مجلة المقتبس/العدد 85/السيد جمال الدين القاسمي
مجلة المقتبس/العدد 85/السيد جمال الدين القاسمي
تلد الولادات كل يوم أولادا وتطوي الأرض أناسا لا يحصي عددهم غير خالقهم ولكن من يؤثرون الأثر النافع فيذكرون في حياتهم وبعد مماتهم أقل من القليل وأقل منهم في أهل هذا الشرق التعس وفي أهل الإسلام خاصة وذلك لأن العلم الإسلامي بعد أن هبت أعاصير الاختلافات في القرون الوسطى وحاربت حكومات تلك الأيام رجالات المعقولات وأحرار الأفكار ضعف مستوى العقول لأنها لم تطلق لها العنان وتقاصرت الهمم لأنها لم تجد منشطا فقل جدا النابغون النابهون.
وما ننس لا ننس ما وقع لشيخ الإسلام بل لعالم السنة وإمام الأئمة ومجدد شباب الحنيفية السمحاء تقي الدين بن تيمية فقد عذب في القرن الثامن سنين كثيرة في سجون القاهرة والإسكندرية ودمشق وناله من أذى أدعياء العلم في عصره حسدا منهم لمكانته ما يبكي تذكره المقل ويهون بعده كل اعتداء على العلماء ينالهم من أهل الحشو والجمود.
ومن قرأ تاريخ رجالنا في القرون الثلاثة التالية أي في القرن الثامن والتاسع والعاشر أو القرون الثلاثة التي سبقتها أي الخامس والسادس والسابع يعرف أن كثيرين قضوا شهداء أفكارهم وعذبوا وأوذوا في سبيلها لأنهم رأوا غير ما رآه العلماء الرسميون ومن الأهم من أرباب الزعامات في أيامهم.
ومنذ اضطر مثل حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في القرن الخامس أيهجر العراق تخلصا من حاسديه الذين لا يعدمون عندما تصح إرادتهم حجة للاستعانة بالسلطة الزمنية للنيل ممن أربى عليهم وإيقاف نيار أفكاره إلى عصر ابن تيمية الذي ناله ما ناله في مصر والشام حتى قضى في سجن دمشق شهيد الإصلاح إلى أن جاء القرن العاشر والذي يليه من القرون وقد أصبحت العلوم رسمية والمدارس صورية والأوقاف المحبوسة على العلماء مأكولة مهضومة - منذ جرى كل هذا والأمة لا تكاد تفرح لها بعالم حقيقي يكسر قيود التقليد ويقول بالأخذ من كل علم فندر النبوغ لأنه ندر أن يلقى العالم ما ينشط عزيمته وكان قصارى من تسمو به الهمة إلى أخذ نفسه بمذاهب التعلم والتعليم أن يقتبس من كتب الفروع ما لا يخرج به عن مألوف معاصر به ومن حكم عقله في بعض المسائل كان اتهامه بأمانته من أيسر الأشياء وطرده من حظيرة الحظرة لدى العامة ومن سموا أنفسهم بالخاصة من الأمور المتعارفة أما التضليل والتفكير والتبديع والتنسيق فهذا لا يخلو منه عالم يريد أ يخرج بالناس من الظلمات إلى النور.
ولكن إرادة المولى سبحانه قضت بأن لا تحرم هذه الأمة من أعلام يصدعون بالحق فيجددون لها أمر دينها ويستطيبون الأذي في إنارة العقول والرجوع بالشرع إلى الحد الذي رسمه الشارع وأصحابه والتابعون والأئمة الهاديون المهديون ومن هؤلاء المجددين نابغة دمشق فقيدنا العزيز السيد جمال الدين القاسمي الذي يعرفه قراء هذه المجلة بما نشره في سنيها الماضية من آثار علمه وأدبه فقد قضى حياة طيبة ولم يعقه عن الاشتغال ما لقيه من تثبيط المثبطين في أول أمره وتنغيص الحاسدين في أواسط عمره ممن لا يخلو نمهم مصر ولا عصر خصوصا في بلاد يستمد منها كل شيء من ولاة أمرها.
نشأ السيد القاسمي من بيت فضل وفضيلة وكان والده وجده من المعروفين بالأدب ومكارم الأخلاق وهذا من النوادر في عصر لا يكبر رجاله في العيون إلا على مقدار عدهم في صفوف أهل الرسم وفي دور قل أن ينجب فيه ولد لنجيب فصم أو تصامم منذ أوائل سن التحصيل عن كل ما يقف عثرة في سبيل الطالب فكان منذ وعى على نفسه يعمل على تهذيبها ولا يكاد يمضي عليه يوم لم يستفد منه فائدة ولم يقيد شاردة فظهرت عليه مخايل النبوغ ولما يبلغ العشرين فما بالك به وقد نيف على الأربعين وقارب أن يتم العقد الخمسين.
