مجلة المقتبس/العدد 92/الشيعة في بر الشام
مجلة المقتبس/العدد 92/الشيعة في بر الشام
المسلمون اليوم ينقسمون إلى فرقتين كبيرتين أهل السنة وهي الأكثر عدداً والشيعة وهي التي تتلوها في الكثرة ولا يقل عدد ألفرقة الأولى عن مائة وخمسين مليوناً من النفوس كما لا يقل عدد الثانية عن تسعين مليوناً وينطوي تحت هاتين ألفرقتين فرق أخرى تابعة لإحدى الطائفتين وتفترق الشيعة فرقاً متعددة أكبرها وأشهرها والمتبادر معناها عند إطلاق اسم الشيعة والتي عليها المعظم في كافة الأقطار هي فرقة الشيعة الأمامية الاثني عشرية فمنها أكثر شيعة إيران وشيعة بلاد القفقاس وسائر البلاد الروسية وشيعة الصين ومعظم شيعة الهند والتركستان وبلاد التتر المستقلة وشيعة الشام وشيعة الحجاز والعراق وشيعة جبل عامل المعروفون بالمتأولة أما شيعة جبل عامل (المتأولة) فقد كانوا ولم يزالوا معروفين عند عامة الشيعة في الإفطار بالصلاح والتقوى وإن لجبل عامل اسماً مقروناً بالتكريم عند عامة الشيعة في أكثر البلاد النائية لما أنتج من العلماء العاملين الذين ضربوا آباط الإبل في نشر مذهبهم وافنوا الوقت بحثاً وتدريساً حتى أصبح الكثير من كتب الحديث وألفقه وأصول ألفقه مما يدرس في مدارس الشيعة في جماع الأقطار من مؤلفات علماء جبل عامل (المتأولة) وحسبك بالرحالة العلامة الشيخ بهاء الدين العاملي صاحب الصاحب الكشكول والخلاصة الحسابية وغيرهما الذي تولى وزارة إيران مدة من الزمن ثم هجرها حباً بالإفادة والاستفادة وبالشيخ علي بن عبد العالي الكركي العاملي المعروف بين مؤلفي الشيعة بالمحقق الكركي الذي تولى مشيخة الإسلام في إيران زمن الدولة الصفوية وكان الركن الأقوى في نشر مذهب الشيعة في بلاد فارس وبالشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي المعروف بالشيخ الحر صاحب كتاب الوسائل الحديث والهداية وغيرهما حسبك بمن ذكرنا فخراً لجبل عامل وأما الشهيدان فقد كان لهما القدح المعلى في التأليف والتصنيف والمنزلى العظمى بين علماء الشيعة على الإطلاق وكذلك من خلف من بعدهم كصاحب المدارك وصاحب المعالم وأمثالهما.
بدء عهد الشيعة في الشام
مذهب الشيعة في بلاد الشام قديم يرجع إلى زمن الخلفاء الراشدين بل هو في سوريا أقدم منه في سائر البلاد حاشا الحجاز ؤلاء شيعتكم قال هؤلاء شيعتنا حقاً وهم أنصارنا وإخواننا ولا يخفى أن الإمام أبا عبد
والمعروف بينهم أن الذي دلهم عليه هو أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه) لما سيره الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى الشام وكان أبو ذر (رحمه الله) معروفاً لعلي وأهل البين عليهم السلام بلا خلاف بل هو أحد الأربعة الذين عرفوا بالتشيع وأطلق عليهم أسم الشيعة في عصر النبي (ﷺ) كما أخرجه أبو حاتم في كتاب الزينة في الألفاظ المتداولة ولا يزال في بعض قرى جبل عامل آثار معروفة لأبي ذر منها مقام معروف بقرية الصرفند بين صيدا وصور يعرف بمقام أبي ذر ومثله في قرية ميس الجبل على مشارف الحولة في أعالي جبل هونين إلا أنه لم يرد في كتب التاريخ المعتمدة مما بين أيدينا ما يدل على خروج أبي ذر من دمشق إلى جبل عامل فليس فيها