون : وشربت من شرابه فكان كأشد النبيذ - وفي بعض طرقه " إنا لنشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا فمن رابه من شرابه شيء فليمزجه بالماء " وهذا خبر صحيح ولا حجة لهم فيه ، لأن النبيذ الحلو اللفيف الشديد للفته الذي لا يسكر يقطع لحوم الإبل في الجوف ، ليس في هذا الخبر : أن عمر شرب من ذلك الشراب الذي شرب منه عمرو بن ميمون ، فإذ ليس فيه ذلك ، فلا متعلق لهم بهذا الخبر أصلا ؟ ومنها : خبر من طريق حفص بن غياث نا الأعمش نا إبراهيم هو النخعي - عن همام بن الحارث أن عمر أتي بشراب من زبيب الطائف فقطب وقال : إن نبيذ الطائف له عرام ثم ذكر شدة لا أحفظها ثم دعا بماء فصبه فيه ثم شرب - وهذا خبر صحيح ، إلا أنه لا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه : أن ذلك النبيذ كان مسكرا ، ولا أنه كان قد اشتد وإنما فيه إخبار عمر بأن نبيذ الطائف له عرام وشدة وأنه كسر هذا بالماء ثم شربه ، فالأظهر فيه أن عمر خشي أن يعرم ويشتد فتعجل كسره بالماء - وهذا موافق لقولنا لا لقولهم أصلا . ولا يصح لهم مما ذكرنا إلا هذان الخبران فقط . وخبر : رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم حدثني عقبة بن فرقد قال : قدمت على عمر فأتي بنبيذ قد كاد يصير خلا ، فقال لي : اشرب ؟ قال : فما كدت أن أسيغه ثم أخذه عمر ، ثم قال لي : إنا نشرب هذا النبيذ الشديد ليقطع لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا قال أبو محمد : ما بلغ مقاربة الخل فليس مسكرا . ومن طريق سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع سعيد بن المسيب يقول : إن ثقيفا تلقت عمر بشراب فلما قربه إلى فيه كرهه ، ثم كسره بالماء ، وقال : هكذا فافعلوا - وهذا مرسل . وخبر : من طريق ابن جريج عن إسماعيل أن رجلا عب في نبيذ لعمر فسكر فلما أفاق حده ، ثم أوجع النبيذ بالماء فشرب منه - وهذا مرسل . وخبر : من طريق ابن أبي مليكة حدثني وهب بن الأسود قال : أخذنا زبيبا فأكثرنا منه في أداوانا وأقللنا الماء فلم نلق عمر حتى عدا طوره فأخبرناه أنه قد عدا طوره وأريناه إياه فذاقه فوجده شديدا فكسره بالماء ، ثم شرب - وهب بن الأسود لا يدرى من هو . وخبر : من طريق معمر عن الزهري أن عمر أتي بسطيحة فيها نبيذ قد اشتد بعض الشدة فذاقه ، ثم قال : بخ بخ اكسره بالماء - وهذا مرسل . وخبر : من طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل هو ابن علية - عن خالد الحذاء عن أبي المعدل أن ابن عمر قال له : إن عمر ينبذ له في خمس عشرة قائمة ؟ فجاء فذاقه فقال : إنكم أقللتم عكره - أبو المعدل مجهول . ومن طريق ابن أبي شيبة عن عبيدة بن حميد عن أبي مسكين عن هذيل بن شرحبيل أن عمر استسقى أهل الطائف من نبيذهم فسقوه ، فقال لهم : يا معشر ثقيف إنكم تشربون من هذا الشراب الشديد فأيكم رابه من شرابه شيء فليكسره بالماء ؟ وهذا لو صح حجة ظاهرة لنا لأنه ليس فيه : أنه شرب مسكرا ، بل فيه النهي عن الشراب الشديد المريب ، والأمر بأن يغير بالماء عن حاله تلك حتى يفارق الشدة والإرابة - ليس لهم عن عمر إلا هذا - وكل هذا لا حجة لهم فيه لما ذكرنا قبل من أن كسر النبيذ بالماء لا ينقله عندهم من تحريم إلى تحليل ، وأنه عندهم قبل كسره بالماء وبعده سواء وأنه إن كان الماء يخرجه عن الإسكار فهو حينئذ عندنا حلال ، فلو صحت لكان ما فيها موافقا لقولنا - وقد صح عن عمر تحريم قليل ما أسكر كثيره على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى . وخبر : من طريق علي أن رجلا شرب من إداواته فسكر فجلده علي الحد - وهذا لا يصح لأنه عن شريك - وهو مدلس ضعيف - عن فراس عن الشعبي عن علي - والشعبي لم يسمع عليا . ثم لو صح لكان لا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه أن عليا شرب من تلك الإداوة بعد ما أسكر ما فيها - فلا متعلق لهم به . وخبر : من طريق هشيم عن مجالد عن الشعبي أن رجلا سكر من طلاء فضربه علي الحد فقال له الرجل : إنما شربت ما أحللتم ؟ فقال له علي : إنما ضربتك لأنك سكرت - وهذا منقطع - ومجالد ضعيف جدا . وخبر : عن أبي هريرة أنه قال : إذا أطعمك أخوك المسلم طعاما فكل وإذا سقاك شرابا فاشرب فإن رابك فأسججه بالماء ، وهذا خبر صحيح عنه رويناه من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ، ولا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه إباحة نبيذ المسكر لا بنص ولا بدليل . ولا إباحة ما حرم الله من المأكل كالخنزير وغيره ، ولا إباحة الخمر وإنما فيه أن لا تفتش على أخيك المسلم وأن يسج النبيذ إذا خيف أن يسكر بالماء وهم لا يقولون بهذا - وهو موافق لقولنا إذا كان الماء يحيله عن الشدة إلى إبطالها - وقد صح عن أبي هريرة تحريم المسكر جملة . وخبر : من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن إسماعيل بن خالد عن عثمان بن قيس أنه خرج مع جرير بن عبد الله البجلي إلى حمام له بالعاقول فأكلوا معه ثم أوتوا بعسل وطلاء فقال : اشربوا العسل أنتم : وشرب هو الطلاء ، وقال : إنه يستنكر منكم ولا يستنكر مني قال : وكانت رائحته توجد من هنالك ، وأشار إلى أقصى الحلقة عثمان بن قيس مجهول . وخبر : من طريق ابن مسعود قال : " إن القوم يجلسون على الشراب ، وهو لهم حلال فما يقومون حتى يحرم عليهم ، وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه عن سعيد بن مسروق عن شماس بن لبيد عن رجل عن ابن مسعود - شماس ولبيد مجهولان ، ورجل أجهل وأجهل . ثم لو صح لما كان فيه دليل على قولهم ، ويقال لهم : ما معناه إلا أنهم يقعدون عليه قبل أن يغلي ، وهو حلال فلا يقومون حتى يأخذ في الغليان فيحرم - فهذه دعوى كدعوى بل هذه أصح من دعواهم لأن قولهم : إن الشراب لا يحرم أصلا ، وإنما يحرم المسكر وليس في الحديث إلا أن الشراب نفسه يحرم - فصح تأويلنا وبطل تأويلهم . وخبر : من طريق أبي وائل كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذا شديدا - وهذا لا يصح لأنه من طريق أبي بكر بن عياش وهو ضعيف . وخبر : عن ابن مسعود رويناه من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن علقمة قال : أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين في جرة خضراء فشربوا منه سيرين هي أم أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود - وهذا خبر صحيح وليس في شيء مما أوردوا لقولهم وفاق إلا هذا الخبر وحده إلا أنه يسقط تعلقهم به بثلاثة وجوه - : أحدها : أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ . والثاني : أنه قد صح عن ابن مسعود تحريم كل ما قل أو كثر مما يسكر كثيره ، وعن غيره من الصحابة أيضا فإذا اختلف قوله وخالفه غيره من الصحابة رضي الله عنهم فليس بعضهم أولى من بعض ، وهذا تنازع يجب به ما أوجبه الله تعالى من الرد عند التنازع إلى القرآن ، والسنة . والثالث : أنه قد يحتمل أن يكون قول علقمة نبيذا شديدا أي خاثرا لفيفا حلوا - فهذا ممكن أيضا . وخبر : عن عيسى بن أبي ليلى أنه مضى إلى أنس فأبصر عنده طلاء شديدا - وهذا لا حجة لهم فيه لأنه عن ابن أبي ليلى - وهو سيئ الحفظ - عن أخيه عيسى ، ويمكن أن يكون أراد بقوله " شديدا " أي خاثرا لفيفا ، وهذه صفة الرب المطبوخ الذي لا يسكر . وروى بعضهم عن الحسن بن علي أنه أباح المسكر ، ما لم يسكر منه ، ولا يصح هذا عن الحسن أصلا ، لأنه من رواية سماك وهو يقبل التلقين كما قلنا عن رجل لم يسمه - ولا يعرف من هو - عن الحسن بن علي اشرب فإذا رهبت أن تسكر فدعه . ثم لو صح لكان ظاهره اشرب الشراب ما لم يسكر فإذا رهبت أن تشربه فتسكر منه فدعه - هكذا رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن الحسن بن صالح عن سماك بن حرب عن رجل أنه سأل الحسن بن علي عن النبيذ ؟ فقال : اشرب فإذا رهبت أن تسكر فدعه . وخبر : عن ابن عمر من طريق عبد الملك بن نافع قال : سألت ابن عمر عن نبيذ في سقاء لو نكهته لأخذ مني ؟ فقال : إنما البغي على من أراد البغي ثم ذكر الحديث الذي صدرنا به عن النبي ﷺ من صبه الماء على النبيذ - وعبد الملك بن نافع قد قدمنا أنه مجهول لا يدرى من هو . وأيضا فليس في هذا اللفظ إباحة لشرب المسكر . ومن طريق ابن أبي شيبة عن مروان بن معاوية عن النضر بن مطرف عن قاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال : كان عبد الله بن مسعود ينبذ له في جر ويجعل له فيه عكر - وهذا باطل ، لأن النضر مجهول ، ثم هو منقطع . وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى من طريق أبي فروة أنه شرب معه نبيذ جر فيه دردي . وعن أبي وائل مثله - وعن النخعي ، والشعبي ، وعن الحسن : أنه كان يجعل في نبيذه عكر ، وقد خالف هؤلاء : ابن سيرين ، وابن المسيب - وصح عن هؤلاء المنع من العكر - وقال ابن المسيب هو : خمر . وأخبار صحاح عن ابن عمر - : منها : ما رويناه من طريق البخاري نا الحسن بن الصباح نا محمد بن سابق نا مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء . وآخر : من طريق عبد الرزاق عن عقيل عن معقل أن همام بن منبه أخبره أن ابن عمر قال له : أما الخمر فحرام لا سبيل إليها ، وأما ما سواها من الأشربة فكل مسكر حرام . ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : شرب أخي عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب وشرب معه أبو سروعة بن عقبة بن الحارث بمصر في خلافة عمر فسكرا فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص أمير مصر فقالا له : طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه ، فجلدهما عمرو بن العاص ، قالوا : فهذا عبد الله قد فرق بين الخمر وبين سائر الأشربة المسكرة فلم يجعلها خمرا ، وهذا أخوه عبد الرحمن - وله صحبة - وأبو سروعة - وله صحبة - وعمرو بن العاص رأوا الحد في السكر من شراب شرباه ، وصح عن ابن عباس ما قدمنا قبل : حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب . ففرقوا كلهم بين الخمر وبين سائر الأشربة المسكرة فلم يروها خمرا ، وراموا بهذا أن يثبتوا أن الخمر ليست إلا من العنب فقط ؟ قال أبو محمد : وكل هذا عليهم لا لهم ، لأن ابن عمر ، وابن عباس قد أثبتا أن كل مسكر حرام - وهذا خلاف قولهم - وليس في خبر عبد الرحمن ، وأبي سروعة ، وعمرو بن العاص شيء يمكن أن يتعلقوا به . وقد يمكن أن يكونا شربا عصير عنب ظنا أنه لا يسكر فسكرا - وليس فيه شيء يدفع هذا ، فلم يبق لهم متعلق إلا أن يقولوا : إن الخمر هي عصير العنب فقط وما سواها فليس خمرا - فهذا مكان لا منفعة لهم فيه لو صح لهم إذا ثبت تحريم كل مسكر قل أو كثر ، وفي هذا نازعناهم لا في التسمية فقط ، فإذ لم يبق إلا هذا فقط فنحن نوجدهم عن الصحابة رضي الله عنهم أن كل مسكر خمر ، نعم ، وعن ابن عمر نفسه بأصح من هذه الرواية من طريق ثابتة أن الخمر من غير العنب أيضا - : كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن محمد بن بشر نا عبد العزيز هو الدراوردي - حدثني نافع عن ابن عمر قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة خمسة أشربة كلها يدعونها الخمر ما فيها خمر العنب ؛ فهذا بيان خبرهم بما يبطل تعلقهم به ، فإذا أوجدناهم هذا فقد صح التنازع ، ووجب الرد للقرآن والسنة كما افترض الله تعالى علينا إن كنا مؤمنين . وقالوا أيضا : قد صح عن إبراهيم النخعي تحريم السكر وعصير العنب إذا أسكر وإباحة كل ما أسكر من الأنبذة .
