مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/فصل: بنوا أصلهم على ثلاث مقالات
فصل: بنوا أصلهم على ثلاث مقالات
ولما كان أصلهم الذي بنوا عليه: أن وجود المخلوقات والمصنوعات، حتى وجود الجن والشياطين، والكافرين والفاسقين، والكلاب والخنازير، والنجاسات والكفر، والفسوق والعصيان: عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، وإن كان مخلوقا له مربوبًا مصنوعا له قائمًا به.
وهم يشهدون أن في الكائنات تفرقا وكثرة ظاهرة بالحس والعقل، فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة، ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها، فاضطربوا على ثلاث مقالات أنا أبينها لك وإن كانوا هم لا يبين بعضهم مقالة نفسه ومقالة غيره؛ لعدم كمال شهود الحق وتصوره.
المقالة الأولى: مقالة ابن عربي صاحب فصوص الحكم:
وهي مع كونها كفرًا فهو أقربهم إلى الإسلام؛ لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرًا، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى. والله أعلم بما مات عليه، فإن مقالته مبنية على أصلين:
أحدهما: أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة.
وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام: أبو عثمان الشحام شيخ أبي على الجبائي، وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون: إن كل معدوم يمكن وجوده فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم؛ لأنه لولا ثبوتها لما تميز عن المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده؛ لأن القصد يستدعى التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت.
لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها، وقد كفرهم بها طوائف من متكلمة السنة فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون: إن عين وجودها عين وجود الحق.
وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابته في العدم، متحدة بوجود الحق القائم بها. وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه.
وابن عربي إذا جعل الأعيان ثابتة لزمه وجود كل ممكن، وليس هذا قول المعتزلة، فهذا فرق ثالث.
وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت في العدم سواء قالوا بأن وجودها خلق لله أو هو الله يقولون: إن الماهيات والأعيان غير مجعولة ولا مخلوقة، وإن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وقد يقولون: الوجود صفة للموجود.
وهذا القول وإن كان فيه شبه بقول القائلين بقدم العالم، أو القائلين بقدم مادة العالم وهيولاه المتميزة عن صورته، فليس هو إياه، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوانات والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء، بل هي كائنة بعد أن لم تكن
وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السموات، والاستحالات القائمة بالعناصر، من حركات الكواكب، والشمس والقمر والسحاب والمطر، والرعد والبرق وغير ذلك، كل هذا حادث غير قديم، عند كل ذي حس سليم، فإنه يرى ذلك بعينه.
والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم أو بأن مادته قديمة، يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم، ويقولون: إن مواد جميع العالم قديمة دون صوره.
واعلم أن المذهب إذا كان باطلا في نفسه، لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصورًا حقيقيا، فإن هذا لا يكون إلا للحق. فأما القول الباطل فإذا بُيِّن فبيانه يظهر فساده، حتى يقال: كيف اشتبه هذا على أحد ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب، فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس؛ ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات وأنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} 1، وأنهم {لا يفقهون}، وأنهم {لا يعقلون}وأنهم{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} 2، وأنهم{فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} 3، وأنهم {يَعْمَهُونَ} 4.
وإنما نشأ والله أعلم الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه، أو: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 5، فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته، فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة وليس الأمر كذلك.
وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود، والمعدوم الممكن، والمعدوم المستحيل، ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما يعلم ما أخبر الله به عن أهل النار، {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} 6، وأنهم {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ} 7، وأنه {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا} 8، وأنه {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} 9، وأنهم {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا} 10، وأنه{وَلَوْلَا فَضْلُ الله عليكم وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} 11، ونحو ذلك من الجمل الشرطية التي يعلم فيها انتفاء الشرط أو ثبوته.
فهذه الأمور التي نعلمها نحن ونتصورها، إما نافين لها أو مثبتين لها في الخارج أو مترددين، ليس بمجرد تصورنا لها يكون لأعيانها ثبوت في الخارج عن علمنا وأذهاننا، كما نتصور جبل ياقوت وبحر زئبق، وإنسانًا من ذهب وفرسًا من حجر. فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلا.
وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه، كما في صحيح مسلم: عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة).
وفي سنن أبي داود: عن عبادة بن الصامت، عن النبي ﷺ قال: (أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب. قال: رب، وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، وقال ابن عباس: إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابا فكان كتابا؟ ثم أنزل تصديق ذلك في كتابه فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} 12
وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ وفي رواية: متى كتبت نبيا؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد)، هكذا لفظ الحديث الصحيح.