إثبات هذا الأمر ولا نفيه الشهرة المتواترة لدى العامليين خلفاً عن سلف الناطقة بإثباته ربما تكون دعامة للصحو ولا تبعد صلاحيتها للاستدلال على خروجه إلى هذه الديار نعم ذكر الطبري وابن الأثير أن الذي خرج من دمشق إلى الساحل هو عامر بن عبد القيس وهو أحد الزهاد الثمانية معروف بالتشيع نص عليه الكشي في رجاله ولم يذكرا أي جهة من الساحل سكنها عامر هذا إلا أنه لا يصلح أن يكون مستنداً لما نحن فيه ولا سيما وأنه لم يعرف اسم عامر كما عرف اسم أبي ذر في هذه البلاد وذكر الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي المشغري من علماء عامل في القرن الحادي عشر في كتابه أمل الآمل مايدل على خروج أبي ذر إلى جبل عامل فقد قال ما نصه: روي أنه لما مات رسول الله ﷺ لم يكن من شيعة علي إلا أربعة مخلصون سلمان ومقداد وأبو ذر وعمار ثم تبعهم قليلون اثنا عشر وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفاً وأكثر ثم في زمان عثمان لما أخرج أبا ذر إلى الشام في أياماً فتشيع فيها جماعة كثيرة ثم أخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيعوا من ذلك اليوم فظهر أنه لم يكن يسبق أهل جبل عامل إلى التشيع إلا جماعة محصورون من أهل المدينة وقد كان في مكة والطائف واليمن والعراق والعجم شيعة قليلون وكان أكثر الشيعة في ذلك الوقت في جبل عاملثم ذكر بعد ذلك رواية مرسلة عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وقد سئل عن أعمال الشقيف فقال: أرنون وبيوت وربوع تعرف بسواحل البحار وأوطئة الجبال قيل يا ابن رسول الله (ص) الله الصادق (ع) كان في النصف الأول من المائة الثانية للهجرة وذكر صاحب الدمعة الساكبة المطبوع في إيران عن كتاب البحار للعلامة المجلسي رحمه الله عن كتاب الروضة والفضائل لشاذان بن جبرائيل القمي بالأستاذ إلى عمار بن ياسر وزيد بن أرقم (رضي الله عنهما) أنهما كانا بين يدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة يونم الاثنين لسبع خلت من صفر إذ ورد عليه رجال ذوو عدة وعدد ثم ساق قصة طويلة خلاصتها أن جماعة جاءت تستفتي أمير المؤمنين عليه السلام في بعض أمورها وهي من قرية أسعار من أعمال دمشق عند جبل الثلج والظاهر من الرواية أن هذه الجماعة من الشيعة وأنها رجعت مقضية الحاجة أما قرية أسعار هذه فموقعها في سفح جبل الثلج بين قريتي مجدل شمس وجباتا الزيت لا تزال خربة تعرف بهذا الاسم ومن دونها نهر يعرف بنهر أسعار وهي على طريق القادم من دمشق إلى جبل عامل وأهل ذلك الصقع من الطائفة الدرزية الذين انشقوا من الشيعة في القرن الرابع عشر غمض تاريخ وجود الشيعة في هذه الديار على كثير من المؤرخين فلم يذكروا حيث كان شيعة هذه البلاد منذ عهدهم بالتشيع تحت سلط أعدائهم من الأمويين ومن زمن أبي ذر إلى أن انقضى زمن الدولة الأموية لم يخرجوا عن سيطرة معاوية وأبنائه ورهطه وهمما هم في مناهضة العلويين ومطاردتهم في كل صقع ومصر فكان الشيعة متمسكين بحبال الثقة لايقدرون على إظهار انفسهم فاستولى الغموض على مبدأ أخبارهم ومنتهاه في هذه البلاد ولم يكونوا كما كان إخوانهم في البلاد النائية عن مركز السلطة الأموية.
لماذا لقبوا بالمتأولة دون غيرهم من الشيعة
ما زالت الشيعة منذ وجدوا في بلاد الشام مستضعفين عند ولاة الأمر وعند العامة التي امتازت في بر الشام بكرهها الشديد للشيعة وبرميهم بكل تهمة شنعاء تؤلب عليهم الغوغاء وكان مجرد لفظ الشيعة داعياً لإثارة التعصب لما تأل من كرههم في أخلاق الأكثر نقل الجاحظ مخبراً عن بعض التجار خبر ذلك الشيخ السيء الأخلاق الطويل الأطراق الذي كان إذا سمع اسم الشيعة غضب وأربد وجهه وزوى من حاجبيه أخرجه صاحب العقد ألفريد في ذلك العصر كان أحب إلى الرجل أن ينبز بكل نبز قبيح ولا يقال له شيعي لما استحكم من بغضهم في نفوس العامة بفعل السياسة والساسة وإنك لتجد مثل ابن حزم من العلماء المشهورين وصاحب كتاب ألفصل في الملل والنحل يرمي الشيعة بكل وصمة ويلصق بهم كل غريبة وهم هم إلى اليوم لم يغيروا ولم يبدلوا وهذه كتبهم منشورة ومشهورة لم يخالف قديمها حديثها فليقابل بينها المنصفون ولينظروا في كثير من كلام ابن حزم ليعلموا ما نسبه إليهم العلامة المشهور وترى ابن تميمة الملقب بشيخ الإسلام وحافظ الأنام لا يذكرهم إلا مع التشيع دون برهان يستند إليه أو دليل يعتمد عليه اللهم إلا عصيبة غير صالحة استحكمت في الأخلاق بحكم البيئة والمعاشرة واتباعاً للتقليد ولعل المثير لها مناظرته مع العلامة الحسن ابن المظهر الحلي وإن لم يسلك هذا مسلك ذاك من السباب والشتم في مثل تلك الحال كان شيعة بر الشام مستمسكين بحبال التقية مما كان حولهم من العصبية التي سنها الأمويون في هذه الديار وكان أصلح أرض لنوها أرض الشام فدعوا بالعلويين تفادياً من لفظية الشيعة المكروهة وكان هذا الاسم لهم إلى أن بدلوه بلفظة (المتأولة) كما سيأتي قال الأمير حيدر الشهابي في تاريخه في حوادث سنة 584هأ ما نصهوكان حاكم القرايا (كذا) التي بالقرب من صور رجلاً علوياً منشأ العجم وكان يحكم على ستين ألفاً من العلويين وكان حين تملك الإفرنج تلك الجهات هادنوهم على جزبة تدفع لصاحب صور وينسبون إلى العلويين القاطنيين بعلبككان شيعة بلاد الشام كما قال عنهم واحد منهم وهو الشيخ علي يونس النبطي من علماء الماية الحادية عشرة في مقدمة تفسيره مختصر مجمع البيانعلماؤهم تحت الخمول فلا تقول لأنفسهم ولاضر يتظاهرون بغير ما اعتقدوا فلا قوة لهم ولا ظهر رماهم بأنواع الأذبات الظالمون يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره المشركونكانوا كلما نبغ فيهم عالم اختار إحدى ثلاث أما الهجرة إلى بلاد الشيعة في سائر الأقطار كبلاد إيران حيث ينال المهاجر منهم الكرامة وكبلاد الهند والحجاز والعراق حتى بلاد اليمن لم تخل منهم وبلاد الروم وغيرها. وأما السكون إلى التقية والتكتم في موطن غلب عليه ألفقر واستحكمت فيه المسكنة وامتد فيه الاضطهاد ذكر صاحب أمل الآمل في علماء جبل عامل أكثر من خمسين عالماً هجروا بلادهم هرباً من الضغط والاستبداد بعضهم إلى بلاد فارس حيث أصبح الكثير منهم شيوخ إسلام وقضاة فيها وبعضهم إلى بلاد الهند وبعضهم إلى بلاد الحجاز في مكة والمدينة المنورة وبعضهم إلى القسطنطينية وبعضهم إلى أرض اليمن وبعضهم إلى العراق - فكان من نصيب بلاد إيران في المائة الحادية عشرة الشيخ بهاء الدين العاملي والشيخ إبراهيم البازوري والسيد بدر الدين الأنصاري والشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي شيخ الإسلام والسيد محمد بن علي نحيب الدين القاضي بطوس والسيد محمد ابن مهدي والسيد ميرزا محمد معصوم والشيخ محمد ابن علي الحرفوشي والسيد علي رضا شيخ الإسلام بأصفهان والسيد حيدر بن نور الدين وكثير أمثالهم ومن نصيب البلاد الهندية الشيخ أحمد بن مكي الجزيني والسيد جمال الدين بن نور الدين والشيخ حسين المشغري والشيخ حسين بن شهاب الدين والسيد رضي الدين والسيد محمد بن أحمد العاملي والشيخ محمد بن خاونت والسيد محمد بن علي الحسيني وأمثالهم وهؤلاء بعضهم في كشمير وبعضهم في حيدر أباد وبعضهم في جيلان ومن نصيب القسطنطينية الشيخ الشهيد زين الدين بن علي الجبعي والشيخ إبراهيم ابن الحسن الحر ومن نصيب الحجاز السيد حيدر بن نور الدين والسيد نور الدين بن علي العاملي والشيخ زين الدين محمد بن الحسن ومن نصيب اليمن الشيخ زين العابدين الحر بصنعاء وفي العراق كثيرون في النجف والحلة وببغداد والبصرة.
وإما أن يبلغ عزلته في بلده فيعرف أمره وربما كانت عقباه القتل أوالتشريد وكأني بالشهيد شمس الدين محمد بن مكي الجزيتي المقتول سنة 786 وقد طبق ذكره الآفاق حتى استدعاه إليه صاحب خراسان لذلك العهد ليتولى مشيخة الإسلام بها كأني به يساق إلى السجن في دمشق مهاناً ثم يفتي بقتله بعد حبس سنة فيقتل ثم يصلب ثم يحرق وليس له ذنب سوى فضله وشهرته والتعصب الذميم في ذلك العصر الوخيم. ولم يكن حظ الشيخ زين الدين المعروف بالشهيد الثاني بأحسن من حظ زميله الشهيد الأول فقد شرد عن وطنه يطارده قاضي صيدا المعروف باسم معروف إلى أن استصدر أمراً سلطانياً بالقبض عليه وإرساله إلى القسطنطينية فأدركه الطالب بمكة زمن الحج ولم يمهله أن يؤدي حجه إلا بعد الالتماس والتضرع ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر وجعجع به إلى بلاد الروم ثم قتله الموكلون بقتله بعد بلوغه القسطنطينية ثم شمل القتل غيرهما مثل الشيخ ابن سودون العاملي من علماء القرن الحادي عشر وغيره كانوا في ذلك الضغط وفي تلك الحال يعرفون في بلاد الشام باسم العلويين وفي غيرها باسم الشيعة، هذا عند العامة وأما الخاصة وأهل العلم فكانوا تارةً يسمونهم شيعة وتارةً رافضة وتارةً إماميه إلا أن اسم العلويين لم يكن ثقيلاً على أسماع العامة الذين كرهو ااسم الشيعة ونفروا منه وإنما اختص به من سكن منهم أرض الشام لأنهم كانوا أبعد الناس عمن يناصرهم لما احتف بهم من الغوغاء الذين رباهم الأمويون على كره أتباع آل البيت الكرام.
حقيقة لفظة متوالي
إن هذه اللفظة (متوالي) من وإلى إذا أحب ومنه ما ورد في الحديث اللهم وال من والاه، قال في لسان العرب وإلى فلان فلاناً إذا أحبه ولكن اسم ألفاعل منها موالي والفعل من متوالي توالي وفي اللغة توالى الشيء إذا تبع بعضه بعضاً وقد استرسل هؤلاء القوم في محبة آل البيت استرسالاً تبع الخلف فيه سنة السلف.
ولكن جمعه هل يكن على متأولة أومتوالية؟ القياس يقتضي الثاني وصحح السماع الأول كما جمع غساني على غساسنة.
يمكن أن يكون أصل اللفظة متولي من تولى أي اتخذ ولياً ومتبوعاً وتولى بمعنى اتبع نص عليه صاحب مجمع البحرين ومطلع النيرين وجعل منه قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهموقال صاحب لسان العرب وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من تولاني فليتول علياً معناه من نصرني فلينصره ثم حرفت فصارت متوالي وجمعت على متأولة وأما ما قيل من أن متوالي محرفة عن متولي المركبة من كلمتين (مت ولي) وأصلها أن الشيعة كانوا زمن اضطهادهم يحرضوا بعضهم بعضاً على الثبات في حب علي عليه السلام فيقول بعضهم لبعض (مت ولياً لعلي) ثم اقتصر على مت ولي وركب منها متولي - فهو بعيد وإلا فكيف اختص به شيعة جبل عامل ولبنان دون غيرهم ولم اختصت به العصور المتأخرة دونما تقدمها مع أن زمان الاضطهاد ومكانه لم يكونا محصورين في جبل عامل إن لم نقل أن ما نال العامليين منه كان أقل مما نال غيرهم لشدة تمسكهم بالتقية التي ألفوها منذ نشأتهم لأن سلطة الأمويين أعدائهم لم تتزعزع عنهم زمناً من الأزمان فشبوا ودرجوا على التخفي والتقية والتجنب عن الوقوع في التهلكة مهما أمكن.
والغريب من المذاهب في هذه اللحظة لفظ ما ذهب إليه بعض المعاصرين من أن لفظ متأولة مسهل عن متأولة، واحدها متأول لأن الشيعة من أهل التأويل!! والظاهر أن صاحب هذا القول لا يعرف من مذهب الشيعة شيئاً وإلا لما جعلهم من أهل التأويل وهم ليسوا منهم كما لا يخفى على كل من عرف مذهبهم.
ولعل صاحب هذا القول وهم في ما نقله صاحب العقل ألفريد عن الشعبي من قوله ما شبهت تأويل الروافض في القرآن إلا بتأويل رجل مضعوف من بني مخزوم. . . . . الخ. ولكن يظهر أن المراد الشعبي بالروافض (كما يدل عليه كلامه في الخبر الذي بعده) أنهم هم الذين أحرقهم علي عليه السلام ونفاهم إلى البلدان ومنهم عبد الله بن سبأ الذاهب إلى الغلو في علي عليه السلام وتأليهه وقد خرجوا عن ربقة الإسلام والشيعة منهم براء وكيف كان، فالشعبي مع شدة تعصبه على الشيعة لا يكون كلامه حجة عليهم إذا صح أنهم هم المراد في قوله، وربما حمل صاحب هذا القول عليه المشابهة بالحروف بين متأولة ومتأولة وإن كان لا يساعد عليها المعنى ومع ذلك فلوصح ذلك في الجمع فكيف يصح في المفرد وبين لفظتي متأول ومتوالي فرق واضح.
زمن إطلاقه عليهم
بحث الكتاب في زمن تحديد إطلاق هذا اللقب (متأولة) على شيمة جبل عامل وجبل لبنان وبعلبك فذهب بارينوس إلى ما وراء الأمير حيدر الشهابي في تاريخه أنه كان في سنة 635 هجرية لما أتوا من بلاد العجم وسكنوا عشر مدن بإذن أجناد الهيكليين المتسلطين يومئذ على تلك الجهات. . . . يومئذ أطلق عليهم اسم متأولة وفي قوله هذا بعد لأنه إن أراد ظهو ر مذهبهم يومئذ فمذهبهم معروف من صدر الإسلام. وإن أراد إطلاق الاسم فقط فهم لم يعرفوا به إلا في القرن الثاني عشر الهجري بدليل أن كل المؤرخين وأصحاب السير السابقين على القرن الثاني عشر الذين ذكروا بلادهم لم يكونوا يعرفون هذا اللقب ولوعرفوه لأطلقوا عليهم كما فعل صاحب سلك الدرر المتأخر زمنه فإنه لا يذكرهم إلا نبذهم به وصاحب خلاصة الأثر عند ذكره الأمير فجر الدين المعني قال أنه كان درزياً لكنه عند ذكره رجال الشيعة من جبل عامل مثل بهاء الدين العاملي وكثير أمثالهم لم ينبذهم بالمتأولة مع أنهم من لباب الشيعة (المتأولة)، ولما ذكر شقيق آرتون (قلعة الشقيف) قال أن هذا العمل رافضة وفي ترجمة الأمير موسى الحرفوش البعلبكي قال أن البعلبكيين من الولاة في الرفض وفي كل ذلك، بل في كل تاريخه لم يذكر لفظة متأولة ولوعرفها لأطلقها.
وقبل خلاصة الأثر مر ابن بطوطة الرحالة بصور وهي خربة في سنة 726 وبخارجها قرية معمورة سكانها من الأرفاض وصاحب نخبة الدهر، قال عند ذكر جبل عامل وأهله رافضة أمامية وصاحب صبح الأعشى قال مثل قوله.
ولم يذكر لفظ متأولة وكلهم متأخرون عن سنة 635 التي ذكرها بارينوس، وعلى الجملة أن هذا اللقب لم يعرف عند مؤرخي العصور السابقة على القرن الثاني عشر ولوعرفوه لذكروه كما فعلوا بغيره مؤرخوالقرن الثاني عشر عرفوه فذكروه فيكون حدوثه في هذا القرن دون ما سبقه.
ورأيت في بعض التقاويم التركية (سالنامه) في جدولها التاريخي أن ابتداء ظهور المتأولة سنة 11. . هجرية ولا شك أن هذا تقريبي والمراد أنهم عرفوا حوالي تلك الأيام وذلك يؤيد برهاننا السابق.
على أن رواية بارينوس باطلة لبطلان جميع ما ورد فيها فقد جعل المتأولة قادمين من بلاد العجم في تلك السنة مهاجرين حيث سكنوا عشر مدن بإذن أجناد الهيكليين وظاهر ذلك أنه كان في جبل عامل فيما فوق مدينة صور التي كانت في حوزة فرسان الهيكل يومئذ ولم يخرجوا منها إلى نهاية القرن السابع الهجري.
ومهاجرة أهل يربوعلى الستين ألفاً كما قال من بلاد العجم إلى بلاد الشام لا تخفى على أحد ولا تكون سراً مكنوناً فكيف لم ينتبه لها أحد سوى بارينوس من المؤرخين على أن بلاد العجم يومئذ كانت خاضعة لسلطة المغول ولم يكن مذهب الشيعة قد أخذ بالانتشار فيها وأول من نصره ونشره في تلك البلاد هو السلطان أولجانيومحمد خدابنده المغولي وتبعه من كان بعده إلى زمن الدولة الصفوية فعم المذهب يومئذ أقاصي البلاد.
وقد خبط أيضاً بروايته فقال: إن الشيعة يدعون أنهم من نسل علي بن أبي طالب وأن الخلافة بعد عمر بن الخطاب كانت لهم، فرجل هذا مبلغ علمه بالشيعة كيف يعتمد على روايته في شيء من أمورهم.
والحق أن هذا اللقب إنما صح إطلاقه عليهم لما أظهروا وجودهم السياسي وخلعوا طاعة أمراء لبنان وأعلنوا استقلالهم عنه واجتمعوا جملة واحدة ثم ظاهرهم ظاهر العمر الصفدي هنالك كانوا يتحمسون في حروبهم وينتدبون باسم (بني متوال) ومن تتبع أزجال شعرائهم يومئذ ظهر له حقيقة مقالنا.
وهذا اللقب لم يعرف لأحد من الشيعة إلا الذين أطلقوه على أنفسهم يوم خاضوا غمار ألفتن في المائة الثانية عشرة وهم شيعة جبل عامل الذين ظهروا يومئذ بزعامة الشيخ ناصيف النصار والشيخ علي ألفارس وعشيرتهما وشيعة بعلبك الذين قادهم أمراء آل حرفوش وشيعة شمالي لبنان الذين كانوا تحت لواء المشايخ آل حمادة.
وما عدا من ذكرنا من الشيعة في سورية كشيعة الديار الحلبية وكشيعة بلاد حماة وحمص وكشيعة نفس دمشق وكلهم لا يعرفون بهذا اللقب إلى اليوم ومن الغريب أن شيعة دمشق الأصليين ينبذون باسم الرافضة عندما لا يريد تكريمهم ومهاجرة بعلبك وجبل عامل في نفس دمشق يعرفون باسم المتأولة وما ذلك إلا إتباعاً للقبهم في ديارهم فقط ويتوهم كثير من العامة أن بين ألفريقين اختلافاً في المعتقد وليس الأمر كذلك.
ديار الشيعة في سورية
معظم الشيعة الإمامية في سورية في جبل عامل وهو البلاد الواقعة ما بين مصب نهر الأولى شمالاً إلى وادي نهر القرن (شمالي صفد) جنوباً ومن غور الحولة شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً ويربوعددهم في هذا الجبل على المائة ألف نسمة وقد تقدم الكلام على أول عهدهم بالتشيع. وفي مدينة دمشق بضعة آلاف منهم وعهدهم بمذهبهم قديم وربما سبقوا العامليين في ذلك مدة قليلة. وفي ضاحية حلب قرى أهلها من الشيعة مثل الفوعا وكفريا ونبل والنغاولة ومعرة مصرين وفي نواحي حماة قرى أخرى كالشيخ علي كيسون والبويضة وسمنة وتليل وفي نفس حمص وفي القرى التي في شرقيها أم العمد، البويضة، تل الأغر، أم دالي، أم تويني وفي غربيها الغور سمعليل دلابوس، أم حارتين وعهد هؤلاء أجمع بالتشيع لا يتأخر عن زمن الدولة الحمدانية التي ملكت حلب وكانت عريقة في التشيع لا يتأخر عن زمن الدولة الحمدانية التي ملكت حلب وكانت عريقة في التشيع وكانت مدينة حلب في عهدهم زاهرة بفقهاء الشيعة وفي كتب ألفقه الإمامي أقوال مشهورة تعزى إلى فقهاء حلب وكان نقباء الأشراف آل زهرة الحسينيون الذين منهم السيد أبوالمكارم بني زهرة من جلة علماء الشيعة، يومئذ كان المؤذنون يؤذنون بحي على خير العمل في كل المآذن الحلبية ولما أراد سليمان بن أرتق بناء أول مدرسة شافعية في حلب لم يمكنه الحلبيون من ذلك إذ كان الغالب عليهم التشيع وكانت نار التعصب يومئذ مستجورة بين الطائفتين
ومن ديار الشيعة في سورية قرى مقاطعات كسرونا والمتن والشوف والبترون والهرمل وشمسار وجزين وجبل الريحان (الجرمق) فهما داخلان في حدود جبل عامل وجزين كانت ذات مدرسة دينية فقهية للشيعة الإمامية وازدهت بعلمائها المشهو رين وأشهرهم الشهيد محمد بن مكي من أشهر علماء الشيعة في القرون الوسطى وهو صاحب المؤلفات المشهورة المعروفة في مدارس الشيعة والذي طلبه إليه صاحب خراسان ليتولى مشيخة الإسلام بها فلم يجبه إلى ذلك وكانت داره تحتوي على خمسة من العلماء والعالمات فكان أولاده الاثنان من خيرة العلماء وابنته أم الحسن وزوجته إليهما مرجع النساء في العلوم الشرعية وفاقت ابنته في العلوم العربية ولا تزال سلالته في جبل عامل لا تخلومن عالم فاضل منذ القرن الثامن إلى اليوم. والشيعة في لبنان لا يقل عددهم عن الخمسة والعشرين ألفاً.
ومن ديار الشيعة في سورية مدينة بعلبك وما إليها وأكثر سكان تلك الجهة من الشيعة ولم يظهر لنا بدء عهد البعلبكيين بالتشيع ولكنه كان منذ القرن العاشر الهجري معروفاً بينهم ولم يخبرنا التاريخ بتقدمه على ذلك العصر كما لم ينف لنا وجوده قبله وأول ما اشتد أزر الشيعة فيها في عهد الأمراء الحرافشة الذين ملكوا بعلبك بعد دخول السلطان سليم إليها.
وعهد الشيعة اللبنانيين بالتشيع إما في الجهات الشمالية فكان من مهاجرة بعلبك حوالي القرن الثاني عشر وأما في الجهات الجنوبية فعهدهم به كعهد العامليين أوقريب منه أي أنه قديم جداً.
وفي حوران في بصرى فريق من الشيعة من مهاجرة جبل عامل استوطنوا ذلك البلد ويقارب عدد الشيعة الإمامية في جهات سورية المائتي ألف وربما يزيدون ولنجعل للبحث صلة في أحوالهم الاقتصادية وشؤونهم الاجتماعية وبالله التوفيق.
النبطية (جبل عامل)
أحمد رضا.