جماع الأسباب التي نجح بها فقيدنا طهارة نفسه من المطامع الأشعبية وشغفه بالعلم للذته ونفعه في إنارة القلوب واعتقاد أنه منج في الدنيا والآخرة فهو لم يجعل الدين سلما إلى الدنيا وجسرا مؤقتا يجتاز عليه لحيازة مظهر خلاب والتصدر في المجالس بفاخر الهندام وبراق الثياب بل فرغ قلبه ووقته للعمل النافع فبورك له بساعات عمره القصير ويا للأسف. ولو عددنا ما كتبه من مصنفاته وقسناه بالنسبة لهذا العصر الذي أضحت فيه بضاعة العلم مزجاة بائرة لما قل عن اللحاق بالمكثرين من التأليف في المتأخرين أمثال العيوطي وابن السبكي وإضرابهما مع ملاحظة ما بين العصور والبيئات من الفوارق.
تذرع الفقيد بعامة ذرائع النفع لهذه الأمة فكان إماما في تآلفه الوفيرة إماما في دروسه الكثيرة إماما في محرابه ومنبره ومصلاه رأسا في مضاء العزيمة رأسا في العفة وهذه الصفة هي السر الأعظم الذي دار عليه محور نبوغه لأنه لو صانع طمعا في حطام الدنيا لما خرج عن صفوف أهل محيطه ولكان عالم وسطا يشتغل بالتافهات ويعيش في تقية ويموت كذلك.
كان أجذل الله ثوابه إذا لقيه المماحك في أحد المجامع عرضا أو غشيه في درسه وبيته ناقدا أو ناقما علمه م حيث لا يشعر وهداه إلى المحبة بلين القول فإذا أيقن أنه من المكابرين المموهين أعرض عنه وقال سلاما ولذلك لم يلق ما لقيه أشداء العلماء والفلاسفة في العصور الماضية مت الإرهاق والإعنات أمثال ابن حزم الأندلسي والشهاب السهروردي لأنه كان يتلطف في المناظرة وإقناع المخالف فإذا رأى المناقش بمعزل عن الفهم سكت عنه. نعم كان مثال التلطف في بث الفكر فلم يصك به - كما قيل - معارضة صك الجندل وينشقه متلقنه انتشاق الخردل.
قام الأستاذ في دور زهد الناس فيه في العلوم الدينية إلا قليلا فأعاد إليها في هذه الديار بنور عقله شيئا م بهائها السابق ولقد كان يجتمع به الموافق والمخالف فما كانا يصدران عنه إلا معجبين بعقله مقرين بفضله معترفين بقصور كثير حتى من المشاهير عن إدراك شأوه: يخلب الألباب ويستميل العقول فكأنه خلق من معدن اللطف ورقة الثمائل. لم تجد الغلظة سبيلا إلى قلبه ولا الفظاظة أثرا في كلامه وقلمه ولا عجب إذا كثر في آخر أمره أنصاره وعشقته النفوس فأكبرت الخلب فيه. جاء في الأثر لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه.
دخل عبد اللطيف البغدادي فيلسوف الإسلام على القاضي الفاضل فقال: رأيت شيخا ضئيلا كله رأس وقلب وهو يكتب ويملي على اثنين ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه في إخراج الكلام وكأنه يكتب بجملة أعضائه. وهذا التعريف يصدق من أكثر وجوهه على الشيخ القاسمي فإنه كان نحيل الجسم كبير الروح ولو تهيأ لجمال الدين مثل صلاح الدين لسرت أفكاره أكثر مما سرت وراقت أسفاره أكثر مما وفق إليه ولكن إذا عظم المطلوب قل المساعد. وقديما زكا غرس العلم في الشرق في ظل الملوك والأمراء واليوم يزكو في الغرب في حمى الجامعات والمجامع والجمعيات. والعلم مذ كان محتاج إلى العلم.