وأما ما يرويه هؤلاء الجهال كابن عربي في الفصوص وغيره من جهال العامة: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)، (كنت نبيا وآدم لا ماء ولا طين). فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين، ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ، بل هو باطل، فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط، فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طينًا، وأيبس الطين حتى صار صَلْصَالًا كالفَخَّار، فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والطين، ولو قيل: بين الماء والتراب لكان أبعد عن المحال، مع أن هذا الحال لا اختصاص لها، وإنما قال: (بين الروح والجسد)، وقال: (وإن آدم لمنجدل في طينته)؛ لأن جسد آدم بقى أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} الآية 13، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ} الآيتين 14، وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} الآيتين 15، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ}الآية 16. والأحاديث في خلق آدم ونفخ الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما.
فأخبر ﷺ أنه كان نبيا، أي: كتب نبيا وآدم بين الروح والجسد. وهذا والله أعلم لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذييكون بأيدي ملائكة الخلق، فيقدر لهم ويظهر لهم، ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه، كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات: حديث الصادق المصدوق، وهو من الأحاديث المستفيضة، التي تلقاها أهل العلم بالقبول وأجمعوا على تصديقها، وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح)، وقال: (فوالذي نفسي بيده، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة).
فلما أخبر الصادق المصدوق أن الملك يكتب رزقه وعمله وأجله وشقى أو سعيد بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح. وآدم هو أبو البشر كان أيضا من المناسب لهذا أن يكتب بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه ما يكون منه، ومحمد ﷺ سيد ولد آدم فهو أعظم الذرية قدرًا وأرفعهم ذكرًا.
فأخبر ﷺ أنه كتب نبيا حينئذ، وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته، فإنه كون في التقدير الكتابي، ليس كونا في الوجود العيني؛ إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين سنة من عمره ﷺ كما قال تعالى له: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} الآية 17، وقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} الآية 18. وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية 19.
ولذلك جاء هذا المعنى مفسرًا في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله ﷺ أنه قال: (إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام)، هذا لفظ الحديث من رواية ابن وهب.
حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلي بن هلال السلمي عن العرباض، رواه البغوي في شرح السنة هكذا، ورواه الليث بن سعد عنه نحوه، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مهدي: حدثنا معاوية بن صالح بالإسناد عن العرباض قال: قال رسول الله ﷺ: (إني عبد الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين)، وقوله: (لمنجدل في طينته) أي: ملتف ومطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد.
وقد روى أن الله كتب اسمه على العرش وعلى ما في الجنة من الأبواب والقباب والأوراق، وروي في ذلك عدة آثار توافق هذه الأحاديث الثابتة، التي تبين التنويه باسمه وإعلاء ذكره حينئذ.
وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر لما قيل له: متى كنت نبيا؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد)، وقد رواه أبو الحسين بن بِشْرَان من طريق الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في الوفا بفضائل المصطفى ﷺ: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، ثنا محمد بن صالح، ثنا محمد بن سنان العوفي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن يزيد بن ميسرة، عن عبد الله بن سفيان، عن ميسرة قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: (لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق، والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى، نظر إلى العرش فرأى اسمى فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه).
وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة، ومن طريق الشيخ أبي الفرج: حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا أحمد بن رِشْدِين، ثنا أحمد بن سعيد الفهري، ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: (لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال: يارب، بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه وما محمد؟ ومن محمد؟ فقال: يا رب، إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك، فإذا عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك؛ إذ قرنت اسمه مع اسمك. فقال: نعم، قد غفرت لك وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك)، فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة.
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يأتى غار حِراء فيتحنَّثُ فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق، وهو بحراء، فأتاه الملك فقال له: اقرأ. قال: (لست بقاريء). قال: (فأخذني فغَطَّنِي حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: لست بقاريء) قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: لست بقارئ، ثم أخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني)، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} 20 فرجع بها رسول الله ﷺ ترجف بوادره. الحديث بطوله.
فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم يكن قارئا، وهذه السورة أول ما أنزل الله عليه وبها صار نبيًا، ثم أنزل عليه سورة المدثر، وبها صار رسولا لقوله: {قُمْ فَأَنذِرْ} 21 ؛ ولهذا ذكر سبحانه في هذه السورة الوجود العيني والوجود العلمي، وهذا أمر بين، يعقله الإنسان بقلبه لا يحتاج فيه إلى سمع، فإن الشيء لا يكون قبل كونه.
وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها، فهذا حق لا ريب فيه، وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار.
وهذا العلم والكتاب هو القدر الذي ينكره غالية القدرية، ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار، كفَّرهم الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما.