ومن طريق ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد قال : رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى يشرب نبيذ الجر بعد أن يسكن غليانه - يزيد بن أبي زياد ضعيف . ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن الأعمش عن الحكم عن شريح أنه كان يشرب الطلاء الشديد - وهذا يخرج على أنه لفيف جدا - فلو كانت حراما ما خفي ذلك على من سلف ؟ قال أبو محمد : وهذا في غاية الفساد ؛ لأنهم يقولون بوضع الأيدي على الركب في الصلاة ، وقد خفي ذلك على ابن مسعود [ أبدا ] . ويقولون : بأن يتيمم الجنب إذا لم يجد الماء ، وقد خفي ذلك على عمر بن الخطاب ، وابن مسعود . وقد خفي على الأنصار قول النبي ﷺ { الأئمة من قريش } حتى ذكروا به - والأمر هنا يتسع ، وليس كل صاحب يحيط بجميع السنن . وقالوا أيضا : قد صح الإجماع على تكفير من لم يقل بتحريم الخمر ، ولا يكفر من لم يحرم ما سواها من الأنبذة المسكرة ؟ قال أبو محمد : وهذا لا شيء لأنه لو وجدنا إنسانا غاب عنه تحريم الخمر فلم يبلغه لما كفرناه في إحلالها حتى يبلغ إليه الأمر ، فحينئذ إن أصر على استحلال مخالفة رسول الله ﷺ كفر ، لا قبل ذلك . وكذلك مستحل النبيذ المسكر وكل ما صح عن النبي ﷺ تحريمه لا يكفر من جهل ذلك ولم تقم عليه الحجة به - فإذا ثبت ذلك عنده ، وصح لديه أن رسول الله ﷺ حرم ذلك فأصر على استحلال مخالفة النبي ﷺ فهو كافر ولا بد ، ولا يكفر جاهل أبدا حتى يبلغه الحكم من النبي ﷺ فإذا بلغه وثبت عنده فحينئذ يكفر إن اعتقد مخالفته عليه السلام ، ويفسق إن عمل بخلافه غير معتقد لجواز ذلك . قال الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } . قال أبو محمد : فسقط كل ما شغب به أهل هذه المقالة ، وأيضا : فإنه ليس في شيء مما أوردوا كله أوله عن آخره ولا لفظة واحدة موافقة لقولهم : أن الخمر المحرمة ليست إلا عصير العنب فقط دون نقيع الزبيب ، وكذلك أيضا ليس في شيء منه ولا كلمة واحدة موافقة لقول من قال : إن الخمر المحرمة ليست إلا نقيع الزبيب الذي لم يطبخ ، وعصير العنب إذا أسكر . فصح أنهما قولان فاسدان مبتدعان خارجان عن كل أثر ثبت أو لم يثبت وبالله تعالى التوفيق . والقول الخامس : هو الذي روي عن أبي حنيفة عن طريق محمد بن رستم عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - وهو الذي ينصره المتأخرون من مقلديه - على أن ذلك التفسير لا يحفظ عن أبي حنيفة وإنما هو من آرائهم الخبيثة - والمحفوظ عن أبي حنيفة هو ما ذكره محمد بن الحسن في الجامع الصغير في كلامه في العتق الذي بين كلامه في الكراهة وكلامه في الرهن قال محمد : أنا يعقوب عن أبي حنيفة قال : الخمر قليلها وكثيرها حرام في كتاب الله ، والسكر عندنا حرام مكروه ونقيع الزبيب عندنا إذا اشتد وغلى عندنا حرام مكروه - والطلاء ما زاد على ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فهو مكروه ، وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به - وكان يكره دردي الخمر أن يشرب وأن تمتشط به المرأة ولا يحد من شربه إلا أن يسكر فإن سكر حد . هذا نص كلامهم هنالك ، ودردي الخمر هو العكر الذي يعقد منها في قاع الدن . وهو خمر بلا شك ، فاعجبوا لهذا الهوس وأما رواية محمد بن رستم عن محمد بن الحسن فإنما هي - : قال محمد : قال أبو حنيفة : الأنبذة كلها حلال إلا أربعة أشياء : الخمر ، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، ونقيع التمر فإنه السكر ، ونقيع الزبيب . ولا خلاف عن أبي حنيفة في أن نقيع الدوشات عنده حلال وإن أسكر ، وكذلك نقيع الرب وإن أسكر - : والدوشات من التمر ، والرب من العنب . وقال أبو يوسف : كل شراب من الأنبذة يزداد جودة على الترك فهو مكروه وإلا أجيز بيعه ووقته عشرة أيام ، فإذا بقي أكثر من عشرة أيام فهو مكروه ، فإن كان في عشرة أيام فأقل فلا بأس ، به - وهو قول محمد بن الحسن . هذا كلامهم في الأصل الكبير ، ثم رجع أبو يوسف إلى قول أبي حنيفة ؛ . وقال محمد بن الحسن : ما أسكر كثيره مما عدا الخمر أكرهه ولا أحرمه . فإن صلى إنسان وفي ثوبه منه أكثر من قدر الدرهم البغلي بطلت صلاته وأعادها أبدا فاعجبوا لهذه السخافات لئن كان تعاد منه الصلاة أبدا فهو نجس ، فكيف يبيح شرب النجس ؟ ولئن كان حلالا فلم تعاد الصلاة من الحلال ؟ ونعوذ بالله من الخذلان . قال أبو محمد : فأول فساد هذه الأقوال أنها كلها أقوال ليس في القرآن شيء يوافقها ولا في شيء من السنن ، ولا في شيء من الروايات الضعيفة ، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا صحيح ولا غير صحيح ، ولا عن أحد من التابعين ، ولا عن أحد من خلق الله تعالى قبل أبي حنيفة ، ولا أحد قبل أبي يوسف في تحديده عشرة الأيام فيا لعظيم مصيبة هؤلاء القوم في أنفسهم إذ يشرعون الشرائع في الإيجاب والتحريم والتحليل من ذوات أنفسهم ثم بأسخف قول وأبعده عن المعقول ؟ قال علي : وبقي مما موه به مقلدو أبي حنيفة أشياء نوردها إن شاء الله تعالى ونذكر بعون الله تعالى فسادها ، ثم نعقب بالسنن الثابتة في هذه المسألة عن النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم . قال علي : قالوا : قال الله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } . وقال تعالى : { كلوا واشربوا } . فاقتضى هذا إباحة كل مأكول ومشروب فلا يحرم بعد هذا إلا ما أجمع عليه أو جاء من مجيء التواتر ، لأنه زائد على ما في القرآن . قال أبو محمد : من هنا بدءوا بالتناقض وما خالفناهم قط لا نحن ولا أحد من المسلمين في أنه لم يحرم الخمر ، ولا الخنزير ، ولا الميتة حتى نزل تحريم كل ذلك ، فلما نزل التحريم حرم ما نزل تحريمه وهم أول من حرم نبيذ ثمر النخيل بخبر من أخبار الآحاد غير مجمع عليه ولا منقول نقل التواتر . ثم قالوا : صح عن النبي ﷺ قال : { الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة } فالخمر لا تكون إلا منهما هذا كل ما موهوا به ، ولا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم قاطعة . وهذا خبر رويناه من طرق كلها ترجع إلى الأوزاعي ، ويحيى بن أبي كثير قالا جميعا : نا أبو كثير أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله ﷺ { الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة } . أبو كثير اسمه يزيد بن عبد الرحمن . قال علي : فافترقوا في خلافه على وجهين - : فأما الطحاوي فإنه قال : ليس ذكره عليه السلام النخلة مع العنبة بموجب أن يكون الخمر من النخلة بل الخمر من العنبة فقط قال : وهذا مثل قول الله تعالى : { مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } . قال : فإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من أحدهما - : قال : ومثل قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } قال : وإنما الرسل من الإنس لا من الجن . قال أبو محمد : صدق الله وكذب الطحاوي ، وكذب من أخبره بما ذكر بل اللؤلؤ والمرجان خارجان من البحرين اللذين بينهما البرزخ فلا يبغيان ، ولقد جاءت الجن رسل منهم بيقين ، لأنهم بنص القرآن متعبدون موعودون بالجنة والنار . وقد صح ما روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا قتيبة نا إسماعيل هو ابن جعفر - عن العلاء هو ابن عبد الرحمن - عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { فضلت على الأنبياء بست } فذكر منها { وأرسلت إلى الخلق كافة } . ومن طريق البخاري نا محمد بن سنان العوفي نا هشيم أنا سيار نا يزيد هو ابن صهيب الفقير أنا جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي } فذكر فيها { وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة } .