مجموعة فلسفة أبي نصر الفارابي/كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو طاليس
كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين
الحمد لواهب العقل ومبدعه . ومصور الكل ومخترعه . كفى احسانه القديم وافضاله ، والصلاة على سيد الأنبياء محمد وآله
أما بعد فانى لما رأيت أكثر أهل زماننا قد تحاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه وادعوا أن بين الحكيمين المقدمين المبرزين اختلافاً في اثبات المبدع الأول . وفي وجود الأسباب منه وفي أمر النفس والعقل . وفي المجازاة علي الأفعال خيرها وشرها. وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأيهما والابانة عما يدل عليه فحوى قوليهما ليظهر الاتفاق بين ما كانا يعتقدانه ويزول الشك والارتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما وأبين مواضع الظنون ومداخل الشكوك في مقالاتهما لأن ذلك من أهم ما يُقصد بيانه وأنفع ما يراد شرحه وإيضاحه اذ الفلسفة حدها وماهيتها انها العلم بالموجودات بما هي موجودة
وكان هذان الحكيمان هما مبدعان للفلسفة ومنشتان لأوائلها وأصولها ومتممان لأواخرها وفروعها وعليهما المعول في قليلها وكثيرها واليهما المرجع في يسيرها وخطيرها وما يصدر عنهما في كل فن انما هو الأصل. أفلاطون • وارسطاطاليس المعتمد عليه لخلوه من الشوائب والكدر بذلك نطقت الألسن وشهدت العقول ان لم يكن من الكافة فمن الأكثرين من ذوي الألباب الناصعة والعقول الصافية ولما كان القول والاعتقاد انما يكون صادقاً متى كان للموجود المغير عنه مطابقاً ثم كان بين قول هذين الحكيمين في كثير من أنواع الفلسفة خلاف لم يخل الأمر فيه من احدى ثلاث خلال .. إما أن يكون هذا الحد المبين عن ماهية الفلسفة غير صحيح .. وإما أن يكون رأي الجميع أو الأكثرين و اعتقادهم في تفلسف هذين الرجلين سخيفاً ومدخولاً .. وإما أن يكون في معرفة الظانين فيهما بأن ينهما خلافاً في هذه الأصول تقصير والحد الصحيح مطابق لصناعة الفلسفة وذلك يتبين من استقراء جزئيات هذه الصناعة وذلك ان موضوعات العلوم وموادها لا تخاو من أن تكون اما الالهية وإما طبيعية وإما منطقية واما رياضية أو سياسية وصناعة الفلسفة هي المستنبطة لهذه والمخرجة لها حتى أنه لا يوجد شيء من موجودات العالم الا وللفلسفة فيه مدخل وعليه غرض ومنه علم بمقدار الطاقة الانسية وطريق القسمة يصرح ويوضح ما ذكرناه وهو الذي يؤثر عن الحكيم أفلاطون فان المقسم يروم أن لا يشذ عنه شي موجود من الموجودات ولو لم يسلكها أفلاطون لما كان الحكـ ارسطاطاليس يتصدى لسلوكها غير أنه لما وجد أفلاطون قد احكمها وينها وأتقنها وأوضحها اهتم ارسطاطاليس باحتمال الكد وأعمال الجهد في انشاء طريق القياس وشرع في بيانه وتهذيبه ليستعمل القياس كتاب الجمع بين وأبي الحكيمين والبرهان في جزء جزء مما توجبه القسمة ليكون كالتابع والمتمم والمساعد والناصح .. ومن تدرب في علم المنطق وأحكم علم الآداب الخلقية شرع في الطبيعيات والالهيات ودرس كتب هذين الحكيمين يتبين له مصداق ما أقوله حيث يجدهما قد قصد اتدوين العلوم بموجودات العالم واجتهدا في إيضاح أحوالها على ما هي عليه من غير قصد منهما لاختراع واغراب وإبداع وزخرفة وتشويق بل لتوفية كل منهما قسطه ونصيبه بحسب الوسع والطاقة واذا كان ذلك كذلك فالحد الذي قيل في الفلسفة انها العلم بالموجودات بما هي موجودة حدصحيح يبين عن ذات المحدود ويدل على ماهيته فأما أن يكون رأي الجميع أو الاكثرين واعتقادهم في هذين الحكيمين انهما المنظوران والامامان الميرزان في هذه الصناعة سخيفاً مدخولا فذلك بعيد عن قبول العقل إياه واذعانه له اذ الموجود يشهد بضده لأ نا نعلم يقيناً انه ليس شيء من الحجج أقوى وأنفع وأحكم من شهادات المعارف المختلفة بالشئ الواحد واجتماع الآراء الكثيرة اذ العقل عند الجميع حجة ولأجل أن ذا العقل ربما يخيل اليه الشئ بعد الشيء على خلاف ما هو عليه من جهة تشابه العلامات المستدل بها على حال الشئ احتيج إلى اجتماع عقول كثيرة مختلفة فمهما اجتمعت فـلا حجة أقوى ولا يقين أحكم من ذلك ثم لا يغرنك وجود أناس كثيرة على آراء مدخولة فان الجماعة المقلدين لرأي واحد المدعيين لامام يؤمهم فيما اجتمعوا عليه بمنزلة عقل واحد والعقل الواحد ربما يخطئ في ٤ أفلاطون . وارسطاطاليس الشيء الواحد حسب ما ذكرنا لاسيما اذا لم يتدبر الرأي الذي يعتقده مراراً ولم ينظر فيه بعين التفتيش والمعاندة وان حسن الظن بالشيء أو الاهمال في البحث قد يغطي ويعمي ويخيل واما العقول المختلفة اذا اتفقت بعد تأمل منها وتدرب وبحث وتنقير ومعاندة وتبكيت وإثارة الأماكن المتقابلة فلاشي أصح مما اعتقدته وشهدت به واتفقت عليه ونحن نجد الألسنة المختلفة متفقة بتقديم هذين الحكيمين وفي التفلسف بهما تضرب الأمثال واليهما يساق الاعتبار وعندهما يتناهى الوصف بالحكم العميقة والعلوم اللطيفة والاستنباطات العجيبة والغوص في المعاني الدقيقة المؤدية في كل شيء الى المحض والحقيقة واذا كان هذا هكذا فقد بقي أن يكون في معرفة الظانين بهما أن يكون بينهما خلافاً في الأصول تقصير. وينبغي أن تعلم أن ما من ظن يخطيء أوسبب يغلط الا وله داع اليه وباعث عليه ونحن نبين في هذه الموضع بعض الأسباب الداعية الى الظن بأن بين الحكيمين خلافاً في الأصول ثم تتبع ذلك بالجمع بين رأيهما 1 اعلم ان مما هو متأكد في الطبائع بحيث لا تقلع عنه ولا يمكن خلوها عنه والتبر أمنه في العلوم والاراء والاعتقادات وفي أسباب النواميس والشرائع وكذلك في المعاشرات المدنية والمعائش هو الحكم بالكل عند استقراء الجزئيات إما في الطبيعيات فمثل حكمنا بأن كل حجر يرسب في الماء ولعل بعض الأحجار يطفو وان كل نبات محترق بالنار ولعل بعضها لا يحترق بالنار وان جرم الكل متناه ولعله غير متناه كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين وفي الشرعيات مثل ان كل من شوهد فعل الخير منه على أكثر الأحوال فهو عدل صادق الشهادة في كثير من أشياء من غير أن يشاهد جميع أحواله وفي المعاشرات مثل السكون والطمأنينة اللتين حدهما في أنفسنا محدود انما منه استدلالات من غير أن يشاهد في جميع أحواله ولما كان أمر هذه القضية على ما وصفناه من استحكامه واستيلائه على الطبائع ثم وجد أفلاطون وارسطو طاليس وينهما في السير والافعال وكثير من الأقوال خلاف ظاهر فكيف يضبط الوهم معهما بتوهم وتحكم بالخلاف الكلي ينهما مع سوق الوهم الى القول والفعل جميعاً تابعين للاعتقاد ولا سيما حيث لأمراء فيه ولا احتشام مع تمادى المدة ثم من أفعالهما المباينة وسيرهما المختلفة تخلى أفلاطون من كثير. الأسباب الدنيوية ورفضه لها وتحذيره في كثير من أقاويله عنها وايثاره تجنبها وملابسة ارسطو طاليس لما كان يهجر أفلاطون حتى استولى على كثير من الأملاك وتزوج وأولد وتوزر للملك الاسكندر وحوى من الأسباب الدنيوية مالا يخفي على من اعتنى بدرس كتب أخبار المتقدمين فظاهر هذا الشأن يوجب الظن بأن بين الاعتقاد بن خلافاً في أمر الدارين وليس الأمر كذلك في الحقيقة فان أفلاطون هو الذي دون السياسة وهذبها وبين السير العادلة والعشرة الأنسية المدنية وأبان عن فضائلها وأظهر الفساد العارض لأفعال من هجر العشرة المدنية وترك التعاون فيها ومقالاته فيما ذكرناه مشهورة يتدارسها الأمم المختلفة من لدن زمانه الى عصرنا هذا غير أنه لما رأي أمر النفس 7 أفلاطون . وارسطاطاليس وتقويمها أول ما يبتدئ به الانسان حتى اذا أحكم تعديلها وتقويمها ارتقى منها الى تقويم غيرها ثم لما لم يجد في نفسه من القوة ما يمكنه الفراغ مما يهمه من أمرها أفنى أيامه فى أهم الواجبات عليه عارماً على أنه متى فرغ من الأهم الأولى أقبل على الأقرب الأدنى حسب ما أوصى به في مقالاته في السياسات والأخلاق وان ارسطو طاليس جرى على مثل ماجري عليه أفلاطون في أقاويله ورسائله السياسية ثم لما رجع إلى أمر نفسه خاصة أحس منها بقوة ورحب ذراع وسعة صدر وتوسع أخلاق وكمال أمكنه معها تقويمها والتفرغ للتعاون والاستمتاع بكثير من المدنية فمن تأمل هذه الأحوال علم أنه لم يكن بين الرأيين والاعتقادين خلاف وان التباين الواقع لهما كان سببه نقص في القوى الطبيعية في أحدهما وزيادة فيها في الآخر فلاغير على حسب مالا يخلو منه كل الاثنين من أشخاص الناس اذ الأكثرون قد يعلمون ما هو آثر وأصوب وأولى غير انهم لا يطيقونه ولا يقدرون عليه وربما أطاقوا البعض وعجزوا عن البعض ومن ذلك أيضاً تباين مذهبهما في تدوين العلوم وتأليف الكتب وذلك ان افلاطون كان يمنع في قديم الأيام عن تدوين العلوم وايداعها بطون الكتب دون الصدور الزكية والعقول المرضية فلما خشى على نفسه الغفلة والنسيان وذهاب ما يستنبطه وتعسر وقوفه عليه حيث استغزر علمه وحكمته وتبسط فيها فاختار الرموز والالغاز قصداً منه لتدوين علومه وحكمته على السبيل الذي لا يطلع عليه الا المستحقون لها كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين V والمستوجبون للاحاطة بها طلب و بحث و تنقيراً واجتهاداً وأما ارسطو طاليس فكان مذهبه الايضاح والتدوين والترتيب والتبليغ والكشف والبيان واستيفاء كل ما يجد اليه السبيل من ذلك وهذان سبيلان على ظاهر الأمر متباينان غير أن الباحث عن علوم ارسطو طاليس والدارس لكتبه والمواظب عليها لا يخفي عليه مذهبه في وجوه الاغلاق والتعمية والتعقيد مع ما يظهره من قصد البيان والايضاح .. من ذلك ما يوجد في أقاويله من حذف المقدمة الضرورية من كثير من القياسات الطبيعية والالهية والخلقية التي أوردها ممادل على مواضعها المفسرون لها.. ومن ذلك حذف كثير من المشائخ وحذف الواحد من كل زوجين والاقتصار على الواحد منهما مثل قوله في رسالته الى الاسكندر في سياسات المدن الجزئية من آثر اختيار العدل في التعاون المدني تخليق أن يميزه مدير المدينة في العقوبة وتمام هذا القول هكذا من آثر اختيار العدل على الجور تخليق أن يميزه مدبر المدينة في العقوبة والثواب يعنى ان من آثر العدل تحليق أن يثاب كما أن من آثر الجور تخليق أن يعاقب ذلك ذكره لمقدمتي قياس ما واتباعهما نتيجة قياس آخر ومن وذكره لمقدمتي قياس واتباعه نتيجة لوازم تلك المقدمات مثل ما فعله في كتاب القياس عند ذكر أجزاء الجواهر أنها جواهر ومن ذلك اشباعه القول في تمديد جزئيات الشيء الواضح ليرى من نفسه البلاغ والجهد في الاستيفاء ثم تجاوزه عن الغامض من غير اشباع في القول ولا توفيته في الخط A أفلاطون . وارسطاطاليس ومن ذلك النظم والترتيب والرسم الذي في كتبه العلمية حيث تظن ان ذلك طباع له لا يمكنه التحول عنه فاذا تؤمل رسائله وجد كلامه فيها منشأ ومنظوماً على رسوم وترتيبات مخالفة لما في تلك الكتب وتكفينار سالته المعروفة الى أفلاطون في جواب ما كان أفلاطون كتب اليه به يعاتبه علي تأليفه الكتب وترتيبه العلوم واخراجها في تأليفاته الكاملة المستقصاة فانه يصرح في هذه الرسالة الى أفلاطون ويقول اني وان دونت هذه العلوم والحكم المضنون بها فقد رتبتها ترتيباً لا يخلص اليها الا أهلها وعبرت عنها بعبارات لا يحيط بها الا بنوها فقد ظهر مما وصفناه ان الذي سبق الى الأوهام من التباين في المسلكين في امر يشتمل عليه حكمان ظاهران متخالفان يجمعهما مقصود واحد ومن ذلك أيضاً أمر الجواهر وان التي منها أقدم عند ارسطو طاليس غير التي منها أقدم عند أفلاطون فان أكثر الناظرين في كتبهما يحكمون بخلاف بين رأيهما في هذا الباب والذي حداهم الى هذا الحكم وهذا الظن هو ما وجدوا من أقاويل أفلاطون في كثير من كتبه مثل كتاب طماوس وكتاب بوليطيا الصغير دلالة على أن أفضل الجواهر وأقدمها وأشرفها هي القريبة من العقل والنفس البعيدة عن الحس والوجود الكياني ثم وجدوا كثيراً من أقاويل ارسطو طاليس في كتبه مثل كتابه في المقولات وكتابه في القياسات الشرطية يصرح بأن أولى الجواهر بالتفضيل والتقديم الجواهر الأول التي هي الأشخاص فلما. وجدوا هذه الأقاويل على ما ذكرناه من التفاوت والتباين لم يشكوا كتاب الجمع بين رأى الحكمان في أن بين الاعتقادين خلافاً والأمر كذلك لأن من مذهب الحكماء والفلاسفة أن يفرقوا بين الأقاويل والقضايا في الصناعات المختلفة فيتكلمون على الشيء الواحد في صناعة بحسب مقتضي تلك الصناعة ثم يتكلمون على ذلك الشيء بعينه في صناعة أخرى بغير ما تكلموا به أولا وليس ذلك ببديع ولا مستنكر اذ مدار الفلسفة على القول من حيث ومن جهة ما كما قد قيل أنه لوارتفع من حيث ومن جهة ما بطلت تلك العلوم والفلسفة الاترى أن الشخص الواحد كسقراط مثلا يكون داخلا تحت الجوهر من حيث هو انسان وتحت الكم من حيث هو ذو مقدار وتحت الكيف من حيث هو أبيض أو فاضل أوغير ذلك وفي المضاف من حيث هو أب أو ابن وفى الوضع من حيث هو جالس أو متك وكذلك سائر ما أشبهه فالحكيم ارسطو طاليس حيث جعل أولى الجواهر بالتقديم والتفضيل أشخاص الجواهر انما جعل ذلك في صناعة المنطق وصناعة الكيان حيث راعي أحوال الموجودات القريبة الى المحسوس الذي منه يؤخذ جميع المفهومات وبها قوام الكلي المتصور وأما الحكيم أفلاطون فانه حيث جعل أولى الجواهر بالتقديم والتفضيل الكليات فانه انما جعل ذلك كذلك فيما بعد الطبيعة وفي أقاويله الالهية حيث كان يراعي الموجودات البسيطة الباقية التي لا تستحيل ولا تدثر فلما كان بين المقصودين فرق ظاهر و بين الفريقين بون بعيد. و بين المبحوث عنهما خلاف فقد صح ان هذين الرأيين من الحكيمين متفقان لا اختلاف بينهما إذ الاختلاف انما يكون حاصلا ان حكما على ۱۰ أفلاطون . وارسطاطاليس الجواهر من جهة واحدة وبالاضافة الى مقصود واحد بحكمين مختلفين فلما لم يكن ذلك كذلك فقد اتضح ان رأيهما يجتمعان على حكم واحد في تقديم الجواهر وتفضيلها ومن ذلك ما يظن بهما في أمر القسمة والتركيب في توفية الحدود ان أفلاطون يرى أن توفية الحدود انما يكون بطريق القسمة وارسطو طاليس يرى أن توفية الحدود انما يكون بطريق البرهان والتركيب وينبغي أن تعلم ان مثل ذلك مثل الدرج الذي يدرج عليه وينزل منه فان المسافة واحدة وبين السالكين خلاف وذلك ان ارسطو طاليس لما رأى أن أقرب الطرق وأوثقها في توفية الحدود هو بطلب مايخص الشيء وما يعمه مما هي ذاتية له وجوهرية وسائر ماذكره في الحرف الذى يتكلم فيه على توفية الحدود من كتبه فيما بعد الطبيعة وكذلك في كتاب البرهان وفي كتاب الجدل وفي غير ذلك من المواضع مما يطول ذكره وأكثر كلامه لم يخل من قسمة ما وان كان غير مصرح بها فانه حين يفرق بين العامي والخاصي و بين الذاتي وغير الذاتي فهو سالك بطبيعته وذهنه وفكره طريق القسمة وانما يصرح بعض أطرافها ولأجل ذلك لم يطرح طريق القسمة رأساً لكنه يعده من التعاون على استقصاء أجزاء المحدود والدليل على ذلك قوله في كتاب القياس في آخر المقالة الأولى فأما القسمة التي تكون بالأجناس جزء صغير من هذا المأخذ فانه سهل أن يعرف سائر ما يتلوه وهو لم يعد المعاني التي يرى أفلاطون استعمالها حين يقصد الى أعم ما يجده مما يشتمل على يقوم كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ۱۱ الشيء المقصود تحديده فيقسمه بفصلين ذاتيين ثم يقسم كل قسم منهما كذلك وينظر في أى الجزئين يقع المقصود تحديده ثم لا يزال يفعل كذلك الى أن يحصل أمر عامي قريب من المقصود تحديده وفصل ذاته ويفرده عما يشاركه وهو في ذلك لا يخلو من تركيب ما حيث يركب الفصل على الجنس وان لم يقصد ذلك من أول الأمر فاذا كان لا يخلو من ذلك فما يستعمله وان كان ظاهر سلوكه ذلك خلاف ظاهر سلوكه هذا فالمعاني واحدة وأيضاً فسواء، طلبت جنس الشيء وفصله أو طلبت الشيء في جنسه وفصله فظاهر أنه لا خلاف بين الرأيين في الأصل وان كان بين المسلكين خلاف ونحن لا ندعي أنه لابون بوجه من الوجوه وجهة من الجهات بين الطريقين لانه يلزمنا عند ذلك أن يكون قول ارسطو طاليس ومأخذه وسلوكه هي بأعيانها قول أفلاطون ومأخذه وسلوكه وذلك محال وشنيع ولكنا ندعي أنه لا خلاف بينهما في الأصول والمقاصد على ما بيناه أو سنبينه بمشيئة الله وحسن توفيقه ومن ذلك أيضاً ما انتحله امونيوس وكثير من ! الاسكلائيين وآخرهم ثامسطيوس فيمن يتبعه من أن القياس المختلط من الضرورى والوجودي اذا كانت المقدمة الكبرى منهما ضرورية كانت النتيجة وجودية لاضرورية ونسبوا ذلك الى أفلاطون وادعوا أنه يأتي بقياسات في كتبه توجد مقدماتها الكبرى ضرورية ونتائجها وجودية مثل القياس الذي يأتي به في كتاب طماوس حيث يقول الوجود أفضل من لا وجود والأفضل تشتاقه الطبيعة أبداً ويزعمون أن النتيجة اللازمة لهاتين ۱۳ أفلاطون . وأرسطاطاليس المقدمتين وهي أن الطبيعة تشتاق الوجود ليست ضرورية من جهات منها أنه لا ضرورة في الطبيعة وان الذي في الطبيعة من الوجود هو الوجود الذي علي الاكثر . ومنها أن الطبيعة قد تشتاق الى الوجود عند المضاف اللاحق لوجود ماهي اللازمة عنه وزعموا أن المقدمة الكبرى من هذا القياس ضرورية لقوله أبداً وارسطو طاليس يصرح في كتاب القياس أن القياس الذي تكون مقدماته مختلطة من الضروري ومن الوجودي وتكون الكبرى هي الضرورية فان النتيجة تكون ضرورية وهذا خلاف ظاهر .. فنقول لولا أنه لا يوجد لا فلاطون قول يصرح فيه ان أمثال هذه النتائج تكون ضرورية أو وجودية البتة وانما ذلك شيء يدعيه الناظرون ويزعمون أنه قد يوجد لا فلاطون قياسات علي هذا السبيل مثل ما حكيناه عنه لكان بينهما خلاف ظاهر الا أن الذي دعاهم الى هذا الاعتقاد هو قلة التمييز وخلط صناعة المنطق بالطبيعة وذلك اذهم لما وجدوا القياس مركباً من مقدمتين وثلاثة حدود أول وأوسط وآخر ووجدوا لزوم الحد الأول للأوسط ضرورياً ولزوم الأوسط للآخر وجودياً ورأوا الحد الاوسط كان هو العلة في لزوم الحد الأول للآخر والواصل له به ثم وجدوا حالة نفسه عند الآخر حال الوجود قالوا اذا كان حال الاوسط الذى هو العلة والسبب في وصول الأول بالآخر حال الوجود فكيف يجوز أن يكون حال الأول عند الآخر حال الاضطرار وانما سوغ لهم هذا الاعتقاد نظرهم في مجرد الأمور والمعاني وازورارهم عن شرائط المنطق وشرائط المقول على كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ۱۳ الكل ولو علموا وتفكروا وتأملوا حال المقول على الكل وشرطه وان معناه هو أن كل ما هوب وكل ما يكون ب فهو أتم لوجدوا ان هو بشرط المقول على الكل بالضرورة ولما عرض لهم الشك ولما ساغ لهم ما اعتقدوه.. وأيضاً فان القياسات التي يأتون بها عن أفلاطون اذا تؤمل حق التأمل فيها وجدوا أكثرها وارداً في صور القياس المؤتلف من الموجبتين فى الشكل الثاني ومهما نظر في واحد واحد من مقدماتها تبين وهن ما ادعوه فيها وقد لخص الاسكندر الأفروديسي معنى المقول على الكل وفاصل عن ارسطو فيها ادعوه وشرحنا نحن أقاويله أيضاً عن كتاب انولوطيقا في هذا الباب وبينا معني المقول على الكل ولخصنا أمره شافياً وفرقنا فيه بين الضروري القياسي و بين الضروري البرهاني بحيث يكون فيه غنية لمن تأمله عن كل ما يورثه لبساً في هذا الباب فقد ظهر أن الذي ادعاه ارسطو طاليس في هذا القياس هو علي ما ادعاه وان أفلاطون لا يوجد له قول يصرح فيه بمايخالف قول ارسطو ومما أشبه ذلك هو ما ادعوه على أفلاطون أنه يستعمل الضرب من القياس في الشكل الأول والثالث الذي المقدمة الصغرى منه سالبة وقد بين ارسطو مرة في انولوطيقا أنه غير منتج وقد تكلم المفسرون في هذا الشكل وحللوه وبينوا أمره ونحن أيضاً شرحنا في تفاسيرنا و بينا أن الذي أتى به أفلاطون في كتاب السياسة وكذلك ارسطو طاليس في كتاب السماء والعالم مما يوهمهم أنها سوالب ليست بسوالب لكنها موجبات معدولة مثل قوله السماء لا خفيف ولا تقبل وكذلك سائر ١٤ أفلاطون . وارسطاطاليس ما أشبهها اذا الموضوعات فيها موجودة والموجبات المعدولة مهما وقعت في القياس بحيث لو وقعت هناك سوالب بسيطة كان الضرب غير منتج لا تمنع القياس من أن يكون منتجاً ومن ذلك أيضاً ما أتى به ارسطو طاليس في الفصل الخامس من الكتاب باري هر مينياس وهو ان الموجبة التي المحمول فيها ضد من الاضداد فان سالبته أشد مضادة من الموجبة التي المحمول فيها ضد ذلك المحمول فان كثيراً من الناس ظنوا أن أفلاطون يخالفه في هذا الرأي وأنه يري أن الموجبة التى المحمول فيها ضد المحمول في الموجبة الأخرى أشد مضادة واحتجوا على ذلك بكثير من أقاويله السياسية والخلقية منها ما ذكره في كتاب السياسة أن الأعدل متوسط بين الجور والعدل وهؤلاء فقد ذهب عليهم مانحاه أفلاطون في كتاب السياسة وما نحاه ارسطو طاليس في بارى هر مينياس وذلك أن الغرضين المقصودين متباينان فان ارسطو انما بين معاندة الأقاويل وانها أشد وأتم معاندة والدليل على ذلك ما أورده من الحجج وبين أن من الأمور مالا يوجد فيها مضادة البتة وليس شيء من الأمور الا ويوجد فيه سوالب معاندة له وأيضاً فان كان واجباً في غير ما ذكرنا أن يجري الأمر على هذا المثال فقد ترى أن ما قيل في ذلك صواب وذلك أنه قد يجب اما أن يكون اعتقاد النقيض هو الضد في كل موضع واما أن يكون في موضع من المواضع هذه الا أن الأشياء التي ليس يوجد فيها ضد أصلا فان الكذب فيها هو الضد المعاند للحق ومثال ذلك من ظن بانسان انه كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ١٥ ليس بانسان فقد ظن ظنا كاذباً فان كان هذان الاعتقادان هما الضدان فسائر الاعتقادات انما الضد فيها هو اعتقاد النقيض وأما أفلاطون حيث بين أن الأعدل متوسط بين العدل والجور فانه انما قصد بيان المعانى السياسية ومراتبها لا معاندة الأقاويل فيها وقد ذكر ارسطو في نيقوماخيا الصغير في السياسة شبها بما بينه أفلاطون فقد تبين المتأمل هذه الأقاويل والناظر فيها بعين النصفة أنه لا خلاف بين الرأيين ولا تباين بين الاعتقادين وبالجملة فليس يوجد الى الآن لأفلاطون أقاويل بين فيها المعانى المنطقية التي زعم كثير من الناس ان بينه وبين ارسطو طاليس فيها خلافاً وانما يحتجون على ما يزعمون ببعض أقاويله السياسية والخلقية والالهية حسب ما ذكرناه ومن ذلك حال الابصار وكيفيته وما ينسب الى أفلاطون من أن رأيه مخالف لرأي ارسطو ان ارسطو يرى أن الابصار انما يكون بانفعال من البصر وأفلاطون يرى أن الابصار انما يكون بخروج شيء من البصر وملاقاته المبصر وقد أكثر المفسرون من الفريقين الخوض في هذا الباب وأوردوا من الحجج والشناعات والالزامات وحرفوا أقاويل الأئمة عن سنها المقصودة بها وتأولوا تأويلات اتسعت لهم معها الشناعات وجانبوا طريق الانصاف والحق وذلك أن أصحاب ارسطو طاليس لما سمعوا قول أصحاب أفلاطون في الابصار وانه انما يكون بخروج شيء من البصر قالوا ان الخروج انما يكون للجسم وهذا الجسم الذي زعموا أنه يخرج من البصر اما أن يكون هواء أو ضواً أو ناراً وان ١٦ أفلاطون . وارسطاطاليس كان هواء فان الهواء قد يوجد فيما بين البصر والمبصر فما الحاجة الى خروج هواء آخر وان كان ضياء فان الضياء أيضاً قد يوجد في الهواء الذي بين البصر والمبصر فالضياء الخارج من البصر فضل لا يحتاج اليه وأيضاً فانه وان كان ضياء فلم احتيج معه الى الضياء الراكد بين البصر والمبصر ولم لا يغني هذا الضياء الخارج من البصر عن الضياء الذى يحتاج اليه في الهواء ولم لا يبصر في الظلمة ان كان الذي يخرج من البصر هو ضياء وأيضاً ان قبيل ان الضياء الذي يخرج من البصر يكون ضعيفاً فلم لا يقوى اذا اجتمعت أبصار كثيرة بالليل على النظر الى شيء واحد كما نرى ذلك من قوة الضوء عند اجتماع السرج الكثيرة وان كان ناراً فلم لا يحمى ولا يحرق مثل ما تفعله النار ولم لا ينطفي في المياه كما تنطفي النار ولم ينفذ الى أسفل كما ينفذ الى فوق وليس من شأن النار أن تنفذ الى الأسفل وأيضاً ان قيل ان الذي يخرج من البصر شيء آخر غير هذه الاشياء فلم لا يتلاقى ولا يتصادم عند مقابلة المناظر فيمنع الناظرين المتقابلين عن الاداك النظري هذه وما أشبهها من الشناعات التي وقعت لهم عند تحريفهم لفظ الخروج عن مقصود القول وجربهم الى الخروج الذي يقال في الأجسام ثم ان أصحاب أفلاطون لما سمعوا أقوال أصحاب ارسطو طاليس في الأبصار وانه انما يكون بالانفعال حرفوا هذه اللفظة بأن قالوا ان الانفعال لا يخلوا من تأثر واستحالة وتغير في الكيفية وهذا الفعال اما أن يكون في العضو الباصر أو في الجسم المشف الذي بين البصر و المبصر t كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ۱۷ فان كان في العضو لزم أن تستحيل الحدقة في آن واحد بعينه من ألوان بلا نهاية وذلك محال اذ الاستحالة انما تكون لا محالة في زمان ومن شي واحد بعينه الى شيء واحد بعينه محدود وان كان يحصل في بعضه دون بعض لزم أن تكون تلك الأجزاء مفصلة متميزة وليست كذلك وان كان ذلك الانفعال يلحق الجسم المشف أعنى الهواء الذي بين البصر والمبصر لزم أن يكون الموضوع الواحد بالعدد قابلا للضدين في وقت واحد معاً وذلك محال هذه وما أشبهها من الشناعات التي أوردوها ثم ان أصحاب ارسطو احتجوا على صحة ما ادعوه فقالوا لو لم تكن الألوان وما يقوم مقامها محمولة في الجسم المشف بالفعل لما أدرك البصر الكواكب والاشياء البعيدة جداً في لحظة بلا زمان فان الذي ينتقل لابد من أن يبلغ المسافة القريبة قبل بلوغه المسافة البعيدة ونحن نلحظ الكواكب مع بعد المسافة في الزمان الذى نلحظ فيه ما هو أقرب منها ولا يغادر ذلك شيئاً فظهر من هذه الجهة ان الهواء المشف يحمل ألوان المبصرات فتؤدي الى المبصر واحتج أصحاب أفلاطون على صحة ما ادعوه من أن شيئاً ينبث ويخرج من البصر إلى المبصر فيلاقيه بأن المبصرات متى كانت متفاوتة بالمسافات أدركنا ما هو أقرب دون ماهو أبعد والعلة في ذلك أن الشيء الخارج من البصر يدرك بقوته ما يقرب منه ثم لا يزال يضعف فيكون ادراكه أقل وأقل حتى تفني قوته فلا يدرك ماهو بعيد عنه جداً البتة ومما يؤكد هذه الدعوى أنا متی مددنا أبصارنا الى مسافة بعيدة وأوقعناها على مبصر يتجلى بضوء ( ۲ - فا ) جميع ۱۸ أفلاطون . وارسطاطاليس نار قريبة منه أدركنا ذلك المبصر وان كانت المسافة التي بيننا وبينه مظلمة فاو كان الأمر على ما قاله ارسطو وأصحابه لو جب أن يكون المسافة التي بيننا وبين المبصر مضيئاً ليحمل الألوان فتؤدي الى البصر فلما وجدنا الجسم المتجلى من بعد مبصراً علمنا ان شيئاً خرج من البصر وامتد وقطع الظلمة وبلغ المبصر الذي تجلي بضوء ما أدركه ولو أن كلا الفريقين أرخوا أعينهم قليلا وتوسطوا النظر وقصـــدوا الحق وهجروا طريق العصبية لعلموا أن الافلاطونيين انما أرادوا بلفظ الخروج معنى غير معنى خروج الجسم من المكان وانما اضطرهم الى اطلاق لفظ الخروج ضرورة العبارة وضيق اللغة وعدم لفظ يدل على اثبات القوى من غير أن يخيل الخروج الذي للأجسام وان أصحاب ارسطو طاليس أيضاً أرادوا بلفظ الانفعال معنى غير معنى الانفعال الذي يكون في الكيفية مع الاستحالة والتغير وظاهر أن الشيء الذي يشبه بشيء ما تكون ذاته وأنيته غير المشبه به ومتى نظرنا بعين النصفة في هذا الأمر علمنا أن ههنا قوة واصلة بين البصر والمبصر وان من شنع على أصحاب أفلاطون في قولهم ان قوة ما تخرج من البصر فتلاقي المبصر فان قوله ان الهواء يحمل لون المبصر فيؤدي ألى البصر ليلاقيه مماساً ليس بدون قولهم في الشناعة فان كان ما يلزم أقاويل أولئك في اثبات القوة وخروجها يلزم قول هؤلاء في حمل الهواء الألوان وايدائها الى الأبصار فظاهر ان هذه واشباهها معان لطيفة دقيقة تنبه لها المتفلسفون وبحثوا عنها واضطرهم الامر الى العبارة كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ۱۹ عنها بالألفاظ القريبة من تلك المعاني ولم يجدوا لها ألفاظاً موضوعة مفردة يعبر عنها حق العبارة من غير اشتراك يعرض فيها فلما كان ذلك كذلك وجد العائيون مقالا فقالو وأكثر ما يقع من المخالفة انما يقع في أمثال هذه المعاني للأسباب التي ذكرناها وذلك لا يخلوا من أحد أمرين أما لتخلف المخالف وأما لمعاندته فأما ذو الذهن الصحيح والرأي السديد والعقل الرصين المحكم الثابت اذا لم يتعمد التمويه أو تعصبا أو مغالبة فقلما يعتقد خلاف العالم واذا أطلق لفظاً على سبيل الضرورة عند بيان أمر غامض وايضاح معنى لطيف فلا يخلوا المتبصرله عن اشتباه توقعه الألفاظ المشتركة والمستعارة ومن ذلك أيضاً أمر اخلاق النفس وظتهم بأن رأي ارسطو مخالف لرأى أفلاطون وذلك أن ارسطو يصرح في كتاب نيقوماخيا أن الأخلاق كلها عادات تتغير وانه ليس شيء منها بالطبع وان الانسان يمكنه أن ينتقل من كل واحد منها الى غيره بالاعتياد والدربة وأفلاطون يصرح في كتاب السياسة وفي كتاب بوليطيا خاصة بأن الطبع يغلب العادة وان الكهول حينما طبعوا على خلق ما يعسر زواله عنهم. وانهم متى قصدوا زوال ذلك الخلق عنهم ازدادوا فيه تمادياً ويؤتى على ذلك بمثال من الطريق اذا ثبت فيه الدغل والحشيش والشجر معوجة متى قصد اخلاء الطريق منها أو ميل الشجر الى جانب آخر فانها اذا خليت سبيلها أخذت من الطريق أكثر مما كانت أخذت قبل ذلك وليس يشك أحد ممن يسمع هاتين المقالتين أن بين ۲۰ أفلاطون . وارسطاطاليس الحكيمين في أمر الأخلاق خلافاً وليس الأمر في الحقيقة كما ظنوا وذلك ان ارسطو في كتابه المعروف بنيقوماخيا انما يتكلم على القوانين المدنية على ما بيناه في مواضع من شرحنا لذلك الكتاب ولو كان الأمر فيه أيضاً على ما قاله فرفور يوس وكثير ممن بعده من المفسرين أنه يتكلم على الأخلاق فان كلامه على القوانين الخلقية والكلام القانوني أبداً يكون كلياً ومطلقاً لا بحسب شيء آخر ومن البين أن كل خلق اذا نظر اليه مطلقاً على أنه يتنقل ويتغير ولو بعسر وليس شي من الأخلاق ممتنعاً عن التغير والتنقل فان الطفل الذي نفسه تعد بالقوة ليس فيه شي من الأخلاق بالفعل ولا من الصفات النفسانية وبالجملة فان ما كان فيه بالقوة ففيه تهيؤ لقبول الشيء وضده ومهما اكتسب أحد الضدين يمكن زواله عن ذلك الضد المكتسب الى ضده الى أن تنقص البنية ويلحقه نوع من الفساد مثل ما يعرض الموضوع الاعدام والمكات فيتغير بحيث لا يتغالبان عليه وذلك نوع من الفساد وعدم التهيؤ فاذا كان ذلك كذلك فليس شيء من الأخلاق اذا نظر اليه مطلقاً بالطبع لا يمكن فيه التغير والتبدل وأما أفلاطون فانه ينظر في أنواع السياسات وأيها أنفع وأيها أشد ضرراً فينظر في أحوال قابلى السياسات وفاعليها وأيها أسهل قبولا وأيها أعسر ولعمري أن من نشأ على خلق من الأخلاق واتفقت له تقويته يمكن بها من نفسه على خلق من الاخلاق فان زوال ذلك عنه يعسر جداً والعسر غير الممتنع وليس ينكر ارسطو أن بعض الناس يمكن فيه كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ۲۱ التنقل من خلق الى خلق أسهل وفي بعضهم أعسر على ماصرح به في كتابه المعروف بنيقوماخيا الصغير فانه عد أسباب عسر التنقل من خلق الى خلق وأسباب السهولة كم هي وما هي وعلى أي جهة كل واحد من تلك الاسباب وما العلامات وما الموانع فمن تأمل تلك الأقاويل حق التأمل وأعطى كل شيء حقه عرف أن لا خلاف بين الحكيمين في الحقيقة وانما ذلك شيء يخيله الظاهر من الأقاويل عند ما ينظر في واحد واحد منها على انفراده من غير أن يتأمل المكان الذي فيه ذلك القول ومرتبة العلم الذي هو منه وههنا أصل عظيم الغناء في تصور العلوم وخصوصاً في أمثال هذه المواضع وهو انه كما ان المادة مهما كانت متصورة بصورة ما ثم حدثت فيها صورة أخرى صارت مع صورتها جميعاً مادة للصورة الثالثة الحادثة فيها كالخشب الذى له صورة يباين بها سائر الأجسام ثم يجعل منها ألواح ثم يجعل من الألواح سرير فان صورة السرير من حيث حدثت في الألواح الالواح مادة لها وفي الالواح التي هي مادة بالاضافة الي صورة السرير صور كثيرة مثل الصور اللوحية والصور الخشبية والصور النباتية وغيرها من الصور القديمة كذلك مهما كانت النفس المتخلقة ببعض الأخلاق ثم تكلفت اكتساب خلق جديد كان الاخلاق التي معها كالاشياء الطبيعية لها وهذه المكتسبة الجديدة اعتيادية ثم ان مرت على هذه ودامت على اكتساب خلق ثالث صارت تلك بمنزلة الطبيعية وذلك بالاضافة الى الى هذه الجديدة المكتسبة فمهما رأيت أفلاطون أو غيره يقول ان ۲۲ أفلاطون . وارسطاطاليس من الاخلاق ماهي طبيعية ومنها ماهي مكتسبة فاعلم ما ذكرناه وتفهمه من فحوى كلامهم لئلا يشكل عليك الأمر فتظن أن من الأخلاق ماهي طبيعية بالحقيقة لا يمكن زوالها فان ذلك شنيع جداً ونفس اللفظ يناقض معناه اذا تؤمل فيه جداً ومن ذلك أيضاً ان ارسطو طاليس قد أورد في كتاب البرهان شكا ان الذي يطلب علما ما لا يخلو من أحد الوجهين فانه اما أن يطلب ما يجهنه أو ما يعلمه فان كان يطلب ما يجهله فكيف يوقن في تعلمه انه هو الذي كان يطلبه وان كان يطلب ما يعلمه فطلبه علماً ثانياً فضل لا يحتاج اليه ثم أحدث الكلام في ذلك الى أن قال ان الذي يطلب علم شي من الأشياء انما يطلب في شئ آخر ماقد وجد في نفسه على التحصيل مثل ان المساواة وغير المساواة موجودتان في النفس والذى يطلب الخشبة هل هي مساوية انما يطلب مالها منها على التحصيل فاذا وجد أحدهما فكأنه يذكر ما كان موجوداً فى نفسه ثم ان كانت مساوية فبالمساواة وان كانت غير مساوية فبغير المساواة وأفلاطون بين في كتابه المعروف بغاذن ان التعلم تذكر وآتى على ذلك الحجج يحكيها عن سقراط في مسائلاته ومجاوباته في أمر المساوي والمساواة وان والمساواة هي التي تكون في النفس وان المساوى مثل الخشبة أوغيرها مما تكون مساوية لغيرها متى أحس بها الانسان تذكر المساواة التي كانت في النفس فعلم ان هذا المساوي انما كان مساوياً بمساواة شبيهة بالتي في النفس وكذلك سائر ما يتعلم انما يتذكر ما في النفس والله أعلم كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ۲۳ وقد ظن أكثر الناس من هذه الأقاويل ظنوناً مجاوزة عن الحد اما القائلون ببقاء النفس بعد مفارقتها البدن فقد أفرطوا في تأويل هذه الأقاويل وحرفوها عن سنها وأحسنوا الظن بها إلى أن أجروها مجري البراهين ولم يعلموا أن أفلاطون انما يحكي هذا عن سقراط على سبيل من يروم تصحيح أمر خفي" بعلامات ودلائل والقياس بعلامات لا يكون برهانا كما علمناه الحكم ارسطو في أنولوطيقا الأولى والثانية وأما الدافعون لها فقد أفرطوا أيضاً في التشنيع وزعموا أن ارسطو مخالف له في هذا الرأي وأغفلوا قوله في أول كتاب البرهان حيث ابتدأ فقال كل تعليم وكل تعلم فانما يكون عن معرفة متقدمة الوجود ثم قال بعد قليل وقد يتعلم الأنسان بعض الاشياء وقد كان علمه من قبل قديماً وبعض الاشياء تعلمها يحصل من حيث تعلمها معا مثال ذلك جميع الأشياء الموجودة تحت الأشياء الكلية فليت شعري هل يغادر معنى هذا القول ماقاله أفلاطون شيئا أسوي أن العقل المستقيم والرأي السديد والميل الى الحق والانصاف معدوم في الأكثرين من الناس فمن تأمل حصول العلم وحصول المقدمات الأول وحال التعلم تأملا شافياً علم أنه لا يوجد بين رأبي الحكيمين في هذا المعنى خلاف ولا تباين ولا مخالفة ونحن نومي الى طرف منه يسير بمقدار ما يتبين به هذا المعني ليزول الشك الواقع فيه فنقول من البين الظاهر أن الطفل نفساً عالمة بالقوة ولها الحواس آلات الادراك وادراك الحواس انما يكون للجزئيات وعن الجزئيات تحصل الكليات والكليات هي ٢٤ افلاطون . وارسطاطاليس التجارب على الحقيقة غير أن من التجارب ما يحصل عن قصد وقد جرت العادة بين الجمهور بأن يسمى التي تحصل من الكليات عن قصد متقدمة التجارب فأما التي تحصل من الكليات للانسان لا عن قصد فاما أن لا يوجد لها اسم عند الجمهور لانهم لا يعنونه واما أن يوجد لها اسم عند العلماء فيسمونها أوائل المعارف ومبادئ البرهان وما أشبهها من الأسماء وقد بين ارسطوا في كتاب البرهان أن مر قدحاً ما فقد فقد علماً ما فالمعارف انما تحصل في النفس بطريق الحس ولما كانت المعارف انما حصلت في النفس عن غير قصد أولا فأولا فلم يتذكر الانسان وقد حصل جزء وجزء منها فلذلك قد يتوهم أكثر الناس أنها لم تزل في النفس وأنها تعلم طريقاً غير الحس فاذا حصلت من هذه التجارب في النفس صارت النفس عاقلة اذ العقل ليس هو شيئاً غير التجارب ومهما كانت هذه التجارب أكثر كانت النفس أتم عقلائم ان الانسان مهما قصد معرفة شيء من الاشياء اشتاق الى الوقوف على حال من أحوال ذلك الشيء وتكاف الحلق ذلك الشيء في حالته تلك بما تقدم معرفته وليس ذلك الا طلب ما هو موجود في نفسه من ذلك الشيء مثل أنه متى اشتاق الى معرفة شيء من الاشياء هل هو حي أم ليس بحي وقد تقدم فحصل في نفسه معني الحي ومعنى غير الحي فانه يطلب بذهنه أو بحسه أو بهما جميعاً أحد المعنيين فاذا صادفه سكن عنده واطمأن به والتد بمازال عنه من أذى الحيرة والجهل وهذا ما قاله أفلاطون أن التعلم تذكر وأن التفكر هو كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ۲۵ تكلف العلم والتذكر تكلف الذكر والطالب مشتاق متكلف فمهما وجد مهما قصد معرفته طلب دلائل وعلامات ومعاني ما كان في نفسه قديم فكأنه يتذكر عند ذلك كالناظر الى جسم يشبه بعض اعراضه بعض اعراض جسم آخر كان قد عرفه وغفل عنه فيتذكره بما أدركه من شبیهه وليس للعقل فعل مخص به دون الحس سوي ادراك جميع الاشياء والاضداد وتوهم أحوال الموجودات على غير ماهي عليه فان الحس يدرك من حال الموجود المجتمع مجتمعاً ومن حال الموجود المتفرق متفرقاً ومن حال الموجود القبيح قبيحاً ومن حال الموجود الجميل جميلا وكذلك سائرها وأما العقل فانه قد يدرك من حال كل موجود ماقد أدركه الحس وكذلك ضده فانه يدرك من حال الموجود المجتمع مجتمعاً ومتفرقاً معاً ومن حال الموجود المتفرق متفرقاً ومجتمعاً معاً وكذلك سائر ما أشبهها فان تأمل ما وضعناه على سبيل الايجاز يما قد بالغ الحكيم ارسطو في وصفه في آخر كتاب البرهان وفي كتاب النفس وقد شرحه المفسرون واستقصوا أمره علم أن الذي ذكره الحكيم في أول كتاب البرهان وحكيناه في هذا القول قريب مما قاله أفلاطون في كتاب فاذن الا أن بين الموضعين خلافاً وذلك أن الحكيم ارسطوا يذكر ذلك عند ما يريد ايضاح أمر العلم والقياس وأما أفلاطون فانه يذكره عند ما يريد ايضاح أمر النفس ولذلك أشكل على أكثر من ينظر في أقاويلهما وفيما أوردناه كفاية لمن قصد سواء السبيل ٢٦ أفلاطون . وارسطاطاليس في قدم العالم وحدوثه ) ومن ذلك أيضاً أمر قدم العالم وحدوثه وهل له صانع هو علته الفاعلية أم لا ومما يظن بارسطو طاليس أنه يري أن العالم قديم وبأفلاطون أنه يري أن العالم محدث فأقول أن الذي دعي هؤلاء الى هذا الظن القبيح المستنكر بارسطو طاليس الحكم هو ما قاله في كتاب طوبيقا انه قد توجد قضية واحدة بعينها يمكن أن يؤتى على كلا طرفيها قياس من مقدمات ذائعة مثال ذلك هذا العالم قديم أم ليس بقديم .. وقد وجب الرد على هؤلاء المختلفين اما أولا فيأن ما يؤتي به على سبيل المثال لا يجرى مجري الاعتقاد وأيضاً فان غرض ارسطو في كتاب طوبيقا ليس هو بيان أمر العالم لكن غرضه أمر القياسات المركبة من المقدمات الذائعة وكان قد وجد أهل زمانه يتناظرون في أمر العالم هل هو قديم أم محدث كما كانوا يتناظرون في اللذة هل هي خير أم شر وكانوا يأتون على كلا الطرفين من كل مسئلة بقياسات ذائعة وقد بين ارسطو في ذلك الكتاب وفي غيره من كتبه أن المقدمة المشهورة لا يراعى فيها الصدق والكذب لان المشهور ربما كان كاذباً ولا يطرح في الجدل لكذبه وربما كان صادقاً فيستعمل لشهرته في الجدل ولصدقه في البرهان فظاهر أنه لا يمكن أن ينسب اليه الاعتقاد بأن العالم قديم بهذا المثال الذي أتي به في هذا الكتاب ومما دعاهم الى ذلك الظن أيضاً ما يذكره في كتاب السماء والعالم أن الكل ليس له بدو زمانى فيظنون عند ذلك أنه يقول بقدم العالم وليس الامر كذلك اذ قد تقدم فبين في ذلك الكتاب وغيره من
- كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين
۲۷ وعنه الكتب الطبيعية والالهية ان الزمان انما هو عدد حركة الفلك يحدث وما يحدث عن الشيء لا يشتمل ذلك الشيء ومعنى قوله أن العالم ليس له بدو زمانى أنه لم يتكون أولا فأولا بأجزائه كما يتكون البيت مثلا أو الحيوان الذي يتكون أولا فأولا بأجزائه فان أجزاءه يتقدم بعضها بعضاً بالزمان والزمان حادث عن حركة الفلك فمحال أن يكون لحدوثه بدؤ زماني ويصح بذلك أنه انما يكون عن ابداع الباري جل جلاله اياه دفعة بلا زمان وعن حركته حدث الزمان ومن نظر في أقاويله في الربوبية في الكتاب المعروف باثولوجيا لم يشتبه عليه أمره في إثباته الصانع المبدع لهذا العالم فان الأمر في تلك الأقاويل أظهر من أن يخفى وهناك تبين أن الهيولى أبدعها الباري جل ثناؤه لا عن شيء وأنها تجسمت عن الباري سبحانه وعن ارادته ثم ترتبت وقد بين في السماع الطبيعي أن الكل لا يمكن حدوثه. بالبخت والاتفاق وكذلك في العالم جملته يقول في كتاب السماء والعالم ويستدل على ذلك بالنظام البديع الذي يوجد لاجزاء العالم بعضها مع بعض وقد بين هناك أيضاً أمر العلل كم هي وأثبت الأسباب الفاعلة وقد بين هناك أيضاً أمر المكون والمحرك وأنه غير المتكون وغير المتحرك وكما أن أفلاطون بين في كتابه المعروف بطيماوس أن كل متكون فانما يكون عن علة مكونة له اضطراراً وان المتكون لا يكون علة لكون . ذاته كذلك ارسطو طاليس بين في كتاب الولوجيا أن الواحد موجود في ۲۸ أفلاطون . وارسطاطاليس كل كثرة لأن كل كثرة لا يوجد فيها الواحد لا تتناهي أبداً البتة وبرهن على ذلك براهين واضحة مثل قوله أن كل واحد من أجزاء الكثير اما أن يكون واحداً واما أن لا يكون واحداً فان لم يكن واحداً لم يخل من أن يكون اما كثيراً واما لا شيء وان كان لاشئ لزم أن لا يجتمع منها كثرة وان كان كثيراً فما الفرق بينه وبين الكثرة ؟ ويلزم أيضاً من ذلك ان ما يتناهي أكثر مما لا يتناهي ثم بين ان ما يوجد = فيه الواحد من هذا العالم فهو لا واحد الا بجهة وجهة فاذا لم يكن في الحقيقة واحداً بل كان كل واحد فيه موجوداً كان الواحد غيره وهو غير الواحد . ثم بين أن الواحد الحق هو الذي أفاد سائر الموجودات الواحدية ثم بين أن الكثير بعد الواحد لا محالة وأن الواحد تقـــدم الكثرة ثم بين أن كل كثرة تقرب من الواحد الحق كان أول كل كثرة ما يبعد عنه وكذلك بالعكس ثم يترقى بعد تقديمه هذه المقدمات إلى القول في أجزاء العالم الجسمانية منها والروحانية ويبين بيانا شافياً أنها كلها حدثت عن ابداع الباري لها وأنه عز وجل هو العلة الفاعلة الواحد الحق ومبدع كل شيء علي حسب ما بينه أفلاطون في كتبه في الربوبية مثل طيارس وبوليطيا وغير ذلك من سائر أقاويله وأيضاً فان حروف ارسطو طاليس فيما بعد الطبيعة انما يترقى فيها من الباري جل جلاله في حرف اللام ثم ينحرف راجعاً في بيان صحة ما تقدم من تلك المقدمات الى أن يسبق فيها وذلك مما لا يعلم أنه يسبقه اليه من قبله ولم يلحقه من بعده الى يومنا هذا فهل تظن بمن هذا سبيله أنه كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ٢٩ يعتقد نفي الصانع وقدم العالم ولا مونيوس رسالة مفردة في ذكر أقاويل هذين الحكيمين في إثبات الصانع استغنينا لشهرتها عن أحضارنا اياها في هذا الموضع ولولا ان هذا الطريق الذي يسلكه في هذه المقالة هو الطريق الأوسط فمتى ماتنكبناه كنا كمن ينهي عن خلق ويأتي بمثله لأفرطنا في القول و يينا انه ليس لاحد من أهل المذاهب والنحل والشرائع وسائر الطرائق من العلم بحدوث العالم واثبات الصانع له وتلخيص أمر الإبداع مالارسطو طاليس وقبله لافلاطون ولمن يسلك سبيلهما وذلك ان كل ما يوجد من أقاويل العلماء من سائر المذاهب والنحل ليس يدل على التفصيل الأعلى قدم الطبيعة وبقائها ومن أحب الوقوف على ذلك فلينظر في الكتب المصنفة في المبدآت والأخبار المروية فيها والآثار المحكية عن قدمائهم ليري الأعاجيب عن قولهم بأنه كان في الاصل ماء فتحرك واجتمع زبد وانعقد منه الارض وارتفع منه الدخان وانتظم منه السماء ثم ما يقوله اليهود والمجوس وسائر الامم مما يدل جميعه على الاستحالات والتغاير التي هي اضداد الابداع وما يوجد الجميعهم مما سيؤول اليه أمر السموات والأرضين من طيبها ولفها وطرحها في جهنم وتبديدها وما أشبه ذلك مما لا يدل شيء منه على التلاشي المحض ولولا ما أنقذ الله أهل العقول والأذهان بهذين الحكيمين ومن سلك سبيلهما ممن وضحوا أمر الابداع بحجج واضحة مقنعة وانه ايجاد الشيء لا عن الشيء وان كل ما يتكون من شيء ما فانه يفسد لا محالة إلى أفلاطون . وارسطاطاليس ذلك الشيء والعالم مبدع من غير شيء فماله الى غير شيء فيماشا كل ذلك من الدلائل والحجج والبراهين التي توجد كتبهما مماوة منها وخصوصاً ما لهما في الربوبية وفي مبادى الطبيعة لكان الناس في حيرة ولبس غير أن لنا في هذا الباب طريقاً نسلكه يتبين به أمر تلك الأقاويل الشرعية وأنها على غاية السداد والصواب وهو أن الباري جل جلاله مدير جميع العالم لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل ولا يفوت عنايته شي من أجزاء العالم على السبيل الذي بيناه في العناية من أن العناية الكلية شائعة في الجزئيات وان كل شيء من أجزاء العالم وأحواله موضوع بأوقف المواضع وأتقنها على ما يدل عليه كتب التشريحات ومنافع الاعضاء وما أشبهها من الأقاويل الطبيعية وكل أمر من الأمور التي بها قوامه موكول الى من يقوم بها ضرورة على غاية الاتقان والاحكام الى أن يترقى من الأجزاء الطبيعية الى البرهانيات والسياسيات والشرعيات والبرهانيات موكولة الى أصحاب الأذهان الصافية والعقول المستقيمة والسياسيات موكولة الى ذوي الأراء السديدة والشرعيات موكولة الى ذوي الالهامات الروحانية وأعم هذه كلها الشرعيات وألفاظها خارجة عن مقادير عقول المخاطبين ولذلك لا يؤاخذون بما لا يطيقون تصوره فان من تصور في أمر المبدع الأول انه جسيم و وانه يفعل بحركة وزمان ثم لا يقدر بذهنه على تصور ما هو ألطف من ذلك وأليق به ومهما توهم أنه غير جسيم وانه يفعل فعلا بلا حركة وزمان لا يثبت في كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ۳۱ ذهنه معنى متصور البتة وان أجبر على ذلك زاده غياً وضلالا وكان فما يتصوره ويعتقده معذوراً مصيباً ثم يقدر بذهنه على أن يعلم انه غير وان فعله بلا حركة غير أنه لا يقدر على تصور انه لا في مكان جسم و وان أجبر على ذلك وكلف تصوره تبلد فانه يترك على حاله ولا يساق الى غيرها وكذلك لا يقدر الجمهور على معرفة شيء يحدث لا عن شيء ويفسد لا الى شيء فلذلك ما قد خوطبوا بما قدروا على تصوره و ادرا كه وتفهمه لا يجوز أن ينسب شئ من ذلك فيما هو في موضعه الى الخطأ والوهي بل كل ذلك صواب مستقيم فطرق البراهين الحقيقية منشأها من عند الفلاسفة الذين مقدمهم هذان الحكيمان أعني أفلاطون وارسطو طاليس وأما طريق البراهين المقنعة المستقيمة العجيبة النفع فمنشأها من عند أصحاب الشرائع الذين عوضوا بالابداع الوحي والالهامات ومن كان هذا سبيله ومحله من ايضاح الحجج واقامة البراهين على وحدانية الصانع الحق وكان أقاويله في كيفية الابداع وتلخيص معناه بأقاويل هذين الحكيمين فمستنكر أن يظن بهما فساداً يعترى ما يعتقدانه وان رأينها مدخولا فما يسلكانه ومن ذلك الصور والمثل التي تنسب الي أفلاطون أنه يثبتهما وارسطو علي خلاف رأيه فيهما. وذلك ان أفلاطون في كثير من أقاويله يومي الى أن للموجودات صوراً مجردة في عالم الاله وربما يسميها المثل الالهية وانها لاتدثر ولا تفسد ولكنها باقية وان الذي يدثر ويفسد انما هي هذه الموجودات التي هي كائنة وارسطو ذكر في حروفه فيما بعد الطبيعة أفلاطون . وأرسطاطاليس كلاماً شنع فيه على القائلين بالمثل والصور التي يقال انها موجودة قائمة في عالم الاله غير فاسدة وبين ما يلزمها من الشناعات أنه يجب أن هناك خطوطاً وسطوحاً وافلا كاثم توجد حركات من الافلاك والادوار وانه يوجد هناك علوم مثل علم النجوم وعلم الالحان وأصوات مؤتلفة وأصوات غير مؤتلفة وطب وهندسة ومقادير مستقيمة وأخر معوجة وأشياء حارة وأشياء باردة و بالجملة كيفية فاعلة ومنفعلة وكليات وجزئيات ومواد وصور وشناعات أخر ينطق بها في تلك الأقاويل مما يطول بذكرها هذا القول وقد استغنينا لشهرتها عن الاعادة مثل ما فعلنا بسائر الأقاويل حيث أومأنا اليها والى أماكنها وخلينا ذكرها بالنظر فيها والتأويل لها لمن يلتمسها من مواضعها فان الغرض المقصود من مقالتنا هذه إيضاح الطرق التي اذا سلكها طالب الحق لم يضل فيها وأمكنه الوقوف على حقيقة المراد بأقاويل هذين الحكيمين من أن ينحرف عن سواء السبيل الى ما تخيله الألفاظ المشكلة وقد نجد أن ارسطو في كتابه في الربوبية المعروف باتولوجيا يثبت الصور الروحانية ويصرح بأنها موجودة في عالم الربوبية فــلا تخلو هذه الأقاويل اذا أخذت على ظواهرها من احدي ثلاث حالات اما أن يكون بعضها مناقضاً بعضها واما أن يكون بعضها لأرسطو و بعضها ليس له واما أن يكون لها معان وتأويلات تتفق بواطنها وان اختلف ظواهرها فتتطابق عند ذلك وتتفق .. فاما أن يظن بارسطو مع براعته وشدة يقظته وجلالة هذه المعاني عنده أعنى الصور الروحانية 1 كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين .. انه يناقض نفسه في علم واحد وهو العلم الربوبى فبعيد ومستنكر واما أن بعضها لارسطو و بعضها ليس له فهو أبعد جدا اذ الكتب الناطقة بتلك الأقاويل أشهر من أن يظن ببعضها أنه منحول فبقي أن يكون لها تأويلات ومعان اذا كشف عنها ارتفع الشك والحيرة.. فنقول أنه لما كان الباري جل جلاله بانيته وذاته مبايناً لجميع ماسواه وذلك لانه بمعنى أشرف وأفضل وأعلى بحيث لا يناسبه في انيته ولا يشاكلة ولا يشابهه حقيقة ولا مجازاً ثم مع ذلك لم يكن بد من وصفه واطلاق لفظ فيه من هذه الألفاظ المتواطئة عليه فان من الواجب الضروري أن يعلم أن مع كل لفظة نقولها في شيء من أوصافه معنى بذاته بعيد من المعنى الذى تتصوره من تلك اللفظة وذلك كما قلنا بمعى أشرف وأعلى حتى اذا قلنا انه موجود علمنا مع ذلك أن وجوده لا كوجود سائر ماهو دونه واذا قلنا أنه حي علمنا أنه حي بمعنى أشرف مما نعلمه من الحي الذي هو دونه وكذلك الأمر في سائرها ومهما استحكم هذا - المعنى وتمكن من ذهن المتعلم للفلسفة التي بعد الطبيعيات سهل عليه تصور ما يقوله أفلاطون وارسطو طاليس ومن سلك سبيلهما فنرجع الآن الى حيث فارقناه فنقول لما كان الله تعالى حياً موجوداً لهذا ا لهذا العالم . بجميع مافيه فواجب أن يكون عنده صور مايريد إيجاده في ذاته جل الله من اشتباه وأيضاً فان ذاته لما كانت باقية لا يجوز عليه التبدل والتغير فما هو بحيزه أيضاً كذلك باق غير دائر ولا متغير ولو لم يكن للموجودات ( ا ) . ٣٤ أفلاطون . وارسطاطاليس . قاعة صور وآثار في ذات الموجد الحي المريد فما الذي كان يوجده وعلى أي مثال ينحو بما يفعله ويبدعه أما علمت أن من نفي هذا المعنى عن الفاعل الحي المريد لزمه أن يقول بأن ما يوجده انما يوجده جزافاً وتنحساً وعلى غير قصد ولا ينحو نحو غرض مقصود بارادته وهذا من أشنع الشناعات فعلى هذا المعى ينبغي أن تعرف وتتصور أقاويل أولئك الحكماء فيما أثبتوه من الصور الالهية لا على انها اشباح في أماكن أخر خارجة عن هذا العالم فانها متى تصورت على هذا السبيل يلزم القول بوجود عوالم غير متناهية كلها كأمثال هذا العالم وقد بين الحكيم ارسطو ما يلزم القائلين بوجود العوالم الكثيرة في كتبه في الطبيعيات وشرح المفسرون أقاويله بغاية الإيضاح وينبغي أن تتدير هذا الطريق الذي ذكرناه مراراً كثيرة في الأقاويل الالهية فانه عظيم النفع وعليه المعول في جميع ذلك وفي اهماله الضرر الشديد وان تعلم مع ذلك أن الضرورة تدعو الى اطلاق الألفاظ الطبيعية والمنطقية المتواطئة على تلك المعاني اللطيفة الشريفة العالية عن . الأوصاف المتباينة عن جميع الامور الأمور الكيانية الموجودة بالوجود الطبيعي فانه ان قصد لاختراع ألفاظ أخر واستئناف وضع لغات سوى ما هي مستعملة لما كان يوجد السبيل الى ألفاظه ويتصور منها غير ما باشرته الحواس فلما كانت الضرورة تمنع وتحول بيننا وبين ذلك اقتصرنا على ما يوجد من الألفاظ وأوجبنا على أنفسنا الإخطار بالبال ان المعاني الالهية التي يعبر عنها بهذه الالفاظ هي بنوع أشرف وعلى جميع كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين غير ما نتخيله ونتصوره ٣٥ ومما يجري هذا المجري أقاويل أفلاطون في كتاب طماوس من كتبه في أمر النفس والعقل وان لكل واحد منهما عالماً سوى عالم الآخر وان تلك العوالم متتالية بعضها أعلى وبعضها أسفل وسائر ماقال مما أشبه ذلك ومن الواجب أن تتصور منها شبه ما ذكرناه انه انما يريد بعالم العقل حيزه وكذلك بعالم النفس لا ان للعقل مكانا والنفس مكاناً والباري تعالى مكاناً بعضها أعلى وبعضها أسفل كما يكون للاجسام فان ذلك مما يستنكره المبتدون بالتفلسف فكيف المرتاضون به وانما ريد بالأعلى والأسفل الفضيلة والشرف لا المكان السطحي وقوله عالم العقل انما هو علي ما يقال عالم الجهل وعالم العلم وعالم الغيب ويراد بذلك حيز كل واحد منها وكذلك ما قاله من افاضة النفس على الطبيعة وافاضة العقل علي النفس انما أراد به افاضة العقل بالمعونة في حفظ الصور الكلية عند احساس النفس بمفصلاتها والتفصيل عند احساسها بمجتمعاتها وتحصيلاتها ما يودعه اياها من الصور الدائرة الفاسدة وكذلك سائر ما يجري مجراها من معونة العقل للنفس .. واراد بافاضة النفس للطبيعة ما تفيدها من المعونة والانسياق نحو ما ينفعها مما به قوامها ومنه التذاذها والتلطف بها وسائر ما أشبه ذلك .. وأراد برجوع النفس الى عالمها عند الاطلاق من محبسها أن النفس ما دامت في هذا العالم فاتها مضطرة الى مساعدة البدن الطبيعي الذي هو محلها كانها تشتاق الى أفلاطون . وارسطاطاليس أن الاستراحة فاذا رجعت الى ذاتها فكأنها قد أطلقت من محبس مؤذ الى حيزها الملائم المشاكل لها .. وعلي هذه الجهة ينبغي يقاس كل ماسوى ما ذكرناه من تلك الرموز فان تلك المعاني أحد بدقتها ولطفها تمنعت عن العبارة عنها بغير تلك الجهة التي استعملها الحكيم أفلاطون ومن سلك سبيله وان العقل على ما بينه الحكيم ارسطو في كتبه في النفس وكذلك الاسكندر وغيره من الفلاسفة هو أشرف أجزاء النفس وانه هي بالفعل ناجزة وبه تعلم الالهيات ويعرف البارى جل ثناؤه فكأنه أقرب الموجودات اليه شرفاً ولطفاً وصفاء لا مكاناً وموضعاً ثم تتاوه النفس لأنها كالمتوسطة بين العقل والطبيعة اذ لها حواس طبيعية فكأنها متحدة طرفيها بالعقل الذى هو متحد بالباري جل وعز على السبيل الذي ذكرناه ومن الطرف الآخر متحدة بالطبيعة وكانت الطبيعة تتلوها كيانة لا مكاناً فعلى هذا السبيل وعلى ما يشاكلها مما يعسر وصفها قولا ينبغي أن تعلم ما يقوله أفلاطون في أقاويله فأنها مهما أجريت هذا المجرى زالت الظنون والشكوك التى تؤدي الى القول بأن بينه و بين ارسطو اختلافاً في هذا المعنى ألا ترى أن ارسطو حيث يريد أن يبين من أمر النفس والعقل والربوبية حالا كيف يجرؤ ويتشدق في القول ويخرج مخرج الألغاز على سبيل التشبيه ) وذلك في كتابه المعروف بأنولوجيا حيث يقول أني ربما خلوت بنفسي كثيراً وخلعت بدني فصرت كأني جوهر مجرد بلا جسم كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين فأكون داخلا في ذاتي وراجعاً اليها وخارجاً من سائر الاشياء سواي كون العلم والعالم والمعلوم جميعاً فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما بقيت متعجباً فاعلم عند ذلك الى من العالم الشريف جزء صغير فاني لمحبي فاعل فلما أيقنت بذلك ترقيت بذهنى من ذلك العالم الى العالم الالهي فصرت كأني هناك متعلق بها فعند ذلك يلمع لى من النور والبهاء ما تكل الألسن عن وصفه والآذان عن سمعه فاذا استغشانى في ذلك النور و بلغت طاقتي ولم أقو على احتماله هبطت الى عالم الفكرة فاذا صرت الى عالم الفكرة حجبت عنى الفكرة ذلك النور وتذكرت عند ذلك أخي إيرقليطوس من حيث أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريفة بالصعود الى عالم العقل .. هذا في كلام له طويل يجتهد فيه ويروم بيان هذه المعاني اللطيفة فيمنعه العقل الكياني عن ادراك ما عنده وإيضاحه فمن أراد أن يقف على يسير ما أوموا اليه فان الكثير منه عسير و بعيد فليلحظ ما ذكرناه بذهنه ولا يتبع الألفاظ متابعة تامة لعله يدرك بعض ما قصد بتلك الرموز والالغاز فانهم قد بالغوا واجتهدوا .. ومن بعدهم الى يومنا هذا ممن لم يكن قصدهم الحق بل كان كدهم العصبية وطلب العيوب فحرفوا وبدلوا ولم يقدروا مع الجهد والعناية والقصد التام على الكشف والإيضاح فانا مع شدة العناية بذلك تعلم انا لم نبلغ من الواجب فيه الا أيسر اليسير لأن الأمر في نفسه صعب ممتنع جدا ۳۸ أفلاطون . وارسطاطاليس ومما يظن بالحكيمين أفلاطون و ارسطو انهما لا يريان ولا يعتقدان أمر المجازاة والثواب والعقاب وذلك وهم فاسد بهما فان ارسطو صرح بقوله أن المكافأة واجبة في الطبيعة ويقول في رسالته التي كتبها الى والدة الاسكندر حين بلغها نعيه وجزعت عليه وعزمت على التشكك بنفسها وأول تلك الرسالة .. فاما شهود الله في أرضه التي هي الأنفس العالمة فقد تطابقت على أن الاسكندر العظيم من أفضلي الأخيار الماضين وأما الآثار الممدوحة فقد رسمت له في عيون أماكن الارض وأطراف مساكن الأنفس بين مشارقها ومغاربها ولن يؤتي الله أحداً ما آتاه الاسكندر الا من اجتباء واختيار والخير من اختاره الله تعالى فمنهم من شهدت عليه دلائل الاختيار ومنهم من خفيت تلك فيه والاسكندر أشهر الماضين والحاضرين دلائل وأحسنهم ذكراً وأحمدهم حياة وأسلمهم وفاة ياوالدة اسكندر ان كنت متفقة على العظيم اسكندر فلا تكسين ما يبعدك عنه ولا تجلبي على نفسك ما يحول بينك وبينه حين الالتقاء في زمرة الاخيار وأحرصى على ما يقربك منه وأول ذلك توليتك بنفسك الطاهرة أمر القرابين في هيكل ديوس .. فهذا وما يتلوه من كلامه يدل دلالة واضحة علي أنه كان يوجب المجازاة معتقداً وأما أفلاطون فانه أودع آخر كتابه في السياسة القصة الناطقة بالبعث والنشور والحكم والعدل والميزان وتوفية الثواب والعقاب على الاعمال خيرها وشرها كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين ٣٩ فمن تأمل ما ذكرناه من أقاويل هذين الحكيمين ثم لم يعرج علي العناد الصراح أغناه ذلك عن متابعة الظنون الفاسدة والأوهام المدخولة واكتساب الوزر بما ينسب الى هؤلاء الأفاضل مما هم منه برائه وعنه بمعزل وعند هذا الكلام نختم القول فيها رمنا بيانه من الجمع بين رأبي الحكيمين أفلاطون وارسطو طاليس والحمد لله حق حمده والصلاة على النبي محمد خير خلقه وعلى الطاهرين من عشيرته والطيبين من ذريته آمين تم كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الالهي وارسطو طاليس .. ويليه رسالة الابانة عن غرض ارسطو طاليس في كتابه فيما بعد الطبيعة وأقسامه