انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 92/الخطابة عند العرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 92/الخطابة عند العرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1914


توطئة

دلتنا الحرب الحاضرة على كثير مما ينقصنا من العلوم والصناعات الشائعة عند الأمم الغربية وكانت فاشية في القديم عند أجدادنا. ومن ذلك صناعة الخطابة وهي من أجل العوامل في تربية النفوس أيام الحرب والسلم وفي بث دعوة أو سفارة بين متخاصمين أو متحابين إقناع يوم الحفل واستمالة الأفكار إلى رأي أو حزب في المجالس والمؤتمرات والمجامع والجوامع لا تستغني عنها أمة دستورية بحكمها مجلس نوابها إذ أن التنفير من مسألة والتذكير بأخرى لا يتم إلا بقوة البيان وسلاطة اللسان وفصاحة الحجة وظهور المحجة والسبب في قصورنا عن هذه الغاية طول عهدنا بالحكومة الاستبدادية المطلقة حتى إذا انقلبت إلى حكومة شورية أحسسنا بنقص في عامة مكونات الأمم وكان خطباؤنا المصاقع يعدون على الأصابع في جميع أدوار مجلسنا النيابي والمبرز منهم من كتب له أن كان أستاذا في مدرسة أو مدرساً في جامع ففتقت السن أهل هذه الطبقة وقليل ما هي على أيسر وجه لأنها كانت على جانب من ألفضل ومعرفة بأصول المجالس أما أكثر النواب فكانوا بمعزل عما ينبغي لهم من أدوات ألفهم والكلام والحرية فضاحة فضحتنا بقلة المتكلمين والمفكرين منا مع أن الخطابة مما أوجبته علينا الشريعة الإسلامية كما ظهر أمرنا وتبين عجزتا واستبان إفلاسنا في مسائل العلم والتأليف فقد كان بعضهم يوهمون أن طبائع الحكومة المطلقة وهي قائمة بكم الألسن وحجز الأقلام هي التي تحول دونهم وما يشتمون من انبعاث عملهم ونشر أبحاثهم ودروسهم وظهور أثر فضلهم وأدبهم وتحقيقهم وربما غالى بعضهم فقال اختراعهم واكتشافهم وأنهم لا يتوقعون إلا دور انطلاق حتى يظهروا ما كنته صدورهم من العلو والفنون وها نحن نعيش في ظل الحكومة الدستورية منذ ثماني سنين ولم نشهد أثراً لغير من عرفوا من قبل بألفهم والعلم وجل ما اتصل بنا أنه نشرت مباحثات ومناقشات قلما تفيد أمة تريد النهوض من طريق العلم والعمل نحن موقنون أن التبريز في الخطابة صعب ولكن بالتعلم والمعاناة يصل المرء إلى درجة حسنة في الجملة وفي العادة أن يكون النوابغ قلائل في كل فن فإذا عد في الأمة عشرة منهم في كل شأن ومطلب تعد غنية بعلمها وعقلها ولانحطاط الخطابة الدينية في هذا العهد تأفف كثبر من حضور الجم حتى لا يسمعوا خطباً لاقتها الألسن منذ قرون وليس فيها شيء من النفع ولقلة المجيدين بل المتوسطين في هذه الصناعة غداً الناس يسمون خطيباً كل من يرفع عقيرته ولو كان جاهلاً عامياً بل أمياً غبياً وعلى العكس رأينا في بعض البلاد خطباء