وقد بين الكتاب والسنة هذا القدر، وأجاب النبي ﷺ عن السؤال الوارد عليه، وهو ترك العمل لأجله، فأجاب ﷺ عن ذلك، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: كنا في جنازة في بَقِيع الغَرْقد، فأتانا رسول الله ﷺ فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة فنكس، فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: (ما منكم من أحد) أو قال (ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة). قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ فقال: (اعملوا فكل مُيَسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} 22 إلى آخر الآيات. وفي رواية: كان رسول الله ﷺ ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: (ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار) قالوا: يا رسول الله، ففيم العمل؟ أفلا نتكل؟ قال: (لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى} الآية. وفي الصحيحين أيضا عن عمران بن حصين قال: قيل: يا رسول الله، أَعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: (نعم) قال: فقيل: ففيم يعمل العاملون؟ فقال: (كل ميسر لما خلق له) وفي رواية: أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله ﷺ فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبت الحجة عليهم؟ فقال: (لا. بل شيء قضى عليهم ومضي فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ) 23.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: جاء سراقة بن مالك بن جُعْشُم قال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال: (لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير). قال: ففيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء)
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: رب، ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة). يا بني، سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من مات على غير هذا فليس مني)، ورواه الترمذي من وجه آخر عن الوليد بن عبادة أنه قال: دعاني يعني أباه عند الموت فقال: يا بني، اتق الله، واعلم أنك إن تتق الله تؤمن بالله وتؤمن بالقدر كله، خيره وشره، وإن مت على غير هذا دخلت النار، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الا بد).
وفي الترمذي أيضا عن أبي خزامة عن أبيه، أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال: أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله تعالى شيئا؟ قال: (هي من قدر الله).
لكن إنما ثبتت في التقدير المعدوم الممكن الذي سيكون، فأما المعدوم الممكن الذي لا يكون فمثل إدخال المؤمنين النار وإقامة القيامة قبل وقتها، وقلب الجبال يواقيت ونحو ذلك، فهذا المعدوم ممكن وهو شيء ثابت في العدم عند من يقول: المعدوم شيء، ومع هذا، فليس بمقدر كونه، والله يعلمه على ما هو عليه، يعلم أنه ممكن وأنه لا يكون.
وكذلك الممتنعات مثل شريك الباري وولده، فإن الله يعلم أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ويعلم أنه ليس له شريك في الملك ولا وليُّ من الذل، ويعلم أنه حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ويعلم أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف: أن المعدوم ليس في نفسه شيئا، وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شيئا} 24، فأخبر أنه لم يك شيئا، وقال تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئا} 25، وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 26.
فأنكر عليهم اعتقاد أن يكونوا خُلِقوا من غير شيء خلقهم أم خَلَقوا هم أنفسهم، ولهذا قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله ﷺ قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع، ولو كان المعدوم شيئا لم يتم الإنكار إذا جاز أن يقال: ما خلقوا إلا من شيء، لكن هو معدوم فيكون الخالق لهم شيئا معدوما. وقال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شيئا} 27. ولو كان المعدوم شيئا لكان التقدير: لا يظلمون موجودًا ولا معدومًا، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه فإنه ليس لهم.
وأما قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 28 فهو إخبارعن الزلزلة الواقعة أنها شيء عظيم ليس إخبارًا عن الزلزلة في هذه الحال، ولهذا قال: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} 29، ولو أريد به الساعة لكان المراد به أنها شيء عظيم في العلم والتقدير.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} 30 قد استدل به من قال: المعدوم شيء وهو حجة عليه؛ لأنه أخبر أنه يريد الشيء وأنه يكونه، وعندهم أنه ثابت في العدم وإنما يراد وجوده لا عينه ونفسه، والقرآن قد أخبر أن نفسه تراد وتكون، وهذا من فروع هذه المسألة.
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة، وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدرًا زائدًا على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في
الخارج زائدا على ذلك.
وأولئك يقولون: الوجود قدر زائد على الماهية، ويقولون: الماهيات غير مجعولة، ويقولون: وجود كل شيء زائد على ماهيته، ومن المتفلسفة من يفرق بين الوجود والواجب والممكن فيقول: الوجود الواجب عين الماهية. وأما الوجود الممكن فهو زائد على الماهية. وشبهة هؤلاء: ما تقدم من أن الإنسان قد يعلم ماهية الشيء ولا يعلم وجوده، وأن الوجود مشترك بين الموجودات، وماهية كل شيء مختصة به.