برز الفقيد الراحل وأي تبريز في علوم الشرع وما إليها ولم يفته النظر في علوم المدينة فألم بأكثرها إلماما كافيا لتكون له عونا على فهم أسرار الشريعة أما وقد جمع الفضيلتين فلا تجد لكلامه مسحة من الجمود المعهود لكثيرين ممن يقتصرون على العلم والعلمين ويعدون ما عداهما لغوا. فهو عالم ديني كامل ولكنه كان يقرأ العلوم المدنية ويطالع صحفها ومجلاتها وكتبها الحديثة كما يطالعها المنقطعون إلى هذه العلوم وزيادة ولا ينكر شيئا يقال له علم أو فن ولذلك لم يمجه العصريون ولا غيرهم.
ربما قال من لم يعرف أن هذا كلام صديق فجع بصديق تسلسلت الصداقة بين بيتيهما منذ نحو ثمانين عاما وعين الحب ومداء أما أنا فلا أحيل المعترض إلا على الرجوع إلى كتب الشيخ وقراءة بعض ما طبع منها وتحكيم العقل والإنصاف وأنا الضامن بأنه لا يلبث أن يساهمني قولي ويوقن بأن المرحوم جود تآليفه التي تنم عن عقله وعلمه أكثر مما جودها كثير من متأخري المؤلفين من بعد عصر السيوطي ممن شهد لهم بالإجادة ولو سمحت له الحال أكثر مما سمحت ومتع بحرية القول والعمل أكثر مما متع لجاء منه أضعاف ما جاء ولكن ضيق العيش وضيق المضطرب لا يرجى منهما أكثر مما تم على يد فقيدنا العظيم من الأعمال والآثار وقد أغلقت دونه أبواب الدواعي والبواعث رحمة الله وبارك لنا قيمن خلف من مريديه ومعاصريه ومن ساروا بسيرته حتى لا تقع على مضمون الحديث: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
وقد كتبنا في تأبين الشيخ غداة وفاته في جريدة الإصلاح ما نصه: لا تحضرني عبارة تشعر بمبلغ الحزن الذي نال دمشق بفقد عالمها الكبير وأستاذها العالم التحرير فقد كان أحد أفراد هذا العصر المعدودين في التحقق بأسرار الشريعة. وهو ولا مراء عالم الكتاب والسنة بلا مدافع خلق ليعمل على بث الدين المبين خاليا من حشو المتأخرين الجامدين وتضليل المخرفين والمعطلين.
لم يكد فقيدنا العزيز يطرق هذه الموضوعات ويهيب بالناس إلى الأخذ بمذاهب السلف ويتلطف في إبلاغها العقول المظلمة في دروسه وتآليفه حتى أخذ بعض أهل الجمود يغتابونه ويحذرون عوامهم بدون برهان من الأخذ عنه ولكن ظلمه تقليدهم ما لبثت أن انقشعت بنور اجتهاده وتراجع أمر خصومه بعد قليل وقد بهر الناس فضله وعلمه وأنشأ بعد أن كان يزيفون أقواله في مجامعهم الخاصة والعامة يتبعون أقواله المدعومة بالسنة الصحيحة ومذاهب الأئمة.
وأكبر دليل على ذلك ما شهدناه يوم مشهده الأخير من إجماع من كانوا خصومه أمس على أعظام الخطب فيه والإقرار له بفضائل كانوا يغمطونه إياها ولكن المعاصرة حرمان.
رأيت رجالا كثيرين من أهل الإسلام وغيرهم وفي مصر والشام خاصة أر همة تفوق همة صديقي الراحل ولا نفسا طويلا على العمل ودؤوباً عليه أكثر منه ولا غراما بالإفادة والاستفادة ولا حبا بالعلم للعلم فقد قضى عن49 عاما وخلف ما خلف من عشرات من مصنفاته الدينية العصرية النافعة منها تفسيره الذي لم يطبع ومنها مقالاته الممتعة وأبحاثه المستوفاة وأثر في عقول كثير من الطلبة تخرجوا به وأخذوا أحكام الحلال والحرام عنه دع دروس وعظة للعامة وحلقات خاصته ومع كل هذا كان حتى الرمق الأخير أشبه بطالب يريد أن يجوز الامتحان لنيل شهادة العالمية. وكلما كان يوغل في طلب المزيد من العلم والتحقيق تراه آسفا على عدم إشباع أبحاثه حقها أحيانا من النظر البليغ.
رزق الصديق العلامة صفات إذا جمع بعضها لغيره عد قريع دهره ووحيد عصره فقد كان طلق اللسان طلق المحيا وافر المادة وافر العقل سريع الخاطر سريع الكتابة جميل اعهد جميل الود. وكان بلا جدال جمال الدين والدنيا ما اجتمع به أحد إلا وتمنى لو طال بحديثه استمتاعه ليزيد من الأخذ عنه والتشبع بفضائله والاغتراف من بحر علمه.
وبينا كنت ترى الأستاذ على قدم السلف الصالح عالما كبيرا بين الفقهاء والأصوليين والمحدثين والمفسرين إذا هو من الأفراد المختصين بالأدب وما يتعلق به وبينا تراه يؤلف ويطبع إذا بك تراه يواظب على تدريس طلبته ووعظ المستمعين في دروسه وخطبه ومع كل هذه الأعمال التي يكون منها انقباض في صدر العامل تراه يهش ويبش كل ساعة ويفسح من وقته شطرا ليغشى مجلسه أولياؤه وأخلاؤه وطلاب الفوائد منه.
فهو علامة بين العلماء منور ممدن بين المنورين بنور المدنية الصحيحة ذهب مثال الرجل الصالح عفيف الطعمة لم يسف إلى ما يسف إليه بعض من يتذوقون قليلا من المعارف وما أنكر إلا المنكر ولا أمر إلا بالمعروف ومن ضيق ذات يده كان يتصدق في السر ولا يخلو ساعة من عبادة وذكر وما فقده جلل على دمشق بل على الشام بل على أهل الإسلام وشهرته التي نالها في العالم الإسلامي في هذه السن من الكهولة هي مما استحقه أو أقل مما يستحقه لأنه حقيقة العالم العامل الذي يحبب الدين حتى لمن لم يتدين حياته فاللهم عوض المسلمين عن هذه الدرة اليتيمة التي أصيبوا بها وارحمه عداد حسناته وارزقنا الصبر عليه وجميع أسرته وأحبابه الذين فجعوا به.
قال صديقنا جرجي أفندي الحداد في رثاء الإمام فقيد الشام والإسلام:
أجمل عزاءك فالمصاب جليل ... والدمع في خطب الإمام قليل
جل الأسى يا قوم فاصطبروا له ... صبر العظام على العظيم جميل
قد كنت أول من يزيل دموعه ... لو كان يشفى بالبكاء غليل
جزعت دمشق وقد رأت علم الهدى ... يلوي به عادي الردى فيميل
وإلى ظلام القبر يحمل نعشه ... والفضل في أعواده محمول
واستشعرت أرض العراق كآبة ... والهند خامرها الأسى والنيل
وبكى أفاضلها على رجل قضى ... في أمة فيها الرجال قليل
ومجاهر بالحق ليس يصده ... قال تردده الوشاة وقيل
أين التقية من صراحة صادق ... لا الجور يرهبه ولا التنكيل
هو للحقيقة نثرة محبوكة ... وعلى الضلالة صارم مسلول
لولا مجاهرة الهداة بهديهم ... في الناس ما نفع الأنام رسول
أودى القضاء بعالم ومحدث ... يستأثر الألباب حين يقول
بين المحابر والمنابر يومه ... يفنى ويحيي ليله التحصيل
ملكت قلوب الناس منه شمائل ... رقت فتحسب أنهن شمول
وإذا جلست إليه أسفر وجهه ... وبدت عليه بشاشة وقبول
وجه يصون عن التبذل ماءه ... فيكاد من فرط الحياء يسيل
عن الفضيلة بالإمام وآسها ... فشجونها من بعده ستطول
وافى يشيد صرحها وربوعها ... لعب الفساد بهن فهي طلول
وتصدرت للعلم غير رجاله ... فاعتز غر واستطال جهول
قد حكموا أوهامهم وتحكموا ... فالعقل في ربقاتها مكبول في كفهم نعم الحياة وبؤسها ... وإليهم التحريم والتحليل
ولو أنهم عمدوا إلى التحقيق لم ... يتعارض المعقول والمنقول
جمدوا احتفاظا بالقديم وليتهم ... نجحوا فلم يعبث به التبديل
نرضى القديم لو ارتضوه كما أتى ... في الوحي لما أنزل التنزيل
والناس من نزعاتهم في ظلمة ... لم يبد فيها للصباح دليل
ضاقت مذاهبهم وضل صوابهم ... وعدت عليهم فترة وذهول
ما ضيق الدين الحنيف مذاهباً ... بل ضيق التحريف والتأويل
نهض الإمام بردعهم عن قومه ... والقوم منهم عاذر وعذول
بقريحة وقادة وعزيمة ... تمضي وفي حد الحسام فلول
واختار شأن المصلحين وأنه ... عبء تنوء به الرجال ثقيل
نم يا جمال الدين غير مروع ... إن الزمان بما ابتغيت كفيل
فستعرف الأجيال فضلك في غد ... إن كان لم يعرفه هذا الجيل