بعض المساجد مجودين في الجملة يقولون ماله معنى في الوغظ والإرشاد قد حببوا غشيان المساجد لمن كانوا لا يعرفونها وبتأثير الإخلاص والإجادة والكلام بحسب طبائع القوم وحاضر العصر كثر العاملون بأحكام الدين القائمون بتكاليفه وبلغت حالة الانحطاط في ضعف البيان وفسولة الرأي والحجة بأكثر خطباء الجوامع ومنهم الأميون الذين لا يكادون يقرأون الكتاب إن أصبحت نصف خطبهم زهداً في الدنيا على غير طريقة السلف المشروعة والنصف الآخر دعاء يحفظونه لا يحرمون منه كلمة ثم هم يدعون بأدعية مردودة في الشرع شأنهم في بيان فضائل الشهور والأيام والبلدان والجوامع حتى خطب بعضهم وكان حشوياً جلجلونياً في أعظم جامع في هذه البلاد عند إرادة الحث على تجديد بنائه فقال إن الصلاة فيه تعادل ثلاثين ألف صلاة وأورد لذلك أحاديث لا تعرفها إلا عقول الرضاعين والقصاصين ولطالما خطبوا أن من صام يوم كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلى غير ذلك من البدع والفضول التي لم تأت بها شريعة الرسول وقد أنكرها أئمة ألفقه والعلم من المتقدمين والمتأخرين ولاسيما شيخ الإسلام أبن تيمية وابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751) وابن الحاج المتوفى سنة 737 ولو كان الخطباء على جانب من فهم أسرار الشريعة وعرفة طرق البلاغة وما يصلح الناس ما عالجوا من الموضوعات ما يرجع بالناس القهقرى هذا في الخطب الدينية فهي أيضاً تتصرف على ذاك النحو نصفها تجميدات ومقدمات واعتذارات وسخافات واستطرادات منوعات ولو محصت لما بقي منها إلا التافه اليسير من المعاني أم تأثيراتها في الأفكار فضعيف جداً ولعل هذا النقص البين يتلافاه أساتذة المدارس الابتدائية والوسطى والعليا بتمرين طلبتهم أبداً على الإلقاء وممارسة الكلم ألفحل يوم الحفل وفي النوازل والأمور العامة فينشأ من هذا الجيل فئات تسد هذا النقص المحسوس المشاهد في طبقة رؤساء الدين ورؤساء الدنيا ويمرن الجميع على كتابة ما يريدون الخوض فيه وعلى استظهاره أو إلقائه على نحو ما سارت الأمم الحديثة والأمم القديمة الراقية فينبغ فيها خطباء ووعاظ ومرشدون داووا جهالة شعوبهم بأساليب القول الجزل والمنطق الخلاب والبرهان الساطع وها نحن نحفظ لطلاب هذا ألفن الطريق الذي سلكته العرب في تقوية ملكة البيان معتمدين في النقل على أئمة هذا الشأن مشيرين إلى تاريخ الخطابة والمجودين فيها من أهل هذا اللسان قبل الإسلام وبعده موردين من الشواهد ما يصح تحديه والنسج على أسلوبه وذلك بقدر ما يتسع صدر المصادر التي نقتبس منها وتسمح صحف هذه المجلة ولعل غيرنا ينهض إلى التوسع أكثر من توسعنا في هذا الموضوع الواسع الأطراف تلقيحاً للعقول وإهابة بها إلى ما يصلحها ويزكيها بالبلاغة فنقول:

(2) حد الخطابة وأقسامها

نقل ابن رشد الخطابة صناعة تتكلف الإقناع الممكن في كل مقولة من المقولات وغايتها إقناع الجمهور فيما يحق عليهم أن يصدقوا به من الأمور السياسية والوظائف الشرعية وقال أبو البقاء: الخطابة هي الكلام النفسي الموجه به الغير للإفهام قالوا وليس للخطابة موضوع خاص تبحث عنه بعزل عن غيره ولذلك كان على الخطيب أن يلم بكل صنف من المعارف فوجب عليه لبلوغ هذه الأمنية أن يتبحر في العلم ويتفنن في ضروب ألفهم حتى كان سيسرون خطيب الرومان يوجب على الخطيب معرفة ألفنون الأدبية والرياضيات والرسم والتصوير والنقش والموسيقى وغير ذلك ومعنى إقناع الجمهور إرضاء السامعين بالبرهان بحيث تكون البلاغة ملكة في الخطيب وهناك يقتضي له من العلم الواسع ونفاد البصيرة وحضور الذهن وقوة التأثير وطلاقة اللسان ولطيف البيان ما يستميل به الجمهور إليه في موضوع ويصرف أذهانهم عن أمر ويوجه أنظارهم إلى آخر ويحرضهم ويقنعهم ولذلك أدخل الحكماء الخطابة والشعر في أقسام المنطق كما نقل عن أرسطو لأن المقصود منه أن يوصل إلى التصديق وأصولها عندهم ثلاثة الأول إيجاد المعاني الحقيقة بالإقناع من الأدلة والآداب والثاني تنسيق المعاني أي سرد أجزائها على نظام واحد ليحكم تركيب الخطة وارتباط أقسامها بحيث نكون ابين غرضاً وأحسن في النفوس وقعاً والثالث التغيير الذي يراعى فيه حال السامع لتصاغ له المعاني في ألفاظ تنتشر بها نفسه وتمتزج بأجزاء فهمه ويمكن إرجاع الخطابة إلى قسمين الخطابة المدنية والخطابة الدينية فالمدنية يتصرف تحتها كل ما فيه إصلاح المدينة والخطابة الدينية كل ما يرجع إلى تطهير النفوس ليكون لأهلها مدنية فاضلة في الدنيا وسعادة شاملة في الأخرى الخطابة نوع من منثور الكلام يأخذ من النثر تصوير الحقائق وإبلاغها النفوس من دون أتعاب ذهن ولا تكلف في الأداء ومن النظم سلاسته وتأثيره في النفس وقد كانت العرب في جاهليتها تقدم الشاعر على الخطيب بفرط حاجتها إلى الشعر الذي يقيد مآثرها ويفخم شأنها ويهول على عدوها ومن غزاها ويهيب من فرسانها ويخوف من كثرة عددها ويهابها شاعر غيرها قال أبو عمرو بن العلاء فلما كثر الشعراء واتخذوا الشعر مكسبة وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر وكان لكل قبيلة شاعر كما كان لكل واحدة خطيب. الخطب والوصايا متقاربة يقصد بالأولى قوم لا على سبيل التعيين والتخصيص فتكون في المشاهد والمجامع والأيام والمواسم والتفاخر والتشاجر أمام العظماء والملوك والأمراء والوفود وفي الصلح وإشهار الحرب وفي الخطوب والنوازل أما الوصايا فتكون لقوم بعينهم في زمن مخصوص على شيء منصوص وربما كانت من شخص لأهل بيته أو سيد لقبيلته عند حلول مرض أو أجل أو هجرة في الأرض

(3) الخطابة والأنبياء

ذكروا أن العرب عنيت بالخطب في جاهليتها أكثر من عنايتها بها في الإسلام ولم يظهر لنا سر هذا لأنا رأينا هدي النبيين والمرسلين على خلاف ذلك رأينا الرسول صلوات الله عليه لم يتعلم الشعر وما ينبغي له وكان سيد الخطباء بلا مراء وكلامه خطب وحكم وبسيرته الشريفة اقتدى كبار الصحابة والتابعين والخلفاء والملوك والمرشدين والعلماء العاملين ولكن كثر الشعر أكثر من الخطب لأن الشعر أقرب إلى تقييد المآثر والتأثير ولأنه يحتمل من الخيال والمحال مالا يحتمله الخطاب بحال من الأحوال قال صاحب (الريحان والريعان) إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوير من جيد المنشور ومزدوج الكلام أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشرة ولا ضاع من الموزون عشر لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم في مشافهته الملوك أو الحالات أو الإصلاح بين العشائر أو خطبة النكاح فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه ونسيه من نسيه بخلاف الشعر فإنه لا يضيع منه بيت واحد قال ولولا أن خطبة قسس بن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام وهو إن النبي هو الذي رواها عنه في اطار ذكرها ما تميزت هما سواها قال القلفشنديبعد إيراد ما تقدم وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتنائهم به بل لسهولة الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من ألفصحاء المصاقع فلذلك عز حفظها وقل عنهم نقلها وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤسائهم ممن فاز بقدح ألفضل وسبق إلى ذرى المجد ويخصون ذلك بالمواقف الكرام والمشاهد العظام والمجالس الكريمة والمجامع الحفيلة فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه من وعظ يذكر أو فخر أو إصلاح أو نكاح أو غير ذلك مما يقتضيه المنام نعم إن الخطابة صناعة الرسل عليهم السلام لأنهم يدعون إلى الله ويكلفون بإرشاد الخلق وهذا يقتضي البلاغة والبيان المتناهي لذلك قال موسى رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني بفقهوا قولي وذلك لأنه كان به لعثة فخشي أن يعدها قومه عيباً ويلووا بوجوههم عن دعوته أما شعيب عليه السلام فقد سماه نبينا عليه الصلاة والسلام خطيب الأنبياء لما ورد في الكتاب العزيز من أسلوبه البديع في البيان وتلطفه في إبلاغ دعوته إلى أهل مدين الذين غلبت عليهم الشقوة قال تعالى وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره ولا تقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم ارفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ إلى ا، قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاًِ حسناً أن أخألفكم إلى ما أنهاكم عنه أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ويا قوم لا يحرمنكم شقاقي إن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود. ولشرف الخطابة وتأثيرها في تطهير النفوس أوجبها الشارع وسنها للمسلمين في مساجدهم كل جمعة وعيد وفي الحج أي في عرفة واوجب على الحضور التزام الأدب مع الخطيب بل علمهم حسن الإصغاء وفي الحديث إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة انصت فقد لغوت ولم يعين الشارع للخطب الدينية أو خطب الجوامع والمواسم موضوعاً خاصاً بل جعلها مطلقة يتناول الخطيب الكلام من المناسبات الزمنية ويورد للحضور من هدي الشارع ما يهذب به أرواحهم ويهيب بهم إلى بارئهم ويغرس فيهم مكارم الأخلاق ويطبعهم بطابع ألفضائل ويحذرهم البغي والظلم ويستل بلطيف أسلوبه سخائهم وأحقادهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويزين لهم العمل الصالح ويربأ بهم عن مهلكات الشهوات.

(4) البلاغة للعرب وفي البيان والتبين كلام طويل على الخطابة

وأقوال الشعوبية أي غير العرب فيها

وقد رد الجاحظ عليهم بقوله: قالوا والخطابة شيء في جميع الأمم وبكل الأجيال إليه أعظم الحاجة حتى أن الزنج مع الغثارة ومع فرط الغباوة ومع كلال الحد وغلط الحس وفساد المزاج لتطيل الخطب وتفوق في ذلك جميع العجم وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ وألفاظها أخطأ وأجهل وقد علمنا أن أخطب الناس ألفرس وأخطب ألفرس أهل فارس وأعذبهم كلاماً وأسهلهم مخرجاً وأحسنهم ولاء وأشدهم فيه تحنكاً أهل مرو وأفصحهم بالفارسية الدرية وباللغة ألفهلوية أهل قصبة الأهواز فأما نغمة الهزبذة ونغمة الموبذان فلصاحب تفسير الزمزمة قال الجاحظوجملة القول أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس وأما الهند فإنما لهم معان مدونة وكتب مخلدة لا تضاف إلى رجل معروف ولا لى عالم موصوف وإنما هي كتب متوارثة وآداب على وجه الدهر سائرة مذكورة ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق وكان صاحب المنطق نفسه بكي اللسان غير موصوف بالبيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه وهم يزعمون أن جالينوس كان انطق الناس ولم يذكروه بالخطابة ولا بهذا الجنس من البلاغة وفي ألفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة وعن مشاورة ومعاونة وعن طول التفكر ودراسة الكتب وحكاية الثاني علم الأول وزيادة الثالث في علم الثاني حتى اجتمعت ثمار تلك ألفكر عند أخرهم وكل شيء للغرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه الهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام أو حين أن يمتح على رأسه بئر ويحدو ببعير أو عند المقارعة والمناقلة أو عند صراع أو في حرب فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذاهب وإلى العمود الذي إليه بقصد فتأتيه المعاني إرسالاً وتنهال عليه الألفاظ انثيالاً ثم لا يقيده على نفسه ولا يدرسه أحداً من ولده وكانوا أميين لا يكتبون ومطبوعين لا يتكلفون وكان الكلام الجيد عندهم اظهر أو أكثر وهم عليه أقدر وأمهر وكل واحد في نفسه انطق ومكانه من البيان أرفع وخطباؤهم أو جزء والكلام عليهم أسهل وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارس وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب وإن شيئاً الذي في أيدينا جزء منه بالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب وعدد التراب وهو الذي يحيط بما كان والعالم بما سيكون ونحن أبقاك الله إذا أدعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والإرجاز ومن المنثور والأسجاع ومن المزدوج ولا يزدوج فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة والرونق العجيب والسبك والنمط الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول في مثل ذلك إلا في اليسير والنبذ القليل ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة وقديمة غير مولدة إذا كان مثل ابن المقفع وسهل بن هرون وأبي عبيدة الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان لايستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل ويصنع مثل تلك السير. وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي (راجع المقتبس م4) فأدخلته بلاد الأعراب الخلص ومعدن ألفصاحة التامة ووفقته على شاعر مغلق أو خطيب مصقع علم أن الذي قلت هو الحق وأبصر الشاهد عياناً فهذا فرق ما بيننا وبينهم فتفهم عني فهمك الله ما أنا قائلهذه حجة الجاحظ في العرب أن أفصح الأمم وقيل أيضاًإن جميع خطب العرب من أهل المدر والبر والبدو والحضر على حزبين منها الطوال ومنها القصار ولكل ذلك مكان يليق به وموضوع يحسن به ومن الطوال ما يكون مستوياً الجودة ومشاكلاً في استواء الصنعة ومنها ذوات ألفقر الحسان والنتف الجياد وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ وإنما حفظها التخليد في بطون الصحف قال ومتى شاكل أبقاك الله ذلك اللفظ معناه وأعرب عن فحواه وكان لتلك الحال وفقاً ولذلك القد لفقاً وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف كان قميناً بحسن الموقع وبانتفاع المستمع وأجدر أن يأمن جانبه من تناول الطاعنين ويحمي عرضه من اعتراض العيابين ولا تزال القلوب به معمورة والصدور مأهولة ومن كان اللفظ أيضاً كريماً في نفسه متحيزاً في جنسه وكان سليماً من ألفضول بريئاً من التعقيد حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان والتحم بالعقول ودهشت إليه الأسماع وارتاحت له القلوب وخف على السن الرواة وشاع في الآفاق ذكره وعظم في الناس خطره وصار ذلك مادة للعالم الرئيس ورياضة للمتعلم الريض فإن أراد صاحب الكلام صلاح شأن العامة ومصلحة حال الخاصة وكان ممن يعم ولا يخص وينصح ولا يغش وكان مشغوفاً بأهل الجماعة شنقاً لأهل الاختلاف والفرقة جمعت له الحظوظ من أقطارها وسبقت إليه القلوب بأزمتها وجمعت النفوس المختلفة الأهواء على محبته وجبلت على تصويت إرادته ومن أعاره الله من معرفته نصيباً وأفرغ عليه من محبته ذنوباً حنت إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ وكان قد أغنى المستمع من كد التكلف وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم ولم أجد في خطب السلف الطيب والأعراب الأقحاج ألفاظاً مسخوطة ولا معاني مدخولة ولا طبعاً ردياً ولا قولاً مستكرهاً وأكثر ما نجد في خطب المولدين البلدين المتكلفين ومن أهل الصنعة المتأدبين سواء كان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب أو كان من نتاج التخير والتفكر

(5) مكانة الخطابة وعيوب الخطباء

تقدم لك قانون البلاغة الذي وضعه عمرو بن نجر الجاحظ في صفحة وتدارسه يغني طالب الخطابة عن كتاب ورب مقالة خير من سفر ولقد عرفت العرب ما كانت عليه من الغريزة ألفائقة في البيان صعوبة الخطابة وأنها لا يوفق إليها إلا أفراد ولذلك كانت تكرم الخطيب أكثر من إكرام الشاعر وقد ضربت المثل بالخطيب في قولها (الخطب مشوار كثير العثار) والمشوار هو المكان الذي تعرض فيه الدواب وقالواعقل المرء من فوق بلسانهوكانت تتعاير بألفهاهة وقلة الإجادة في البيان وتقول نعوذ بالله من الإهمال ومن كلال الغرب في المقال ومن خطيب دائم السعال قال بشر بن معمر في مثل ذلك

ومن الكبائر مقول متعتع ... جم التنحنح متعب ميهود

وقال شاعرهم يعيب بعض خطبائهم:

مليء ببهر والثغات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع

وضربوا المثل بالبلاغة بسحبان وائل فقالوا فلان أخطب من سحبان كما ضربوا المثل بالعي في الكلام بباقل فقالوا فلان أعيى من باقل وقد جمع الجاحظ في البيان والتبيين كثيراً من أخبار البلاغة والحصر والخطباء والبلغاء والإيمياء ومما قال: وليس حفظك الله مضرة سلاطة اللسان عند المنازعة وسقطات الخطل يوم إطالة الخطبة بأعظم مما يحدث عن العي من اختلال الحجة وعن الحصر من فوق درك الحاجة والناس لا يعيرون الخرس ولا يلومون من استولى على بيانه العجز وهم يذمون الحصر ويؤنبون العي فإن تكلفنا مع ذلك مقامات الخطباء وتعاطيا مناظرة البلغاء تضاعف عليهما الذم وترادف عليهما التأنيب وممتنة (مماطلة) العي الحصر البليغ المصقع في سبيل مماتنة المنقطع المفحم للشاعر المفلق وأحدهما آلوم من صاحبه والألسنة إليه أسرع وليس المجلاجالمتردد في كلامهوالتمتاممن تسبق كلمته إلى حنكه الأعلى والتمتمة رد الكلام إلى التاء والميم والألسغ الذي يحول لسانه من السين إلى الثاء أو من الراء إلى الغينوألفأفأةمردد ألفاءوذو الحبسةالذي لا يسمع قولهوالحكلةالذي لا يسمع صوتهوالرتةالعجمةوذو اللقفعي بطيء الكلام إذا تكلم ملا لسانه فمهوالعجلة في سبيل الحصر في خطبته والعي في مناضلته خصومه كما أن سبيل المفحم عند الشعراء والبكي عند الخطباء خلاف سبيل المسهب الثرثار والخطل المكثار ثم أعلم أبقاك الله أصاحب التشديق تكلف البلاغةوالتقعيرالتكلم بأقصى ألفموالتقعيبتقصير الكلاممن الخطباء والبلغاء مع سماجة التكلف وشنعة التزيد أعذر من عي يتكلف الخطابة ومن حصر يتعرض لأهل الاعتياد والدربة ومدار اللئمة ومستقر المذمة حيث رأيت بلاغة يخالطها التكلف وبياناً يمازجه التزيد إلا أن تعاطي الحصر المنقوض مقام الدرب التام أقبح من تعاطي البليغ الخطيب ومن تشادق الأعرابي القج وانتحال المعروف ببعض الغزارة في المعاني والألفاظ وفي التحبيرالجبانأنه في مسلاخصفة التام الموفر والجامع المحكك وإن كان رسول الله قد قال: أياي والتشادق وقال أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون وقال من بدا جفا وعاب الغدادين والمتزبدين في جهارة الصوت وانتحال سعة الأشداق ورحب الفلاحم وهدل الشفاهإرسالها إلى أسفلوأعلمنا أن ذلك في أهل الوبر أكثر وفي أهل المدر أقل فإذا عاب المدري بأكثر مما عاب به الوبري فما ظنك بالمولد القروي والمتكلف البلدي فالحصر المتكلف والعي المتزيد الوم من البليغ المتكلف لأكثر مما عنده وهو أعذر لأن الشبهة الداخلة عليه أقوى فمن أسوأ حالاً أبقاك الله ممن يكون الوم من المتشادقين ومن الثرثارين المتفيهقين ومن ذكره النبي نصاً وجعل النهي عن مذهبه معسراً وذكر مقته له وبغضه إياه قال: ولما علم واصل بن عطاء أنه الثغ فاحش اللثغ وإن مخرج ذلك شنع إذا كان داعية مقالة ورئيس نحلة وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل وأنه لابد له من مقارعة الأبطال من الخطب الطوال وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة وإلى ترتيب ورياضة وإلى تمام الآلة وأحكام الصنعة وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن وإن حاجة المنطق إلى الطلاوة والحلاوة كحاجته إلى الجلالة والفخامة وإن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب وتنثني إليه الأعناق وتزين به المعاني وعلم واصل أنه ليس معه ما ينوب عن البيان التام واللسان والمتمكن والقوة المتصرفة كنحو ما أعطى الله نبيه موسى صلوات الله عليه من التوفيق والتسديد مع لباس التقوى وطابع النبوة ومع المحبة والاتساع في المعرفة ومع هدى النبيين وسمت المرسلين وما يغشيهم الله به من القبول والمهابة ولذلك قال بعض شعراء النبي :

لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك بالخبر

ومع ما أعطى الله موسى عليه السلام من الحجة البالغة والعلامات الظاهرة والربهانات الواضحة إلى أن حل تلك العقدة ورفع تلك الحبسة وأسقط تلك المحنة ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان وإعطاء الحروف حقوقها من ألفصاحة رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأتى لسره والراحة من هجثه حتى انتظم له ما حاول واتسق له ما تأمل حتى صار لغرابته مثلاً ولظرافته معلماً ولولا استضافة هذا الجنس وظهور هذه الحال ولما استجرنا الإقرار به والتأكيد له ولست أعني خطبه المحفوظة ورسائله المخلدة لأن ذلك يحتمل الصنعة وإنما عنيت محاجة الخصوم ومناقلة الأكفاء ومفاوضة الإخوان واللثغة في الراء تكون بالغين والذال والياء والعين أقلها قبحاً وأوجدها في كبار الناس وبلغائهم وإشرافهم وعلمائهم.