ومن تدبر تبين له حقيقة الأمر، فإنا قد بينا الفرق بين الوجود العلمي والعيني، وهذا الفرق ثابت في الوجود والعين والثبوت والماهية وغير ذلك، فثبوت هذه الأمور في العلم والكتاب والكلام: ليس هو ثبوتها في الخارج عن ذلك، وهو ثبوت حقيقتها وماهيتها التي هي هي، فالإنسان إذا تصور ماهية فقد علم وجودها الذهني، ولا يلزم من ذلك الوجود الحقيقي الخارجي. فقول القائل: قد تصورت حقيقة الشيء وعينه، ونفسه وماهيته، وما علمت وجوده، أو حصل وجوده العلمي، وما حصل وجوده العيني الحقيقي، ولم يعلم ماهيته الحقيقية، ولا عينه الحقيقية، ولا نفسه الحقيقية الخارجية، فلا فرق بين لفظ وجوده ولفظ ماهيته، إلا أن أحد اللفظين قد يعبر به عن الذهني، والآخر عن الخارجي، فجاء الفرق من جهة المحل لا من جهة الماهية والوجود.
وأما قولهم: إن الوجود مشترك والحقيقة لا اشتراك فيها، فالقول فيه كذلك، فإن الوجود المعين الموجود في الخارج لا اشتراك فيه، كما أن الحقيقة المعينة الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها وإنما العلم يدرك الموجود المشترك كما يدرك الماهية المشتركة، فالمشترك ثبوته في الذهن لا في الخارج، وما في الخارج ليس فيه اشتراك البتة، والذهن إن أدرك الماهية المعينة الموجودة في الخارج لم يكن فيها اشتراك، وإنما الاشتراك فيما يدركه من الأمور المطلقة العامة، وليس في الخارج شيء مطلق عام بوصف الإطلاق والعموم، وإنما فيه المطلق لا بشرط الإطلاق، وذلك لا يوجد في الخارج إلا معينا.
فينبغي للعاقل أن يفرق بين ثبوت الشيء ووجوده في نفسه، وبين ثبوته ووجوده في العلم، فإن ذاك هو الوجود العيني الخارجي الحقيقي، وأما هذا فيقال له: الوجود الذهني والعلمي، وما من شيء إلا له هذان الثبوتان، فالعلم يعبر عنه باللفظ ويكتب اللفظ بالخط، فيصير لكل شيء أربع مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي.
ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ذكر فيها النوعين فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} 31، فذكر جميع المخلوقات بوجودها العيني عموما ثم خصوصا، فخص الإنسان بالخلق بعد ما عم غيره، ثم قال: {قْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 32، فخص التعليم للإنسان بعد تعميم التعليم بالقلم، وذكر القلم؛ لأن التعليم بالقلم هو الخط وهو مستلزم لتعليم اللفظ، فإن الخط يطابقه، وتعليم اللفظ هو البيان وهو مستلزم لتعليم العلم؛ لأن العبارة تطابق المعنى. فصار تعليمه بالقلم مستلزما للمراتب الثلاث: اللفظي، والعلمي، والرسمي، بخلاف ما لو أطلق التعليم أو ذكر تعليم العلم فقط لم يكن ذلك مستوعبا للمراتب.
فذكر في هذه السورة الوجود العيني والعلمي، وأن الله سبحانه هو معطيهما؛ فهو خالق الخلق وخالق الإنسان، وهو المعلم بالقلم ومعلم الإنسان.
فأما إثبات وجود الشيء في الخارج قبل وجوده، فهذا أمر معلوم الفساد بالعقل والسمع، وهو مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
هامش
- ↑ [البقرة: 18]
- ↑ [الذاريات: 8، 9]
- ↑ [التوبة: 45]
- ↑ [البقرة: 15]
- ↑ [يس: 82]
- ↑ [الأنعام: 28]
- ↑ [الأنفال: 23]
- ↑ [الأنبياء: 22]
- ↑ [الإسراء: 42]
- ↑ [التوبة: 47]
- ↑ [النور: 21]
- ↑ [الحج: 70]
- ↑ [الإنسان: 1]
- ↑ [الحجر: 28]
- ↑ [السجدة: 7]
- ↑ [ص: 71]
- ↑ [الشورى: 52]
- ↑ [الضحى: 6]
- ↑ [يوسف: 3]
- ↑ [سورة العلق]
- ↑ [المدثر: 2]
- ↑ [الليل: 5]
- ↑ [الشمس: 7، 8]
- ↑ [مريم: 9]
- ↑ [مريم: 67]
- ↑ [الطور: 35]
- ↑ [مريم: 60]
- ↑ [الحج: 1]
- ↑ [الحج: 2]
- ↑ [النحل: 40]
- ↑ [العلق: 1، 2]
- ↑ [العلق: 3: 5]